يوسف الكيمياوي

العهد عهد السلطان الناصر محمد بن قلاون، الجالس على عرش مصر والشام، والمستبد الذي ترتجف منه قلوب الولاة والأمراء، والقوي بجيشه ومؤامراته، فتخطب وده الدول المجاورة، والقابض بيده على زمام الأمور كلها، فترفع إليه كل يوم التقارير عن العمال والولاة، والحركات والتدابير، والدخل والخرج، فلا يفوته منها شيء.

والسنة سنة ٧٣١ هجرية وقد أصبح المال معبود هذا السلطان؛ لأنه محتاج إليه في أبهته وعظمته، وبذخه وترفه، وجواسيسه وأتباعه، وزوجاته الكثيرات، وجواريه العديدات، وبيوته الكثيرة، ونفقاته الضخمة وعماراته، وشروره وخيراته، فإن لم يحصل على المال حلالًا فليحصل عليه حرامًا، وليتعرف أحوال رجاله ومقدار ثروتهم ومخبأ كنوزهم، وليتلمس لهم العثرات بالحق وبالباطل حتى يستبيح مصادرتهم واستحواذ أملاكهم، ووضع يده على ثرواتهم.

وهؤلاء الأمراء على دين ملوكهم يفعلون بالشعب ما يفعله السلطان الناصر بهم، فيغتنون من الفقراء، ويسرقون من البؤساء، ويجمعون ما يصل إلى أيديهم، ثم يصادر السلطان ما تعبوا في جمعه، وتحيلوا في الاستيلاء عليه، جزاءً وفاقًا.

هذا «سَلَّار» يتولى نيابة السلطنة إحدى عشرة سنة، ثم يموت، فيتعب الحسَّاب في إحصاء تركته، هذه صناديق مصفحة مملوءة بفصوص الياقوت والماس وعين الهر، وهذه صناديق تظهر في اليوم الأول فيها مائتا ألف دينار وأربعمائة ألف درهم، وهذه ضياع لا حصر لها، وهذه الخيول والجمال والمراكب والعبيد والجواري والأغنام والأبقار مما لا يحصيه عد، وكل يوم تظهر له مخابئ جديدة فيها كنوز جديدة، من أين أتى بهذا كله؟ من الشعب، من الظلم.

ويأتي السلطان فيسمع بثروته فيجري لها لعابه، ويقبض عليه ويسجنه ويجيعه حتى يأكل نعاله، ثم يموت جائعًا فيستولي السلطان على ثروته، وتنتهي الرواية، وهذه صور تتكرر كل يوم، ورواية تمثل في كل إقليم.

المال — المال — كلمة سحرية تصدر عنها الأعمال، وتتكيف بها السياسة، ويحلم بها كل وال وأمير وسلطان.

في هذا الجو يظهر «يوسف النصراني الشامي»، الفقير المسكين، فيضع خطته المحكمة في هدوء، إن الناس يعبدون المال فليستعبدهم هو بشبح المال، يظهره ويخفيه، ويطمعهم ويؤيسهم، ويلعب بعقولهم لعب المال بهم، إن لمعان الذهب يخلب لبهم فالعب بلمعانه، وإن أملهم في الغنى يفسد منطقهم وحكمتهم فالعب بأملهم.

ولكن قد تقف نصرانيتك حائلًا بينك وبينهم، فيرتابون في أمرك ولا يطمئنون إليك اطمئنانهم إلى أهل دينهم، فالعب بدينك لعبك بالذهب، وتظاهر بالإسلام وبالصلاح وبالتقوى، فالغاية تبرر الوسيلة.

تنقَّلَ في بلاد الشام متفرسًا في أمرائها، باحثًا عن فريسة يصيدها، حتى وصل إلى «صفد» وأميرها يومئذ الأمير «بهادر» فوجده الغنيمة.

قال: إني أرى السعد في طلعتك، والغنى مكتوبًا على جبينك، وقد جئت إليك لأملأ خزائنك ذهبًا وفضة، وقد أنفقت عمري في طلب الإكسير حتى وجدته، إن الفِلِزَّات واحدة في نوعها، والاختلاف الذي بينها ليس في ماهيتها وإنما في أعراضها، وكل شيئين تحت نوع واحد اختلفا بعرض فإنه يمكن انتقال كل واحد منهما إلى الآخر، فالذهب والفضة والحديد والرصاص متحدة النوع مختلفة العرض، فلو أخذنا حديدًا أو رصاصًا ونقصنا بعض عناصره وزدنا بعض عناصره تكون من ذلك الذهب لا محالة، وقد وصلت إلى الإكسير الذي يفعل ذلك بعد عناء، فإني أطبخ الرصاص أو النحاس بطريقة خاصة أرشدني إليها العلم والتجارب الطويلة، ثم أضيف إليه من هذا الإكسير الذي يمتاز به الذهب عن النحاس أو الرصاص، فإذا الذائب ذهب، وما يوجد بالطبيعة يوجد مثله بالصناعة، فالطبيعة تخرج الذهب من العناصر الأخرى بحرارتها ومزجها، وهذا هو ما أعمل بصناعتي:

وقد ظفرتُ بما لم يؤتَه ملكٌ
لا المنذران ولا كسرى بن ساسان
ولا ابن هند ولا النعمان صاحبه
ولا ابن ذي يزن في رأس غمدان

وستكون إن شاء الله بهذا أغنى الأغنياء وأعظم العظماء، تقتني من المال ما أردت، وتسود على الأنام بما شئت وكيف شئت.

ومع هذا كله فإن لم تقتنع بالمنطق فاقتنع بالتجربة، فأتى له «بهارد» بقليل من الرصاص، وأفرد له غرفة يجري عليها تجاربه، فأشعل النار وطبخ ثم أشعل وطبخ، وأخرج حُقًّا فيه إكسير وأضافه، فإذا المزيج ذهب.

جن جنون الأمير «بهادر» وتمنى الأماني وسبح في الأحلام، وجمع ليوسف الكيمياوي كثيرًا من النحاس والرصاص، وأعطاه كثيرًا من الأموال لينفق منها على إحالة هذه المعادن ذهبًا خالصًا، ولكنه تعلل مرة بفساد الإكسير ومرة بخطأ التجارب، وأخيرًا غافل صاحبه وفر إلى دمشق، وأراد أن يمثل مع واليها الرواية التي مثلها أمام «بهادر»، ولكن ساء حظه فعلم بأمره فأراد قتله.

وهنا أدته حيلته أن يملأ دمشق ضوضاء وجلبة، وأنه يريد السلطان حتى يملأ خزائنه ذهبًا وفضة، وتحدث الناس به بين مصدق ومكذب، ولم يجرؤ نائب دمشق على قتله بعد أن ذكر اسم السلطان ورسالته إليه، وانتقل خبره من دمشق إلى مصر، وإذا بالبريد يأتي من السلطان إلى دمشق في طلب يوسف الكيمياوي.

دخل يوسف إلى مصر في السابع عشر من رمضان، فأنزله السلطان في بيت أمير، وأجرى عليه الرزق الوفير، ورتب له عدة من الخدم يتولون أمره حتى يختبر صدقه، فطلب يوسف أنواعًا من الآلات ورسمها وبالغ في تركيبها وتعقيدها، فصنعت له، وحُدِّدَ يوم للتجربة، فاحتفل به السلطان وشكل مجلسًا فخمًا لامتحانه، هذا ناظر الجيش، وهؤلاء عدة من الأمراء، وهذا نقيب الصاغة ومعه جمع من الصياغ، وأوقدت النار وأحضرت الآلات، وطلب يوسف نحاسًا وقصديرًا وفضة، فوضعها في بوتقة ووضعها على نار حامية حتى ذاب الجميع، فأخرج من جرابه إكسيرًا وضعه على الخليط المذاب، وصبر عليه برهة ثم أنزل البوتقة من على النار، فأفرغوا ما فيها فإذا سبيكة من ذهب كأجود ما يكون، زنتها ألف مثقال، وامتحنها شيوخ الصاغة، فأفتوا بأنها ذهب خالص لا شبهة فيه.

سر السلطان بذلك سرورًا عظيمًا ودهش الحاضرون، وأنعم السلطان عليه بهذه الألف من الذهب، وبالغ في إكرامه وأركبه فرسًا سلطانيًّا مسرجًا ملجمًا بحرير، ومنَّى نفسه أن هذا الكيمياوي سيجعل له كل حديد مصر ونحاسها وقصديرها ذهبًا.

وما هي إلا ساعة حتى انتشر الخبر في المدينة أن قد ظهر رجل عجيب يحيل كل شيء ذهبًا بإذن الله، فما هو إلا أن تقدم له قطعة من حديد، أو إناء من نحاس، أو كتلة من رصاص حتى يعزم عليها ويجعلها ذهبًا خالصًا، وها قد قتل الفقر وذهب البؤس، وسيسيل الذهب في مصر سيلًا ويتدفق أنهارًا، وسوف لا يكون بعد اليوم فقير ولا مسكين، وكان أحرص الناس — أول الأمر — على أن يغتنوا الحاشية، فقد قدموا المال الكثير ليوسف وقدموا له النحاس والحديد الكثير ليقلبه لهم ذهبًا، وهو يلعب بهم ويستخف عقولهم ويضحك على هذا بجزء من الذهب مما سلبه من ذاك، وهكذا.

وأراد السلطان أن يستوثق من الأمر مرة أخرى، فأجرى يوسف أمامه التجربة ثانية فأخرج له سبيكة ذهبية كالأخرى كاد يطير بها فرحًا.

وتدفق على يوسف المال من كل جانب، وعاش عيشة البذخ والترف، وأفرط في اللهو، ومرت عليه أيام سرور ومتعة لا ينعم بمثلها إلا القليل.

والسلطان يستحضره بالليل ويناجيه، ويعرض عليه المشروعات الضخمة التي ينوي القيام بها من وراء الذهب المصنوع، ويوسف يسايره ويحبك له خياله.

والناس يأتون إلى يوسف يعرضون عليه الأموال والحديد والقصدير، وهو يعدهم ويمنيهم، وأخيرًا قابل السلطان وقال له: إن الإكسير قد فرغ.

السلطان : إذًا فاصنع غيره.
يوسف : إنه مركب من نبات وأعشاب لا تنبت في مصر، وإنما تنبت في الكرك.

– سمها لي وصفها أبعث بالبريد من يحضرها.

– إنها سر أخذت على الله عهدًا ألا أذيعه، وإذا أذعته فسد الأمر علي وعليك، إذ يستطيع كل إنسان بعدُ أن يحصل على الإكسير فيحصل على الذهب، وهو أمر حرصت أن يكون لك وحدك، وسر اخترت أن أخصك به، فأنت ولي الأمر، وهو في يدك مصلحة، وفي يد غيرك مفسدة.

– فما العمل؟

– تأذن لي أن أسافر إلى الكرك وأستحضر منه قدرًا كبيرًا صالحًا لتنفيذ مشروعاتك الضخمة.

أذن له السلطان، إذ لم يرَ بدًّا من ذلك، وأركبه البريد وأوصى به خيرًا حيثما حل، وأمر الولاة أن يمدوه بالمال الذي يريد.

ها هو ذا يوسف يتنقل من بلد إلى بلد، والكرم يتدفق عليه، إذ هو ضيف السلطان ونجيه ومأمله، حتى إذا وصل إلى غزة وأقام بها أيامًا، غافل من معه وشمَّعَ الفَتْلة١ واختفى، ثم يبحثون عنه ويبحثون، فلا يقفون له على أثر.

وتتبخر الآمال وتنهار القصور التي شيدت في الخيال.

وفي يوم من أيام ذي الحجة من هذا العام يعثر عليه مختفيًا في إخميم، وإذا كل أعماله نصب واحتيال، وإذا الناس كبيرهم وصغيرهم يستكشفون أنهم مغفلون، وإذا السلطان يحكم عليه أن يُسَمَّرَ ثم يشهَّر على جمل.

وإذا الستار يسدل.

١  هذا تعبير عامي طريف ليس أدق منه في التعبير عن هذا المعنى في مثل هذا الموقف، لأن معناه «هرب في نصب واحتيال» وأصله — كما يروون — أن سلطانًا سمع بمهارة نصاب محتال، فاستدعاه وقال له: إني أجزل لك العطاء إن أمكنك أن تنصب علي، فقال له: أعطني ألفًا أشتري بها «عدة نصب» فأعطاه وأمر من يلازمه حتى لا يهرب، ثم حضر بعد مدة بعدته وأدواته، ونصب السلطان سرادقًا دعا إليه من يشاهد نصب النصاب, وكان مما أحضره النصاب بكرة خيط كبيرة، فتقدم إلى السلطان وقال له: أمسك هذا الطرف وأنا أشمع الفتلة لألعب بها لعبتي، فأمسك السلطان طرفها، وأخذ النصاب يشمع الفتلة ويتراجع رويدًا رويدًا حتى اختفى عن الأنظار، وبحثوا عنه فلم يجدوه، وبذلك تمت لعبته، ومن هنا اخترعوا هذا التعبير (شمع الفتلة).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤