كنوز في بيت جائع

كنت أعتقد — كما علمونا في المدارس — أن قيمة مصر في واديها الضيق الواقع بين جبلين، وأن هذا الوادي المزروع نفحة من نفحات النيل، فيه كل ما في مصر من خير، وأنها بلاد زراعية فحسب، غناها في زراعتها ولا شيء غير ذلك، وكانوا يلقنوننا أن «ما عدا الوادي براري وصحاري قليلة النبات والسكان»، فإذا زادوا شيئًا قالوا: «وفيها بعض المعادن كالرخام والنطرون والشب والملح والجير».

هكذا كانوا يعلموننا أيام التلمذة، فخرجنا من ذلك على أن مصر خط طويل منزرع، أودع فيه كل ثروتها وإنتاجها، وحوله صحراء جرداء «فيها كثير من الأرانب والغزلان وبعض الحيوانات المتوحشة»، ووقع من ذلك في نفوسنا أن هذه الصحراء ليس فيها من خير إلا أنها تلفحنا بسمومها وزمهريرها، وتحمينا بجدبها وفقرها وقلة مائها من إغارة عدونا علينا، وأحيانًا تجود شمسها في الشتاء، ويجود قمرها في الصيف، فيخرج إليها الهواة يستمتعون بدفئها ونسيمها، والغزليون والشعراء يستلهمونها في غزلهم وشعرهم.

حتى أتيحت لي قراءات خاطفة ورحلات متعاقبة، أيقنت معها أن الصحراء كنوز متفرقة وثروة ضخمة، لا تقل شأنًا عن النيل ومزارعه، والخصب ونتاجه، وأنها كفيلة أن تحول مصر إلى بلد صناعي كما حولها النيل إلى بلد زراعي، فتكون بلدًا زراعيًّا وصناعيًّا معًا، وينعم أهلها بالخصب الزراعي وبالنتاج الصناعي، ويتدفق المال عن أيمانهم وعن شمائلهم فإذا هم أغنياء ناعمون، وليس ينقصهم للوصول إلى ذلك إلا شيء اسمه العلم، وشيء اسمه الخُلق.

أدرك هذه الثروة في بلادنا الأجانب قبل أن ندركها، وعلموا من قيمتها ما لم نعلم، فجابوا الصحراء، وتسلقوا الجبال، وهبطوا الوديان، ودرسوا وامتحنوا واختبروا واكتشفوا، ورسموا الخرائط، ووضعوا الخطط للاستغلال، وألفوا الشركات، وما لم تواتهم الظروف لاستغلاله كتموه سرًّا دفينًا في نفوسهم حتى يجيء زمنه وتنضج ثمرته ويحين قطفه، وأبناء البلد لاهون غافلون، يتجرع أكثرهم الفقر ويتلوى من الجوع، ولا يرون في الصحراء إلا ترابًا متجمعًا أو صخرًا متجمدًا، والأجنبي يراها كتابًا مقروءًا وكنزًا مفتوحًا.

طف — إن شئت — بالصحراء ترَ الشركات على اختلاف أجناسها: هذه تستخرج زيوتًا، وهذه تستخرج معادنَ لا حصر لها، وما كل ذلك إلا قليل من كثير تضمه الصحراء بين جوانحها سرًّا مكتومًا، تبوح به لمن أوتي «عزائم الكنوز»، وهي العلم والخلق.

أما العلم فأغنى به طائفة تتخصص في معرفة المعادن والتعدين معرفة واسعة عميقة تصل فيها إلى ما وصل إليه علماء الغرب، من معرفة بطبائع الأرض وطبائع طبقاتها وطبائع معادنها وكيفية استخراجها وكيفية استغلالها، وما إلى ذلك.

وأما الخلق فمطلبه أعسر، إذ أعني به حرصًا شديدًا على مصالح الأمة، ورغبة قوية في العمل، وإرادة جبارة في التنفيذ، وتعاونًا وثيقًا بين الجهات المختصة وأرباب الأموال، وإهدار الحزبية للصالح العام، والشجاعة في التجارب أمام احتمال الفشل، وما إلى ذلك.

ألم تبلغك مأساة كهربة خزان أسوان وما جرَّ تأجيلها من كوارثَ وما أضاع على البلاد من فوائدَ كانت تجنيها منها، وبخاصة أيام هذه الحرب؟ لقد أضاعها تخلخل الإرادة، وضعف الإيمان، ودسائس الحزبية، والرغبة القوية في الجدل دون العمل.

•••

كل الناس في مصر يرغبون في استثمار أموالهم من طريق ملكية الأراضي وزراعتها، وكل الأمل معقود باستصلاح الأراضي «البور» واستغلالها، خلق موروث من القرون الأولى، وقفوا عنده وتمسكوا به ولم يتزحزحوا عنه، وكان ذلك طبيعيًّا لو لم يكن لهم موارد غير الأرض، وحتى هذا الاستغلال الزراعي لم يؤمنوا بمنهج له إلا مناهج قدماء المصريين في نوع زراعتهم وآلاتها وتصريفها، وفاتهم أن العلم في العصر الحديث تفنن في الوسائل الزراعية وأبدع فيها، كما فاتهم أن العلم قد اكتشف في مصر كنوزًا لا عد لها يمكن أن تستغل بخير مما تستغل به الأراضي الزراعية، وأن رءوس الأموال يوم تودع فيها تربح ما لا يربح القطن والغلال، ولكن عيبها أنها تحتاج إلى علم أوفى وخلق أرجح وإقدام أقوى وإرادة أنفذ وتعاون أوثق.

•••

وليس الاستغلال الصناعي يعود على الأمة بالخير من ناحيتها المادية فحسب، بل من ناحيتها الخلقية والاجتماعية أيضًا، فالأمة الصناعية أرقى — عادة — من الأمم الزراعية في عقلها وخلقها وإدراكها لحقوقها الاجتماعية وواجباتها القومية، فإذا أضفنا إلى طبقتنا الزراعية طبقة أخرى صناعية، كان لنا من ذلك طبقة أخرى جديدة أشد نشاطًا وأصلح حياة وأرقى إدراكًا، تكون مع الطبقة الزراعية مزاجًا منسجمًا، ومزيجًا متجانسًا.

•••

دعاني إلى الكتابة فيه هذا الموضوع رحلة في الصحراء مع صفوة من الأصدقاء في عطلة هذا العيد، فاخترقناها من أسيوط إلى الواحات الخارجة فالداخلة، وعهدي بالواحة الخارجة قديم، فقد عينت فيها أول ما عينت قاضيًا، وجُبْتُ بلادها، وزرت أكواخها؛ وعاشرت أهلها، وقضيت بين خصومها، فلما زرتها هذه المرة بعد أكثر من عشرين عامًا، حننت إليها حنيني إلى الشباب، ووقفت على دورها القديمة، وقلت: هنا كنت أسكن، وهنا كنت أقضي، ورأيت أكثر من عرفت قد اخترمتهم المنية، وعدا عليهم الزمن، ورأيت مظاهرها الخارجية قد حسنت، وأصبحت تعجب الناظرين، فقد تحولت من مركز يديره معاون إدارة إلى محافظة يسكنها محافظ، فشوارعها قد اتسعت، ومدخلها نسق بالأشجار، وهذا ناد للموظفين، وهذه استراحات للحكومة، ومع هذا فالشعب بائس كما تركته، فقير كما تركته، مريض كما تركته، وموارده النخيل كما تركتها، والأرض الخفيفة القليلة كعهدي بها، والحيوانات الهزيلة كما خلفتها.

ورحلنا إلى الواحات الداخلة، فوجدنا منجمًا جديدًا يكتشف، وكنوزًا وافرة يهتدى إليها.

وكانت هناك منذ القدم مياه على بعد قريب من الأرض يعثر عليها، فإذا مدت الأنابيب إليها خرج ماؤها يسيح على وجه الأرض يستقون منه، ويزرعون به أرضهم القليلة الضعيفة، ثم تقل المياه، وتطمر عين وتفتح عين، والماء محدود، العيون يؤثر بعضها في بعض، تتأثر العليا منها بالسفلى.

فمن عهد قريب أرادوا تجربة النزول بالأنابيب إلى عمق أبعد، واختراق طبقة أسفل، فما إن دقوا أنابيبهم ووصلوا إلى ثمانمائة قدم حتى تدفقت المياه على سطح الأرض في غزارة عجيبة، وإذا بالعين الواحدة تقذف خمسة عشر ألف طن في اليوم من غير آلات رافعة، ومن غير أي عناء، ثم تجرب التجربة نفسها في أربعة مواضع فتخرج عيون أربع كالتي وصفنا، ويدل البحث على أن هناك مساحات فسيحة في أعماق الأرض تدخر هذه المياه في وفرة عظيمة وغزارة عجيبة، فماذا كان؟

هل حللت هذه المياه لمعرفة عناصرها، وما تحتويه من مواد وما لا تحويه؟ وما هو نوع الزرع الذي يناسبها والذي لا يناسبها؟ هل اختبرت المياه وعرف ما تفيد من الأمراض وما لا تفيد؟ هل رسمت خطة منظمة للانتفاع بهذه المياه الدافقة؟ هل تعاونت وزارة الزراعة ووزارة الأشغال ووزارة الصحة في استغلال هذه المياه؟ فالأولى تنظم الزراعة، وتشير بطرقها وما يصلح لها، والثانية تنظم الري، وتستخرج كمية المياه المطلوبة، والثالثة تنتفع بها من الوجهة الصحية، وتمنع ما ينجم من ركودها من أضرار؟ لا شيء من ذلك كله، وكأن العيون قد نبعت في المريخ، وقد رأيت المستنقعات حولها تتكون، والأيدي العاملة لا تتناسب وغزارتها، وكأن العيون عز عليها سوء استقبالها، فتسربت إلى الرمال لتعود إلى أعماقها في خجل وخزي، وسمعت بعض أولي الأمر هناك يشيرون بسدها إلى أن يستيقظ النائم، ويجدّ الخامل.

رحماك اللهم! لو نبعت مثل هذه العيون في أمة يقظة، لحولت ما حولها جنانًا ناضرة، وبساتين مزهرة، وحدائق غُلبًا، وفاكهة وأبًّا، ولأزالت البؤس وأجرت النعيم، ولأفنت العطالة، والتهمت البطالة، ولرأيت المستشفيات تبنى حولها، والمشاتي تقام في نواحيها، والمواصلات تمد إليها؟ ولرأيت ثَمَّ نعيمًا وملكًا كبيرًا، ولكن وا أسفاه؟ عز العقل المدبر، وضعفت الهمة النافذة، فلننتظر حتى يأتي إليها من غير أهلها من يعرف كيف يستغلها.

ويا لله للشعب البائس! ويا لله ممن بيدهم تصريف الأمور! أليست هذه كنوزًا في يد مساكين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤