هنريك إبسن

داعية الشخصية
figure

هنريك إبسن هو داعية الاستقلال الروحي للإنسان عامة وللمرأة خاصة، وقد ألَّف درامته «لعبة البيت» في دعوة المرأة الأوروبية إلى أن تستقل، وتنشد الآفاق، وتجرِّب التجارب، وتختبر الدنيا، وتربِّي نفسها، بدلًا من أن تعيش خلف الرجل يكسب حولها ويحوطها برعايته ويدللها في البيت ويقصر حياتها على الزواج والأمومة.

والاتجاه القديم للمرأة، سواء في الشرق أو في الغرب، كان يُنظر إليها باعتبار أنها تابعة للرجل، وأنها خُلقت للبيت، وفي أمم الشرق القديمة بولغ في هذا الاتجاه حتى انتهى إلى أن المرأة أنثى فقط تزوِّد الرجل بلذاته الجنسية، وفي هذا قال شاعر عربي:

ما للنساء وللخطابة
والقراءة والكتابة
هذا لنا ولهن منا
… … … …

ولم يكن العرب متفردين في هذا النظر فإن أوروبا على الرغم من المظاهر الخادعة كانت تنظر أيضًا إلى المرأة هذه النظرة في القرون الوسطى. ولكن أوروبا كانت تمتاز بميزة كبرى، هي أنها لم تفصل قط بين الجنسين في المجتمع، ولم تعرف الحجاب إلا في أيام الإغريق، ومع ذلك لم يكن هذا الحجاب الإغريقي يغلق الأبواب إغلاقًا محكمًا كما كانت الحال عندنا أيام القرون الوسطى، ولكن مظهر الحرية الأوروبية كان خلابًا خادعًا أكثر مما كان واقعيًّا حقيقيًّا إلى بداية القرن التاسع عشر، فإن كثيرًا من الأمم الأوروبية كان يحرم المرأة الميراث، كما كان يحرمها التعلم في الجامعات؛ ولذلك بقيت محرومة من الاحتراف والاستقلال والكسب بممارسة الطب أو الهندسة أو سائر العلوم والفنون.

ولكن الضمير الأوروبي كان في بداية القرن التاسع عشر قد تنبَّه إلى وجدان جديد هو استقلال العقل البشري، وطرح التقاليد بفصل الدين من الدولة. كما أن الحركة الصناعية كانت قد جذبت آلافًا وملايين العمال الزراعيين من الريف إلى المدينة. والمناخ الذهني في المدن هو مناخ الحرية والاستقلال والتساؤل والشك، ولذلك وجدت الأفكار التحريرية تربة خصبة في المصانع والمدن. وقد جذبت الصناعة أيضًا عددًا كبيرًا من النساء إلى المصنع، ووجدت المرأة في هذه المصانع جوًّا منعشًا بعث فيها الإقدام والاستقلال.

واحتاج هذا التطور إلى ألسنة تنطق وتعبِّر في بلاغة الأديب وقوة المنطق ونظريات الفكر، فظهرت قصة «مدام بوفاري» للكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير، كما ظهر كتاب ستوارت ميل «إخضاع المرأة». ومدام بوفاري قصة امرأة تزوجت أحد الأطباء في الريف، ثم وجدت الحياة دون نشاطها وآمالها فحطمت ما تعلمته من أخلاق واندفعت في تيار من الشهوات، قضى عليها في النهاية فانتحرت، وكأن المؤلِّف يقول لنا إن حال المرأة الأوروبية سيئ، وإننا لا نفتح لها أبواب الرقي، ولذلك تنزل إلى مهاوي الشهوة الجنسية كي تخفف من سأم العيش المبتذل بين جدران المنزل، وكأنه يقول أيضًا افتحوا أبواب العمل والنشاط الاجتماعيين للمرأة. أما كتاب «ستوارت ميل» فهو تاريخ لاستبداد الرجل بالمرأة، وأن هذا الاستبداد لا يضر المرأة وحدها ويعطِّل كفايتها ويحول دون رقيها باعتبارها إنسانًا، وإنما هو يعطل المجتمع كله نساءً ورجالًا.

وجاء إبسن حوالي منتصف القرن التاسع عشر، فتبلورت فيه هذه الآراء وأخرجها درامة موجعة سامية اهتزت منها المجتمعات الأوروبية، وأصبحت «نورا» بطلة هذه الدرامة قدوة المرأة الناهضة ومشعلًا تهتدي بنوره. وقد عاش إبسن فيما بين عامي ١٨٢٨ و١٩٠٦. وقد غيَّر أوروبا الأدبية وأحالها إلى الآراء العصرية؛ إذ غرس فيها بذرة «البشرية الدينية» كما أبدل أخلاقها من تراث التقاليد إلى القيم البشرية التي توزن بميزان العقل، ودعا إلى الاستقلال النفسي، وإلى ضرورة الجِد في الحياة، بحيث نربي أنفسنا ونكوِّن شخصياتنا أحرارًا مفكرين مكافحين مستقلين.

وإبسن نِروجي نشأ في بيت ريفي، ولكنه قضى صباه خادمًا أو مساعدًا في صيدلية، ولم يكن شيء يفتح العين وينبه العقل إلى الأكاذيب الاجتماعية مثل الخدمة في صيدلية وتركيب العقاقير فيما بين عامي ١٨٠٠ و١٨٥٠؛ لأن الصيدليات في تلك السنين كانت تعيش بما يقارب النصب؛ إذ لم تكن عقاقيرها سوى مواد غريبة الأسماء معدومة النفع، ولم يكن المريض ينتفع منها بأكثر من الوهم، ولا بد أن إبسن قد تعلم تحطيم الأصنام من هذه المرانة الأولى في الصيدليات. ثم احترف الصحافة في «كرستيانيا» والتحق بالمسرح في «بيرجن» وبقي متصلًا بالمسرح للإدارة وللإخراج والتأليف مدة طويلة في كلتا هاتين المدينتين: بيرجن وكرستيانيا التي كانت وقتئذٍ عاصمة نِرْوِج.

وهذا الاتصال بالمسرح أكسبه بصيرة في الفن كما أكسبه رؤيا في التأليف، فإن دراماته غاية في الدقة الفنية، وكثير منها يجري على الأسس الإغريقية للفن المسرحي، وهي أن الدرامة لا تزيد على أن تكون جِلسة في مكان وزمان معينين لا يتغيران من الفصل الأول إلى الفصل الأخير.

وقد نقل الدرامة الرومانتية إلى الواقعية، وجعلها اجتماعية تعالج المشكلات التي يعانيها المجتمع، ففي إحدى الدرامات يعالج مرض السفلس وعواقبه الوخيمة، وفي أخرى يعالج المسيحية والوثنية، وفي أخرى يعالج استقلال الشخصية … إلخ. ولكنه كان في كل ذلك شاعرًا، يرى الرؤيا فتمتد نظرته إلى الآفاق البعيدة. وفيما بين عامي ١٨٧٠ و١٨٩٠ كان يعيش في ألمانيا مستوحدًا لا يكاد يعرف الأصدقاء، وكان يُخرج دراسة واحدة كل سنتين تقريبًا، وقد أوجد مسرحًا جديدًا في أوروبا. وعندما نقرأ «برنارد شو» نجد أن إبسن مضمَر فيه، فقد ألَّف «شو» كتيبًا في الدفاع عن إبسن وأسلوبه الواقعي. وكما أن إبسن كان يرى رؤيا الشاعر، فإنه أيضًا كان يلتزم الحقائق، وهذا هو شأن برنارد شو.

أما أفكاره وفلسفته فتتلخص في قيمة الشخصية البشرية وضرورة استقلالها وتربيتها، وأن هذا هو الواجب الأول على الرجل والمرأة. ومن هذه البؤرة تتسع واجبات أخرى، هي أن نأخذ أنفسنا بالجِد وأن نعتمد على العقل ونحيا الحياة الشريفة الفنية الراقية، وألا نخضع لأطياف الماضي وأشباحه. وقد كتب إلى أخته خطابًا قال فيه: «أحب أن أرى كل شيء في وضوح وصفاء، ثم أحب بعد ذلك أن أموت.»

وهو يعني بهذه الكلمة الإيمائية أنه يجب أن يرى المشكلات الاجتماعية مكشوفة، واضحة خالية من المركبات التاريخية والتقليدية التي تحول دون رؤيتها على حقيقتها؛ أي يجب على الأديب أن يكون واقعيًّا يرى الواقع الملموس ثم يبني خياله على أساسه، ويرى رؤياه من خلال عدسته. وأبعد ما كان يبتعد عنه إبسن هو البرج العاجي الذي يعيش فيه الأديب السخيف، يحلم ويتخيل في عزلة عن المجتمع ومشكلاته، كأن الأدب لذة موسيقية فقط، وكأنه يجب أن يترفع عن معالجة الجوع والبغاء والمرض والظلم والاستبداد.

«الشخصية البشرية» هي إنجيل إبسن.

وإذن لم يكن مفر من أن يسأل عن شخصية المرأة، وهل الحضارة في عصره كانت تهيئ لها أن تكون إنسانًا راقيًا مُجِدًّا، لها أهداف شريفة تعيش من أجلها وتحسُّ أنها تؤدي رسالتها في الحياة، كما أن لها أسلوبًا فلسفيًّا تتخذه في عيشها، أم لا؟ هذه هي المشكلة التي عالجها إبسن في درامة «بيت الدمية» أو «لعبة البيت» واللعبة هنا هي الدمية التي تلعب بها الطفلة، وهو يرمي من هذه التسمية إلى أن المرأة الأوروبية (حوالي عام ١٨٧٠) هي لعبة الرجل عامة يقوِّمها ويقدِّرها بما تتَّسم به من سذاجة وجهل، وهي تولد في بيت أبويها فتعامل منهما كما لو كانت لعبة تزخرف بالملابس الزاهية، وتدرَّب على إنكار نفسها، فلا تتحدَّث عمَّا يتحدث عنه الرجال، فضلًا عن أن تمارس أعمالهم، فتنشأ محدودة الفهم قليلة المعارف قد سدَّت في وجهها أبواب العمل الكاسب الذي يعمله الرجال ويكسبون منه أرزاقهم كما يكوِّنون به شخصياتهم.

و«نورا» هي هذه الفتاة، تترك بيت أبويها إلى بيت زوجها في جمال وبراءة وطهارة وسذاجة، لها وجه كأنه قد صُنع من وريقات الورد، وكأنه قد خُلق للقبلات فقط، وجسم قد شيدته الطبيعة كأنه يمثل النبل والروعة. وهي تتحدث بلغة قد هذِّبت كلماتها، فلا تنطق بما ينطق به الرجال. أما العقل فهو العقل الساذج الذي لم يختبر الدنيا ولم تمر به الأخطاء والأخطار فيتعلم ويتدرب. ويتلقاها زوجها فيعاملها كما كان يعاملها أبواها، فهي حتى عندما تبلغ الأربعين أو الخمسين ستبقى طفلة.

وإبسن يثور على هذا الوضع ويتساءل: لماذا تبقين طفلة؟ أين شخصيتك وذكاؤك؟ ولماذا تُحرمين اختبارات هذه الدنيا؟ وتجري الدرامة في سياق التمثيل الذي يوضِّح لنا أن المرأة لن تكون نحو ما تحب أن تكون المرأة عليه؛ لأن كل هذه الصفات لا تعني في النهاية إنسانًا إلا عندما ترفع نفسها من الأنثوية، وأن هذا لن يكون إلا عندما تأخذ نفسها مأخذ الجِد، فتستقل بشخصيتها وتتعلم وتختبر، ونحن الرجال لا نتعلَّم ونرتفع إلى المقام الاجتماعي أو المكانة الذهنية أو الفهم المحيط، كما لا تتكون لنا شخصية؛ إلا لأننا نختلط بالمجتمع ونعالج الخطأ ونقع حتى في الخطر، وليس هناك رجل يفخر بأنه ساذج أو طاهر أو بريء على نحو ما تحب أن تكون المرأة عليه؛ لأن كل هذه الصفات تعني في النهاية أننا نحب جهل المرأة وإبقاءها طفلة أو «لعبة» كما يقول إبسن.

ونورا بعد أن ينكشف لها حالها هذه تترك بيت الزوجية، تترك الزوج والأطفال، بعد أن تشرح لزوجها أنها طفلة، وأنها لن تقبل أن تعيش سائر حياتها في هذه الطفولة، وأنها ستخرج إلى الدنيا كي تعامل وتختبر، حتى تنجز لنفسها وعد حياتها، وحتى تؤدي حق إنسانيتها، بأن تبني شخصيتها بالمعرفة والاختبار والدرس مهما ارتكبت من أخطاء أو وقعت في أخطار؛ ذلك لأن رسالة الإنسان في هذه الدنيا أن يعرف الدنيا ولا يُحاط بسياج من الواجبات الاجتماعية يحول دون فهمه أو بنائه لشخصيته.

وقد أحدثت هذه الدرامة ضجة كبرى في العالم الأوروبي؛ لأنها صدمت العقائد والتقاليد، ولكن الضجة هدأت أو انفثأت عن انتصار المرأة والتسليم بأن جمالها القديم، جمال الوجه والصدر والقامة والفخذين، هو جمال الأنثى، وأما جمال المرأة الجديدة فيجب أن يعلو على ذلك. أي يجب أن ينطوي على العقل النيِّر والشخصية الراقية التي تدربت بالتجارب والاختبارات، وارتقت بالثقافة واشتركت في شئون المجتمع، وقد كان إبسن رؤياي المنيرة حين كنتُ حوالي العشرين، أتلمس المثليات الأوروبية والقيم العصرية، وأبني شخصيتي الذهنية، وكان مركز المرأة المصرية يحزُّ في صدري كأنه خزي أبدي لولا هذه المحاولات الصغيرة العظيمة في مثل كتابي قاسم أمين، ثم بعد نصف قرن في نشاط هدى شعراوي وسيزا نبراوي ودرية شفيق وأمينة السعيد وأمثالهن.

ونحن الشرقيين قد ورثنا تراثًا سيئًا من القرون المظلمة، هو تراث الرق والخصيان والحجاب، وأولئك الذين يدافعون عن الحجاب ينسون خصاء الزنوج كي يتممه. أي يتمم الحجاب، ولعلهم يخجلون حين يذكرون ذلك.

لقد تعلمت من إبسن شرفًا جديدًا لم أكن أعرفه حين تركت بلادي إلى أوروبا في عام ١٩٠٧، هو شرف الإنسانية التي يجب ألا يحدها حجاب المرأة، هو شرف الزواج الذي يقوم على الإخاء والمساواة، ليس فيه سيد وعبد، وهو شرف الأمة التي ترفع نساءها إلى مقام الوزيرات والنائبات وتفتح لهن المدارس والجامعات.

قبل خمسين سنة كنا نقعد إلى المرأة فنجد الجهل مع السذاجة، جهل وسذاجة يبعثان الاشمئزاز الذهني في الرجل الناضج، ولا تزال هذه الحال باقية في معظم أوساطنا، ولكن الدنيا تتغير، وهي تتغير لمصلحة المرأة ورفعتها وترقيتها، ولن ترتقي المرأة المصرية وتبلغ النضج أو الإيناع إلا عندما تختلط بمجتمعنا نحن الرجال، وتمارس أعمالنا وتغب من اختباراتنا وتشترك في الصناعة والتجارة والسياسة وتواجه الأخطاء والأخطار.

وليست عبرة «لعبة البيت» مقصورة على المرأة، فإنها تمس الرجال إلا القليل من الناضجين، ذلك أن الرجل العادي في كثير من تصرفاته يعيش بلا استقلال، وليس له من الشخصية سوى الاسم، يخضع للتقاليد وينساق في تيار العُرف، وصحيح أن الدنيا تربِّيه وتصلب عوده وتخصب شخصيته بالاختبارات والاصطدامات التي تُحرم منها المرأة، فهو يخطئ ويصيب ويتعلم ويقف على كثير من الأكاذيب الاجتماعية التي تفتح ذهنه وتنير رؤياه، وكل هذا لا تصيب المرأة منه شيئًا؛ لأنها محبوسة بسياج أو حجاب من التقاليد.

ودعوة إبسن هنا: لتكن لكلٍّ منا شخصية، ولينظر كلٌّ منا إلى الدنيا كما لو كان هو محورها، ليس لأحد ولا لعقيدة سلطانٌ عليه إلا ما يرى بعد التفكير الاستقلالي أنه نافع له ولمجتمعه. إننا نطلب الحرية من القوانين والدساتير، ولكن كل ما تستطيع هذه أن تهبنا من حقوق هو على الدوام دون ما نهب أنفسنا؛ لأن قيود التقاليد واصطلاحات العرف الاجتماعي تقيدنا أكثر مما تقيدنا به مظالم المستبدين التي تحاول الدساتير والقوانين محوها أو مكافحتها.

وحتى حين يستبد بنا حاكم ظالم ويستعين بالقوة المادية على تقييد حريتنا نستطيع الاحتفاظ بكرامتنا والإحساس باستقلالنا؛ لأننا نقاوم ونكافح استبداده وجبروته ونحن على وجدان بأننا أرقى منه، ولكن استبداد التقاليد ينغرس في نفوسنا، ويعين مزاجنا، ويعودنا عادات ذهنية ونفسية تجعل كلًّا منَّا أسيرًا، أجل وأسير نفسه مع ذلك، فالمرأة التي نشأت على الحجاب لا تحس هوانه كما لا تعرف جهلها؛ وهي لذلك لا تقاوم ولا تكافح. وكذلك شأن الرجل الذي يعيش في أسر التقاليد وكأنها من طبيعة الأشياء التي لا تتغير، بل لا تحتاج إلى التغيير، والفرق بينه وبين المرأة هو فرق الدرجة فقط؛ إذ هو في حجاب نفسي وذهني، وهذه الدنيا هي ملك الإنسان وعلينا جميعًا رجالًا ونساءً أن نتعلَّم وننضج ولا نكون لعبة الأقدار أو لعبة المجتمع، وعلينا أن نستقلَّ وندرس ونخبر الحقائق، وليس هذا واجب «نورا» وحدها، ولا واجب النساء وحدهن، وإنما هو واجب الرجال أيضًا. ونِعم هذا الدرس الذي علمنا إياه إبسن، درس حق كل إنسان في تقريره مصيره وتربية شخصيته.

•••

كنت قبل سنوات أصطاف بالإسكندرية، وكنا نقعد رجالًا ونساءً في اجتماعات عائلية على الشاطئ نتجاذب الحديث، وما كان أسخف ما كانت تتحدث عنه النساء؛ شئون الخدم، وزواج هذه الآنسة أو تلك الأرملة، وهذا الخطيب الثري المنتظر لهذه الفتاة، وخاتم الخِطبة، ومبلغ المَهر لتلك الفتاة الأخرى، والسكنى في الزمالك والأتومبيل الجديد عند فلان «بك» وهذه الخياطة البارعة، وذلك القماش الجديد … إلخ، أحاديث تافهة من شخصيات تافهة، واهتمامات زائفة نشأت من حبسة البيت وحبسة النفس، فلم يكن بين هؤلاء النسوة من كانت تهتم ببحث العبرة والدلالة للطاقة الذرية، أو لهيئة الأمم المتحدة، أو لفلسفة برتراند رسل أو للمخترعات الطبية أو لمستقبل المرأة في الهند ومصر، أو لمعنى الدين أو برامج المدارس. وكأنهنَّ لم يكنَّ يقرأن الجرائد فضلًا عن الكتب.

ولكن كان في هذا الوسط فتاتان لم تتزوجا وإنما احترفتا التمريض في أحد المستشفيات بالقاهرة، وكنت عندما أقعد إليهما وأتحدث أحسُّ أني إزاء شخصيتين عالميتين، فقد اكتسبتْ كل منهما نظرة عالمية أخرى غير المنزل والخدم والطبخ وأحمر الشفاة والفستان الجديد، وقد استمعت إلى حديث إحداهما عن المرضى والأمراض، واختلاف الناس في استقبال الموت، أو الحكم بالموت، عندما يعرف المريض أن سرطانًا قديمًا قد نبت وتفرع في جوفه. ووصفت لي إحداهما كيف رأت رجلًا قبيل النزع وكيف خففت عنه.

وكنا في سيدي بشر وهي تبعد عن الإسكندرية بنحو عشرة كيلومترات، فاقترحنا على أن ننهض ذات صباح ونسير على الأقدام بحذاء الشاطئ إلى الإسكندرية، وكنت أحس وأنا أتحدث إلى كلٍّ منهما أني إزاء إنسان قد استحال إلى شخصية ناضحة تمتاز بجمال وكرامة وذكاء؛ وذلك لأن اختلاطهما بالمجتمع وخدمتهما له قد زاد ذكاءهما وكوَّن شخصيتهما، ولو أن كلًّا منهما كانت قد نشأت النشأة المألوفة عند غيرهن، اللاتي يعشن في البيت وينتظرن الزوج، ثم يتزوجن ويقصرن اهتماماتهن على اللباس والخدم وقصص الزواج والثراء، لما كانت لها هذه الشخصية.

والذكاء ينهض على أساس طبيعي ولكنه يُربَّى بالمجتمع، ونحن الرجال بما نمارس من اختبارات ونكابد من كسب أو خسارة ونصادف من أخطار، بل بما نرتكب من أخطاء، نتعلم وننمو ونزيد حكمةً. والمرأة كذلك لن تكون إنسانًا حكيمًا إلا إذا مارست جميع الأعمال التي يعملها الرجال واقتحمت ميادينهم وتعرضت للأخطار مثلهم. وهذه الصورة الجديدة للمرأة قد لا تعجب بعض الرجال الذين يؤثرون جهل الزوجة على معرفتها وقصورها على نضجها، وهم يجسون سيطرة ويمارسون تسلطًا عليها في هذه الحال، ويلتذون هذه المرتبة أو الميزة العالية لهم عليها. ولكن المرأة الرشيدة يجب أن تتنبه وترفض أن تكون لعبة الرجل كما رفضت «نورا».

ونحن الرجال نعرف أن المدرسة والجامعة لا تربياننا وإنما الذي يربينا هو هذا المجتمع الذي نختلط به ونصطدم بمشكلاته، ونحن لا نستقطر الحكمة، وننضح النضج الفلسفي إلا بعد أن نخطئ ونصيب ونخسر ونكسب، وننساق ساعة الهوى، ثم نُفيق عقبها سنين؛ لأننا عرفنا الحقائق بالخبرة، ومارسنا هذه الدنيا في حرية واستقلال بلا خوف من سلطة أو تقاليد، وهذه الحكمة التي ننالها نحن الرجال من اختباراتنا لهذه الدنيا يجب أن تنالها المرأة بمثل الوسائل التي نتوسل نحن بها؛ أي بالعمل والإنتاج والاختلاط والاستقلال والاختبار.

وهذه الصورة الجديدة التي رسمها لنا إبسن في نورا قد تحققت في المرأة الأمريكية إلى أبعد حدٍّ، وكذلك تحققت إلى حدٍّ ما في المرأة الإنجليزية والإسكندناوية والروسية حيث تعمل المرأة إلى جنب الرجل وتستقل بما تكسب، ولم يعد الرجل يعولها، وقد أصبحت شخصيتها قوية جلية تواجه الدنيا في شجاعة، وتحترف الحرف التي ترقيها وتنبه ذكاءها وتفتل عضلاتها، وهي في كل ذلك لم تهمل مهمتها البيولوجية في الزواج والحمل والولادة.

وقد جدَّت ظروف جعلت هذا الاتجاه نحو استقلال المرأة يسير بسرعة، ذلك أن وفرة الآلات الميكانيكية في البيت الأمريكي أغنت المرأة عن العمل في الطبخ والغسل، فزاد فراغها الذي احتاجت إلى أن تشغله بالعمل والكسب خارج البيت، ومعنى هذا أن التغير في الإنتاج المنزلي قد أحدث تغيرًا في أخلاق المرأة، وحققت هذه الآلات الكهربائية دعوة إبسن من حيث لم يكن ينتظرها.

والمقارنة بين المرأة الأمريكية التي تعمل في المصانع والمتاجر والمكاتب، وتستقل بعواطفها، وترسم بيدها خارطة حياتها، وتقرأ وتناقش وتكسب وتخسر وتصيب وتخطئ، وقد تكوَّنت لها شخصية رصينة بصيرة قوية من هذه الحياة، نقول إن المقارنة بينها وبين المرأة الأوروبية في الأقطار الجنوبية مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان حيث لا يزال المطبخ يجري على تقاليده، وحيث يستأثر المطبخ والغسل بمعظم الوقت، وحيث يسود الرجلُ المرأةَ، وله عليها الكلمة العليا، بحيث يقرِّر لها، أو يكاد يقرر لها مصيرها؛ هذه المقارنة توضح لنا سمو المرأة الأمريكية الجديدة، باعتبارها إنسانًا عاقلًا مستقلًّا، على هذه المرأة الأوروبية الجنوبية التي لا تزال مقيدة بالتقاليد.

إن العمل والكسب والاختبار والإصابة والخطأ والاختلاط بالمجتمع قد ربَّى المرأة الأمريكية، في حين أن الانزواء في البيت قد قيَّد النمو الذهني للمرأة الأوروبية الجنوبية، ولا نذكر المرأة الشرقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤