بجوار شجرة الورد

أخذت قلمي وورقي، وجلست بجوار شجرة الورد في حديقتي الصغيرة المتواضعة، أستمليها ما أكتب، فأوحت إلي بهذه الخطرات.

هذه شجرة الورد تمتد وتشرئب وتتفرع وترتشف — في نهم — ما تقدمه لها الشمس من ضوء وحرارة، وتشرب كأس الحياة إلى الثملة.

فليت الناس يعملون عملها، فيفتحوا قلوبهم للضوء والحرارة، ويمدوا فروعهم ما استطاعوا ليمتصوا غذاءهم، وينموا قواهم وملكاتهم، ويشربوا كأس الحياة مترعة.

•••

وهذه شجرة الورد تمد جذورها، وتفرز ما يعرض لها، فتختار ما يصلحها وينفعها، وتتقي ما يضرها ويسمها.

فليت الناس يسيرون سيرها، ويعلمون أن حولهم غذاءً صالحًا يجب أن ينالوا منه ما وسعهم، وأن حولهم سمومًا يجب أن يتجنبوها ما أمكنهم، وأن أمامهم كئوسًا مختلفة الألوان، مختلفة الطعوم، مختلفة الصلاحية، بعضها شراب صالح وقد يكون مرًّا، وبعضها شراب سام وقد يكون حلوًا، غذاء شجرة الورد سهل يسير، فما عليها إلا أن تحول ما حولها إلى عناصرَ أوليةٍ، فتمتص ما ناسبها وترفض ما خالف طبعها، ولكن غذاء الإنسان في عواطفه وميوله وغرائزه ومشاعره مركب معقد، حتى قد يكون الغذاء داء ودواء معًا، هذا الطموح الحالم يبعث على الجد، وهذا التواضع النبيل يدعو إلى الخمول.

•••

ها أنتِ قد تقيدت بطينتك، ونزلت على حكم تربتك، فلا تستطيعين الخلاص منها والخروج عنها، جيدة كانت أو رديئة، صالحة أو فاسدة، فوطنت نفسك على الرضا بما كان والانتفاع بالكائن حسب الإمكان، ولم يمنعك ذلك أن تثوري على ما قُدِّرَ لك، وتحاولي التخلص منه والتحايل عليه، فخرجت من ظلام الأرض إلى نور السماء ومن مقبرة الباطن إلى مسرح الظاهر، ومن سكون الجذور إلى لعب الغصون، ومن عبوس المنبت إلى ضحك الثمرة — وهكذا كان أخوك الإنسان، خضع للقدر كما تخضعين، وثار كما تثورين، فاجتمع له جبر البيئة واختيار الإرادة، وعمل على أن يخرج من الظلمات إلى النور، وخلق من الطين، وتطلع إلى السماء، وبلغ من تطوره أن كاد يكون ملكًا كريمًا أو شيطانًا رجيمًا، وكلٌّ ميسَّر لما خُلق له.

•••

يعجبني منكِ أنك دُفنت فسكنت، وتكونت في الخفاء، ولم تجزعي من الظلام، ولم تظهري إلا بعد أن تم نضجك، واكتمل وجودك، واستطعت أن تغالبي الأحداث، وتقفي أمام العواصف — فليت أخاك الإنسان يعمل عملك فيدفن نفسه حتى تكتمل قواه، ولا يظهر إلا بعد أن تنضج ملكاته، ويحسن استعداده، ويقوى على مصارعة الزمان ومغالبة الصعاب، فمن ظهر قبل أن يتم نضجه لم يُرْجَ خيره، والقيمة الحقة ولو قليلة، خير من الشهرة الزائفة ولو واسعة.

•••

أعجب ما فيك صبرك وعملك المتواصل حتى تأتي بالمعجزة، ومعجزتك أنك رسمت خطتك في صمت وسكون، وما زلت تكدين وتجدين، وتختفين ثم تظهرين، وإذا بك قد استخرجت من الحمأ المسنون والطين اللازب ألوانًا زاهية تستخرج العجب، ورائحة عطرة تنعش النفس، وجمالًا فتانًا يأخذ باللب، فما أبعد مرماك! وما أقدرك على تحويل القبح إلى جمال، والظلمة إلى نور، وكراهة الرائحة إلى عطر! فمن استطاع من الناس أن يأتي بمثل ما أتيت به فيفيض على الناس جمالًا ونورًا وشذًى، كان — ولا شك — عظيمًا أي عظيم.

•••

يحدثني علماء النبات عنك أن أخطر الأوقات عليك وعلى أمثالك يوم يجري الماء في جذعك وعيدانك، فإذا صادفك إذ ذاك جو شاذ من سَموم أو صقيع كنت أشد تعرضًا للهلاك، كذلك عصر الشباب أشد العصور على الإنسان خطرًا، إذ يجري فيه ماء الحياة فيشعر بحرارة الشوق، وحرارة العواطف، وتتعرض حياته يومذاك إلى أشد الأخطار، ويستولي عليه نوع من القلق، خوفًا من أن تتثلج عواطفه أو تقوده إلى المهالك.

•••

هذه أنت زهرة وشوك كلاكما من بذرة واحدة تسقى بماء واحد، ثم يجري الماء في الجذوع والأغصان، فيكون مرة زهرة وادعة ضاحكة، وتارة شوكة حادة قاسية عابسة، فعلمتِنا أن الجمال محفوف دائمًا بالأشواك، وأن الخير دائمًا ممزوج بالشر، والذي أنزل الكتاب فيه هدى ورحمة أنزل الحديد فيه بأس شديد، ولا بد أن يقلم شوكك ليكثر زهرك، هكذا نفس الإنسان، زهرة جميلة محاطة بالأشواك، ويجب أن تقلم أشواكها ليتفتح زهرها، فإذا أهملت وتكاثر شوكها كانت كلها شوكًا لا زهر فيه، ما أكثر نفوس الناس التي يجدّ الإنسان في الهرب منها حتى لا يتعلق بأشواكها! أولئك كل مظاهرهم ومخبرهم شوك لا خير فيه، وشر لا نفع فيه، إن كل نفس تحيط بها أشواك من رغبات وشهوات وميول وإرادات وأعمال، وما التهذيب والتربية والديانات ونظم الحكومات الصالحة إلا عمليات تتحد في الغرض، وهو تقليم هذه الأشواك لتتفتح الزهرة جميلة نقية، تشع الخير والسرور والرحمة على من حولها، وبعض النفوس لم تقلم أو ساءت تربتها، أو ساء محيطها، فكثر شوكها، وقل أو انعدم زهرها، وبعض النفوس قلمت وصلحت تربتها فأنبتت الزهرة الجميلة يعجب لونها، وينفح عطرها، فهي جذابة لمن رآها أو سمعها أو قرب منها، وهي بلسم لجراحات الزمان، وطعنات السنان.

•••

ها أنت يمر عليك دور تتكونين فيه لنفسك، وتبحثين عن غذائك لنفسك، وتمدين جذورك لنفسك، وتتفرعين فروعًا لنفسك، وعلى الجملة تعيشين لنفسك، فإذا أزهرت فقد وصلت إلى الغاية، فتجاهلت نفسك لنفع غيرك، ووزعت خيرك وجمالك على من حولك، فملأت محيطك بعبيرك، وأشععت جمالك على كل من له عين تنظر وقلب ينبض، وهكذا أخوك الإنسان يبدأ حياته لنفسه، ولا تشغله من الحياة إلا نفسه، فهو أناني مستأثر، وقد يقطع حياته كلها في هذا الدور، فيكون مثلكِ إذا شَوَّكْتِ١ ولم تزهري، أما إن هو قطع دور أنانيته وتوجه قلبه لخير الناس وحب الناس، وأخذ يفكر ويعمل لنفع الناس أولًا ونفسه ثانيًا، فقد بدأ يزهر، وقد يصل به الخير أن يرى سعادته في سعادة الناس، أو أن يدخل السرور على الله بإدخال السرور على الناس، فتكون وردته قد بلغت الغاية في نفح الطيب وإشعاع الجمال.

•••

غمرتني الشمس وغمرتها، ورأيت من الذوق أن أتركها تنعم بحرارتها وضوئها فاستأذنت فأذنت، ورجوتها أن تسمح بنشر الحديث فسمحت، غير أنها أومأت إلي أن عندها أحاديثَ أخرى لا تسمح بها لكل الناس، وأن معانيها تنوء بالألفاظ مهما سلست ورقت، وإنما تنتقل باللاسلكي من زهرتها المتفتحة إلى القلوب المتفتحة.

١  شوكت الشجرة: أخرجت شوكها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤