في جدة

بحر بليد، هذا هو البحر الأحمر، بليد كالرجل الذي تعابثه اليوم فيضحك غدًا. والبليد صحبته متعبة، ورفقته مشقة؛ فإن حسن الفكاهة ولذتها — كحسن الكراهة — في تبادلها، لا أن ينفرد بها جانب أو ينوء بثقلها واحد.

وقد ظللنا خمسة أيام نسبح كالسلحفاة على ظهر البحر، وكانت السفن تمرق بجانبنا كالسهم، أو كالأرانب ما دمنا نذكر السلاحف، ونحن نتبطَّأ ونتلكَّأ، وأحسبنا كُنَّا أيضًا نتراجع، ونداعبه ونمازحه وندغدغه في كل موضع، ونناجيه ونناشده أن يتنبَّه، ونسأله أن يتمطى ويشد أوصاله ويتحرك، ولكن هيهات! لم يشعر بنا البحر أو لم يحفلنا، وأَبَتْ له البلادة أن ينتبه لوجودنا إلا بعد أن بارحنا ينبع! بعد ثلاثة أيام شعر بوجودنا فتثاءب! فانكفأ بعضنا فوق بعض، وصارت الرءوس في مكان الأرجل، وأطلت المَعِدَات من الحلوق وذهبت الكراسي تقعد علينا لا نحن عليها، وانقلب أظهر ما فينا وأبرزُ أعضائنا، أقدامنا في الهواء، فانتقمتْ بذلك من جور الرءوس عليها وطول اغتصابها للمراكز الملحوظة.

ولم أرَ أنا شيئًا من هذا ولكنهم حدَّثوني بما صنع البحر بهم، فقد كنت نائمًا، وكان لي أيضًا غطيط عالٍ يُخفِت صوت البحر على ما زعموا، فجاءني زميل يقول: «البحر هائج اليوم!»

فانتفضت قائمًا وقد فرحت وسرني أن البحر أولانا التفاتًا، وجعلت أروح وأجيء بقدر ما أستطيع في هذا الجحر الضيق الذي يسمونه حجرة النوم، وأرفع صوتي بقول ذلك البدوي الساذج:

والبحر صعب المراس جدًّا
لا جعلت حاجتي إليه!
أليس ماءً ونحن طين؟
فما عسى صبرنا عليه؟

– «ولكن متى يا صاحبي؟ فإني ما زلت فيما أشعر على اليابسة؟»

قال: «ألم تشعر به؟»

قلت: «ربما كنت قد حلمت، بل أنا على التحقيق أحلم بالبحر هائجًا طاغيًا عنيفًا، ولكن البلاء والداء العياء يا أخي أني أنسى في الصباح ما رأيت في أحلامي.»

فقال: «أوه. هذا كلام فارغ! لقد كانت الباخرة في الليل تلعب هكذا (وأخرج قلمًا من جيبه وأمسك به من وسطه وجعل يرفع طرفيه على التعاقب) فكيف لم تشعر بذلك؟ إن هذا غير ممكن!»

قلت: «عفوًا. لقد فاتني نصف عمري على التحقيق، وأخشى أن يضيع النصف الباقي ونحن عائدون، ولكني كنت نائمًا هكذا متعارضًا على طول السفينة. فبينما كانت أقدامكم أنتم ترتفع في الهواء ورءوسكم تهبط إلى حيث تستحق، كنت أنا لا أشعر بأكثر من حركة التنفس، أو بتقلُّب بسيط. آه! لقد تذكرت الآن أني كنت أحلم بأني أسبح في الماء وأخبط فيه بذراعي. صحيح. صحيح!»

فلم يُطِقْ صبرًا ومضى عني. فلبست ثيابي بسرعة وعدوتُ وراءه وقد تنبهتْ في نفسي كل غرائز السوء، فلما صرت على ظهر السفينة — أو ما يسمونه ظهرها وإن كان في حبة قلبها — خطر لي أني لم أَرَ أبدع من هذا الجو من قبلُ، وأنه لا عهد لي بمثل هذا التألُّق في الشمس والجمال في البحر. وأي شيء في الطبيعة أفتن من منظر الجمال الوسنان! ونازعتني النفس أن أعرب عن إعجابي بكل هذا الحسن في السماء والأرض — أعني البحر — فرفعت صوتي أريد أن أغني، ولكني لم أدرِ ما أقول فأقصرت.

وكنت أنظر حولي فأرى رفاقي متشبثين بحديد الحواجز، فدنوت من أحدهم وقلت: «سبحان ربي القادر! كيف باللهِ رُدِدْتَ طفلًا لا تقوى على المشي وحدك؟»

قال: «ألا ترى؟»

قلت: «ماذا؟»

قال: «ماذا؟! ألا ترى مقدمة السفينة كأنها سهم مُسَدَّدٌ إلى الشمس في كبد السماء!»

قلت: «معذرة يا صاحبي. لست أرى إلا ذَنَبها يحاول أن يُغاطِس الأسماك ليصطادها لطعامنا، ليس هذا من البحر ولكنه من الربان. من أين يطعمنا إذا لم يفعل ذلك؟»

وهممت بأن أقول كلامًا آخر أثبت به نظريتي، ولكن زميلًا غيره ألقى بنفسه بين ذراعيَّ، فأكبرت هذه العاطفة منه وتمثلت في سري بقول الشاعر:

أشوقًا ولما يمض لي غير ليلة؟
فكيف إذا خب المطي بنا عشرَا؟

ثم التفتُّ إليه وأنا أرفعه عن صدري الذي سكن إليه وقلت: «أسعد الله صباحك! جو بديع.»

فوضع كفه على معدته وهو يقول: «آه يا بطني!» وذهب يتخطر.

واشتاقوا جميعًا إلى معانقتي وأنا واقف أمام الباب أتلقاهم بين ذراعيَّ مسرورًا وأهش لهم وأقول للواحد بعد الآخر: «هدئ روعك! إني مقدر عواطفك نحوي، ولكن لا داعي إلى العجلة فإن الوقت أمامك طويل يسمح حتى بأن تنظم قصيدة.»

فلا يزيد على أن يضع كفه على بطنه ويقول: «آه يا بطني!»

فخطر لي أن بهم عضةَ جوع، فلما تلقيت آخرهم — وكنت قد فطنت إلى هذه الحقيقة — قلت له: «نهارك سعيد. لقد كنت تريد أن تقول …»

ولكنه قاطعني وسبقني وقال وراحته على معدته: «آه يا بطني!»

فعرفت أني مصيب في إحالة مظاهر شوقهم إلى شخصي الضعيف على الجوع. على الرغم من تأكيد أحد الزملاء أن البحر هائج وأن موجه «دفين».

•••

ولم نَخِفَّ لرؤية جدة لما شارفناها؛ ذلك أن الساعة كانت الحادية عشرة صباحًا، والخادم كان يُعِدُّ المائدة للغداء قبل موعده، فقلنا: هذه بشرى. وجلسنا إليها، وحضر الطعام فلم نُبالِ جدة كيف تبدو، ولم نكترث لمرفئها أين رست السفينة منه، فقد أقبلنا على الصِّحَاف «نأكل ما لا يحسب الحاسب» كأنما خِفنا ألَّا نقع في جدة على طعام، فرحنا ندَّخر ما يكفي أيامًا، وجعلنا نلتهم الشبابيط (السمك) والفراريج (الدجاج) بلا مضغ مخافة أن يدركنا وفد مستقبل فيشاركنا، وصح فينا قول ابن الرومي:

فكَّاه كالعصرين من دهره
كلاهما في شأنه دائب
ذي معدة ثعلبها لاحس
وتارة أرنبها ضاغب
تعلوه حمى شره نافض
لكن حمى هضمه صالب

وصدق فينا المثل العامي: «وقت البطون تضيع العقول.» فلما صعد الطبيب إلى الباخرة ودخل علينا أدار عينه فينا فلم يَرَ أحدًا رفع رأسه فقال: «ما شاء الله! ما شاء الله! الحمد لله على السلامة!»

وكانت الأفواه في شغل بما فيها فرددنا بأيدينا واستأنفنا العمل فقال: «صحتكم طيبة والحمد لله؟»

– «مش بطالة، نحمد الله على كل حال.»

فقال: «لعل البحر كان هادئًا.»

فلم يسمع سوى صرير الأضراس، فارتدَّ مسرعًا، وأكبر الظن أنه أنذر قومه: «أكل يتامى ما لهم كاسب.»

فقد خف إلى الباخرة وفد كبير من شيوخ جدة وأعيانها، جاءوا — كما أرجِّح — لينظروا بأعينهم كيف نفترس الطافي ونغوص وراء الراسب، ونُعمِل أضراسنا في الجامد، ونعب في الذائب، ولكنا عجَّلنا قبل مقدَمهم. وفرغنا من هذا الشأن قبل أن يضعوا رجلًا على سلم الباخرة، فلما صعدوا إلينا ألفونا جلوسًا إلى المائدة ولكن المائدة لم يكن عليها شيء، ولم يكن يبدو علينا أثر من آثار الغارة التي شهدها الطبيب ووصفها لهم على التحقيق، فنهضنا لاستقبالهم في وقار وأبهة، ورحبنا بهم وانطلقنا نتحدث معهم ونستخبرهم عن جدة والمطر الذي سمعنا به، وهم يجسوننا بعيونهم ويستدرجوننا، ولكن هيهات! فانخدعوا وشكُّوا فيما رواه الطبيب لهم.

وكانت السماء قد جادهم منها هاضب سحَّاح، وأمطرتهم كما لم تمطرهم منذ أربعين عامًا على قولهم، فقلت: «أعوذ بالله.»

فقال أحدهم: «بل حمدًا لله وشكرًا.»

واستبشروا بنا وتفاءلوا خيرا بقدومنا، وأنساهم السرور بالمطر هول ما سمعوا عن كرَّاتنا على الطعام، وأشرقت وجوههم بعد شحوب وتفتَّحت نفوسهم لنا بعد أن كاد يقبضها الدكتور عنَّا بما صورَنا لهم. وانحدرنا إلى الزوارق البخارية بين عبارات الترحيب والتأهيل الصادقة، وكان جاري في الزورق أميرًا نجديًّا مُحرِمًا وفي يمينه بندقية، فلم أرتح إلى جيرتها وقربها من صدغي، فقلت له فجأة: «هذا فلان يسلم عليك.»

فاضطر أن ينقل البندقية إلى يسراه ليصافح صاحبي ولصقت به حتى لا أدع مكانًا تعود إليه إذا فكر في تحويلها إلى حيث كانت.

ولو أن الزورق سار في خط مستقيم إلى «الرصيف» لبلغناه في ثلاث دقائق، ولكنه اضطر أن يدور بنا حول الميناء فقطعنا المسافة في خمس وعشرين دقيقة؛ لأن مدخل الميناء مكتظ بالصخور والشعاب الحادة التي تقطع الحديد كالسيف. وقد فكرت الحكومة في إصلاح الميناء فخطر لها على ما علمتُ أحدُ أمرين: أن تطهرها وتعمقها، وهذا باهظ التكاليف، أو أن تبرز بالميناء فوق الصخور وهذا أيسر وأقل كلفة. وهناك رأي ثالث سمعت به ولا أدري إلى أي حد ينظرون إليه على أنه اقتراح جدي، وهو أن تُبنَى إلى جوار جدة مدينة جديدة على البحر يكون ساحلها أسهل وأخلى من الوعور؛ فإن إنشاء مدينة جديدة أيسر وأقل نفقة وتعبًا من إصلاح مدينة قديمة بهدمها شيئًا فشيئًا وإقامتها من جديد على مقتضى مطالب العصر فضلًا عن إصلاح الميناء وهو وحده مشكل.

وكان يستقبلنا على الرصيف قائمقام جدة الشيخ عبد الله رضا الزينلي ولفيف من الأعيان، وسيأتي الكلام عليه فيما بعدُ، فصعد بنا إلى بناء فيه موظفو الميناء، وجلس معنا في الشرفة إلى أن قرب الزورق الثاني فاعتذر وخف إلى استقباله، وتركنا مع المستر فيلبي وحقي أفندي سكرتير القنصلية المصرية وفريق من الأعيان، ولم يكن لهم جميعًا حديث إلا هذا المطر العجيب الذي سبقنا وكانت تحيتهم لنا: «جئتم بالغيث.»

ولهم العذر؛ فإن بلادهم صحراء جرداء ليس فيها نهر أو جدول واحد، واعتمادهم في معايشهم على المطر والآبار، فأما المطر فلا سلطان لهم عليه، وأمره بيد الله. وأما الآبار فقد كان عددها كبيرًا وكانت العناية بها شديدة، ولكن الأتراك لما اضطروا إلى الانسحاب من بلادهم في إبان الحرب العظمى، خرَّبوا أكثرها حتى لَخفيت معالم عدد ليس بالقليل منها، وعلى أن الآبار مهما كثرت لا تسد حاجات البلاد؛ لأنها تجف وتنشف، ومن هنا فكرت الحكومة السعودية في الآبار الارتوازية، وفي استخدام الآلات الحديثة لاستنباط الماء من جوف الأرض، واستوردت عددًا منها واتخذتها بالفعل في المدينة ومكة، وهذا خيرُ ما يسعها إلى الآن، مع العناية بالعيون وتعهُّدِها بالإصلاح.

وليس في جدة فنادق ينزل فيها القاصدون إليها، وإنما ينزل الناس في بيوت الأهالي، فمن شاء استأجر منزلًا بأسره، ومن كان لا يسعه ذلك قنع بغرفة مؤثَّثة على مثال «البنسيون» في مصر مع فروق طبيعية.

أما نحن فكُنَّا ضيوفًا على الحكومة، وكان العزم أن ينزلونا جميعًا في بيت واحد، ولكن الأعيان تزاحموا علينا فقسَّمونا ثلاث فرق: واحدة في بيت الشيخ محمد نصيف وهو من وجوه جدة وكبار تجارها، وأصله مصري وله مكتبة خاصة هي أكبر مثيلاتها في الحجاز، وفي داره ينزل على ما سمعنا جلالة الملك عبد العزيز حين يكون في جدة. والفرقة الثانية في بيت الشيخ الفضل، وهو كاسمه من أهل الفضل والوجاهة، والباقون ستة كان من حسن حظي أني أحدهم، نزلوا في دار حسين أفندي العويني، وهو شاب سوري الأصل نزح إلى جدة لأسباب قومية، واشتغل فيها بتجارة واسعة ربيحة، وسيجيء عليه كلام.

ولم نكد نستقر في بيوتنا حتى قيل لنا: إلى بيت القائمقام! فنهضنا وركبنا السيارات الخاصة التي أُفرِدت لنا، وذهبنا نخوض بها شوارع جدة، وأقول نخوض وأنا أعني ما أقول؛ فقد خيل إليَّ أني في البندقية وأننا أحوج إلى القوارب والزوارق — أو الجوندولا — مِنَّا إلى السيارات. وكانت العجلات تغوص في الماء إلى النصف. ولشد ما عجبت حين نظرت فإذا سائق السيارة صبي لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره؛ فخفت أن يقلبنا في الأوحال أو يدخل بنا الحوانيت أو يحاول أن يصعد الحائط بالسيارة، ولكنه كان حاذقًا وكان كأنه يرى الطريق تحت الماء فيجنب الحفر ويتَّقي أن يرجنا. هذا على أن رأسه لم يكن ظاهرًا لنا لصغر جسمه، فلا أدري كيف كان يبصر الطريق، وكأني به قد حفظه عن ظهر قلب فليس يحتاج أن ينظر بعينه. وكان بارعًا في محاورة الماء والروغان من الأوحال والمهابط، فلم يسعني إلا أن أسأله: «هل تعرف الطريق إلى مكة؟»

فقال: «أي نعم. متي تذهبون إن شاء الله!»

قلت: «وفصيح أيضًا!» ورقص قلبي إعجابًا بمهارته وذلاقة لسانه، وحدثتني النفس أن أخطف ثلاثة أو أربعة من أمثاله أخفيهم في حقيبتي وأعود بهم مصر، فما رأيت مثل براعتهم وخفتهم ونشاطهم.

واستقبلنا القائمقام على باب داره، وتلكأت أدير عينيَّ في البيت من الخارج فارتد إليَّ وتناول ذراعي ومضى يصعد بي السلم، وهو شيخ بلغ التسعين أو أربى عليها، وأنا شاب لم أبلغ الأربعين، ومع ذلك كان يثب على السلالم وأنا أرفع نفسي بجهد واضح. وصعود السلم في البيوت الحجازية عمل شاق؛ لأن الدرجات عالية جدًّا، والبعض أعلى من بعض وأضيق، وبعضها طولي أو أقل قليلًا إلى أنفي، وقد قلت وأنا ألهث بعد أن بلغنا الدور الثالث حيث حجرة الاستقبال: لقد نجحت في الصعود، ففي وسعي الآن أن أشترك في الألعاب الأولمبية. ولم أكن أدري إلى تلك الساعة أن الهبوط أشق بفضل هذا الارتفاع الذي يؤثِرونه للسلالم، وأن النازل إذا لم يحذر خليق أن يهبطها مدحرجًا عليها، وقد وجدت بالتجربة أن آمن طريقة للصعود هي الزحف على اليدين والرجلين.

واستغربت كثرة الأبواب للبيت الواحد، وتعدد السلالم، فقد تكون صاعدًا في وديعة الله وحفظه، وإذا أمامك سُلَّمَانِ يذهب كل منهما في ناحية فلا تدري أيهما تأخذ: هذا أو ذاك؟ وخطر لي في أول الأمر أن سُلَّمًا يؤدي إلى حجرات الرجال، وأن الآخر يفضي إلى مساكن السيدات، ولكن خطر لي أيضًا أن الإكثار من السلالم المضلة والأبواب المحيرة قد يكون أثرًا من أيام القلق وعدم الاطمئنان، أيام كان الناس يُهاجَمون في دورهم على غِرَّة، ويكر عليهم المعتدون وهم آمنون في سربهم؛ فلا يبعد أن يكون الناس قد آثروا في الأصل هذا الطراز المحيِّر ليتسنى لهم أن يجدوا لهم ولذويهم مخرجًا أو مهربًا إذا اقتحم عليهم الدار عدو، أو لعل الخاطر الأول هو الأصح، فما أدري ولا وجدت من يدري، ومهما يكن من ذلك فإن الدار هناك داران على الحقيقة، وهي تبتدئ واحدة ثم تتشعب وتتعدد، ولا بد لهذا من حكمة خفيت عليَّ. أما السلالم فلا حكمة لارتفاع درجاتها إلى هذا الحد المرهق إلا أن تكون حكمة التزهيد في مكابدتها مرة ثانية. وما أكثر ما كان يخيل إليَّ إذ تنزل من أحد البيوت أننا نهبط من سلم غير الذي صعدنا عليه، حتى خطر لي أن أرسم بالقلم علامات على الجدران للتثبت وقطع الشك باليقين.

وبيت القائمقام أنموذج حسن لغيره من الدُّور التي رأيناها مع تفاوت بينها في السعة، وطرازها جميعًا شرقي عتيق، وأقرب ما يشبهه في مصر البِنَى القديمة في أحيائنا الوطنية الصميمة من مثل الجمالية والخرنفش. وللبيت بوابة تُفتَح وتُغلَق — وتُغلَق أكثر ممَّا تُفتَح — وفيها باب صغير يسمونه في مصر «الخوخة» ثم الفناء فالسلم الذي وصفناه لك، ثم طبقات يغلب أن تكون اثنتين أو ثلاثًا، وحُجَر الاستقبال في الطبقة العليا، وغرف المائدة في التي تحتها، وقد يجتمعان في طبقة واحدة فتفرد الأخرى للنوم، والأثاث فاخر والذوق فيه سليم، ليس فيه ذلك البذخ الذي ينم عن الخيلاء والذي هو أشبه «بالإعلان»، ولا تلك الكزازة التي تقبض النَّفْس وتصد القلب.

وكرم العربي ليس ككرم سواه؛ فهو يكرمك ويبدِّل لك كل ما يدخل في طوقه بل فوق ما في مقدوره، ثم كان الذي يصنع هذا سواه من فرط السكون والوداعة وقلة التظاهر. وقد كنت كلما دخلت بيتًا يختلط عليَّ الأمر، فأحسبه بيت رجل آخر غير الذي أعرف أننا مدعوون عنده؛ ذلك أن مضيفك لا يُثقِل عليك بالحفاوة ولا ينفرد بتحيتك ولا يبرز نفسه أو يؤكد وجوده، ولا تكاد تستقر في مجلسك حتى يشيع في نفسك الشعور بعدم الكلفة وبانتفاء القيود وبأن حريتك في حديثك وجلستك وفيما تشتهي نفسك غير محدودة، وكان القائمقام — على سِنِّهِ وتقدمه وسمته وأبهته — يخف إلى «الشيشة» ويجثو حيالها ليصلحها أو يصنع فيها ما لا أدري فلست من هواتها، وكان الواحد منَّا بهم بأن ينهض ليصده عن ذلك تنزيهًا له عن هذه الخدمة، ولكن شيئًا في عينيه كان يقعد بنا ويغلنا عن الحركة.

ولم أرَ في حياتي وجهًا ناطقًا بطيب الخيم وأريحية النفس وبالعطف الشامل والحب الذي يريد أن يفيض على العالم كوجه هذا الرجل، وقد انصرفنا من بيته بعد أول زيارة وقد عشِقناه وشغِفنا به ولهجنا بذكره، فلما قال لنا المستر فيلبي إن القلوب مجمعة على حب هذا الرجل واحترامه لم نستغرب؛ فكأننا كُنَّا نعرف هذا من قبلُ. وقد كان قائمقام في عهد الحسين وابنه علي المعزولين، فلما جاء ابن سعود أقره في منصبه كما أقر كثيرين غيره كراهة منه للتبديل والتغيير اللذيْن لا معنى لهما ولا دافع إليهما سوى الهوى، وليس كل ما يروع المرء من القائمقام دماثته وسجاحة خلقه؛ فإن نشاطه وحيويته شيء عجيب، لا لمن كان في مثل سنه العالية بل لأي إنسان في أي سن، ثم هو إلى هذا واسع الدراية محيط بأخبار الأمم وسياساتها، عارف بنِيَّاتها ومساعيها، لطيف الحديث حلو المحضر، يزيده وقارًا قليل من الصمم، وسِنُّه أبدًا ضاحكة وعينه برَّاقة، فما أشوقني لأن أراه وهو ثائر الغضب!

وكان قد أعدَّ لنا غداءً ولكنا قلبناه عشاءً فقيل: «حسن. الساعة الأولى إذن.»

فملت إلى جاري وقلت: «سنموت هنا جوعًا.»

فقال بلهجة الفزع: «كيف؟ لماذا؟»

قلت: «ألم تسمع؟ العشاء الساعة الأولى. نحن الآن في الساعة الأولى بعد الظهر فسننتظر اثنتي عشرة ساعة أو أكثر حتى نأكل مرة أخرى. هذا صيام ولسنا في رمضان وأنا محتج.»

قال: «مهلًا مهلًا؟ إنها الساعة الأولى بالحساب الشرقي؛ أي بعد المغرب بساعة.»

فاقترح واحد أن نصلح ساعاتنا وأن نجريها على الحساب الشرقي، فسألته: كيف نفعل؟

قال: «تعتبر أن الشمس تغيب الساعة السادسة صيفًا أو شتاء، هكذا يفعلون هنا. المغيب الساعة السادسة (إفرنجية) بلا تغيير على مدار السنة وعلى هذا فأجر حسابك.»

فحرت لأن الشمس تغرب في الوقت الذي تشاء، لا في الساعة السادسة كما يريدها أهل الحجاز، وكانت ونحن هناك تستحسن أن تغيب فيما بين الخامسة والسادسة، وهي في الصيف تتلكأ أحيانًا إلى السابعة فلم أدرِ ماذا أصنع؟ أتكون الشمس غاربة وأقول أنا — مجاراة لساعات الحجاز — إنها لا تزال طالعة؟ ثم كيف أوفق بين رقم الساعة والوقت كما يبدو لعيني؟ الحق أن هذه كانت عقدة.

ولما صرنا في بيوتنا قلنا نزور القنصلية، ونؤدي واجبنا ونحيي بلادنا فيها، وكان المطر قد عاد ينهمر. فسألنا حسين أفندي العويني: «هل القنصلية بعيدة من هنا؟»

قال: «لا … (ممطوطة) ليست بعيدة ولكن … ولكن المطر شديد والطريق أوحال.»

وقام إلى التليفون — أو الهاتف كما يسمونه أحيانًا — ليدعو السيارات لتُقِلَّنَا إلى القنصلية وليس للتليفونات أو للهواتف أرقام تتميز بها، بل عليك أن تدق الجرس فيجيبك «المركز» — وهو يقابل عندنا السنترال — فتطلب منه أن يصل ما بينك وبين فلان في بيته أو دكانه أو مكتبه أو عيادته كما تشاء، ويبطئ عليك العامل فتناديه: «يا فلان ماذا جرى؟ أعطني بيت فلان واصنع معروفًا.» ذلك أنك تعرف عامل التليفون — لا عاملته — كما يعرفك، وكان المطر قد أفسد أسلاك التليفون وعطَّل المخابرات، فوقف حسين أفندي العويني ساعة يعالج الكلام، ساعة كاملة بلا ملل أو ضجر، ومن غير أن يفكر لحظة في الجلوس أو الاستراحة.

وأخيرًا بعث بخادمه فجاءت السيارات وركبناها، وصاح حسين أفندي بالسائقين: «إلى القنصلية المصرية.»

فدارت السيارات وتحولت أمام البيت، ثم جرت أمتارًا ووقفت.

وقيل: «انزلوا! تفضلوا!»

قلت: «ماذا؟ هل أصاب السيارات عطب أو تلف؟»

قالوا: «بل وصلنا!»

وصلنا؟ نعم. فما كان بين البيت والقنصلية التي ركبنا إليها بعد لأي، سوى عشرة أمتار!

وقلت لما صارت الساعة السادسة والنصف (إفرنجي): «الآن فانهضوا إلى العشاء في بيت القائمقام.»

فقيل: بل لا يزال الوقت فسيحًا ولم تستوفِ الساعة الأولى دقائقها. قلت: ولكنها فعلت وقد غربت الشمس منذ ساعة تمامًا.

قالوا: كلا لم تغرب إلا منذ نصف ساعة.

فأسلمت أمري لله ولساعات الحجاز التي لا تعبأ بنهار أو ليل والتي يجري الزمن على وجهها ما لا يجري في بلادنا على وجوه ساعاتنا.

وليس في نيتي أن أصف كل وليمة حضرتها أو دار دخلتها؛ فإن هذا لا آخر له، فقد كنا نتغذى في بيت ونتناول الشاي في بيت والعشاء في ثالث، وربما تغدينا في جدة وتعشينا في مكة، أو بالعكس.

ولكني سأذكر القليل الذي يدل على الكثير وينبئ عنه؛ فقد سمعت أن فريقًا من المصريين لا يصدقون أن أهل الحجاز يعرفون الأكل على الطريقة الحديثة، فلهؤلاء أقول: إن الحجاز ليس مجهلًا من مجاهل آسيا أو أفريقيا، وإنه وطن الإسلام وإليه يحج المسلمون من أقاصي الأرض وأدانيها، وإنه بلاد متحضرة سوى أنها فقيرة، والفقر لا يمنع الأناقة ولا يحول دون التهذيب، ومن الغرور الذي لا يُشَرِّفُ صاحبه أن يتصور المرء أن الحجاز — لأنه على البحر الأحمر ولأنه ليس مَصِيفًا أو مشتًى للمترفين مِنَّا وبغاة المراقص وطلاب الملاهي — يجب من أجل ذلك أن يكون مستوحشًا وعلى الفطرة الأولى.

وليس في الحجاز فنادق أو مطاعم عامة، ولكِنَّا دُعِينا في كل مكان حتى في قلب الصحراء وتحت الخيام، إلى موائد على الطريقة الغربية، عليها من الآكال ما يندر أن تقع عليه العين أو يذوقه اللسان حتى في مصر المتحضرة.

•••

وهم لا يراعون في الجلوس إلى الموائد ترتيبًا معينًا، وكانوا معنا على الأقل أحذق وأدقَّ مجاملة من أن يتوخوا ترتيبًا، فكان مَن شاء يجلس حيث يشاء، حتى لا يشعر أن غيره مفضل عليه أو مقرب دونه أو مختص بإيثار.

والقوم في الحجاز لا يأكلون سوى مرتين في الأربع والعشرين ساعة: مرة حوالي الساعة العاشرة، والثانية حوالي الرابعة أو الخامسة. وأحسب أن جو البلاد هو الذي اقتضى هذا التخفيف، ولكنهم توخَّوْا مثل عاداتنا في مصر من أجلنا. وغيَّروا مألوفهم وجروا على مألوفنا.

والأطعمة التي تناولناها فيها صَنعة حسنة وذوق يجمع بين الأسلوبين العربي والتركي. وقد يحدث أن يُقَدَّمَ لك بعد بضعة ألوان طعام حلو فتحسَب أنك قد قاربت النهاية، ويسرك ذلك فرارًا من كظ المعدة بألوان عدة لا آخر لها، وإذا بهم بعد الحلوى يكرون إلى اللحوم والخُضَر وما إلى ذلك على نحو ما كان يجري هنا في مصر في الأعراش على الطريقة التركية القديمة.

وأحب أن أعين القارئ على تصوُّر حالة جدة وعمل البلدية فيها. فأقول إن الطرق غير مرصوفة كما هي في مصر ولكنها نظيفة على الجملة، وقد أصارها المطر بركًا وبحيرات، وهو مطر ملأ صهاريج الثغر كلها، ومن بين هذه الصهاريج واحد سعته — بحسابهم — مائتان وأربعون ألف «صفيحة». فإذا اعتبرت أن «القربة» تعادل أربع «صفائح» كانت سعة الصهريج ستين ألف قربة، وقد قيل لي إن الماء الذي في الصهاريج يكفي موسم الحج، وإنما ذكرت الصهاريج ومثَّلت لسعتها ليتسنى للقارئ أن يكوِّن لنفسه فكرة عن المطر وما صنع، فقد هدم بيوتًا وقوَّض سُقُف بعض الأسواق، ولم يَبْقَ بيت لم يقطر الماء من سقفه، والبِنَى هناك ضعيفة، وقد قضينا الليلة الأولى في جدة فأصبحنا وقد انقطع المطر فانطلق عمال البلدية ينزحون الماء ويجرفونه لأوحال، فلما جاء العصر عادت الطرق نظيفة مأمونة. وأحسب أنهم ضاعفوا الهمة من أجلنا، ولكنه نشاط على كل حال.

•••

والأغنياء هناك لا يدَّعون الفقر ولا يكتمون مالهم وإن كانوا لا يضايقون الناس بمظاهر البذخ، والتجارة سوقها رابحة مع الغرب والشرق، والأحاديث صريحة والألسنة طليقة، وفي هذا دلالة على الاطمئنان، وقد كان الناس على ما علمت في العهد السابق يُخفون أموالهم ويتظاهرون بالمتربة ورِقَّة الحال؛ خوفًا من الابتزاز أو الاقتراض الذي هو في حكم الاغتصاب والمصادرة، أما الآن فيقول لي بعض الأصدقاء: إن الحكومة في آخر العام قد تقفر خزائنها فتحتاج إلى المال فتقترض من الأعيان، حتى إذا جاء موسم الحج ردَّت إليهم ما أقرضوها بلا رِبًا.

وقد سألنا — في طريقنا إلى مكة — سائق السيارة — وهو شاب، حدثنا أنه كان أحد أفراد الفرقة الموسيقية في جيش الحسين — عن الفرق بين العهدين، فكان جوابه أن الأمن مستتب على أحسن حال، وأنه ما من أحد يجرؤ أن يسرق أو يمد يده إلى شيء في الطريق.

فقلنا له: وأي العهدين خير؟

فقال: «لكل زمان دولة ورجال.»

فصرفنا السرور بتمثله بالشعر والتعليق على ذلك عن سؤاله عمَّا يعني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤