قصة عَلَم الدين

يظهر لي أن علاقة الشيخ الدسوقي بالأستاذ «لين» أوحت إلى علي باشا مبارك أن يضع قصة طويلة ممتعة ظلمها مؤرخو الأدب العربي عند تاريخ القصة، فأهملوها أو جهلوها، مع أني أعتقد أنها أول قصة مصرية قيمِّة أُلِّفت في العهد الحديث، قصة قيمة من حيث موضوعها ومن حيث لغتها، وهي طويلة تقع في نحو ألف وخمسمائة صفحة في أربعة أجزاء، ولم تتم.

كان علي باشا مبارك وقت تأليفها «ناظر المعارف»، أو على حد تعبيرنا اليوم «وزير المعارف» فحشد جمعًا كبيرًا من المدرسين ورجال العلم في مصر ليعمل في هذه القصة، ووضع لها خطة محكمة، هي أن يحصروا أهم مظاهر المدنية الحديثة، كالسكك الحديدية والبريد والملاحة والتياترو والبورصة والبنوك وأوراق المعاملات ووسائل الإضاءة إلى غير ذلك، ثم أن يحصروا أهم المعلومات التي يجب أن يعلمها الإنسان المثقف، وآخر ما وصل إليه العلم فيها كالبحر وعجائبه والبراكين، وعجائب الحيوان، كدود الخشب ودود القز وكلب البحر، والذهب والأحجار الكريمة، والفلاحة والزراعة، وطبقات الأرض، وأشهر النباتات وما يستخرج منها كالقطن واللبن والعنب والأشربة والكؤول، والموضوعات الاجتماعية كعادات الأوربيين في مأكلهم وملبسهم ومجتمعاتهم، وعادات المصريين في ذلك، ثم موضوعات أدبية كالسلف والخلف في الإسلام، والميسر والأنصاب والأزلام، ومعنى المعلقات، وتاريخ القهوة والحشيش، والموالد والأعياد والمواسم، إلى غير ذلك، وكلف كل إخصائي في موضوع أن يكتب له فيه.

ووضع فكرة القصة، وأدخل فيها هذه الموضوعات كلها، وعهد إلى عبد الله باشا فكري، وكيله في المعارف، أن يشرف على لغتها، «ويهذب معانيها ويشذب مبانيها»، ففعل ذلك في أكثر الكتاب، «فجاء كتابًا جامعًا، اشتمل على جمل شتى من غرر الفوائد المتفرقة في كثير من الكتب العربية والفرنجية، في العلوم الشرعية، والفنون الصناعية، وأسرار الخليقة، وغرائب المخلوقات، وعجائب البر والبحر، وما تقلب نوع الإنسان فيه من الأطوار والأدوار في الزمن الغابر، وما هو عليه في الوقت الحاضر، وما طرأ عليه من تقدم وتقهقر، وصفاء وتكدر، وراحة وهناء، وبؤس وعناء … مع الاستكثار من المقابلة والمقارنة بين أحواله وعاداته في الأوقات المتفاوتة، والأنحاء المتباينة».

رأى أن مصر واقفة في مدنيتها عند ما ورثت من القرون الوسطى إلا قليلًا، وأن أوربا سبقتها بمراحلَ في جميع مرافقِ الحياة، وأن الخير لمصر أن يقف أهلها على كل ما وصلت إليه المدنية في أوربا؛ ليتخيروا منها ما يصلح لهم، ويدخلوا منها على نظامهم ما يرقي شئونهم.

ورأى أن النقد في مصر لا يستساغ ولا يباح، والناقد معرض لأنواع من الاضطهاد والعذاب.

ورأى أن التعليم بالقصص ألذ وأمتع، وأدعى إلى النشاط، وأبعد من الملال، وأن الناقد للشئون الاجتماعية في القصة أوسع حرية من الناقد الصريح، فالنقد فيها مألوف يجري على لسان غيره ولا يتعرض صاحبه لما يتعرض له الناقد الصريح، لهذا كله وضع هذه القصة.

بطل القصة شيخ من الأزهر اسمه الشيخ علم الدين، كان أبوه معلم كتاب في قرية من قرى الريف، علم ابنه ما يعلم في الكتاب، من حفظ للقرآن ومبادئ القراءة والكتابة، ثم رأى فيه من النجابة ما جعله يستخير الله ويرسله إلى الأزهر الشريف، فيزوده بالنصائح وبالزاد، ويسافر علم الدين في مركب مع قوم من أهل بلده يقضون فيه الأيام حتى يصلوا إلى القاهرة، ويذهب بخطاب من والده إلى صديق له في مصر يوصيه فيه بابنه، ويطلب منه أن يعرفه بمشايخ الأزهر ليعنوا بأمره، ويجد في طلب العلم، ويعيش على الجراية وعلى السهر في الختمات عيشة ضنكًا، ولكنه يرضى بما قسم الله، ويخطر له الخاطر في الاعتراض على توزيع الغنى والفقر، وكيف يغتني الجهلاء ويفتقر العلماء، فيطرد هذا الخاطر سريعًا، لأنها مشيئة الله الذي لا يسأل عما يفعل، والذي يُجري الأمور بحكمة قد تدق عن الأفهام.

ويتم الشيخ علم الدين دراسته، ويجلس للتدريس، ويريد أن يتزوج، فيستخير الله في أن يتزوج غنية أو فقيرة، فتخرج الاستخارة على الفقيرة، ولو طلب الغنية ما أجابت، فيتزوج فتاة عاقلة دينة فقيرة جاهلة، فيعلمها ويجد في تعليمها حتى تصل قريبًا من درجته في علمه، ويرزق منها بأولاد، ويلح الفقر عليهم فيألم الزوج وتألم الزوجة، ولكن كليهما يكتم ألمه، ثم يدخل الشيخ فيجد زوجته تبكي، فيسألها عن سبب بكائها فتداري، فيلح عليها، فتفصح أنه الفقر وسوء الحال، ويتدرج الحديث في سبب الفقر، فيذهب هو إلى أنه القضاء والقدر، وتذهب هي إلى أنه القانون الطبيعي، وأنه لم يسلك السبل الطبيعية لتحصيل المال ليكون غنيًّا، فلا بد أن يعمل عملًا ما يكسبه مالًا، ولو أدى إلى أن يذهب إلى بلده ليحل محل أبيه في تعليم أولاد القرية، أو نحو ذلك من الأعمال.

ويخرج الشيخ من بيته ضيق الصدر من هذا الجدال مفكرًا في السفر إلى الريف كما نصحت زوجته، ثم تنفرج الأزمة، إذ يحضر رجل إنجليزي إلى القاهرة من المشتغلين باللغة العربية، ويلقى شيخ الجامع الأزهر ومعه رسائل من الأمراء والكبراء يوصون فيها شيخ الجامع بالرعاية له والعناية به، ويقص الإنجليزي على الشيخ أن عنده نسخة من لسان العرب لابن منظور يريد نشرها وطبعها، لعظم فائدة الكتاب، وأنه حضر إلى مصر لتصحيحها، وأنه يريد أن يدله الشيخ على أستاذ من أفاضل العلماء المتبحرين في تصحيح الكتب، ليعينه على عمله، وليقرأ عليه بعض العلوم العربية، وأنه مستعد أن يعطيه في نظير ذلك مرتبًا يرضيه، وإذا اقتضى الحال أن يسافر معه إلى بلاد الإنجليزي استصحبه معه، وضاعف له مرتبه، فسمى له شيخ الجامع جماعة من العلماء، فاجتمع بهم وحادثهم، وعرف ما عندهم، وعرض عليهم أمره، فمنهم من اعتذر لكبر سنه، ومنهم من رأى أن ذلك لا يجوز في الدين، ولكن الذي قبل وأعجبته الفكرة وأعجب به الإنجليزي كان هو الشيخ علم الدين، وعاد إلى بيته وشاور امرأته فشجعته على القبول وطلبت إليه أن يصحب معه أكبر أولاده «برهان الدين» وتم الاتفاق وتأهب الشيخ للسفر.

صورت القصة الشيخ علم الدين صورة طريفة، فهو شيخ طيب مسلم متمسك بدينه، مؤمن أتم الإيمان بالقضاء والقدر، لا يصدر عن عمل إلا بحكم الدين، وهو واسع العلم بما في الكتب، ولكن دنياه هي كتبه وبيته، والطريق بين الأزهر وبيته، ولا شيء غير ذلك، لم يركب القطار مرة واحدة في حياته، وعلى بيته لوحة تحدد رقمه في الحارة لم يعن مرة بأن يلتفت إليها ويعرفها، ولكن إن سألته عن الحكم في حادثة أفاض في الآيات والأحاديث التي تدل على حكمها، وإن سألته عن معنى بيت من الشعر تدفق في شرح مفرداته ومعناه وما يتصل به، والأقوال التي قيلت فيه، ومع هذا فللشيخ مزية كبيرة، هو أنه ذكي وأنه محب للاستفادة، وأنه سئول لما يجهل، مدرك لما يُشْرَحُ.

هذا الشيخ على هذا الوضع سيسافر إلى إنجلترا مع إنجليزي خبير بالدنيا وشئونها كل الخبرة، واسع الاطلاع إلى أقصى حد، عرف الشرق والغرب، ودرس شئونهما والفوارق بينهما، وهو لطيف العشرة ميال إلى الإفادة والاستفادة، يرى دينًا عليه أن يريح الشيخ ويفيده، ويوسع مداركه إلى أبعد غاية تستطاع.

هذا الشيخ علم الدين يسافر هو وابنه برهان الدين والإنجليزي، ويدق جرس القطار فيسأل الشيخ: ما هذا؟ ويتحرك القطار فيتحرك قلب الشيخ خوفًا، ثم يرى الناس هادئين فيهدأ ويسلم أمره لله، ثم يعجب كيف تطوى الأرض طي السجل للكتب، وتسير العربات وما عليها كما قال الله تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، ويسأل الشيخ الإنجليزي عن القطار وكيف يسير، فيشرحه له شرحًا مفصلًا من ضغط وحرارة وبخار، وتاريخ السكك الحديدية، وكيف أنشئت، وكيف تمت، وماذا أنفق عليها، ومتوسط عدد المسافرين فيها، والأرباح التي تأتي بها، وكيف أثرت في الزراعة والتجارة، فيعجب الشيخ من هذا الشرح، ويعجب مما كان يقوله بعض العامة في مصر أنها إنما تسير بقوة جماعة من الجن والشياطين مسخرين لها بواسطة العزائم والسحر والطلاسم.

وما أتم الإنجليزي كلامه حتى كان القطار قد وصل طنطا، فسأل الإنجليزي الشيخ عن السيد أحمد البدوي وتاريخه، فأفاض الشيخ في ذلك وفي مولده، فقال الإنجليزي: إن هذه الموالد ترجع إلى قدماء المصريين، وقد تكلم في ذلك هيرودت في تاريخه، ويؤخذ من وصفها أنها كانت مواسم دينية وسياسية، وكان يحضر فيها الملك أو من ينوب عنه من عائلته، وأنها كانت أشبه بالأسواق الرومانية أخذها الرومان عن اليونان، واليونان عن المصريين، وجميع هذه المواسم كانت مرتبطة بأوقات الزراعة، فلعل هذه الموالد التي عندكم أثر من تلك.

ويعود الحديث إلى السكك الحديدية، فيذكر تاريخها في مصر من أول عهدها إلى يوم الحديث، وينتهي الحديث بأن الإنجليزي يسأل الشيخ عن كلمات وردت في أثناء كلامه عن السكك الحديدية، كالدست والقدر والعربة، هل هي عربية، فيفيض الشيخ في الإيضاح، ويأتي بالشواهد من كلام العرب، ويستطرد ما شاء له الاستطراد، ويتجادلان في أن القِدْر مذكرة أو مؤنثة.

ووصلوا إلى الإسكندرية في أربع ساعات ونصف ساعة، فعجب الشيخ من هذه السرعة، فقد كانت هذه المسافة تقطع في أكثر من أربعة أيام، وفيما كان الشيخ يبدي هذا العجب سلم ساع ورقة إلى الإنجليزي، ففتحها وضحك، وقال: أتدري لِمَ أضحك؟ إن هذه الورقة تلغراف من والدي بلندن، وبيننا وبينها ثلاثة آلاف ميل، وقد أرسله والدي منذ ساعتين — فأنسته سرعة التلغراف سرعة الوابور.

توجهوا إلى «اللوكاندة» فظنها الشيخ أنها بيت كبير للإنجليزي أو أحد أحبابه، لأنه لم ير مثل هذا قط، وعجب من نظافته وكثرة فرشه وسرره، وقال ابنه: لا بد أن يكون صاحبنا ذا مال كبير وثروة عظيمة، حتى يكون له منزل بهذه الحال، وعجب الشيخ من كل ما رأى: خيط نازل من سقف الغرفة يضغط عليه فيرن فيحضر رجل يسأله عما يريد! وقوم خارجون وداخلون! فلم يفهم سر ذلك كله حتى أفهمه الإنجليزي ما معنى «اللوكاندة» ففهم الشيخ أنها صورة مكبرة لما كان يعرفه عن الخان أو «الوكالة»، والإنكليزي يصف «اللوكاندات» وما وصلت إليه، والشيخ يصف «الوكالة» وترابها وقذارتها، وبقها وبراغيثها، وما قيل فيها من أشعار.

ويجلس الشيخ وابنه والإنكليزي على مائدة الطعام، وحولهم النساء والفتيات، وبجانب الشيخ شابة طليانية بديعة الجمال نادرة المثال تعرف اللغة العربية، وبعد الفراغ يدور الحديث بين الإنجليزي والشيخ عن المرأة الغربية والمرأة الشرقية والعادات والتقاليد وأيها أحسن، فيصر الشيخ على استحسان عادات الشرق، وينشد قول الشاعر:

لا تأمنن على النساء ولو أخًا
ما في الرجال على النساء أمين
إن الأمين ولو تحفظ جهده
لا بد أنَّ بنظرة سيخون

ويصر الإنكليزي على استحسان عادات الغرب، وأن الحجاب لم يمنع المرأة في الشرق من العبث إن شاءت، ويدور بينهما حوار لطيف يمثل العقليتين المختلفتين، كالذي كان بين قاسم أمين وخصومه بعد.

ويحن الشيخ إلى زوجته فيطلب إليه الإنكليزي أن يكتب لها خطابًا يرسل بالبريد، فيدور الحديث حول البريد قديمًا وحديثًا، ويصف الإنكليزي ما وصل إليه الآن، ويصف الشيخ ما كان يفعله، إذ ينتظر يومًا أو يومين ليجد من يسافر إلى بلده في المركب فيرسل معه الخطاب، وربما توجه إلى ساحل البحر (النيل) ليعثر على من يسافر فلا يجد فيرجع بخطابه، وإذا سهل المولى ووصل الخطاب فلا يأتي رده إلا بعد شهر، إن أتى ويفتتح الشيخ خطابه اللطيف لزوجته بقوله: «إلى السيدة المصونة والدرة المكنونة، ومن لا أصرح باسمها، ولا يغرب عن خيالي لطف طبعها ورسمها، قرة العينين، وزوجتنا إن شاء الله في الدارين».

ويركبون البحر فيصف الإنكليزي للشيخ البحر وعجائبه، وأنواع مخلوقاته، وفعل الهواء بالماء، ويمرون بالقرب من جزيرة صقلية، فيجدون الركاب وهم يلغطون وينظرون بالنظارات، فيسأل الشيخ، فيجيب الإنكليزي إنه البركان، ويصف له البراكين وأسبابها وأفعالها.

وعلى المركب يتعلم الشيخ علم الدين وابنه برهان الدين اللغة الإنكليزية، ويجدَّان، والصغير يسبق أباه الكبير في التعلم، لكثرة حركته ومخالطته للركاب والجهد في أن يكلمهم بما تعلم.

•••

ها هم ينزلون في مارسيليا ويستريحون، ويعرض الإنكليزي على الشيخ أن يذهبوا الليلة إلى التياترو، فيعتذر الشيخ ويسمح لابنه أن يذهب، ولكنه يسأل: ما هو التياترو؟ فيشرحه له الإنكليزي شرحًا وافيًا من تاريخه وغرضه وأنواعه، فيقول الشيخ: إن هذا إلا نوع راق مما يسمى في بلادنا «أولاد رابية» فهم يقلدون أحوالًا حاضرة أو أمورًا ماضية، فهم يقبحون حادثة سيئة حصلت في الزمن الحاضر أو الغابر، فيبرزونها في قوالب الهزل والسخرية، وكثيرًا ما يخرجون في ذلك إلى السخف والعيب والألفاظ البذيئة التي يأباها الذوق، فيقارن الإنكليزي بين «أولاد رابية» والتياترو، وأن الأول من خلق العوام الجهلاء، أما التياترو فمن نتاج الأدباء ورجال الفن.

واحتفظ الشيخ وابنه بزيهما الشرقي، فبرهان الدين يذهب إلى التياترو بعمامته وجبته وقفطانه، وكان جميلًا فيسترعي الأنظار، ويعطيه الإنكليزي نظارة ينظر بها ويوجهها إلى من يستجمل، ويقع في حب لم يلبث طويلًا بفضل نصائح والده.

واستعرضوا مرسيليا: مناظرها وقهواتها النظيفة الواسعة وكل شيء فيها، وحدث أن كان على المركب رجل إنجليزي اسمه يعقوب اتصل به برهان الدين وأحبه وأحب حديثه، وكان يعقوب هذا ممن غامر في حياته، وركب البحار وجاب الأقطار، ورأى من عجائب الدنيا الشيء الكثير، فاستهوى برهان الدين بأحاديثه وسأل أباه أن يرجو الإنكليزي، ليتخذه خادمًا له حتى يكون على مقربة منه يشبع حبه للاستطلاع، فتم ذلك وأصبح يعقوب أحد أفراد الأسرة، يمتعهم بحديثه عن كلب البحر والنوء والغرق والذهب واستخراجه والسباع والنمور والقردة، إلخ.

وهكذا دخل يعقوب في القصة ليؤدي مهمة التحدث بعجائب العالم وغرائبه وما شاهده في رحلاته.

ولقي الشيخ في مرسيليا رجلًا هرمًا يتكلم العربية، فاستخبره حاله، فعرف أنه مصري وأنه كان من المصريين الذين التحقوا بجيش نابليون في مصر، وكان كثير منهم من القبط ونصارى الشام وبعض المماليك، فلما خرج الفرنسيون من مصر خرج بعض المصريين معهم، لأن أهل مصر كانوا يتوعدون كل من دخل في زمرة الفرنسيين بالقتل، فلما وصلوا إلى مرسيليا بقي بعضهم وذهب بعضهم يحارب في جيش نابليون، قال: وكنت ممن بقي في مرسيليا أزاول الأعمال، ولكن لما انقضت حكومة نابليون الأخيرة المعروفة بحكومة مائة يوم قام أهل مرسيليا على المصريين من مماليك وغيرهم — وكانوا نحو أربعمائة — فقتلوهم في وسط حارات مرسيليا وشوارعها قتلًا شنيعًا، ولولا أني كنت غائبًا في ذلك الوقت لقتلت فيمن قتل، ولما عدت وجدت عيالي جميعًا قتلوا مع والدتهم.

وقد دعا هذا الشيخ المصري شيخنا علم الدين إلى منزله وأكرمه، وفسر له هذه الأحداث وأسبابها تفصيلًا.

•••

بعد أيام قضوها في مرسيليا ركبوا إلى باريس، وها هو الإنجليزي يحدثه حديثًا طويلًا ممتعًا عن باريس وتاريخها وتطورها وموقعها، وما أدخله عليها ملوكها على التوالي من تحسين إلى غير ذلك.

ويذهب برهان الدين مع يعقوب إلى «البالو»، ويعود إلى والده فيخبره بما رأى من الرقص، وكيف يرقص الرجال مع النساء أنواعًا من الرقص كالبولكا والكانكان والولس، فيحوقل الشيخ ويغضب على ابنه ويقول له: أما علمت أن «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه؟» أما سمعت قوله : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؟» فيعتذر إليه، ويعتذر يعقوب بأنه إنما أراد أن يعرفه كل شيء في البلد.

وكان الشيخ يمشي في شوارع باريس، فيلاحظ نظافة الأطفال وسلامة أبدانهم، وحسن صورهم وامتثالهم لأمهاتهم، فيتحسر على أطفال القاهرة وأحوالهم الوخيمة وطباعهم الذميمة، ودناسة ملابسهم، وكثرة بكائهم وعنادهم، ويزور متاحف باريس وحدائقها، ويقف على أهم ما فيها، وعند كل حسن في باريس يذكر نظيره في مصر، ويتمنى أن لو رقيت القاهرة رقي باريس، وينصحه الإنكليزي أن يبني رأيه في الإصلاح على الإحصاء والتعداد، ويضرب له في استخدام هذا الأصل مثلًا بالفلاحة والزراعة في مصر وفرنسا وإنجلترا مستشهدًا بالأرقام، ويهيئ الإنكليزي للشيخ جماعة يصورون نزعات مختلفة من الفرنسيين، من ملحد يعرض إلحاده على الشيخ في شناعة، فيستعيذ الشيخ بالله من سماع مثل هذه الأقوال، ومن مستشرق يعرف الكثير من اللغة العربية وآدابها، فيهش له الشيخ ويبش، إلى أمثال ذلك.

ويحضر برهان الدين حفلة لطيفة من رجال وسيدات، ويقضون سهرة ممتعة في أنواع من الفكاهات العقلية والأحاجي والمعميات، والمهارة في استخراج المجهول من أوراق «الكتشينة» إلى غير ذلك، ويحدث والده بكل ذلك، فيقول الشيخ: لا بأس بذلك، إنها إعانة على توسيع العقل والمدارك، وعندنا في مصر بعض الشيء كالفوازير والأحاجي، ونحو ذلك.

ويعلم الدارسون للغة العربية في باريس بحضور الشيخ فيدعونه لإلقاء محاضرة في جمعية الدراسات الشرقية، فيلقي محاضرة في ديوان امرئ القيس، ويذكر من شعره بعض أبيات يفيض في شرح مفرداتها، ويستطرد عند كل مفرد فيما ورد فيه من معان واستعمالات، ويتحلق السامعون بعد المحاضرة حوله، هذا يسأله عن المعلقات، وهذا يسأله عن لهجات العرب وهكذا.

وأخيرًا دعي الشيخ إلى تياترو، فلبى الدعوة، ورأى الشيخ الرواية، وكان الإنجليزي يشرح له ما يدور من ألعاب ومغزاها وموضوع الرواية، وما إلى ذلك.

وذهب يومًا إلى المكتبة الأهلية وأعجب بما فيها من الكتب، ويومًا إلى «البورصة» وشرح له كيفية المعاملات فيها، والبنوك والأوراق المالية والفوائد وتاريخ الأمم في هذا الباب، كما شرحت له أصول المعاملات المالية، فعجب الشيخ من ذلك أشد العجب، وقارن بين هذا وما يحدث في حارة اليهود بمصر، إذ يكثر الصيارفة والمرابون، ويتوارد عليهم الناس من الأرياف فينتهزون فرصة الاحتياج، فيثقلون الربا، ولا يقرضون إلا برهن أو ضمانة، فيئول أمر الناس غالبًا إلى بيع ما رهنوه وتلحقهم الفاقة، والحكومة لا تتدخل في الأمر ولا تجعل للفوائد حدًّا، ويعجب الشيخ وابنه من كثرة ما سمعا في البورصة من الآلاف المؤلفة من الجنيهات، كأن أوربا قد فتحت لها خزائن قارون وخزائن كسرى.

ويقضي الشيخ أيامًا في باريس يتعرف فيها مظاهرها وحدائقها ومتاحفها وأهم ما فيها، فيمتلئ عقله خبرة وتجربة، ويصبح شيخًا عصريًّا في نظراته إلى الأشياء مع الاحتفاظ بدينه وقوميته، وإذا الشيخ الذي كان يسكن في كفر الزغاري أو كفر الطماعين، يخطر في حدائق لكسمبرج وفي فرساي، وقد عرف الدنيا، وخبر أحوال الناس، وجمع إلى علمه الأثري تجارب واسعة، وعلمًا بالعالم صادقًا.

وهنا — مع الأسف — تنقطع القصة فجأة وتقف الأحداث عند باريس، فلا يتممون رحلتهم إلى إنجلترا، ولا يعودون إلى مصر، مما يدل على أن القصة لم تتم، وقد كنت سمعت أن المرحوم إسماعيل بك رأفت هم مرة أن يتم هذه المرحلة، ويرجع بالشيخ علم الدين وابنه برهان الدين إلى مصر من طريق آخر، ولكنه لم ينفذ ذلك فبقي الشيخ وابنه ينتظران العودة إلى الآن.

هذا وصف موجز جدًّا لقصة علم الدين، وقد ألفت حول سنة ١٢٩٦ هجرية، وطبعت في مطبعة جريدة المحروسة سنة ١٢٩٩ﻫ/١٨٨٢م فيكون لها الآن نحو أربعة وستين عامًا.

وفيها نظرات صائبة إلى الحياة الاجتماعية المصرية، ونقد خفي لاذع لأولي الأمر في مصر، وإهمالهم شئون الرعية، وفيها ضوء قوي يُلقى على المدنية الغربية وأصولها وأهم مظاهرها، وفيها دعوة غير مباشرة للاقتباس منها، وفيها بث معلومات كثيرة عن العالم في جماده ونباته وحيوانه وإنسانه، في أسلوب شائق وفكاهة حلوة.

ولولا أنه أكثر من المعلومات وكدس فيها من العلوم والمعارف ما قلل من روابط القصة، وتكلف أحيانًا خلق الحوادث ليدلي بعلمه، ولينقل بحثًا كاملًا في الموضوع يقلل من لذة القارئ في تتبعه للقصص، ولولا أنه لم يحبك شخصياته حبكًا محكمًا، كأن ينسى شخصية الشيخ علم الدين، ويصوره لا يعرف شيئًا من شئون الدنيا إلا في حدود منزله ومسجده، ثم ينسى ذلك وهو في فرنسا فينسب إليه معرفته بابن رابية وخلاعته ومجونه، ومعرفته بحارة اليهود ومعاملتها المالية بالتفصيل ونحو ذلك من هنات — لولا ذلك لعدت خير القصص المصري موضوعًا وفنًّا، ومع هذا فهي لا تزال حافظة لقيمتها الكبيرة ناطقة بما بذل فيها من مجهود ضخم.

ألست معي — أيها القارئ الكريم بعد ما رأيت — أن الباعث على تأليف هذه القصة هي قصة الدسوقي و«لين» وأن مؤرخي الأدب لم يكونوا على حق في إهمالها وعدم التنويه بها؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤