قصة

زعموا أن رجلًا عرف بصحة الرأي وصدق النظر، فكان مقصد أمته في الأزمات ورجاءها في حل المشكلات، يقول الرأي فكأنما ينطق بلسان الغيب، ويظن الظن فكأنما يرى ويسمع، يتنبأ فكأنما يتلوا المستقبل من كتاب.

كان أعجوبة الأعاجيب في أمته، وأحدوثة قومه في زمنه، وما لبث أن طارت شهرته فعمت العالم، وطبقت الآفاق، وشاء القدر أن يرحل عن بلده إلى بلد سحيق، فسبقته شهرته، وعرف بمقدمه أهله، فاحتفوا به وأنزلوه منزلًا كريمًا، وأزمع أكابر رجاله أن يستفتوه في مشاكلهم، ويستنصحوه فيما صعب من أمورهم.

فأوفدت وزارة الشئون الاجتماعية وفدًا من رجالها يسأله: ماذا تعمل لتقضي على الفقر، وتمحو الإجرام، وتضع حدًّا لكل الشرور، وتنهض بالفلاح فيرقى عقله، وترقى معيشته؟ وكيف تتغلب على مشكلة البطالة، وكيف تحل مشكلة الزواج والطلاق، وتبرج النساء، واستهتار الرجال، إلى غير ذلك من مشكلات تدخل في اختصاصها.

وأوفدت الوزارات كلها تسأله عن حل لمشكلاتها، فوفد وزارة المال يشكون من قلة الدخل وكثرة المطلوب، وإسراف المصالح الحكومية، وأن كل وزارة تطلب، كأن مال الدولة قد أرصد لها وحدها، ويشكون من الموظفين وكثرتهم ومطالبهم وإلحاحهم، ومن الجمهور ونظره إلى مال الدولة كأنه غنيمة يحل نهبها، والوزارات كلها تشكو من وزارة المالية، إذ تسيطر عليها، وتقدر كل المسائل بالأوراق المالية، ولا تقدر المسائل الأدبية ولا المنافع العلمية ولا الاعتبارات المعنوية، وأنها تعامل المصالح على أساس تجاري لا على أساس مصلحي، والكل يشكو من سوء ظن بعضه ببعض، ومن عدم التعاون، ووزارة العدل تشكو من ضياع العدل في الأمة، فالمحسوبية، والوساطة، والرجاء، كل هذا وأمثاله أضاع معنى العدل، وأن هناك وسائل تعمل في الخفاء فتخنق العدالة، فلا يزال هناك نظام الطبقات يفسد العدل، فالفقير لا يصل إلى حقه من الغني؛ وإذا اتهم غني بالرشوة فليس كما يتهم الفقير، وإذا ضرب أحد «الذوات» جنديًّا أو نحوه حفظت القضية؛ أما إذا ضربه أحد السوقة، فالعدل يجري مجراه، وشكت وزارة العدل — أكثر من ذلك — من حال العدل الاجتماعي، فليس مال الدولة يوزع بالعدل، ولا مناصب الدولة توزع بالعدل، ولا معاملة الحكومة للناس توزع بالعدل.

وهكذا لم تبق وزارة من وزارات الدولة إلا رفعت صوتها بالشكوى، وأسرفت في وصف سوء الحال، وطلبت رأيه في العلاج.

وليت الأمر اقتصر على الوزارات، فكل طائفة شكت: فلاحون يشكون الفقر والبؤس، ويشكون الحكومة وملاك الأراضي، ويسألون السبيل إلى الإنصاف، وموظفون يشكون الكادر الجديد، وتجار يشكون مزاحمة الأجنبي، وكل حزب يتهم الأحزاب الأخرى بالتقصير، والكل يتهمون الحكومة، والحكومة تشكو الأحزاب وتشكو الأمة، لأنها تلقي كل أعبائها عليها.

وجاء رجل فقال: لست أمثل وزارة ولا أمثل حزبًا، ولا أمثل نقابة ولا أي جماعة، ولكني أشكو من شكوى الناس، فكلما جلست إلى قوم في أي مجلس، في فرح أو حزن، في طبقة المتعلمين أو الجاهلين، ملأوا مجلسهم بالشكوى من فساد الأخلاق وسوء الأحوال، ثم لم يزد الأمر بعد على أن ينفض المجلس، والمتكلم معجب بفصاحته وبلاغته في حسن الوصف، والسامعون مسرورون بقضاء الوقت في حديث لطيف، وكلهم يختم الجلسة بغسل يده من الموضوع والاكتفاء بالدعاء إلى الله أن يصلح الحال.

وهكذا تتابعت الوفود على هذا الرجل تعج بالشكوى حتى خيل إليه أن ليس في هذه الأمة إلا شاكون، وأن ليس لهم وظيفة إلا الشكوى.

ومع هذا طيَّب خاطرهم، ووعد أن يجد حلًّا لهذه المشكلات كلها في أسبوع، وحدد لهم موعدًا في مثل هذا الوقت من الأسبوع الآتي، ثم أتبع ذلك بقوله: ولكن لا بأس أن يزورني مصلحوكم فيُدلوا إليَّ بآرائهم حتى أستعين بها على إبداء رأيي، فتتابعت عليه طوائف المصلحين والزعماء كل ينظر إلى المسألة بعينه.

فجاء رجال الدين يقولون: إن سبب الفساد كله عدم التمسك بالدين، فلو نصحت بأن يتبع الناس الدين لذهب كل ما سمعت من شكوى، ولاستقامت الأمور، وصلحت الأحوال، ففساد الحال لا سبب له إلا غضب الله على الناس من عصيان أوامره، وارتكاب نواهيه.

وقال رجال المال: إن العلة كلها في المال، فلو أصلحت موارد البلاد، واستثمرت منابع الثروة خير استثمار، ووزعت الغلة خير توزيع لكان في هذا العلاجُ من كل داء، لو تم هذا لانعدم الفقر، وانعدمت الجرائم، وقَلَّ الطمع، وارتقت الأخلاق، فأكثر فساد الأخلاق منشؤه الفقر، فالفقر داعٍ إلى الإجرام، وداعٍ إلى الجهل، وداعٍ إلى الذل والعبودية، فإذا زال زالت معه شروره، وليس من فرق بين أسرة مهذبة راقية سعيدة، وأسرة بائسة شقية إلا المال، فالمال يعلِّم، والمال يهذب الذوق، والمال يبصر بطرق المعيشة، والمال يسعد.

وقال رجال السياسة: ادعُ إلى إصلاح سياسة البلد يصلح فيه كل شيء، فصلاح السياسة معناه صلاح الحكم، فإذا عدلت الحكومة في رعيتها، وساست الناس كما يقود القائد المحنك جنده، لا كما يصيد الصائد صيده، ونشرت العدل بين الناس، فهناك الطمأنينة، والرخاء والأمن، والسعادة والتقدم، وإلا فلا إصلاح.

وهكذا ظل طول الأسبوع يسمع من القادة آراءهم في الإصلاح، ولم يَفُتْهُ أن يسمع من رجال الأحزاب، ولا من رجال الصحف، ولا من الديمقراطيين والدكتاتوريين، ولا من الفلاسفة والشعراء، والنساء والفنانين، فقد قضى الأسبوع في معرض متنوع بديع.

وحان وقت إبدائه الرأي، وحضرت الوفود ممثلة لكل الطوائف، واشرأبت الأعناق، وأرهفت الأسماع، فقام بينهم خطيبًا وقال:

سيداتي! سادتي!

لقد سمعت كل وجوه الإصلاح التي اقترحها قادتكم، ورأيت أن في كل منها خيرًا كثيرًا، ولكن فيها عيبًا كبيرًا.

إن كل ضروب الإصلاح التي سمعتها موجهة إلى الجيل الحاضر، وليس فيه كبير أمل، إنه جيل فسد، قد أفسدته السياسة بألاعيبها، وأفسده الجو الذي عاش فيه، والخلاف الذي دب فيه، والعقلية التي حلَّت فيه، والمثل التي قدمت له، كل خطأ الآراء التي سمعتها أنها علقت الأمل على شيء مهدم، وعلى قصبة مرضوضة، وعلى بناء متداعٍ.

لقد فقد كل منكم الثقة بأخيه، ولا حياة إلا بالثقة، ولا عودة للثقة إذا زالت، لقد شممت من اقتراح كل منكم أنانية بغيضة، وتعصبًا للرأي ذميمًا، واحتقار لرأي الغير معيبًا، فتفرقت بكم السبل، وزال بينكم الحب، وساد فيكم ضيق النظر، وهذا عنوان الانحلال.

سيداتي وسادتي:

نصيحتي لكم ألا ألتفت إليكم، وألا تلتفتوا إلى أنفسكم، ولا أعلق الرجاء عليكم، ولا تعلقوا الرجاء على أشخاصكم، وأن تساعدوني على إهمالكم أنفسكم، وأن تلتفتوا معي إلى صغاركم، ولا شأن لي بكم إلا شأن الوزير الذي عين فدخل مكتبه فوجد الدفاتر مكدسة، والملفات مبعثرة، والأوراق مغبرة، وحاول أن يدرس مسألة فلم يفهم، وأن يتبع تاريخ أثر فلم يستطع، فأمر بإحراقها جميعًا، وأنشأ دفاتر جديدة على نمط جديد.

ثم ماذا تعملون لصغاركم؟

أنشئوا لهم المدارس التي تتسع لهم جميعًا، واحملوا الحكومة أن تخصص أكبر ما تستطيع من ميزانية لهذه المدارس، اجعلوا لغنى الغني حدًّا إذا تجاوزه ذهب إلى هذه المدارس.

ثم لا أمل في هذه المدارس أيضًا إذا علمتم تلاميذها ليكونوا مثلكم في عقلكم وأخلاقكم.

فعلموهم أول ما تعلمونهم فن الحياة الذي فشلتم فيه واستطعموا مرارة الفشل، ليحلو لكم أن تعلموهم وسائل النجاح، وحددوا غرض الأمة الذي تنشده ووجهوا التعليم والتهذيب نحوه، وارسموا في وضوح حاجات الأمة ومرافقها المختلفة، وشكلوا التعليم كمية وكيفية حسب هذه المرافق، علموا أطفالكم جميعًا الأمانة والرجولة، ونظافة اليد، ونظافة الخلق، وقيمة الحق، والشجاعة في قول الحق، والحياة للحق.

ولا تقولوا: إن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن هذا قول سخيف من آثار القرون البالية، فإنا نرى كل يوم المصائب تعلِّم اتقاءها، والرذيلة تعلم الفضيلة، وسخافة السخيف توحي حكمة الحكيم، علموهم ضد ما تعلمتم في السياسة، علموهم من صغرهم أن يحكموا أنفسهم ليصلحوا إذا أسند الحكم إليهم، وعلموهم الحرية التي لم تعرفوا أنتم أن تنتفعوا بها ليعرفوا هم كيف ينتفعون بها، وعلموهم الإيثار والتضحية في ضوء ما أَلِمْتُم من الأثرة والأنانية.

وجهوا كل همكم إلى الصغار، إلى الجيل القادم، إلى قادة المستقبل، واجتهدوا أن تحموهم من تقليد جيلكم، فضعوا أمامهم أمثلة نبيلة غير أمثلتكم، واخفوا عن أعينهم شروركم، فإنكم إن تعبتم في إنشاء جيل واحد على هذا النمط ضمنتم الخير لأجيال متعاقبة.

أما أنتم فيغفر الله لكم.

•••

قال الراوي: فهاج السامعون وماجوا، وسخط عليه قوم لسماجته وقلة حيائه، ووقاحته وسبابه، وازدراه آخرون لسخفه وسوء منطقه، إذ لم يحل مشكلًا، ولم يصلح فاسدًا، واحتقر الكبير، واستعظم الصغير، وهزأ بالرجال، وعني بالأطفال، ولأن مآل نصحه ترك الفساد ينخر في عظامهم حتى يأتي على آخرهم، فأتمر به هؤلاء وهؤلاء، وأجمعوا رأيهم على أن يودعوه مستشفى المجاذيب …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤