الفصل الأول

كامي/تاو

المبدأ الكلي في المعتقدات التقليدية للشرق الأقصى

لعل أفضل مدخل ندلف منه إلى الفلسفات الدينية الكبرى للشرق الأقصى، هو استكشاف الأساس الفكري الذي قامت عليه بنيتها السامقة، وأعني به تلك المعتقدات التقليدية التي تضرب في أعماق التاريخ الشرقي وصولًا إلى تخوم عصورها الحجرية. ولسوف تُدهشنا تلك الاستمرارية في معتقدات العصر الحجري، والكيفية التي تخللت بها تلقائيًّا معتقدات العصور التاريخية.

(١) كامي: المجهول الأقدس

في دين اليابان

يبدأ التاريخ المكتوب للأمَّة اليابانية مع القرن الخامس الميلادي، مترافقًا مع دخول الديانة البوذية إليها قادمةً من الصين. لم يكن اليابانيون يطلقون على دينهم اسمًا معينًا؛ فهو الدين الوحيد الذي عرفوه في جزرهم المنعزلة، أما بعد الانتشار التدريجي للبوذية فقد شعروا بالحاجة إلى تمييز معتقدهم التقليدي فدعَوه شنتو؛ أي طريق المبدأ الأقدس الكلي، وهو المبدأ الذي أشاروا إليه دومًا تحت اسم كامي. وهذا المعتقد التقليدي لليابان قد وُجد في تلك الأصقاع منذ أزمان لا يدري بها أحد، وتم تناقله عبر العصور والأجيال دون أن يُعرف له مصدر أو مؤسس أو تاريخ ابتداء. وما زالت الديانتان البوذية والشنتوية متعايشتين حتى الآن في اليابان.

رغم أن مصطلح كامي يترجم أحيانًا إلى إله أو جمع الآلهة، فإن الباحثين المحدَثين يفضلون استخدام المصطلح بصيغته اليابانية، لتعذُّر إيجاد ترجمة تقريبية له. وقد حاول حكماء الشنتو تقريب مفهوم الكامي إلى أذهان الغرباء بوسائل شتى، مع اعترافهم ببقاء المصطلح غامضًا وعصيًّا على الصياغة العقلانية المنطقية. يقول الباحث الياباني موريناغا في وصف الكامي: «إنه كل ما يثير في النفس الرهبة والجلال لما يمتلكه من قوًى غير عادية.» ويقول باحثٌ غربي متخصص في الشنتو: «إن اليابانيين أنفسهم لا يملكون فكرة دقيقة عن الكامي، فهم يختبرونه بشكل حدسي في أعماق وعيهم، ويتواصلون معه من غير أن يشكلوا حوله مفاهيم ذهنية أو لاهوتية. من هنا، فإنه من غير المتيسر إيضاح فكرة تقوم في أصلها على الخفاء والغموض.»١ إن ما يميز الشنتو بشكل رئيسي هو الموقف الحدسي والاعتماد على الخبرة الدينية المباشرة من دون المبادئ اللاهوتية المعقلَنة، وأتباع هذه الديانة نادرًا ما يطرحون أسئلةً أنطولوجية تتعلق بالوجود؛ لأنهم يشعرون بحقيقة الكامي عن طريق التماس المباشر مع القدسي، والإدراك المرهف لما هو خفي وسِري، ويرون في ذلك فضلًا على المقترب الذهني للعقائد المحكَمة. ولقد ساعد احتكاك الشنتو بالبوذية والكونفوشية على توضيح أفكارها باستخدام مصطلحات مستمدة من هاتين؛ فالكامي هو القاع الكلي للوجود والجوهر الخفي للحقيقة، إذا أردنا استخدام تعابير بوذية، وهو المبدأ الخلقي الناظم للكون ولعلاقات البشر، إذا أردنا استخدام تعابير كونفوشية.
أما طقوس الشنتو، فبسيطة إلى حدٍّ بعيد، وتجري في أحضان الطبيعة حيث الحُرُم والمقامات الطبيعية، وخصوصًا تحت شجرة اﻟ Sakak المقدسة. وفي الأصل، كانت الكاهنات النساء هن المسئولات عن قيادة الطقس، فيتلفظن بكلمات القوة والقداسة وفق ترتيل معين حتى يصلن حالة الوجد، فيندفعن في رقص طقوسي محموم من شأنه جمع العابد إلى معبوده. ثم ظهرت الهياكل فيما بعد، واتخذت لها أنماطًا معمارية متنوعة، مع حفاظها على أماكنها التقليدية في أحضان الطبيعة، وتأسَّس سلك للكهنوت متفرغ لها يرعى شئونها ويقود فيها الاحتفالات الدينية، وبين هؤلاء ما زالت الكاهنة القديمة ممثلةً في زمرة من خادمات الهيكل يمارسن الرقص الطقوسي الجماعي.٢
لقد لعبت الهياكل وطقوسها منذ قديم الأزمان الدور المركزي في ديانة الشنتو، ونظرًا لعلاقتها اليومية بحياة الناس لم يشعر اليابانيون بالحاجة الماسَّة إلى صياغة إيمانهم وفق نظام أيديولوجي، فكان هذا الإيمان ينتقل من جيل إلى آخر عن طريق الإحساس بالطقس وممارسته، وتلمُّس ما ينقله إلى المشاركين فيه من قيم روحية وجمالية. فالياباني يبدأ اكتسابه للإيمان التقليدي منذ الزيارة الأولى للهيكل محمولًا على ظهر أمه، حيث يدلف إلى تلك الغابة الساحرة بأشجارها العملاقة المعمرة، ويحس بجمال الطبيعة وجلالها الآسر قبل أن يدخل الهيكل ويراقب ما يجري هناك، مكونًا انطباعاته الأولى عن إيمان قومه. وفي مراحل نموه التالية وتدرُّجه نحو الفتوة، فإن الفتى لا يلقن أية مبادئ أو أصول تتعلق بدينه، بل يُترك للتجربة المباشرة مع فكرة القدسي التي يتلمسها من خلال المشاركة بالطقوس والأعياد في الهياكل. إن ممارسة العبادة في الهياكل لتتصل اتصالًا وثيقًا بتقدير الجمال، بذلك الإحساس الصوفي بسحر الطبيعة، الذي ينقل الإنسان من المستوى الدنيوي إلى المستوى القدسي الأعلى، ويجعل من حياته حالة خبرة واتصال دائم بالكامي.٣
على أن هذا المفهوم للكامي ليس الوحيد الذي تدور حوله ديانة الشنتو، فإلى جانبه هناك عدد يُقدر بالمئات من الكائنات الإلهية التي تتراوح في أهميتها من الآلهة السماوية العليا إلى تلك الآلهة الصغرى التي تقيم في الهياكل الثانوية المنعزلة، وغالبًا ما تجري الإشارة إلى هؤلاء جميعًا تحت اسم كامي، ويُنظر إليهم كمجموعة متماسكة متناغمة واحدة.٤ وإلى جانب العبادة التي يوجهها اليابانيون إلى هذه الآلهة، فإنهم يعبدون أيضًا كل مظهر من مظاهر الطبيعة يمكن أن يشفَّ لهم عن روح مقدسة تسكنه، فهم يعبدون الشمس والقمر والنجوم والبرق والصاعقة والأنهار والينابيع والصخور والأشجار. يضاف إلى ذلك أن بعض الرجال والنساء ممن أدوا خِدمات جلَّى للمجتمع، يمكن أن يؤلهوا وتقدم لهم فروض العبادة في الهياكل، ومثلهم الأسلاف المؤلهون الذين يتخذون مكانة مقدسة رفيعة في العبادة الشنتوية. كما يعتبر الإمبراطور ابنًا للسماء؛ لأنه من سلالة الحفيد المباشر للشمس عند أعتاب التاريخ الياباني، وقد عُبد عبر العصور كواحد من الآلهة العظام.٥
كل هذا يجعل الشنتو في عين ناظرها لأول وهلة مزيجًا من الخرافات التي لا تنتظم في بنية منطقية معقولة، يساعد على ذلك أن أهل الديانة لم يُعنَوا بصياغة معتقداتها ضمن أيديولوجيا دينية نهائية، ولم يصبوا أفكارها بلغة فلسفية تخاطب العقل والمنطق، بل تركوها على فطرتها التي نشأت عليها، عندما كان إنسان العصر الحجري يحس ويشعر ويستجيب، أكثر مما يفكر ويعقلن ويرمي شبكة المنطق يؤطر بها كونًا يتأبى على التثبيت والتأطير. يروي الميثولوجي ومؤرخ الدين المعروف جوزيف كامبل، الحوار الآتي الذي سمعه في مؤتمر دولي لعلوم الدين في اليابان، بين أحد أعضاء الوفد الأمريكي وهو أستاذ في الفلسفة الاجتماعية، وكاهن شنتو. قال الأمريكي للكاهن بعد إنهاء جولة قام بها المؤتمرون على هياكل الشنتو: «لقد رأينا هياكلكم واطَّلَعنا على طقوسكم، ولكني لم أفهم شيئًا عن لاهوتكم ولا عن أيديولوجيتكم الدينية.» فأطرق الكاهن مليًّا ثم هز رأسه قائلًا: «أعتقد بأننا لا نملك لاهوتًا ولا أيديولوجيا دينية … إننا نرقص.»٦

ومع ذلك، فإن للشنتو منطقًا داخليًّا متماسكًا قد لا يتيسر للكثير من الأديان الأخرى، وكل ما يبدو على السطح شتاتًا لا يجمعه رابط إنما تنتظمه نظرة عميقة ثاقبة للوجود، تنشأ عن مواجهة وجودية بين الإنسان والعالم لتربط بينهما في كون موحد، يتخلل فيه عالم اللاهوت عالم الناسوت الآخر، وبطريقة لا يمكن فصل واحدهما عن الثاني أو وضع حدود مميزة بينهما. فالكون رغم انقسامه شطرَين أمام التجربة الحدسية المباشرة للإنسان، ورغم معاينته كمقدس آنًا وكدنيوي آنًا آخر، إلا أنه في حقيقة الأمر متصل وواحد؛ مقدس في وجهه الأول، ودنيوي في وجهه الثاني، وليس الوجهان إلا تبدِّيَين متناوبين للمطلق الأزلي.

فالكامي، الذي يرى فيه الياباني المبدأ الكلي الأقدس المحيط بظواهر الكون جميعها، ليس ألوهة مفارقة متمايزة عن خلقها، بل هو الخميرة الفاعلة في صميم هذا الخلق. ونظرًا لكونه متخللًا في كل شيء، فإن قوته تتكثف في بعض مظاهر الطبيعة أكثر من غيرها؛ ولذا يعلى من شأن هذه وتعبد. كما قد تتكثف هذه القوة الفاعلة في بعض الأرواح فتمتلئ قدسية وترتقي إلى رتبة الآلهة، التي ليست في حقيقة الأمر سوى قوة المجال القدسي وقد تجزأت وصارت صلة وصل بين الكامي والإنسان. ولا أدل على الدور الثانوي الذي تلعبه الآلهة في الشنتو من كثرة عددها وامتلاء الأرض والسماء بها، وكذلك امتلاء الأرض والسماء بالمقدسات والمعبودات من كل نوع، والتي تقود كلها إلى الحقيقة الواحدة الجديرة بالعبادة والتقديس.

ينعكس المعتقد الديني للشنتو على نظرة الياباني لمكانته في العالم ودوره في النظام الكلي للكون؛ فالبشر هم أطفال الكامي، منه تلقوا الحياة وبه يستمرون في كل يوم. من هنا تأتي قدسية حياة الإنسان، والاحترام الكبير الذي يُكنُّه كل ياباني لحياة الفرد الآخر وشخصه وحقوقه الأساسية؛ فكل عضو في الجنس البشري، بصرف النظر عن عِرقه وقوميته ومواطنيته، يحمل قبسًا من القداسة استمده من الكامي. غير أن جوهر القداسة في الإنسان لا يظهر تلقائيًّا، وإنما يتطلب من المرء أن يجلو قلبه ليشع منه نور حقيقته، وذلك بتطهير أفكاره وأفعاله، والإخلاص في تعامله مع عالم المقدسات وعالم الناس. والفرد، رغم تمتعه بخصائص شخصية تميزه وتؤكد استقلاليته، إلا أنه ليس ذاتًا منعزلة عن بقية الذوات ومنقطعة عن الجماعة، بل حلقة في سلسلة تمتد في الماضي نحو الأسلاف وفي المستقبل نحو الأجيال القادمة، فهو صلة وصل ضرورية في استمرارية حيوية لكائن واحد هو المجتمع بماضيه وحاضره ومستقبله، وعليه أن يلعب دورًا إيجابيًّا في ارتقاء تقدم الحياة. ودور الفرد هذا مرتبط بنظرة الشنتو الأشمل للتاريخ الصاعد أبدًا في اتجاه تقدمي لا نكوص فيه، والذي نصنعه حيوات وجهود كل الأفراد. من هنا فإن الكون أزلي في ذهن الياباني الذي لا يحمل أية معتقدات حول نهاية العالم وفناء البشرية، فلا قيامة ولا بعث ولا نشور. وما على الفرد إلا أن يحيا كل لحظة بكامل أبعادها، ويعطيها ما تستحقه من قيمة باعتبارها لحظة مهمة في حياة الكون.٧

وهكذا تعطينا ديانة الشنتو في اليابان أول إشارة مشجعة في طريقنا الجديد الذي نطرقه لاستكشاف معتقدات الحضارات الكبرى. فنحن ما زلنا نسير في أرض مألوفة، والمعتقد الأساسي للثقافات الحجرية والبدائية يتكرر هنا وإن بتنويعات مختلفة.

(٢) قوة السماء وتبعية الآلهة

في الفكر الصيني

لم يأخذ الصينيون عبر تاريخهم مسألة تشخيص الألوهة بشكل جدِّي، ولم يُظهروا ميلًا لاعتبار الكون مخلوقًا من قِبل ملك سماوي يتحكم فيه، بل لقد رأوا فيه ما يُشبه الجسد الحي الذي يقوم على تنظيم نفسه وفق آلية ضبط ذاتي، وهناك أمثولةٌ تاويَّة يرويها الحكيم تشانغ تزو من القرن الرابع قبل الميلاد عن هذه التلقائية الكونية، فيقول: «بأن الحريش الذي يزحف مستعينًا بأربعة وأربعين طرفًا (أم أربع وأربعين) قد سئل عن كيفية تدبيره لحركة هذه العشرات من أرجله، فأجاب بأن المسألة لم تشغل باله قبل ذلك، فهو يشعر بأن أرجله تُدبر أمرها بنفسها دون تفكير منه ودونما حاجة إلى تدخله.»٨ ومع ذلك، فإن الديانة الصينية التقليدية السابقة على البوذية حافلة بالآلهة من شتى الأشكال والأنواع، شأنها في ذلك شأن الديانة اليابانية، ولكن هذه الكائنات المتفوقة، التي نطلق عليها اسم آلهة، ليست في الواقع إلا أسلافًا أسطوريين قد رُفعوا تدريجيًّا إلى مراتب أعلى في سُلم السلطة الكونية. وتُظهر السِّيَر الأسطورية لحياة هؤلاء كيف ابتدأ أمرهم كرجال صالحين على الأرض، وكيف تم تأليههم وعبادتهم فيما بعد. ومما يلفت النظر في أمر الآلهة الصينية على كثرتها، أنها لا تظهر بالفعل كشخصيات إلهية ذات كيان محدَّد ووظيفة دائمة، بل ككائنات شبحية غير محدَّدة الملامح، تكتسب قوتها من قوة المنصب الذي تشغله؛ ذلك أن الوظيفة الإلهية هي الثابتة، أما شاغلوها فمتحولون ومتنقلون. ففي كل إقليم من الأقاليم الصينية الكثيرة، يجري توزيع الوظائف والاختصاصات (تصريف الرياح أو إنزال المطر أو قدح البرق … إلخ) بين الآلهة الصينية نفسها بشكل مختلف عن الآخر تمامًا، وقد يتم ترفيع إله إلى مقام أعلى أو تخفيض مرتبته أو حتى صرفه من الخدمة نهائيًّا.٩
أما المصدر الحقيقي لقدرة الآلهة الصينية، فهو مفهوم غير شخصي للألوهة يتمثل في قوة السماء التي يدعونها تي-يين T’ien، والتي عُبدت في الصين منذ القِدم. ويرى كونفوشيوس، وهو أكثر العقول تأثيرًا في الصين القديمة، أن إرادة السماء إنما تعمل من خلال عناية متضمنة في صلب نظام الطبيعة، ويقابل هذا النظامَ الطبيعي عنده نظامٌ آخر يسود على المستوى الإنساني المجتمعي هو القانون الأخلاقي. من هنا فإن انسجام الفرد مع إرادة السماء الفاعلة في الطبيعة لن يتحقق إلا بمراعاة النظام الأخلاقي، الذي يُشكل انتهاكه خطيئة بحق السماء.١٠
وكان الاسم الذي يطلق على ألوهة السماء هذه في عهد أسرة شانغ (١١٠٠–١٥٠٠ق.م.) هو شانغ-تي، الذي يعني الحاكم الأعلى. والتسمية هنا مجازية؛ لأن هذه الألوهة السماوية لم تكن تتمتع بكيان شخصي محدد، وإنما جرى تصورها كقوة تشغل الجهة العليا من قبة السماء، وهي أبعد ما تكون عن التصور الغربي للإله الأعلى المسيِّر للكون؛ لأنها غير مشخصة، ولا تتصل بالناس عن طريق رُسل يشرحون إرادتها، ويوصلون إليهم شرائعها المعروفة في الكتب المقدسة. فإذا أرادوا معرفة مشيئتها الغائبة، فإن عليهم أن يلجئوا هم إلى التواصل معها عن طريق الاستخارة والتنجيم، وما إليها من تقنيات التنبؤ والرجم بالغيب. ومنذ حُكم أسرة تشوس، بعد عام ١١٠٠ق.م. أُطلق على هذه الألوهة الكونية اسم T’ien، والتي تعني في الأصل مسكن الروح الكبرى، ثم استُخدمت للإشارة إلى القوة العظمى التي تعتلي هرم القوى الجزئية، والتي بقيت مدار المعتقد الصيني حتى القرن الثاني عشر الميلادي.١١ وعندما تتجرَّد قوة السماء تمامًا حتى من القبة الزرقاء التي اعتُبرت أحيانًا مظهرها المرئي، فإن مفهوم اﻟ «تي-يين» يلتقي مع مفهوم آخر للقوة الإلهية المجردة، هو مفهوم التاو Tao، الذي لعب الدور الأهم في الفكر الديني والفلسفي الصيني منذ البدايات المبكرة المعروفة لتاريخ الصين. ونستطيع متابعة التعبيرات الأولى عن هذا المفهوم وتطوراتها اللاحقة من خلال أشهر كتب الحكمة الصينية المعروف بكتاب التغييرات The Book of Changes، وبالصينية I. Ching، الذي ساهم عدد من العقول المتميزة عبر تاريخ الصين بالتعليق والشرح على متنه، ومنهم كونفوشيوس.
ترجع الأشكال الأولى لكتاب التغيرات إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، على ما ترويه المدونات الصينية، ولكن الأبحاث الجديد تُرجح أن الكتاب في شكله المتداول أيام كونفوشيوس، أي في القرن السادس قبل الميلاد، لا يرجع إلى ما وراء الألف الأول قبل الميلاد. يُعتبر التغيرات، بحق، واحدًا من أشهر الكتب في تاريخ الثقافة الإنسانية، وقد شغل صفوة العقول الصينية قرونًا عديدة، وكان وراء أهم المنجَزات في التاريخ الطويل للثقافة الصينية. وبشكل خاص، فإن فرعَي الحكمة الصينية، وهما التاوية والكونفوشية، إنما يمتحان من هذا النبع وتلتقي مناهلهما البعيدة عنده، إضافة إلى تأثيره الواسع على الحياة اليومية لعامة الناس في الصين. وإلى وقت ليس بالبعيد، كان زائر المدن الصينية الكبرى يلتقي عند زوايا بعض الشوارع الرئيسية بقارئ حظ يجلس خلف طاولة، مستعد لاستخارة كتاب التغيرات من أجله، كما كان بإمكانه أن يقرأ جُملًا من الكتاب منقوشة على تلك اللافتات الخشبية التي يضعها الصينيون على أبواب منازلهم زينة. ومن اليابان الحديثة لدينا أكثر من شاهد على لجوء رجال سياسة بارزين لاستخارة كتاب التغيرات في المواقف العصيبة. فما هو الكتاب؟ وما هي المبادئ الأساسية التي يقوم عليها؟١٢
للوهلة الأولى، يبدو «التغيرات» مجموعة من الرموز التي يضم كلٌّ منها عددًا من الخطوط المتوضع بعضها فوق بعض على التوازي وفق هذا الشكل وتنويعاته المختلفة، تُستخدم في العرافة وقراءة الطالع. ففي أبسط أشكالها القديمة، تقتصر العرافة على إعطاء جواب بالنفي أو الإيجاب على مسألة ما، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه الكتاب من حيث الشكل؛ فالجواب «نعم» يُشار إليه بخطٍّ متصل، والجواب «لا» يُشار إليه بخط متقطع. ثم إن الحاجة دعت، على ما يبدو، إلى إجابات أكثر تفصيلًا، فتمَّ جمع الخطوط المتصلة والمتقطعة في أزواج، ونتج عن ذلك أربعة أشكال رمزية، هي كل الأشكال المحتملة لاجتماع خطين متقطعين أو متصلين أو مختلفين.
fig17

وإلى كل زوج من هذه، تم إضافة خط ثالث؛ الأمر الذي أنتج المجموعات الأساسية، وعددها ثمانية، وهي كل الأشكال المحتملة لاجتماع خطوط ثلاثة:

المجموعة اسمها خصيصتها صورتها علاقتها العائلية
المبدع القوة السماء الأب
المتلقي الانقياد الأرض الأم
الموقظ الحركة المحرضة الرعد الابن الأول
العميق الخطر الماء الابن الثاني
المستقر الثبات الجبل الابن الثالث
الرقيق النفاذ الهواء الابنة الأولى
الممسك وهب النور النار الابنة الثانية
البهيج البهجة البحيرة الابنة الثالثة

من منظور «التغيرات»، فإن هذه المجموعات الثلاثية هي صورة لكل ما يجري في السماء وعلى الأرض، وهي رموز لأحوالٍ دائمة التبدل، يصير واحدها إلى الآخر بالطريقة التي تصير الظاهرة إلى الأخرى في العالم الطبيعي. وهنا نضع اليد على المفهوم الأساسي لكتاب التغيرات؛ فالأشياء ليست في حالة وجود وإنما في حالة صيرورة، والذهن ينبغي أن يُركز على تحول الأمور وحركيتها، وما هذه المجموعات الثلاثية في «التغيرات» إلا تمثيلات للأشياء في نزوعها الحركي لا في ثباتها. أما عن العائلة التي تُكوِّنها هذه الرموز، فيجب ألا يُنظر إليها بالمعنى الحرفي بل بالمعنى المجرد؛ لأن كل واحد منها يمثل قوة ووظيفة، لا شخصية إلهية محددة.

ثم التقت هذه المجموعات الثلاثية، كل اثنتين في واحدة تضم ستة خطوط، ونجَم عن كل الاحتمالات الممكنة لاجتماعها بهذه الطريقة أربعة وستون رمزًا، يحتوي كلٌّ منها على خطوط سالبة متقطعة وخطوط متصلة موجبة، وكل خط من هذه الخطوط قابل للتغير؛ فإذا انقلب خط واحد سالب إلى آخر موجب، وقع التغير في الحالة التي تمثلها المجموعة السُّداسية.

fig26

ويمكن للخبير بهذه الرموز أن يستخدم عددًا من عيدان نبتة الألفية، فيُبعثرها على الأرض لتعطيه تشكيلًا للعيدان يقابل رمزًا من الرموز الأربعة والستين، وهذا الرمز يقابل بدوره حالة الشخص الذي يستخير «التغيرات». غير أن هذا النوع من التنبؤ الذي يقدمه الكتاب، يتعدى وصف الحالة إلى وصف الفعل الذي يجب أن يترافق مع معرفة الحالة، قبل أن تستفحل وتغدو قضاءً لا يمكن رده؛ ذلك أن نبوءة «التغيرات» هي نبوءة إيجابية لا نبوءة سلبية، وقيام المستخير بالسؤال عما يستطيع القيام به لمواجهة الأوضاع المرتقبة، يجعل من التغيرات كتابًا في الحكمة لا كتابًا في العرافة.

تقوم حكمة «التغيرات» على عددٍ بسيط من المفاهيم الأساسية؛ فبالدرجة الأولى لدينا فكرة عن التغير تُشكل الأرضية العامة لفلسفة الكتاب، فكل شيء يجري ويجري دون توقف كماء النهر، على حد قول كونفوشيوس، إلا أن التغير ينبغي أن يتم فوق أرضية ثابتة غير متغيرة، وإلا لما كان هناك نظام كوني، ولَانحلَّ كل شيء في النهاية إلى فوضى مطلقة. هذه الأرضية الثابتة هي التاو Tao، الوحدة الجوهرية الكامنة وراء الكثرة المتبدية، والواحد الذي يعطي للمتعدد الأساس والمعنى، إنه البداية العظمى لكل الموجودات. فمن أدرك التغير ومعانيه، صرف النظر عن الأعراض الزائلة في الأشكال المتنوعة، وثبت قلبه على المبدأ غير المتغير.

يُرمَز للتاو في الفكر الصيني بدائرة فارغة، هي المبدأ الأول قبل ظهور الموجودات، وأيضًا بدائرة يتناوب فيها الأبيض والأسود، أو اليانغ والين، هي المبدأ الأول بعد ظهور الموجودات التي نجمت عن دوران القوتين؛ القوة الموجبة يانغ، والقوة السالبة ين.

fig27

إن الخط داخل دائرة التاو يُعبر عن ظهور الأقطاب والمتعارضات إلى حيز الوجود؛ فالخط قد أحدث شرخًا في الفراغ المتماثل، فقسَّمه إلى أعلى وأسفل، وإلى يمين ويسار، وإلى أمام وخلف، وانحلَّت الوحدة السابعة إلى مظاهر ذات قوًى متعارضة ومتجاذبة في الوقت نفسه. إن كل ما في الكون هو مزيج من طاقة موجبة وأخرى سالبة؛ فإذا غلب اليانغ كان الشيء ذا طبيعة موجبة، وإذا غلب الين كان ذا طبيعة سالبة؛ لهذا صُوِّر القسم الظليل في دائرة التاو وفيه نقطة منيرة، وصُور القسم المنير وفيه نقطة ظليلة؛ لأن اليانغ لا يتجلى في حالته الصرفة، ولا الين كذلك؛ ففي كل إيجاب شيءٌ من السلب وفي كل سلب شيءٌ من الإيجاب. كما اتخذ القسمان الظليل والمنير وضعًا حركيًّا دورانيًّا يدل على التناوب الأبدي بينهما.

ونجد في «التغيرات» مفهومًا ميتافيزيقيًّا أساسيًّا يدور حول الأفكار. فالمجموعات الثلاثية الثمانية ليست صورًا وتمثيلات لموضوعات بل صور لأحوال متغيرة، وكل حادث في الكون المرئي يتم بتأثير صورة (أو فكرة) في المستوى غير المرئي. وعليه فإن كل ما يحدث على الأرض هو نسخة لاحقة زمنيًّا عن أمر يحدث في مستوًى يقع وراء إدراكنا الحسي. والحكيم الذي يكون على اتصال مع المستوى الأعلى يتاح له الاطلاع على الأفكار من خلال حدسه المباشر؛ وبالتالي يكون في وضعٍ يسمح له بالتدخل في الأحداث الجارية في العالم. وبهذه الطريقة، فإن الإنسان يرتبط بالسماء التي تؤلف عالم الأفكار فوق الحسي، وبالأرض التي تؤلف عالم المادة الحسي، ويؤلف معهما مثلث قوة أساسيًّا. إن نظرية الأفكار المتضمنة في «التغيرات» تُطبَّق في اتجاهَين؛ فالكتاب يُنبئ عن صور الأحداث وأيضًا عن تحقُّقها التدريجي في الزمن؛ ولهذا فإن الاستعانة به في استبصار بذور الأمور المقبِلة، تُنير لنا المستقبل وتجعلنا نفهم الماضي؛ وبهذا نتكيف مع مجرى الطبيعة.

لقد عرف كونفوشيوس كتاب التغيرات وكرَّس قسمًا كبيرًا من وقته لدراسته والتعليق عليه، خصوصًا في سنوات شيخوخته، وهناك قسمٌ مهم من ملاحق الكتاب التي تحتوي شروحًا وتعليقات أساسية تُعزى إليه وإلى بعض تلامذته. كما أن «التغيرات» كان المصدر الرئيسي لإلهام الحكيم لاو تسو، مؤسس التاوية ومعاصر كونفوشيوس، وواضع كتاب تاو-تي-تشينغ، وهو الصرح الثاني في الفكر الصيني بعد «التغيرات».

١  G. Parrindar, World Religions, New York 1984, p. 353–356.
٢  G. Parrindar, World Religions, Facts on File, New York 1984, p. 353–356.
٣  Sakyo Ono, Shinto, The Kami Way. Tokyo 1993, pp. 92–97.
٤  J. C. Takai, Basic Terms of Shinto, Tokyo 1981 (see Kami item).
٥  A. Akiyama, Shinto and its Architecture, Tokyo 1955, pp. 16–18.
٦  Joseph Campbell, The Power of Myth, Doubleday, New York 1988, p. xix.
٧  Hirai Naofuse, Shinto (in: Encyclopedia of Religion vol. 13, p288).
٨  Alan Watts, The Two Hands of God, Rider, London 1978, pp. 66–67.
٩  Ou. I. Tai, Chinese Mythology (in: Larousse Encyclopedia of Mythology, p. 380).
١٠  L. Thompson, T’ien (in: Encyclopedia of Mythology, vol. 11, pp. 508–509).
١١  G. Parrindar, World Religions, op. cit, p. 244.
١٢  من أجل المادة المعلوماتية فيما يلي، اعتمدت النص الأصلي للتغيرات بترجمته العالمية المعتمدة. The I. Ching, or The Book of Changes, the Richard Wilhelm translation renderd into English by G. F. Baynes, Princeton 1977.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤