الفصل الثالث

درجات الشخصية

  • (١)

    اللباس والشخصية.

  • (٢)

    اللغة والصوت.

  • (٣)

    الانتقال من الأنانية إلى الغيرية.

  • (٤)

    الخدمة الخاصة.

  • (٥)

    الخدمة العامة.

  • (٦)

    المهنة.

  • (٧)

    العائلة.

  • (٨)

    النمو.

  • (٩)

    المثليات والأهداف.

  • (١٠)

    تلخيص.

(١) اللباس والشخصية

للقامة؛ من طول أو قصر، وضخامة أو نحافة، ولسحنة الوجه؛ من غلاظة أو ظرف، قيمة في الشخصية، ولكن هذه القيمة هي ثمرة الغدد الصماء والنظام الفسيولوجي، ونحن عاجزون عن معالجتها، ولذلك لا يمكننا إلا أن نشير إلى هذه الخواص إشارة موجزة، فنحن نتأثر بالرجل الضخم المديد القامة أكثر مما نتأثر بضده القصير النحيف، ويبقى هذا التأثير حتى نستمع إلى حديثهما فنميز ونغير رأينا أو لا نغيره.

وللملابس بعض هذا التأثير، وهي لهذا السبب تُعد أول درجات الشخصية، أو أنها بمثابة حروف الهجاء للمتعلمين، ولهذا السبب لا نطلبها فيمن نعرف أنهم تقدموا وارتقوا، فلا يخطر ببالنا مثلًا أن نسأل عن نابليون ماذا كان يلبس إذا قيل لنا إنه كان يمتاز بشخصية عظيمة؛ لأننا ننتظر من شخصيته درجات أعلى من الملابس، ولا نُبالي أن يلبس غاندي شملة من القطن الجافي؛ لأنه قد غرس في أذهاننا صورة راقية لشخصيته لا تحتاج إلى الملابس.

لكننا لسنا جميعًا غاندي أو نابليون، فنحن نحتاج — لكي نسلك السلوك الاجتماعي الحسن، ونؤثر التأثير الاجتماعي الفعال — إلى أن نُعنَى بملابسنا، ولا يمكننا أن نتخيل آنسة جميلة أو ظريفة إلا إذا قَرَنَّا هذا الخيال إلى ملابس أنيقة ظريفة، وليس من النوافل أن نطلب من الشاب مدة خطبته قبيل الزواج أن يُعنَى بملابسه وأناقته لكي ينال رضى وإعجاب خطيبته.

والمجتمع لا يُهمل شأن الملابس، وعناية المرأة بملابسها التي قد تبلغ حد الإسراف تدل على أنها تعرف قيمتها في تكبير شخصيتها، وهي لا تقل عن عنايتها بتجميل وجهها وتزيين شعرها وتحسين قامتها، ونحن نخص العسكريين بشكة معينة يتميز بها الضابط من الجندي، ويتميز بها كبار الضباط من صغارهم، كما أن الطبقة العالية في كل أمة قد عينت ملابس خاصة لأوقات النهار والليل، ولاجتماع السباق أو اجتماع المسرح، وفي هذا كله إسراف لا شك فيه، ولكنه يدلنا على القيمة السيكلوجية التي للباس في تكوين الشخصية، وكلنا يعرف إعجاب المرأة بالشكة الحربية التي تُكَبِّر في نظرها شخصية الشاب.

وقد قال شكسبير: «الملابس تصنع الإنسان.» وهذا يدل على أن أثر الملابس من ناحية الشخصية لا يقتصر على الآخرين الذين ينظرون إلى الشاب أو الفتاة في ملابس معينة، بل هو يؤثر في هذا الشاب أو هذه الفتاة؛ أي: أن الملابس تؤثر في شخصية لابسها وتغير نفسيته بتغيرها، فنحن نحس الهوان والضعة إذا كانت ملابسنا رثة بالية، ونحس بالكرامة والكبرياء إذا كنا في ملابس لائقة، وفي مصر كثير من الزوجات اللائي بدأن الحياة الزوجية بالملاءة، ثم اتخذن القبعة فتغيرت شخصياتهن بتأثير الملابس الجديدة، فمن قبل كن يتبخترن في المشي، ويسرن ببطء سير الشرقيات المتحجبات، لهن شعور عميق بميزاتهن الجنسية، فلما اتخذن القبعة أسرعت خطاهن واعتدلت قاماتهن، ونقص الشعور بالميزات الجنسية وعمهن جد في النظر والحركة.

وهذا هو بعض التأثير النفسي الذي يُحدثه اللباس، ولو أن شبابنا اتخذوا القبعة كما فعلت آنساتنا لتغيرت نفسية الأمة؛ لأنها كانت عندئذ تحس أنها غربية لها إقدام الغربيين وابتكارهم وجرأتهم واستقلالهم، بدلًا من هذا الطربوش الذي يوهمنا الانفصال من أوروبا وإننا شرقيون؛ أي: صوفيون غيبيون متواكلون بسيادة أوروبا علينا.

والشيخ المعمم حين ينقلب أفنديًّا ببنطلون وطربوش تتغير شخصيته، ويحس هو — كما يحس غيره — هذا التغيير في نظراته ومشيته وقعدته، بل إن تطلعه وطموحه وبرنامجه الشخصي والاجتماعي، كل هذا يتغير، فتتغير بذلك شخصيته باستبدال الملابس الأوروبية بالملابس الشرقية.

ويستطيع الرجل والمرأة اللذان تقدم رقيهما ورسخت لهما مكانة اجتماعية عالية أن يستغنيا عن الصغائر التي يحتاجا إليها باللباس المتقن، ولكن جمهور الناس في حاجة إلى العناية بالملابس، ويجب أن نذكر الجلافة التي تشاهد في الفلاح المتمدن، أو ذلك المزارع الذي يعيش في الريف في ملابس قروية ثم يزور القاهرة فيسيء في شراء ملابسه الأوروبية، ويجب أن نذكر ملابس المحدث الذي يندفع بقوة مركب النقص — وهو ثراءه بعد فقره — إلى المبالغة، من السلسلة الذهبية الغليظة، إلى الحذاء الثقيل، إلى سائر القطع الجديدة — جديدة جدًّا — التي يكسو بها جسمه فيبدو كأنه قد خرج قشيبًا من مكان الخياط للحظته.

ويجب أن نذكر خطأ الشاب الذي يقابل رؤساءه وقد نبتت أعجاز لحيته، ويجب أن نذكر الرحالة ستانلي الذي قطع مئات الأميال في غابات إفريقيا وجبالها بين الزنوج، وقضى جملة سنوات وهو مع ذلك لا يهمل حلق لحيته كل صباح، مما يدل على أنه كان يحرص على أن تبقى شخصيته؛ إذ هو يحافظ على عادات هذه الشخصية، ويجب أن نذكر كيف يتغير شعور المتهم بكرامته حين تنزع ملابسه المدنية ويلبس ملابس السجن، فإن شخصيته تتزعزع لهذا التغير فيذهب تماسكه، ويعترف بما لم يكن ينوي الاعتراف به.

(٢) اللغة والصوت

قامة الإنسان وسحنته وبزته، ثم لغته وصوته؛ هذه هي أدنى مراتب الشخصية، كما نقول: إن حروف الهجاء هي أدنى مراتب الثقافة، ولكنها مع ذلك ضرورية، ونحن نرتئي الرأي الأول عن الشخص الذي نلتقي به من هيئته العامة ثم لغته، وأما بعد ذلك من مراتب الشخصية فيحتاج إلى الناقد المميز، ولكن الشاب (أو الفتاة) الذي يُهمل هيئته ولغته يجعل نفسه عرضة للخيبة في الامتحان الأول، وقد لا تتحاح له الفرصة لأن يبرز السمات العالية لشخصيته بعد ذلك.

ولو أتيح لأحدنا أن يرى صورته السينمائية وهو يتكلم ويمشي ويومئ، كما لو أتيح له أن يسمع صوته من قرص فنوغرافي، لعرف كثيرًا مما يجب أن يعرف عن الكتلة المادية لشخصيته، فإنه يرى رأسه في غير موضعه الذي يجب أن يستقيم فيه، بل هو قد يرى غمزة خفية في ساقه لم يكن يظن وجودها من قبل، زد على هذا مواضع كثيرة للنقد في بزته، فإذا سمع صوته لأول مرة رأى عجبًا، لم يكن يظن قط أن به عنة أو أن به هذه الخشونة، وليس من التكاليف الكبيرة أن يسجل كل منا قرصًا فنوغرافيًا لصوته حتى يلتفت بعد ذلك إلى إصلاح أخطائه الصوتية، كما أنه ليس من التكاليف الباهظة أن يُسجل لنفسه شريطًا سينمائيًّا؛ لكي يصحح أخطائه في الحركة والمشي، وهذا زيادة على أن لكل من هذين العملين قيمته التاريخية في العائلة؛ لأنه تذكرة في الغيبة كما هو بعد الوفاة، وكل منهما أو كلاهما يجب أن يأخذ مكان الصورة الفتوغرافية.

وأصوات الناس تختلف؛ منها الأجش ومنها العميق، كما أن منها المسلوخ أو الأغن، كما أن لكل منا طريقة في الضحك، ولبعضنا عادات أو رذائل في نفخ أنفه أو حتى بلع ريقه، ونقل هذه الصورة من الذاتية إلى الموضوعية السينمائية أو الفنوغرافية يفيد كثيرًا.

ونحن نختلف في نطق الكلمات من حيث الإمالة أو الترخيم أو غير ذلك، وهذا الاختلاف يبرز عندما نتحدث إلى أحد السوريين أو العراقيين أو المراكشيين، فإنه ينطق الكلمات التي ننطق بها، ولكن بغتة أو إمالة أو ترخيم على غير ما ألفنا، بحيث قد لا نفهم منه، وهذه الفروق تبدو — في صورة أقل بروزًا —بيننا وبين أبناء وطننا، فإن للريفي كما للصعيدي، بل لسكان الشمال في الدلتا كما لسكان بعض المدن، لهجة خاصة ننكرها أحيانًا، وصاحبها يحاول أن يتخلص منها؛ لأنه يحس أنها تضعف شخصيته.

وهناك من يمضغ الكلام أو يأكل الحروف، فإذا وصل إلى آخر الجملة قطع الكلمة الأخيرة أو أخرجها تلميحًا بلا تصريح، وهذا إلى رفع الصوت أو خفضه في غير موضعه، وإلى عبوس أو غضب لا يقتضيه الحديث، ومساوئ الإلقاء كثيرة يمكن كلا منا أن يعرفها إذا هو تعمد النقد الذاتي، أو طلب هذا النقد من صديق، والتاجر والمحامي والطبيب وربة البيت الاجتماعية، بل كل فرد يضطره عمله إلى الاحتكاك بالآخرين، في حاجة إلى إصلاح صوته وإبراز كلماته في صيغة مقبولة.

والحديث العذب يحتاج أيضًا إلى ترتيب منطقي، وإلى اختيار حسن للألفاظ، وقد كان أسلافنا يقولون: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.» ولكن السكوت يعد ستارًا يخفي عيوب الشخصية، وكل من يمتاز بشخصية إيجابية يحتاج إلى المهارة في الحديث، وحديث الإنسان يكشف عن الطبقة والبيئة اللتين ينتمي إليهما، كما يكشف عن درجة الثقافة التي حصل عليها، فلسنا ننتظر من الفلاح حديثًا عن السياسة العالمية، ولا من الطبيب حديثًا عن الزراعة، ولكنا ننتظر ممن يطمح إلى شخصية راقية أن يكون ملمًا بألوان التفكير العصري، قد درس مشكلات المجتمع إلى حد ما، وكثيرًا ما نحس ضآلة في شخصية الزوجة المصرية حين تقصر حديثها مع ضيفاتها على الخدم والأولاد والقيل والقال عن العائلات المجاورة، كما نحس انحطاطًا في بعض البيئات حين نجد الإغراق في النكات الجنسية.

وربة البيت السخية التي تريد إبراز شخصيتها في المجتمع، لن يجديها سخاؤها في الطعام والشراب وأناقة الآنية والولائم المطهمة إذا لم تحسن الحديث بالصوت العذب والألفاظ المختارة والثقافة المنيرة؛ لأن سخاءها بدون ذلك لن يثمر غير المطعم الفخم، أما «الصالون» الراقي فيحتاج إلى الشخصيات الراقية، ولذلك يجب أن تعد القراءة المفيدة — وهي ليست على الدوام مسلية — ضرورية للحديث الطلي المنير الذي يكبر الشخصية.

ولكل فرد مارس المجتمع دمغة خاصة لشخصيته، فهو يختار أوانًا معينة للبذلة التي تلبس، ولا يقبل أن يغير لون طربوشه أو قياسه، وكذلك ترى هذه الدمغة في لغته وإلقائه؛ لأنه طول ممارسته للمجتمع أو الهيئة المحيطة قد استنبط منه استجابات معينة في اللفظ والصوت، فيجب أن نُعنَى، لكي نجعل هذه الاستجابات مما يُكبِّر شخصيتنا وليس مما يصهرها، وأن تكون الدمغة التي نُعرف بها للإطراء والاحترام وليست للازدراء والذم.

(٣) الانتقال من الأنانية إلى الغيرية

تُعد الأنانية من أعظم الصفات التي تعوق نمو الشخصية؛ لأنها تحمل الأناني على البخل والانعزال والانفراد، وتجنب المسئوليات وكراهة التكاليف وواجبات البر وتأدية الخير.

والغيرية تُكِّبر الشخصية من حيث إنها تستنبط في أنفسنا صفات أخرى هي عكس تلك التي ذكرنا، والأساس في الغيرية هو الحب بجميع أنواعه؛ أي: حب الزوجة والأولاد، وحب البشر من أصدقاء نأتنس بهم إلى أبناء الفقراء الذين نمارس البر بالإحسان إليهم ومعونتهم والمطالبة بحقوقهم.

وجميع الأطفال تقريبًا أنانيون، ولكنهم يسمون إلى الغيرية بالاختلاط بالمجتمع، فيطلبون أولًا الحب الجنسي عندما يبلغون سن الشباب، ثم يحققون توسعًا جديدًا لشخصياتهم حين يتزوجون وينجبون الأطفال، في حين أن الأناني لا يجد مثل هذا التوسع لشخصيته إلا في حدود ضيقة.

والحب الجنسي من أعظم الوسائل لتحقيق التوسع في الشخصية، فإن الشاب — والفتاة أيضًا — حين يبلغ العشرين ينبعث بهذا الحب إلى إتقان هندامه وتجميل هيئته، وتتجه نفسه إلى مطامع مالية أو حرفية أو ثقافية، ويشرع في إحساس الكرامة، وضرورة تنميتها فهو يتزود من الثقافة، ويحاول أن يثقف جسمه وذهوه؛ لكي ينال إعجاب الجنس الآخر، فإذا تزوج وأنسل انتقل انتقالًا يكاد يكون فجائيًّا — بالقياس إلى العمر — من الأنانية إلى الغيرية بزوجته وأولاده، وهو يحس أن هذا البيت الذي يعيش فيه ليس له وحده، بل لخمسة أو ستة أشخاص آخرين، وأن كل ما فيه هو ملك شائع بينهم جميعًا، وهو يتحمل همومهم ويتطلع إلى مستقبلهم، وهنا توسع، بل تعمق أيضًا لشخصيته؛ لأن حياته عندئذ ستسير في هذا البيت على مبدأ التعاون والغيرية.

والحب للأبناء يُكبِّر الشخصية أكثر من الحب للزوجة؛ لأن الاهتمام بشأنهم منذ طفولتهم يبعث على توسم الآفاق الجديدة، ودرس طوالع المستقبل والعناية بالوجهات الصحية والثقافية والاجتماعية لهم.

ثم بعد ذلك نجد البر؛ أي: حب البشر، وقد يكون هذا في العزب كما في المتزوجين، ولكنه يرجع في الأصل إلى حب الأم، وقد يكون البر تعويضًا عن الزواج والأولاد، وعندئذ نجد وسيلة أخرى للانتقال من الأنانية إلى الغيرية، فتكبر بذلك شخصية الأعزب.

ومدة الشباب هي مدة هذا التكشف الرائع، حين ننتقل من أنانية الطفولة إلى غيرية الرجولة، فنجد عندئذ الحماسة للوطنية، والتضحية بالصحة والمال من أجل المبادئ السامية، والاندفاع نحو المشاريع الخيرية والرضا بالتعب والحرمان من أجل الخدمة العامة، والشاب الذي تنقضي سنو شبابه وهو لا يحس هذه الحمى للخدمة العامة، ولا يجن ذلك الجنون الشريف من أجل قضية عادلة يعيش شخصية واهنة أو بلا شخصية، ويعد نفسه لشيخوخة ضئيلة عجفاء.

وقد عرفنا شبابًا بقيت أنانية الطفولة عالقة بهم لم تتكشف طبيعتهم إلى الغيرية الاجتماعية، يقرءون الجريدة وكأنهم لا يقرءونها، يقنعون برؤية الصور أو البحث عن الترقيات للموظفين، أو هم يشترون المجلة لكي يقفوا على القيل والقال، وأحيانًا لا يقرءون بتاتًا، بل يقضون أوقاتهم — أو يقتلونها كما يقولون — في إحدى لعب الحظ، وقد تتقدم بهم العزوبة أو هم — لفرط أنانيتهم — يطلبون الزوجة الثرية، وينسون حتى شبابهم وحقوقهم في هذا الاختيار، فيعيشون في نكد ونغاصة بدلًا من التعاون والحب اللذين كان يجب أن ينتظروهما لو أنهم اتجهوا وجهة الغيرية.

ومثل هؤلاء الشبان تبدو شخصياتهم لأول لقاء عجفاء، لا يعرفون كيف يتحدثون في شأن عام، ولم تستر عقولهم بدارسة تتعلق بالوطن أو العالم، ليس لهم برامج مالية أو ثقافية أو اجتماعية، وهم يطلبون اللذة العابرة في قراءة المجلة أو رؤية السينما أو لعب النرد، وهذا بخلاف الشاب الذي تكشفت طبيعته إلى الغيرية، فإنه يهتم للشئون العامة، وهو يعرف الشيء الكثير عن الفلاح والعامل والمشكلات السياسية والاجتماعية، كما أنه يضن بالدقيقة ينفقها في التافه من لعب الحظ؛ لأنه اتجه — واعتاد الاتجاه — منذ سنوات إلى قضاء وقته في النافع الذي يعود على وطنه بالخير، وليس شك أن له أغراضًا شخصية، ولكن أغراضه للوطن والبر لا تقل شأنًا عن أغراضه الخاصة، ويجب أن تكون لمثل هذا الشاب شخصية خصبة سامية.

(٤) الخدمة الخاصة

غاية الشخصية هي التأثير بغية الإيجاز، وذلك لكي ننتفع بمواهبنا، ونستطيع أن ننجز العمل الذي ننشده ونخدم أنفسنا كما نخدم الغير، ولذلك فإن القدرة على الخدمة الخاصة — لأنفسنا ولغيرنا — تعد مقياسًا حسنًا للشخصية، وجمهور الناس يقيس الشخصية بهذه القدرة، حتى إن أحدنا ليقول للآخر: «دعك من هذا الرجل فإنه لن يستطيع أن يخدمك؛ إذ ليست له شخصية».

فالشخصية في نظر الجمهور هي القدرة على خدمة صاحبها وخدمة غيره، فقد يكون هذا الذي نتهمه بضعف الشخصية أو انعدامها ذكيًّا طيب القلب ماهرًا في الموضوع الذي وكلناه إليه، ولكنه مع ذلك عقيم؛ لأنه لا يستطيع أن يقنع أحدًا بوجاهة رأيه؛ لأنه ليس له شخصية.

وإذا سألنا: لماذا ليست له شخصية؟ ذكرت له أسباب كثيرة، ربما كان أقربها إلى ذهن المتحدث أنه «غير متداخل».

وعبارة «غير متداخل» تنطوي على أشياء كثيرة؛ منها أنه غير اجتماعي لا يختلط كثيرًا، فأصحاب الشأن في الموضوع الذي يعنينا لا يعرفونه المعرفة التامة، ولا يثقون به، وقلة الاختلاط تنقص الشخصية التي تعد قبل كل شيء صفة اجتماعية، ثم هو قد يكون «غير متداخل»؛ لأن به مركب نقص؛ أي: أنه يخجل من مقابلة الناس أو يخاف العظماء أو يجبن عند اللقاء فلا يتبسط في الشرح، وكل هذه الصفات تعد من عيوب الشخصية السوية فضلًا عن الشخصية العالية، وهذا زيادة إلى أنه قد يكون ثقيلًا؛ أي: ليست هيئته حسنة — بزة وسحنة — كما أن حديثه ليس ظريفًا، ولذلك لا يجد القبول الحسن من المعارف والأصدقاء وذوي الشأن، ثم هو قد يكون سيئ البيان لا يعرف طرق الإقناع، أو قد يكون برمًا سريع الغضب، لا يمتاز بالنفس الطويل في الحوار، وليس له الجلد على الطلب والإلحاح والتشبث بالهدف البعيد.

وذكاؤنا ومهارتنا يبقيان عقيمين ما دامت ليست لنا الدفة التي توجهنا، وهذه الدفة هي الشخصية؛ أي: مجموعة العواطف التي تتألف من الصبر والمثابرة والجد والحلم؛ وغير ذلك مما يجعل المشروع الذي نشرع فيه قريبًا إلى النجاح لا يلقى العقبات التي تسد عليه الطريق، وإذا كان خمسون في المئة من النجاح يعزى إلى الذكاء؛ فإن الخمسين الأخرى تعزى إلى الشخصية، وهذا تقدير متواضع؛ لأن أغلب الظن أن ٧٠ في المئة من النجاح يعزى إلى الشخصية؛ أي: إلى مكانة الشخص: هل هو محبوب أم مكروه، ثقيل الظل أو خفيفة، مثابر على أداء واجباته أو مهمل، كيس أو غليظ، جريء أو خجول.

واحتكاكنا بالجمهور من أصدقاء أو معارف أو معاملين هو احتكاك العواطف، وليس احتكاك الذهن؛ أي: أنه احتكاك الشخصية، ولذلك يسهل علينا أن نخدم أنفسنا ونخدم غيرنا إذا كانت شخصيتنا لبقة حازمة تعتمد في سلوكنا على الكياسة.

ولفظة «الكياسة» هذه تثير طائفة من الخواطر، فإن الشخصية الناجعة في الطبقات المتوسطة، بين التجار والموظفين، هي شخصية الرجل الكيس الذي يغمرك بعواطف رقيقة، يسأل عن صحتك وعن أولادك وقد يذكر لك أسماءهم، وهو لا يجادلك؛ لأنه يعرف أن الجدال يُحرك في نفسك المقاومة، ولكنه يقنعك بإطرائك وبتكرار ما يريد إقناعك به كأنك أنت الذي قلته، وليس قصدنا هنا أن نقول: إن الكياسة تقتضي المخادعة بالحديث الناعم والإطراء الكاذب، ولكنا نريد أن نبين قيمة العواطف الحسنة نستنبطها في حديثنا، وننظر بها إلى أطيب الخصال في محدثنا فنستميله إلينا بها، ونحثه على إبراز هذه الخصال.

وقد ذكرنا «الخدمة الخاصة» باعتبارها درجة راقية من درجات الشخصية، وهي كذلك ليس من حيث إننا نخدم غيرنا فيتطلعون إلينا للمنفعة، بل أيضًا لأننا نحن نؤدي خدمة لصديق أو معرفة نختلط بالناس ونشتبك بمشكلاتهم، فنزداد خبرة بالمجتمع ونمارس برًّا تعود علينا ثمرته؛ لأن البار عندما يخدم غيره بخدمة ما إنما يخدم نفسه أيضًا؛ لأنه يسلك في أداء هذه الخدمة سلوكًا اجتماعيًّا يستنبط من نفسه أحسن خصالها.

وليس شك في أن الرجل الذي عُرف باستعداده لخدمة الغير يجد من هذا الغير الاحترام والحب، ويجد أن له شخصية لها قدرها العظيم في أعينهم.

فنحن حين نخدم أنفسنا لا نستطيع هذه الخدمة إلا بقدر ما لنا من شخصية.

ونحن حين نخدم غيرنا نُكبِّر شخصيتنا بما يولينا إياه هذا الغير من احترام نحس منه كرامة، كما أن هذه الخدمة تزيد أصدقاءنا، فيزداد اختلاطنا ونحصل منه على الصقل الاجتماعي الذي تتجمل به الشخصية، ومحض أننا نخدم الغير برهان على ارتقاء الشخصية؛ لأننا قد انتقلنا من الأنانية إلى الغيرية.

(٥) الخدمة العامة

القيام بالخدمة العامة — حين تكون ثمرة التطوع لا التكليف — برهان على أن الشخصية قد ارتفعت إلى مستوى آخر لا تبلغه تلك الدرجات الابتدائية، مثل جودة اللباس ورشاقة اللغة والقدرة على الخدمة الخاصة.

ذلك أن الإنسان لا يتطوع بالخدمة العامة إلا بعد أن يكون قد حقق انقلابًا داخليًّا في نفسه؛ إذ يجب أن يجعل للغيرية مكانة تسمو على الأنانية، بل هو قد يُضحي بمصالحه الشخصية من أجل الخدمة العامة، وقد تجد تاجرًا ناجحًا ولكنه يتجنب الخدمة العامة، فهو حين تحدثه عن الوطنية يصمت، بل ربما يحضك على ترك هذه الشئون التي تشغل البال دون أي ربح مادي لك، وهو في هذه الحال يبرهن على أشياء كثيرة.

منها أنه لم ينتقل من الأنانية إلى الغيرية، فهو يعرف المباراة والحسد، ولكنه يجهل التعاون والبر.

ومنها أنه انفرادي يؤثر الوحدة والعزلة على الاجتماع والاختلاط، ومنها أنه لا يُحب درس الشئون الوطنية والعالية، بل لعله لا يقرأ الجريدة أو يقرؤها بلا عناية بهذه الشئون، وبذلك تضيق آفاقه الذهنية.

وهو بهذه الصفات يبدو فقير الشخصية، إذا جالسناه سئمناه، وإذا تحدثنا إليه استجهلناه، وهو أحد الذين يصح أن يُكتب على قبره «ولد إنسانًا ومات بقالًا».

ونحن حين ننبعث إلى الخدمة العامة نكون قد قطعنا مسافة كبيرة في تكوين شخصية اجتماعية حسنة، ولكنا حين نمارس هذه الخدمة نزداد تعمقًا وتوسعًا في تكوين هذه الشخصية، فإن قسمًا كبيرًا من نشاطنا يتخذ وجهة عامة، فنحن ندرس ونختلط أكثر، ونتجه نحو التعاون والحب، ونمارس البر فنكسب الصداقة والوجاهة والشرف، ونتحمل مسئوليات عامة ضخمة فتكبر شخصيتنا بمقدار هذه المسئوليات.

بل أحيانًا حين يُكلف أحدنا خدمة عامة نجد أن هذا التكليف قد حمله مسئوليات جديدة كبيرة، فهو يحاول أن يرتفع إليها ويلبس لبوسها فتكبر شخصيته بقدر هذا الارتفاع، والخدمات العامة تختلف بالطبع من حيث «عموميتها» ومسئوليتها، فموظف البريد الذي يبيع الطوابع للجمهور يُؤدي خدمة عامة، ولكنها من حيث المسئولية ليس لها شيء من خطورة الواجبات التي يتحملها وكيل النيابة أو ضابط البوليس أو العمدة أو المعلم أو مدير الملجأ، وأنت حين تتأمل المسئوليات لهؤلاء الموظفين العموميين تجد أن لهم شخصيات بقدر هذه المسئوليات، ومع كل هذا إنما هم مكلفون ولم يكونوا متطوعين، بل هم قصدوا إلى المصلحة الشخصية أولًا ثم انتهوا إلى المصلحة العمومية.

فوكيل النيابة تكبر شخصيته من حيث يحس أنه مسئول عن إيصال الحقوق لذويها، وإنصاف المظلومين من الظلمة، كما يحس أن ضميره في امتحان دائم حتى لا يُوقع بأحد الأبرياء، وهو بطبيعة حرفته متصل بأمراض المجتمع مضطر إلى دراسات متواصلة، وكل هذا يُكبر شخصيته، وكذلك المعلم مثلًا مضطر إلى أن يدرس الاجتماع؛ لأن التعليم أو جزء منه خاضع للفلسفة الاجتماعية، وهو يتحمل مسئولية الزيغ في الأولاد أو عليه أن يرشد في معالجتهم فضلًا عن دراسته المواد التعليمية، وقل مثل ذلك في غيرهما.

ولكن الشخصية تكبر أكثر حين يكون أحدنا هو الذي اختار الخدمة متطوعًا لا يرجو منها منفعة ذاتية؛ لأنه بهذا الاختيار قد برهن على اختمار سابق في روحه الاجتماعي واستعداد للتوسع، فهو غير الموظف الذي تأتيه الوظيفة تكلفه المسئوليات، وقد تثقل عليه، فلا يقوى على تحملها ويسيء إليها كما نرى في كثير من الأحايين، أما المتطوع المختار فيتقدم بدافع نفسي وتهيؤ سيكلوجي، فهو يفرح كلما زادت مسئولياته، وهو يدرس ويجد لكي يتحملها ويُؤدي واجباتها، وبذلك تكبر شخصيته وتفخم؛ لأنه وهو يؤدي الخدمة العامة، يرفع تفكيره بعيدًا عن الصغائر ويتجه نحو الغيرية في سياسة وطنية أو بر عام، وهو في هذه الخدمة يلتزم دستورًا من الأخلاق يكفه عن الرذائل والخسائس؛ لأن هذه الخدمة تطالبه على الدوام بالفضائل التي تليق بها، وقس على ذلك.

فالشاب حين ينتظم في حزب سياسي يثق بخدمته الوطنية، أو حين يجاهد القيصرية الأجنبية أو الاستبداد الدخلي، أو حين يشترك في تأسيس ملجأ أو مدرسة، أو حين ينتظم في جمعية لمكافحة الخمور أو التدخين، أو حين يحاول إصلاح الريف؛ في كل هذه الحالات يتقدم الشاب وهو على استعداد سابق للتضحية بوقته وماله، وهو يدرس ويختلط بالجمهور، فتكبر شخصيته بهذه الخدمة العامة، كما أن هذه الخدمة تُطالبه بالاستقامة والنزاهة والشرف والبر، فهو ينتفع كذلك بها في أخلاقه.

(٦) المهنة

كثير مما يجب أن يقال في هذا الفصل قد قيل في الفصل السابق عن الخدمة العامة، فإن للمهنة تأثيرًا كبيرًا في تكوين الشخصية وترقيتها، وهذا التأثير يختلف بمقدار المسئوليات ونوعها، ولكن للمهنة مع ذلك تأثيرًا في النظام النفسي يحتاج إلى شرح.

وحسب القارئ أن يوازن بين شخصيتين، إحداهما لوارث يعيش بغلة أرضه أو سائر عقاراته، ليست عليه واجبات يومية، وهو لا يتحمل مسئوليات خاصة؛ لأن الريع يأتيه هينًا، وبين شخصية أخرى لمحترف في شركة أو حكومة، أو هو تاجر له مكتبه أو متجره، أو صانع في مصنعه مضطر لكي يعيش إلى أن يعمل ويجد.

الأول؛ أي: الوارث، يُهمل في ملابسه، وكثيرًا ما يُرى في مصر بالجلباب وعليه الجاكتة، يقعد طيلة نهاره على المقهى يقتل وقته بألعاب الحظ السخيفة، وهو يستهلك السجاير كأنه مكلف فناءها، فإذا كان المساء ابتدأ سهرة مع خلان السوء على كئوس الخمر، وهو سمين مترهل يدرس السياسة عن طريق القيل والقال في المجلات الأسبوعية، وهو في حقيقته عاطل من الأغنياء العاطلين ليست له أية شخصية، ونحن هنا بالطبع نعني بالوارث ذلك الذي يعيش في القاهرة، أو إحدى المدن الكبرى على ريع أرضه أو عقاراته الأخرى، وهو مرتاح مطمئن إلى هذا الريع لا يقوم بأي مجهود لإدارته أو زيادته، ولا نعني بالطبع ذلك الوارث الذي يدير ممتلكاته؛ لأن هذا محترف له في شخصيته ميزات الحرفة.

ثم انظر إلى شخصية ذلك الآخر المحترف الذي يعيش بكده في حرفته، فإن الحرفة تقتضيه المحافظة على مواعيد الصباح؛ فلا يمكنه أن يستسلم لسهرات متوالية تُؤخره عن مكتبه أو متجره أو مصنعه، وهو مضطر إلى العناية أيضًا بعاداته بتجنب كل ما يسيء إلى سمعته، كما أنه يقتصد لمستقبله؛ إذ ليس له ذلك الاطمئنان الذي للوارث، واحتكاكه بالجمهور يجعله رجلًا اجتماعيًّا أنيسًا، كما أنه مضطر إلى أن يتزود من الثقافة لكي يستنير في الشئون العامة، وهو يتحمل مسئوليات عمله لا يستهين بالوعد الذي يعد، ولا يفرط في كرامته.

وهذا الكلام ينطبق على المرأة كما ينطبق على الرجل، فإن المرأة التي احترفت حرفة ما قبل الزواج وزاملت الرجال تحس المسئوليات وتتحمل الواجبات أكثر من تلك التي عاشت بلا عمل، وخير الزوجات لهذا السبب هي تلك التي قضت بعض عمرها في عمل ما كسبت عيشها منه؛ لأن هذا العمل قد اقتضاها عادات نبتت وسوف تعيش بعد الزواج فينتفع بها الزوج والأولاد، فهي تعرف معنى المواعيد وقيمة الواجبات ومصاعب الكسب وقيمة الاستقامة، وتُعنَى ببزة زوجها وأولادها، وتستطيع أن تشترك في القيام بشئون عامة، وقد نقلتها الحرفة إلى حد ما من الأنانية إلى الغيرية، كما أنها لا بد أيضًا قد أزالت عنها أخلاق الطفولة أو نقصت تأثيرها، وكل هذه الصفات تخدم الحياة الزوجية الهنية.

فالمهنة توجد لنا نظامًا نفسيًّا يجعل شخصيتنا تبرز وتنمو وترق، كما أن التعطل الذي يزيل عنا المسئوليات يجعل شخصيتنا تضمر، بل قد تتحطم وتزول كما نرى في أولئك الوارثين الذين يصلون ليلهم بنهارهم في المقاهي والحانات، ولهذا يجب على كل إنسان أن يحترف حرفة، فإنه ينتفع بها ولو لم يربح منها قرشًا، وهذا الانتفاع هو في أخلاقه وشخصيته، والشاب حين يحترف حرفة ما يحس كرامة تكسبه شجاعة وطموحًا وتفاؤلًا، وترى علامات كل ذلك في سحنته ومشيته وحديثه إذا وازنا بينه وبين شاب متعطل قد طال تعطله سنة أو سنتين، فإننا نجد هذا منكسر النفس مثبط القلب يسير مطأطأ الرأس في تؤدة تشبه الركود والخمول.

والنظام الاقتصادي الذي يحيل المتعلمين إلى متعطلين إنما يقتل شخصياتهم ويفسد نظامهم النفسي، كما أن النظام الاجتماعي الذي سن الحجاب قد قتل شخصية المرأة وأفسد نظامها النفسي، وفي كلتا الحالتين نجد أن هذا القتل يعود إلى حرمان الشخص — رجلًا أو امرأة — تلك المسئوليات والواجبات، وما تستتبعه هذه من كرامة واختلاط بالمجتمع.

(٧) العائلة

إذا أتيح للإنسان في مجتمعنا أن يتزوج، وأن يتحمل مسئوليات الزواج والأولاد؛ فإنه يكون قد بلغ درجة عالية من الشخصية لا يبلغها الأعزب، بل إن محض الرغبة في الزواج والسعي له برهان على روح اجتماعي عالٍ، ومدة الخطبة امتحان للشخصية سواء للفتاة أم الشاب، ففي هذه الحالة تجري المعاينة الدقيقة والبحث البصير من كل من الطرفين عن معاني الظرف والرشاقة أو الجلافة أو الارتباك، وعن الصوت، هل هو خشن أم أغن؟ وهل البزة حسنة مهيأة أم رثة مهملة؟ ثم يرتفع الامتحان إلى الأخلاق، هل هذا الخاطب بخيل مقتر أم سمح كريم أم مسرف مستهتر؟ وهل هو مستقيم أم معوج، مثقف أم جاهل؟

والانتقال من العزوبة إلى الزواج هو — من ناحية الزوج — انتقال من التشرد الجنسي إلى الاستقرار الجنسي، ومن العاطفة الجنسية العارية إلى الميل الاجتماعي الراقي المؤلف من العواطف الجنسية والأبوية والاجتماعية، ثم هو انتقال من الشهوة إلى الحب، وكل هذه العوامل ترتقي بها الشخصية، ولهذا السبب نحن نحترم الزوج أكثر مما نحترم الأعزب، ونحن نعتمد عليه أكثر، وهو كذلك يتأثر بحياته الزوجية الجديدة فيحترم نفسه أكثر ويترفع عن الدنايا، ومن المشاهدات المحققة أن الإجرام يقل كثيرًا بين المتزوجين ويفشو بين العزب، ذلك أن مسئوليات الزواج والأولاد تبعث على الاستقامة وتُنمي الروح الاجتماعي الذي يحملنا على النزول على آراء المجتمع وكراهة الشذوذ، وهناك بالطبع نقائص اجتماعية تبعثها هذه الحال الجديدة، كما نرى في المثل القائل: «الولد مبخلة ومجبنة لأبيه.» ذلك أن الزوج الأب يكره الاقتحامات ويحجم عن السخاء؛ لأنه يُبالغ في التبصر لمصلحة الأولاد، ولكن معظم الناس لا يُطالبون بالشجاعة أو السخاء، ولذلك فإن هاتين النقيضين اللتين يبعثهما الزواج لا توازنان الفضائل الكثيرة الأخرى التي تنتج عنه.

ونحن حين نخرج من العزوبة ونتزوج، ونكون عائلة جديدة، نجد عوامل جديدة تحملنا على أن نحسن مكانتنا الاجتماعية ونتبصر للمستقبل وتزيد ثقافتنا؛ لأن المسئوليات الجديدة التي تحملناها بالزواج قد ألقت علينا واجبات جديدة، فنحن نقتصد لكي نجمع للأولاد تركه يعتمدون عليها، ونحن نحجم عن الدنايا لكي لا تحمل عائلتنا فضيحتها، ونحن نُعنَى بتربية أولادنا فنربي بذلك أنفسنا، ويصبح البيت بؤرة اهتمامنا، نُزينه ونشتري له الأثاث ونحس كأنه خالد؛ لأننا نعقب أولادًا وأحفادًا سيعيشون فيه، وهذا نظر يختلف اختلافًا كبيرًا عن نظر الأعزب الذي لا يرتبط بالمجتمع هذه الارتباطات.

ولكن إذا كان الزواج يُكبِّر شخصية الرجل وينميها فإنه يفعل أكثر من ذلك للمرأة؛ لأن الرجل يجد في حرفته وفي مكانته الاجتماعية — وخاصة في بلادنا — ما يُكوِّن له شخصية راقية متزنة، ولكن المرأة قبل الزواج لا تجد مثل ذلك في مجتمعنا؛ إذ هي لا تحترف ولا تكسب من الحرفة تلك الشخصية التي نكسبها نحن الرجال، ولذلك يُعد الانتقال للفتاة عندنا من العزوبة إلى الزواج وثبة إذا عد عند الرجل خطوة، حتى مهما تكن خطوة واسعة، ولكن بشرط أن يكون هذا الارتقاء للمرأة قائمًا على أنها ستكون عند الزواج سيدة بيتها، ليست عليها حماة متسلطة أو ضرة تثير فيها عواطف الحسد والغيرة، وتحملها على أن تنفق وقتها في إغراء بيولوجي مثابر لزوجها، وبشرط أن تكون الغاية من الزواج اجتماعية كما هي بيولوجية حتى يصير البيت معهدًا حرًّا تجد فيه الإرادة مجالًا للنمو والتكشف، وليس بيتًا شرقيًّا تخضع فيه الزوجة للزوج؛ لأن الزواج الذي تتربى فيه الشخصية العالية هو الزواج الحر الذي نبت من بذرة الحب، وعاش على مبادئ المساواة بين الزوجين، بعيدًا عن الحماة والضرة وتسلط الزوج، وفي مثل هذا البيت ينشأ الأولاد الهانئون ويحيى الأزواج الراشدون.

والذي أراه أن في بلادنا تتكون شخصية المرأة بالحرفة أكثر جدًّا مما تتكون بالزواج؛ ذلك لأن زواجنا لا يزال شرقيًّا، وليس البيت المصري مؤسسة اجتماعية ديمقراطية، ونحن نعيش وكأننا نجهل أننا لن نكون أمة ديمقراطية حتى تكون بيوتنا ديمقراطية حرة، ولن تكون لنا الشخصيات الممتازة إلا إذا تربت ونشأت في بيئة تسودها الديمقراطية الحرة.

ولو عاشت المرأة المتعلمة عندنا في عائلة حرة، وأدت واجباتها العائلية نحو زوجها وأولادها وضيوفها على التمام؛ لكانت العائلة أقوى في تكوين الشخصية من الحرفة؛ لأن مسئوليات الزواج والأولاد تمس المجتمع أكثر مما تمسه الحرفة كائنة ما كانت، وهي تطالبها بالحب والتعاون والتبصر والدراية بأصول المعاملة الناجعة والتربية المفيدة، كما تطالبها بالجمال والظرف والأناقة ليس في شخصها بل في بيتها أيضًا، والزوجة مطالبة بأن تكون متمدنة ظريفة لها ذوق في الملابس والأثاث، كما هي مطالبة بأن تعرف العوامل التي تُكوِّن أولادها، وترقى بهم في المستقبل، وهي مضطرة إلى تحمل مسئوليات تحملها على الاستقامة والتبصر والاقتصاد والشرف والحب والتضحية مثل الرجل، بل أكثر منه، وجميع هذه الفضائل تجعلها تنظر للشئون العامة والخاصة نظرًا اجتماعيًّا، في حين قد تنظر إليها الآنسة نظرًا انفراديًّا، وفضائل الزوجة هذه تزداد إذا كانت قد عملت وكسبت قبل الزواج، ومن هنا تتكون شخصيتهما وترقى.

(٨) النمو

الشخصية الراقية هي الشخصية النامية، وكل إنسان سوي يجب أن ينمو، والمنحرف أو الزائغ هو وحده الذي ينقطع عن النمو بأن يركد ويترهل ويقنع بحاله الراهنة، ولكنا نقصد من النمو هنا إلى درجاته العالية، ونعده طورًا عظيمًا من أطوار الشخصية الراقية.

ولا يمكننا أن نتخيل شخصية جامدة كل الجمود؛ لأن التغير من طبيعة الحي، ولكننا نميز بين التغير البطيء الوضيع، الذي يُقارب الركود ولا يمس غير الماديات الصغيرة، وبين التغير الذي يعد تطورًا وتكشفًا يمتاز بهما الرجل الراقي الذي ربى نفسه وصاغ شخصيته، وكذلك لا ننسى تغير التقلب الذي تتميز به الشخصية القلقة في الشخص النيوروزي.

ولو أن شبابنا كانوا يتجهون وجهة النمو لما رأينا تلك المقاهي التي تعد بالمئات والألوف في أنحاء القطر، ولما رأينا تلك الأفواج العظيمة تزدحم على أبواب الدور السينمائية، بل لما استطاعت مجلة أسبوعية واحدة من مجلات القيل والقال أن تعيش أسبوعًا؛ لأن الشاب الذي ينمو يرفض قتل الوقت بمثل هذه المسليات التافهة.

والنمو بالطبع يعني التغير، ولكن يجب ألا ننخدع بكل تغير؛ لأنه قد يكون أحيانًا من أعراض المرض بدلًا من أن يكون من إمارات الصحة، فإن النيوروزي — أي مريض العاطفة — قد يمتاز بهبات إصلاحية سرعان ما ينقطع عن السير في شوطها.

وأحيانًا قد يدفعه مركب النقص إلى هرولة غير متزنة نحو أحد المشروعات أو عدة مشروعات، فإذا لقي أضعف الصدمات عاد أدراجه بالسرعة أو بالجري والعجلة التي ابتدأ بها، ومثل هذا النيوروزي نجده في أمثال أولئك الذين يحاولون وقف التدخين أو الخمر بلا نجاح، وفي أولئك الآخرين الذين يضاربون بالمقامرة في المال أو الزواج، وكل منهم يقصد إلى الثراء والسعادة، وهو مسوق بعاطفة مشتعلة لم تخضع للعقل وسرعان ما تعود إلى الانطفاء.

والشخصية الناضجة قادرة على التغير ولكن في اتزان، وهذا التغير هو نمو يبدو لنا كأنه انقلاب مفاجئ، ولكنه في الواقع ثمرة اختمار سابق كانت النفس فيه تتهيأ للحظة السيكلوجية.

والنمو الذي يرقى بالشخصية يجب أن يحتوي الصغائر، ولكنه لا يتقيد أو يقنع بها، وهناك أنواع مختلفة من النمو، فإن المحترف مثلًا يحب أن يزداد معرفة بحرفته يدرس وسائل إتقانها كي يصل إلى القمة؛ أي: يجب ألا يقنع «بالواجب» كما هو الشأن في كثير من الموظفين؛ لأن هذا الواجب يعني في النهاية كراهة المسئوليات الكبرى وتجنبها، فيكون في هذا الركود تعطيل لنمو الشخصية.

وفي مجتمعنا الحاضر لا يمكن الإقلال من شأن المال الذي نشتري به حاجاتنا، بل رفاهيتنا الذهنية والجسمية، فيجب أن ننمو من الناحية المالية كما ننمو من الناحية الحرفية، ولكن يجب هنا التمييز بين الشخصية السليمة والشخصية المريضة، فإن الرجل السليم يطلب المال بعقله؛ لأنه وسيلة الرفاهية، وهو ينفقه في سخاء كي يُرقي نفسه ويُرقي أعضاء عائلته، بل ويُرقي المجتمع الذي يعيش فيه، ولكن النيوروزي يندفع بالعاطفة لجمع المال كأنه غاية كي يصير غنيًا جدًّا، وهو هنا لا يختلف من الطفل الذي يريد أن يكون طويلًا جدًّا حتى يبلغ السحاب! ويجب أن نتوسع في معنى النيوروز — أي مرض العاطفة — لأننا نراه كثيرًا بين أشباه الأسوياء، في ذلك الذي ينكب على جمع المال، وفي ذلك الذي يُطلِّق ويتزوج كثيرًا، وفي شريب الخمر المدمن، وفي القوال الفعال عن الاقتحامات الجنسية، وفي الزائغ الجنسي، وفي المتأنق الذي يقضي كثيرًا من وقته أمام المرآة … إلخ إلخ، وبمثل هذا التوسع نستطيع أن نعيد الزائعين إلى السواء، ولا ننخدع بالزائغ يبدو لنا كأنه بطل.

وعلى هذا يجب أن يكون نمونا المالي متسقًا مع شخصيتنا يُرقيها ويُنضجها بدلًا من أن يُحطها ويهزلها، ويجب ألا نترك روح المباراة الحالية التي غرسها فينا المجتمع تغرنا إلى حد الإهمال لرقينا ونمونا.

والنمو الاجتماعي هو أبرز أنواع النمو في ترقية الشخصية؛ لأن صفات الشخصية البارزة اجتماعية، ولكن الرقي الاجتماعي للشخصية لا يمكن أن يقحم عليها، بل هو يأتي عفوًا باعتبار أنه ثمرة الرقي الثقافي والحرفي والمالي، فالإنسان حين يبرز في ميادين الثقافة والحرفة والمال يجد أن الشخصية قد ارتفعت إلى مستوى عالٍ من الرقي الاجتماعي، فهو ينمو اجتماعيًّا وينمو ثقافيًّا وحرفيًّا وماليًّا؛ لأن الأصدقاء والأنصار يتجذبون إليه ويتكاثرون، وهو يجد نفسه يتدرج في نمو اجتماعي يعرف أصدقاء جددًا، أو ينتقل في أوساط اجتماعية جديدة.

وأقل أنواع النمو بروزًا في الشخصية — وخاصة في مجتمعنا المصري — هو النمو الثقافي، فإن جمهورنا لا يُقدِّر هذا النمو بما يستحقه، والواقع أن متعة الثقافة ستظل مدة طويلة في بلادنا وهي متعة فردية، ولكنها مع ذلك ضرورية لنمو الشخصية إذا اعتبرنا أن الحديث المنير والإحاطة بالشئون العامة بعض ما تُكوِّن به الشخصية، والجاهل يستحيل جلفًا إذا نطق في مجتمع متعلم، والاضطلاع بالشئون أو المشروعات العامة يحتاج إلى معارف كثيرة تزودها لنا الثقافة المنظمة والاطلاع الدائب، والآداب والفنون تصوغ الشخصية الأنيقة العالية، وكثيرات من ربات البيوت في مصر ينفقن عشرات الجنيهات على بزتهن الجسمية، ولكنهن لا ينفقن سوى القليل على البزة الذهنية، فإذا انعقد اجتماع كن فيه مخرسات، أو ناطقات يتحدثن عن الخدم والقيل والقال، والبزة الحسنة المؤلفة من الملابس والوجه المشرق ضرورية لشخصية المرأة، ولكنها لا تُغني إذا كان حديث هذه المرأة جهلًا وخرفًا.

والخلاصة أن الشخصية العالية تحتاج إلى النمو الدائم في الحرفة والمال والاجتماع والثقافة، ويجب ألا ننسى أن النمو الثقافي تعظم قيمته إذا اعتبرنا شخصية الرجل والمرأة في الشيخوخة؛ لأن الثقافة الماضية والراهنة تصيران عندئذ غذاء الشخصية التي توقى بهما من التحطم أو الانهيار.

(٩) الأهداف والمثليات

المثليات هي جمع مثلى، مثل أخرى وحسنى، ونحن نعني بها ما كان يُسمى «المُثُل العليا» فإن هناك حالًا مثلى للمجتمع يتخيلها كل مشتغل بالشئون العامة عالمية أم وطنية ويحلم بتحقيقها، وتمتاز هذه اللفظة بأنها مفردة، تمكن النسبة إليها، فنقول مثلًا: «هذا كاتب مثلوي» كما نقول: عالم أخروي؛ أي: أنه ينشد المثليات ولا يقنع بالواقع ويُجانب الخيال والحلم، والكاتب المثلوي هو الذي يحلم في اليقظة ويتخيل الحال المثلى لمجتمعه، ثم يجعل أدبه أدب الكفاح لتحقيق خياله، وهو يجد في مثلياته محركات اجتماعية تعجل التطور، وتُسرع خطى الرقي.

ومتى كان أحدنا مسوقًا بالمثليات الإنسانية فإنه يعد عندئذ على القمة من حيث كمال الشخصية، وهو ليس في حاجة إلى أن نحدثه عن الشئون التي عالجناها في الفصول الماضية، فإن هذه المثليات ترفعه إلى الاضطلاع بمسئوليات عالمية عن الإنسان والوطن والعالم، وهذه المسئوليات تستنبط خير ما في طبيعته من بر وشرف وتضحية وجهد، فهو دائب الدرس كي يزداد معارف عن موضوعه، وهو ينكر على نفسه اللذات المادية؛ لأن لذته الروحية في الخدمة البشرية تجعل هذه اللذات صغيرة لا يلتفت إليها، وهو بطبيعة اتجاهه يحتك بأرقى الأوساط، وينال أعظم الإعجاب، فلن تحدثه نفسه بالتدني، وهو شخصية تاريخية يوجه الأمم ويؤثر في العالم، وينهج الخطط الجديدة للرقي البشري، ولكنه، كما يؤثر في الجماعات ويوجهها، كذلك هو نفسه يتأثر بمثلياته حتى لنعتقد أنه قد تغير وصار بشرًا آخر من غير طينتنا؛ لأننا نجد فيه استقامة فذة وشرفًا صارمًا، وهذا إلى جراءة الأبطال وبصيرة الأنبياء، صفات تعلو على مستوى البشر.

هؤلاء الأشخاص لا يزدحم بهم التاريخ؛ لأنهم نادرون، ومنهم الأنبياء والقديسون وزعماء الحرية ودعاة المذاهب الإنسانية.

وهنا يتساءل القارئ: وإذن لماذا تذكر هؤلاء وأنت تريد تكون شخصية الشاب المصري، وهو لن يكون من الزعماء فضلًا عن القديسين أو الأنبياء؟

فالجواب أننا يجب أن ننتفع بحياة الأنبياء والقديسين والزعماء مهما تكن ضآلتنا، ويجب أن تكون لكل منا رسالة، وأن ندافع عن قضية عادلة لكشف ظلم، أو مكافحة ملكية، أو رفع عبوديات من أنواع العبوديات الكثيرة التي تنتشر في عصرنا تحت أسماء مختلفة؛ لأن الشعور بأن لنا رسالة، أو بأننا نُدافع عن قضية عادلة، يوحي إلى نفوسنا الكرامة والرغبة في الخير، وهذه الكرامة تعود علينا بالشخصية العالية، وترفعنا إلى أسمى مراتب الإنسانية كما تعود على البشر بالرقي والتقدم.

والمثليات أهداف نتجه إليها بنشاطنا، وهي تُحفزنا إلى العمل، فلا نركد ولا نسأم الحياة، ولا نفر منها إلى الاعتزال أو النسك أو المخدرات أو غير ذلك من وسائل قتل الشخصية أو توهينها، وعلى قدر السمو الذي ترتفع إليه هذه المثليات يكون السمو في شخصيتنا.

وليست المثليات مع ذلك مما يتجاوز السحاب حين نجعل منها أهدافًا نخدم بها البشر، ونُقوِّم بها شخصيتنا، فإننا نعيش في جو من المظالم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا نحتاج فيه إلى ذكاء كبير كي نقف على عللها ووسائل معالجتها، فهنا في القاهرة أبناء الشوارع الذين يتهيئون للجريمة عندما يشبون، وفي الريف يعيش ملايين من المصريين لا يزيد أجر أحدهم في العام على أجر وزير في اليوم، وفي كل مدينة نجد آلاف الذين، بدلًا من أن يجدوا منا احترام الشخيوخة، نضطرهم إلى أن يحصلوا على اللقمة بالاستجداء، وفي أنحاء بلادنا عشرات السجون التي تؤوي المساكين الذين يدخلونها أشقياء ويخرجون منها وهم أشقى حالًا، وأعجز مما كانوا عن سلوك الاستقامة.

والشاب الذي يدرس شقوة واحدة من الشقوات، ويحاول أن يحيلها إلى سعادة يكون قد أدى رسالة إنسانية سامية خدم بها الخير والبر والشرف، كما خدم بها شخصيته، ومهما كانت النتيجة صغيرة لمجهوده إزاء قوات الشر التي تريد أن تنهب وتنصب وتسرق وتستبد وتثرى، فإن حياته التي استرشدت بإحدى المثليات لا بد أن تحرك التاريخ البشري نحو الخير والبر، ولا بد أن تبقى شخصيته مصباحًا يضيء لكل مصلح.

وأعظم المثليات التي ترفع الشخصية هي تلك التي تستوعب حياتنا في الكفاح؛ لأنها حين تكون كذلك نحس غلوًّا، وهذا الغلو هو الطابع الذي لا يخطئه إنسان في التعرف إلى الشخصية السامية.

وعلى قدر كفاحنا يكون الغلو، ويكون قدر الشخصية.

(١٠) تلخيص

للشخصية درجات تُقاس بها، أدناها الملابس والعناية بالقوام والسحنة والصوت واللغة المختارة، ثم ترتقي من هذه الظواهر إلى البواطن، فنجد درجة أعلى في التغير الداخلي حين يترك الإنسان أنانية الطفولة والاعتماد على العواطف إلى الغيرية الاجتماعية، والاعتماد على الميول الاجتماعية، ثم نجد القدرة على الخدمة الخاصة وتليها الخدمة العامة.

ودرجات عالية أخرى للشخصية، هي تحمل مسئوليات الحرفة والعائلة، الأولى للرجل والثانية للمرأة على وجه عام، وإن كان نظام العائلة في مصر لا يسمح للمرأة بتكوين شخصية قوية.

والشخصية العالية تحتاج إلى النمو الذي هو أصل التعيير السليم؛ لأن الشخصية التي تجمد وتركد تعد منحطة مهما كانت المسافة التي قطعتها إلى الرقي بعيدة، ولكن لا يمكن أن نصل بالشخصية إلى التمام والسمو إلا إذا كانت لنا فلسفة توجيهية، وإلا إذا كانت لنا أهداف ومثليات نحلم بها ونحاول تحقيقها، ولا عبرة بأن تكون المثليات كبيرة ومقامنا صغيرًا؛ لأننا ننفع وننتفع بالمجهود الذي نبذل في تحقيق هذه المثليات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤