العدالة

ينقص الشرق الآن في «العدالة» شيئان: الأول عقلي، وهو الفهم الصحيح لمعناها، والثاني شعوري وهو إجلالها وتقديسها.

ولست أقصد هنا العدل الفردي، كأن يكون عليك دين فالعدل يقضي أن تؤديه والظلم أن تنكره، ونحو ذلك؛ فهذا شيء ساذج وصل الناس إلى فهمه من قديم، وقدسوه من الأزل، وإن غمض منه شيء فتقدم القانون حل أكثر غموضه، وأوضح أكثر تعقيده.

وإنما أريد العدل الاجتماعي والتصرفات التي لها أثر مباشر في حياتنا الاجتماعية، وأهم خطأ نرتكبه في هذا الباب أننا لا ننظر إلى أثر العمل في الأمة، حيث يجب أن ننظر إليها، وننظر إلى الأفراد حيث يجب أن لا ننظر إليهم، ولأضرب لذلك أمثلة قليلة بما يحدث كل يوم:
  • (١)

    هذا شخص يعين في عمله؛ لأنه قريب لعظيم، ويترك من هو أكفأ منه لأنه لا قريب له، أو لأنه من حزب الحكومة والأكفأ من الحزب المعارض.

  • (٢)

    وهذا شخص يُستبقَى في عمله مع عدم صلاحيته لمرضه، ولا يستغنى عنه ويحل محله الصالح للعمل؛ لأن هذا المريض خدم المصلحة مدة طويلة، أو لأن له أسرة كبيرة ولا عائل لها غيره.

والأمثلة في هذا الباب كثيرة، والخطأ فيها ناشئ من النظر للأفراد، والواجب أن ينظر للأمة، فهذا الذي عين لقرابته أو لحزبيته أساء إلى الأمة أكثر مما أفادها، فقد حرمها عمل من هو أكفأ منه من جهة، ومن جهة أخرى كان في تعيينه إفساد لمعنى العدالة في عقول الناس، وإشعار للأكفاء بأن كفاياتهم ونبوغهم وتفوقهم كل هذا لا يساوي شيئًا بجانب القرابة أو النسب أو الحزبية، وضرر هذا على الأمة كبير، إذ يجعلها تقوِّم ما لا يستحق التقويم، وتهدر ما يستحق الإعزاز، تهدر الكفاية وتعزز المحسوبية، وفي ذلك قلب للعدالة وإفساد لصحة التقويم، وحمل الأكفاء على العدول عن إثبات كفايتهم بعملهم — وهو الطريق المشروع — إلى البحث عن وجيه أو قريب أو حزب، يتقربون إليه من طريق الملق لا من طريق العمل، وحسبك هذا من إفساد للخلق.

وهذا الذي استبقي مع مرضه لخدمته السابقة أو لأسرته الكبيرة، لو نظر فيه إلى الأمة لم يستبقَ، إذ كيف يعهد إليه بالتدريس — مثلًا — وهو مريض، أو بالقضاء بين الناس وهو غير قادر، أو نحو ذلك من الأعمال؟ وكيف ينظر إلى شخصه أو أسرته، ولا ينظر إلى من يتعدى إليهم عمله من التلاميذ أو المتقاضين، وكيف يخلط بين أجر يتقاضاه في مقابل عمل، وبين صدقة يراد أن تجرى عليه في معهد عمل لا في مكان إحسان؟!

إن الأمة إذا عقلت أنشأت معاهد الإحسان بجانب معاهد العمل ولم تخلط بينهما، فلم تبق في العمل إلا من صلح للعمل، فإذا لم يصلح فمكانه معاهد الإحسان، وبذلك نوفق بين مصالح الناس ومصالح المرضى والمستضعفين، فإذا لم نستطع فلنضحِّ الأفراد لمصلحة المجموع.

فالتفرقة يجب أن تكون تامة بين إحسان يعطى لنوع من أنواع الضعف كالفقر والمرض، وبين أجرة تعطى في مقابل نوع من أنواع القوة كعمل أو تفكير أو إدارة. أما الخلط بينهما في السلوك فخلط في التفكير.

•••

وخطأ آخر غريب في فهم معنى العدالة يكثر الوقوع فيه، وله أمثلة أخرى:
  • (١)

    تكون رئيس مصلحة أو مشرفًا على عمل، فيقدم إليك أحد الموظفين في «مصلحتك» خدمة شخصية لك في إصلاح أرضك أو الإشراف على بناء بيتك أو نحو ذلك، فتكون مكافأته منك الترقية في «المصلحة» قبل أقرانه، أو علاوة استثنائية قبل أوانها.

  • (٢)

    لك صلة شخصية برجل يجالسك ويلاعبك أو يضحكك أو يتولى لك بعض شئونك، أو يهاديك أو يقرظك ويشيد بذكرك، فتبذل جاهك في تعيينه أو ترقيته من غير نظر إلى كفايته أو أحقيته.

هذا الخطأ في فهم العدالة منشؤه الخلط بين النظر الشخصي والنظر للأمة، وملك الشخص وملك الأمة.

معروف يسدى إلى شخصك فتبخل أن تكافئه مما تملك، ثم تكافئه بما تملك الأمة، فيكون الغُنم لك والغرم على الأمة، هو ضرب مستور من الرشوة، إذ لا فرق بين هذا وبين قاض يأخذ الرشوة ويحكم حكمًا ظالمًا على حساب الأمة، فينتفع هو ويتضرر الناس، بل هذا في نظري أخطر من رشوة القاضي؛ لأن الرأي العام في الشرق تكوَّن على احتقار القاضي المرتشي، وعد الرشوة جريمة منكرة — ولما يتكون بعد لاحتقار الرشوة من هذا الضرب الذي ذكرت، وكل يوم يرى منه صنوفًا وألوانًا من غير أن يظهر استياؤه ظهورًا كافيًا.

إذًا — نحن في حاجة قصوى إلى التفرقة أيضًا تفرقة تامة بين ما يعمل لشخصك وما يعمل للأمة، فما يعمل لشخصك يجب أن تكون المكافأة عليه من مالك، وما يعمل للأمة يكافأ عليه من الأمة من غير خلط ولا اشتباك.

وهذا الضرب يحتاج من ذي الضمير الحي إلى عناية شديدة ومراقبة للنفس دقيقة، فإنه يلبس فيه على النفس، ويدخل فيه الوهم، فيخيل للشخص أن فلانًا أكفأ وأحق وذو صفات ممتازة، ولو حاسب نفسه حسابًا شديدًا لرأى أن حكمه هذا راجع إلى منفعة شخصية كسبها منه أو ملق تملقه به، أو نحو ذلك من مسارب النفس الخفية التي لا ينجو من شباكها إلا الراسخون في العلم، وقليل ما هم.

قرأت مرة أن وزير مالية في دولة أوربية عرف بالنزاهة التامة وتحري العدالة، عرض عليه أمر يتصل بشركة ولها من ورائه ربح، فتردد في إمضائه، إذ لم يتبين فيه النفع لأمته، ولكنه كان مغرمًا بلعب الورق فدست إليه الشركة من يلاعبه، فلاعبه وخسر له مبلغًا كبيرًا، ثم بعثت إليه الشركة هذا اللاعب الخاسر يوضح له مسألة الشركة ويبين له فيها وجه النفع للأمة، فدعا بالورق وأمضاه وهو يكذب نفسه ويظن أنه اقتنع بعدالة المطلب، وإنما الذي أقنعه في الحقيقة مكسبه في اللعب.

•••

وخطأ ثالث يتجلى أكثر ما يكون في وظائف الحكومة وأمثالها، وهو إهدار الكفاية وحسن الإنتاج، لمراعاة الأقدمية أو نحوها.

ويتجلى هذا الخطأ إذا راعيت أن الآلة الحكومية ليست إلا صورة مكبرة لمصنع أو شركة، فواضح أن المصنع أو الشركة إنما تضع أجور عمالها أو موظفيها على حسب مقدرة كل على الإنتاج وقيمة العمل الذي يقوم به للمصنع أو الشركة، وبعبارة أخرى غرم الشركة أو المصنع يتناسب تمام المناسبة مع غنمها من العامل، فمن لم يعمل لا يأكل، ومن عمل أكل بمقدار ما عمل، سواء كان هذا الموظف جديدًا أو قديمًا، وشابًّا أو مسنًّا، فلا بأس أن يكون الجديد والشاب رئيس القديم المسن، لأن الأجرة غير الصدقة، قد يراعى في الصدقة السن والقدم وكبر الأسرة والعجز ونحو ذلك، أما الأجرة فهي نظير عمل ونظير كفاية، مثلها مثل أجرة البيت وأجرة كل شيء، تتناسب مع الشيء المؤجر في جودته أو رداءته، وصلاحيته وعدم صلاحيته، وجماله وقبحه، ثم لا يراعى بعد ذلك أي اعتبار آخر خارج عن الانتفاع بالشيء المؤجر.

فأي نظام لحكومة أو بنك أو شركة يراعى فيه أي اعتبار غير الكفاية والمقدرة وخدمة المصلحة المكلف بها نظام فاسد، ونظام ظالم، ونظام خلط فيه بين الرحمة والعدل، وبين الصدقة والأجر، وبين معهد الإنتاج ومأوى المساكين.

وهذا النظام الذي أدعو إليه وحده هو الذي يفسح الطريق أمام القادرين على العمل، ويخلق التنافس في الإجادة، ويبعث على التسابق إلى المجد، أما نظام الأقدمية وأشباهها فمدعاة للكسل، وانتظار الزمن في جمود لإثبات الأحقية بالأقدمية، وانتشار الخمول الذي نشاهده ونشعر به ونلمسه في كل تصرف، ثم قتل الكفايات، والقضاء على الزهرة الجميلة قبل أن تتفتح، والمكافأة على الضعف وعدم الاكثراث، بحكم الأقدمية.

هناك نظام عادل ونظام ظالم في كلمة، أما النظام العادل فالمكافأة بمقدار الصلاحية والإنتاج، وأما النظام الظالم فالمكافأة بالأقدمية أو المحسوبية أو القرابة أو الحزبية، أما النظام العادل فتقدير الشيء من حيث هو ومن غير خلط بين الرحمة والاستحقاق، وأما النظام الظالم فتقدير الشيء لاعتبارات لا ترجع إلى العمل، والخلط الفاسد بين الرحمة والاستحقاق.

أما النظام العادل فكتربية الأولاد على أساس المصلحة فقط، وأما النظام الظالم فكإضاعة المصلحة لداعي الشفقة.

وجه الحق في هذا الكلام واضح جلي، ولكن تنفيذه في منتهى الصعوبة، وكثير من الناس يؤمن بهذا المبدأ، ولكن يحمله على العدول عنه فساد الميزان في يد أولي الأمر وعدم قدرتهم على الحكم الصحيح، فإذا قرر مبدأ المكافأة للكفاية وحدها فكم يرتكب من الجرائم للمحسوبية والحزبية تحت ستار اسم الكفاية.

فهذا الميزان الذي أدعو إليه إنما يصلح في يد القدير الحازم النزيه، وإلا انقلب إلى ضده وساد الفساد وعمت الفوضى، فهيئ الرجال القادرين على استعمال الميزان الصحيح، ثم ضعه في أيديهم، وإلا كان أسوأ من الميزان الفاسد.

•••

هذه هي بعض النواحي العقلية في فهم «العدالة»، أما الناحية الشعورية فهي تعليم الشعب إرهاف الشعور نحوها، والغيرة عليها غيرة البدو على أعراضهم، والصرخة تخرج من أعماق القلب لظلم يحدث وعدالة تنتهك، والثورة على الظالمين حتى لا يعودوا إلى مثل ظلمهم، وتكوُّن رأي عام يحمي العدالة ويقدسها تقديس عبادة في كل مكان: في القرية، فلا يستطيع عمدة أن يظلم؛ لأن الرأي العام للفلاحين يحتقره لظلمه ويهينه لجوره، ويصرخ في وجهه لانحرافه عن العدالة، وفي المركز، فلا يستطيع مأمور أن يظلم؛ لأنه لا يستطيع بعد ظلمه أن يبقى في مركزه لقوة الرأي العام في دائرته، وفي الأمة كلها، فالحكومة تحسب ألف حساب للرأي العام، فيسقطها إذا ظلمت، ويؤيدها إذا عدلت، ويقوّم الأحزاب فيها بمقدار حبهم للعدالة.

إذ ذاك — وإذ ذاك فقط — تسير الآلة الحكومية في إدارتها وفي قضاتها وفي كل مرفق من مرافقها نحو العدل، والعدل دائمًا، لخوفها من الرأي العام، وشعورها التام بأن كل عضو من أعضائها وأنها في جملتها مرتكزة في بقائها على «العدالة»، والعدالة وحدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤