أيَّام

أجل، هي فتاتي لا مراء فيها.

ولئن خشيتُ حبًّا فإنما هذه الفتاة التي يحق لي أن أخشى حبها وأخشاها.

سنحت هذه الخاطرة في حدس همام مع سنوح سارة في أول الطريق طفرةً واحدةً.

وكان همام ممَّن يقيسون ارتقاء المرأة بسلوكها في مسألة المواعيد، فأبغض النساء إليه المرأة التي تحسب سرور الرجل بلقياها سببًا كافيًا لتنكيده بالانتظار وتكديره بالإبطاء في الحضور إلى الموعد، ولو كان في وسعها أن تسبقه إليه … وعندها أنه ما دام راغبًا في لقائها فلا يصح أن يهنأ بهذه الرغبة خالصة ويسعد بهذه المتعة صافية، وعليه أن يبذل ثمنها نكدًا لا ضرورة له وغصة لا حاجة إليها، وهو صاغر راغم يحرق الأرم ولا يعرف له حيلة غير الإنابة والتسليم، وإلا فماذا هو صانع؟

وجواب «ماذا هو صانع؟» هذه يختلف باختلاف الرجال واختلاف أنواع الهوى، أما جوابها عند همام فهو الانتظار خمس عشرة دقيقة على الأكثر ريثما ينقضي أقصى المدى المفروض لاختلاف الساعات في التقديم والتقدير، ثم ينصرف ولا يسأل عن العاقبة، إلا إذا اتضح له بعد ذلك أن العذر مقبول.

فلما رأى سارة — وهو يراقب الطريق من وراء النافذة — قد أقبلت في أول الطريق قبل الموعد بدقيقتين أو ثلاث، ولاحظ للمرة الثانية أنها تتحرى الدقة في رعاية المواعيد، فرح بمعرفتها ورحَّب بالعلاقة بينه وبينها، وأوجس في حينها أن تنشب هذه العلاقة جذورها في فؤاده فيتبعها ما لا بد أن يتبعها من لواعج ونكبات وفواجع، وأيقن أن هذه الفتاة تفهم كثيرًا جدًّا؛ لأن الفتاة التي تفهم أن لها قيمة غير قيمة الدلال المصطنع، وأن العاطفة أنفس من أن تُشَاب بالتنكيد والتكدير لغير داعٍ، لهي صاحبة ذكاء مطبوع يفقه قيمة الزمن وقيمة الشعور وقيمة السرور، ولا يقتصر ذكاؤها على النظر على عقربَي الساعة لإدراك الميعاد!

وفي الحق أن سارة قد بهرت همام بأشياء كثيرة في أول زياراتها لمنزله غير رعايتها للمواعيد.

فلو كانت تعرف ما يروقه ويستهويه من النساء معرفة تفصيل وتدقيق لحسب أنها تجوز امتحانًا عسيرًا وتتعمد أن تخرج منه بالتزكية التي ليس بعدها تزكية، والشهادة التي ليس فوقها شهادة.

هو قليل المرح، فيروقه من المرأة أن تكون مرحة بغير تكلفٍ ولا مبالغة، ويسمى المرح الذي يزين المرأة ويشوق الرجل مرحًا «موقعًا» تشبيهًا له بالغناء الذي ينطلق انطلاقًا وينبعث انبعاثًا ولكنه يقف حينما يحسن به الوقوف، ويسكن حينما يطيب منه السكون؛ يقف ويسكن لا على اقتضابٍ موحشٍ وانقطاعٍ ناشزٍ، ولكن على نغمة تفصل اللحن من اللحن، أو على قافية تختم البيت بعد البيت، فهو الوقوف الذي يريح ويشوق ويزيد لذة الإيقاع وطرافة السماع.

وهو يحب من المرأة الزينة التي تغري من يبصرها إغراء لا يخفى، ولكنها لو أنكرته وزعمت أنها لَمْ تتعمده ولم تفكر فيه لما استطاع أحد تكذيبها ببرهان.

وهو يحب المرأة التي تدرك الفكاهة، ويكره التي تتخذ من فكاهتها صناعةً أو معرضًا مفتوحًا في كل ساعة، وأقرب دليل عنده على اتفاق المزاجين هو دليل «نيتشه» الذي يقول إن الضحك من نكتةٍ واحدةٍ هو العنوان الواضح على تقارب الضاحكين في المزاج والتفكير، وما انفصل اثنان بفاصلٍ هو أبعد من ابتعادهما في تمييز النكات.

وهو يحب ربة البيت التي تكون أول خادمة فيه لأنها سيدته الوحيدة، ويحتقر المرأة التي تأنف من تلويث يديها في مطبخها كما يحتقر الرجل الذي يأنف من تلويث يديه في حقله أو حديقة داره.

وهو يحب المرأة التي تستطيع أن تكون «إنسانًا» في بعض الأوقات بمعزلٍ عن الأنوثة والذكورة، فلا تكون الأنوثة الحيوانية هي كل وظيفتها في الحياة.

ولقد تجلى له كل أولئك من سارة في أقل من ساعة، يوم جاءته في أول زيارة.

جاءته في زينةٍ تلفت العين إلى كل مزيةٍ في جسدها، ولا تلفت النظر إلى عيبٍ في نفسها.

ولم يكد يستقر بها المجلس حتى نهضت إلى أثاث الحجرة تضعه في مواضعه التي تهواها، وإلى جوانب البيت تعيد تنظيمه على النحو الذي تود أن تراه، وإلى المطبخ تجول فيه بنظرةٍ فاحصةٍ تدرك لأول وهلةٍ كيف طهيت كل صفحة، وكيف أعدت كل طبخة، وكيف لُوحِظت النظافة في التحضير والغسل والتجفيف.

وحان وقت المائدة فقدم لها «الديك» قائلًا: هذا اعترافٌ بفضل الديك في تعارفنا، وتمهيد محادثتنا الأولى.

فما أسرع ما قالها حتى بادرته متهافتة: لا أحب يا صاحبي أن تعرف لي فضلًا على هذه الطريقة!

فطرب للنكتة ووجم في وقتٍ واحدٍ، ولو كان يتوقع عند فتاة صغيرة هذه الفكاهة الماضية لاحترس بعض الاحتراس، ولكنها فاجأته بها فوجم ولم يسعه إلا أن ينقذ نفسه وهو يردد في شيء من التلعثم: إن كنتِ لا تأبين أن أمزجكِ بدمي ولحمي وأن أجعلكِ جزءًا مني فالطريقة لا تهم، وأنتِ أكلة شهية تطيب لي بغير حاجةٍ إلى السكاكين والقدور!

وكان حديثها على المائدة — وقد استغرقت ساعتين — على هذه الوتيرة من أمتع وأفكه ما تكون أحاديث الموائد.

لاحظتْ أنه لا يأكل من صدر الديك ويقصر اختياره على الجناحين والوركين، فقالت: كان من حقنا أن نتزوج، فنحن زوجان طبيعيان، أنتَ لا تأكل الصدر وأنا لا آكل غيره، فلا يشجر بيننا نزاع.

قال عفو الخاطر غير عامدٍ لما يقول: هذا مذهب شوبنهور منقولًا إلى المطبخ!

وأحس أنه أقحم شوبنهور في غير مقحمٍ؛ أَعَلى المائدة ومع فتاةٍ يُدَار ذكر الفيلسوف المتشائم عدو النساء؟!

وإنه لَيَهُم بتوبيخ لسانه والتراجع إلى موضوعٍ غير هذا الموضوع الذي أثاره، وإنه ليريد أن يأخذ عليها سبيل السؤال عن شوبنهور ومذهب شوبنهور إذا هي تلاحقة قائلةً: نعم، القصير يطلب الطويلة، والأبيض يطلب السمراء، والبدين يطلب النحيفة، ومَن يأكل جناح الدجاجة يطلب مَن لا تأكل الجناح … هذا تطبيق صحيح لمذهب الفيلسوف.

فراعه تعقيبها وسرعة التفاتها إلى «محل الشاهد» — كما يقولون — أضعاف ما راعته نكاتها، ولمحت هي دهشته فاستطردت تقول: على رسلك، لا تخف ولا تعجل، فلستُ بحمد الله فيلسوفة، وما قرأتُ شوبنهور إلا لأن «أحدًا» أرادني على قراءته، ولأن تفهيمه إياي كان ذريعة اللقاء بيننا، وما كان بالجائز أن يحضر إليَّ ليفهمني رواية أو مقالة ممتعة … فلم يعد لنا بد من الفلسفة وأمرنا إلى الله! فأغرب همام في الضحك؛ لأنه تخيل شوبنهور العظيم بوجهه العَبُوس وعينيه الظريفتين تبرقان من الحرد والسخرية وهو يسمع بأذنيه كيف انتقمت منه امرأة وهزئت به، وسَخَّرت فلسفته لغرامها.

وأثنى همام على صراحة سارة وقلة دعواها، واطمأن إلى سياق الفلاسفة والشعراء فقال: الآن آمنتُ مرةً أخرى أن صديقي «هيني» خبير بالنساء في جده ومزاحه …

قالت: ومَن صديقك هذا هيني؟

قال: لا تتهيبي، فليس هو بفيلسوف مغلق، ولا هو بالكاتب الذي يحوجك إلى ترجمان أو مفسر، إن حلا لكِ أن تقرأيه وحدكِ فهو شاعر سلس سائغ، وما أحسبُ له نظيرًا في الدعابة وخفة الروح.

قالت: أصحيح؟ وماذا قال عنَّا معشر النساء هذا الشاعر الظريف؟

قال: إنه ضجر من سيدةٍ دعيَّةٍ لها عينٌ واحدةٌ تتطفل على الأدب، فكتب عنها يقول: كل امرأةٍ تكتب فإنما تتجه عينيها إلى القرطاس وبالعين الثانية إلى رجلٍ … ما عدا فلانة طبعًا … فإن لها عينًا واحدةً كما يعلم القراء!

فراقتها غمزة الشاعر للمرأة الدعية، وقالت: أما من جهتي أنا فإني لأقر وأقسم بين يديك وبين يدي الله أن هيني لظريف وإنه لصادق، فما تقرأ المرأة إلا عن رجلٍ أو بسبب رجلٍ، وكل ما عدا ذلك كذب وادعاء.

وتشعَّب الحديث، وتفتحت مغاليق الأسرار من الجانبين، وفي غير مناسبةٍ ظاهرةٍ سألته وفي عينيها خبث كخبث الأطفال المناوئين: كم عمرك يا همام؟

قال همام: دعي هذه المحرجات يا بنية، فإن أبيتِ إلا الإلحاح فسأخبركِ على شريطةٍ واحدةٍ، وهي أن تخبريني أنتِ — بداءة — لماذا تسألين؟

قالت: ولِمَ؟ أيتغير عمرك بتغير أسباب السؤال؟ على أنني لا أنوي أن أدعك تطيل التخمين، وأريد أن أفرض لكَ اثنتين وثلاثين سنة إذا كنا متفقين في نسبة السن كما اتفقنا في غيرها من المقارنات … فإنني أنا في الثالثة والعشرين، وينبغي أن يكون عمر المرأة نصف عمر الرجل مضافًا إليه سبع سنوات.

قال: بل تسمحين أن يكون عمركِ خمسًا وعشرين ليتفق الحساب من الطرفين، وأقسم لكِ أنني ما أسقطتُ يومًا واحدًا، وأنَّكِ أسقطتِ السنتين الناقصتين!

•••

من الواجب أن نعرف لأيام النعيم وداعًا غير وداع الأسى والأنين الذي اصطلح عليه شعراء الاصطلاح في بعض العصور العربية.

فمن الخيانة للسرور عند هؤلاء الناس أن تلوح له ساعة وداعه بمنديل غير مبلول، وأن تفرغ منه شبعان راضيًا عن الشبع شاكرًا للزاد، خاليًا بذكرياته للتملي به والتأمل فيه.

وشعراء الاصطلاح جهلاء بالإنسان، لا يدرون ما الأسى ولا يدرون ما السرور، فالواقع أن الإنسان ليرحب بالشبع من النعيم وهو شاكر كما يرحب بالشبع من المائدة وهو شاكر، وترتفع المائدة فلا يحزنه أن ترتفع بعدما استوفى صنوفها وروى أحشاءه من آكالها وأشرباتها وهنأ حواسه جميعًا بما استطاع أن يلتهم من دسمها وحلواها، ومَن شبع من الروضة زهرًا ولونًا وأريجًا وظلًّا فلا بد أن يشوقه أن يغمض عينيه ليشبع منها خيالًا ومراجعةً، ويضع لها صورة مجملة يتأملها ويستبقيها، ويفسح لها مكانًا من متحف النفس تأوي إليه أبد الآبدين بنجوة عن الواقع وطوارق الأحداث؛ انتهى السرور الظاهر فليبدأ السرور الباطن، وذهب السرور العابر فليبقَ السرور الدائم، وتم السرور الذي يملكنا ويؤثر فينا فلننظر في السرور الذي نملكه ونؤثر فيه.

وهكذا ودَّع همام يومه شبعان جد الشبع، قانعًا أوفى ما يكون القنوع في تركيب أبناء الفناء، مستريحًا إلى الوداع كما يستريح الشاكر المكتفي لا كما يستريح السائم الملول، وأغمض عينيه على فراشه تلك الليلة يستعيد ويستجمع ويستمرئ ويتحدى النوم وهو مقبل إليه: أيها النوم، أتحدى أحلامك أن تعطيني فوق ما أخذت اليوم في صحو اليقظة … وأنا كاسب الرهان على الحالين …

•••

وتوالت المواعيد بعد الزيارة الأولى على تباعدٍ بينهما في مبدأ الأمر، ثم على تقاربٍ يوشك أن يكون بلا انقطاع.

إلا أنهما اتفقا على أن ينذرا سحابة يوم الجمعة لخلوةٍ كاملةٍ لا مشاركة فيها ولا يعوقهما عنها عائق.

فيومًا على رمال الهرم؛ لأنها تريد أن توقظ الفراعنة!

ويومًا على القناطر الخيرية؛ لأنها تريد أن تحاسب النيل العتيق على عرائسه الغريقات.

ويومًا على زورقٍ بين روض الفرج والروضة، ويومًا في حلوان عند آثار صقارة، ويومًا في صحراء ألماظة، ويومًا في جوار عين شمس والمطرية، فإن لَمْ تكن رياضة خلاء فعكوف في المنزل من الصباح إلى المساء، وذلك أمتع الأيام.

يخلو المنزل نهارها فلا طاهي فيه ولا خادم ولا نزيل غير سارة وهمام، وقد جعلا خدمة المنزل في ذلك اليوم شعائر مقدسة كالشعائر التي يتولاها الكهان، فهما يتبركان بها ولا يخجلان منها وهي في يدها المكنسة وهو في يده سكينة التخريط … أو هي تمزج الحلوى وهو يقلب الآنية على النار … أو هي تملأ الأطباق وهو ينقلها إلى المائدة، حتى إذا حان وقت الطعام مثلت إلى جانب المائدة في وقارٍ وخشوعٍ، وقالت: انتهى دور الخدمة، فتفضلوا أيها السادة.

وتتسرب إلى المنزل أنباء الأصيل بالاستقراء لا بالمشاهدة في معظم الأيام، فيقرآن أو يسمعان بعض الأغاني، أو يلعبان «الدومينة» قليلًا، وهي لعبة تحذقها سارة ويعتقد همام أنها أصح الألعاب وأشدها مطابقةً للحياة.

فالشطرنج والضامة يعولان على الحيلة، وكل شيء فيهما مكشوف بعد ذلك، والنرد يعول على المصادفة والذكاء، وكل شيء فيه مكشوف بعد ذلك، والورق إما مصادفةً وإما صراع قلما يشبه صراع الحياة.

أما «الدومينة» ففيها حساب للمصادفة، وفيها حساب للتدبير، وفيها حساب لليقين، وفيها حساب للظنون، وفيها حساب للغيب الذي تجهله أنت وخصمك، وللغيب الذي تجهله أنت ويعرفه خصمك، أو يجهله هو وتعرفه أنت، وللعيان الذي يعرفه كل مَن يشاء، ولها قوانين تمنعك أن تتحرك على هواك، ولها حرية تمنحك الخيار بين ما في يديك.

قالت سارة يومًا بعدما استعادته شرح «فلسفة الدومينة» للمرة الخامسة أو السادسة أو السابعة: أَوَلا تستمتع بشيء إلا أن تكون له فلسفة؟

قال: لا، بل أستمتع بالشيء ثم أبحث عن فلسفته، وإنني لأبحث عن فلسفته كما يجيل الشارب الكأس في جميع جوانب فمه ولهواته، كي لا يبقى جانب من النفس لا يأخذ نصيبه من متاعه، فأحسه وأعمله وأذكره وأفكر فيه وأستقصي معناه.

وأمثال هذه الأسئلة كانت تصدر منها كما يسأل الصبي أباه الشيخ في دالة ومحبة، أو كما يفتش المالك منزلًا دخله واستولى عليه فراح يسأل عن كل صغيرةٍ وكبيرةٍ فيه، فما كان في تلك الأسئلة فضولٌ غريبٌ ولا تهجُّمٌ واغلٌ، ولكن السائل والمسئول عنه هما جزء من مكانٍ واحدٍ تدور عليهما أسواره وتحتويهما جدرانه، ويتفقد فيه مَن يشاء ما يشاء، ولا فضول ولا اقتحام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤