الفصل الأول

العالم الكمومي والنظرية الكوانتية

فرَض ميكانيك الكم نفسه على المسرح العلمي في بداية القرن العشرين بشكل تلقائي غير مقصود، وتضافرت على دراسته وصياغة نظريته صفوةُ العقول في العالم المتقدم. والكم Quantum هو في الأصل اللغوي اليوناني كمية من شيءٍ ما. من هنا فإن تعبير ميكانيك الكم يعني دراسة حركة الكمات أو الكموم. فالطبيعة تبدو وكأنها تحدُث على دفقات؛ أي كوانتا Quanta، ويقوم ميكانيك الكم بملاحظة ودراسة هذه الظاهرة.١
تطوَّر ميكانيك الكم تدريجيًّا، عندما وجد الفيزيائيون أنفسهم أمام ظواهر لا يمكن تفسيرها بالرجوع إلى مبادئ الفيزياء النيوتونية التقليدية، فجاء هذا العلم الجديد من أجل تكميل واحتواء القديم دون إلغائه، وذلك بتطوير وجهات نظر أكثر شمولية من شأنها مساعدتنا على تفسير الطبيعة كما صِرنا نلاحظها الآن؛ فالفيزياء النيوتونية ما زالت صالحة لدراسة وتفسير العالم الكِبري Macrocosm، كالنظام الشمسي وغيره من الظواهر التي تسود الكون الأكبر، ولكنها باتت عاجزة عن دراسة وتفسير العالم الصِّغري Microcosm؛ عالم الذرة والجسيمات الدقيقة المكونة لها. وبتعبير آخر، فإن إنزال مركبة فضائية على سطح القمر لا يغدو ممكنًا دون استخدام مبادئ الميكانيك التقليدي، التي شرحها نيوتن في القرن السابع عشر في كتابه المعروف بالمبادئ. أما التوغل في أعماق المادة، وفهم حركة ذراتها والإفادة من طاقة هذه الذرات، فيتطلب منا التحول إلى ميكانيك الكم ومبادئ النظرية الكمومية (الكوانتية).
بقي عالم الذرة عالمًا افتراضيًّا منذ أن طرح بعض فلاسفة الإغريق، وبعض حكماء الشرق، تصوُّرهم لبنية المادة على أنها مكوَّنة من ذرَّات متراصَّة متماثلة هي اللبِنات الأولى، أو الوحدات الأساسية، التي لا يمكن تجزئتها إلى وحدات أصغر. ولم يتحول الافتراض إلى واقع تجريبي حتى القرن التاسع عشر، عندما بدأ الفيزيائيون يلاحظون آثار ونتائج الظاهرة الذرية. وأكثر من ذلك؛ فقد لاحَظ الفيزيائيون في الوقت نفسه أن هذه الذرات ليست الوحدات الصغرى النهائية المكونة للمادة، وإنما هي تتألف بدورها من وحدات أصغر منها هي البروتون والنيترون والإلكترون، فدعوا مكونات الذرة هذه بالجسيمات الأولية، اعتقادًا منهم بأنها اللبنات الأساسية التي تؤلف الذرة وبالتالي المادة برُمَّتها. ومع اكتشاف الذرة ومكوناتها، اكتشف الفيزيائيون عدم صلاحية كل المفاهيم التقليدية التي تعوَّدوا استخدامها لوصف الموضوعات الطبيعية، مثل الموضع المكاني (= Position) والسرعة (= Velocity) واللون والحجم وما إليها، والتي غدت غير دقيقة بل وإشكالية أيضًا، إذا أتينا لاستخدامها في عالم الجسيمات الدقيقة. ولكي نفهم هذه النقلة الحاسمة في تصور وفهم طبيعة المادة، لا بد لنا من إجراء مقارنة سريعة بين مقتربات الفيزياء النيوتونية ومقتربات الفيزياء الحديثة الكوانتية.

تتمثل المساهمة الكبرى لإسحاق نيوتن في تاريخ العلم باكتشافه قوانين الحركة وقانون التثاقل (= الجاذبية). فوفق قانونه الأول للحركة، إذا تحرَّك جسمٌ ما على خط مستقيم، فإنه سوف يستمر في التحرك على مساره إلى ما لا نهاية، إلى أن تتسلط عليه قوة خارجية تحدُّ من حركته أو تحرفه عن مساره. ووفق قانونه الثاني، فإن كل فعل يقابله رد فعل مساوٍ له في الشدة ومعاكس في الاتجاه. أما في التثاقل، فإن الأجسام جميعها تتبادل ما دعاه نيوتن بالتأثير عن بُعدٍ وفق قوة تثاقل تفعل بينها. وهذه القوة هي التي تشدُّ التفاحة الناضجة نحو الأرض، وهي التي تحفظ أيضًا القمر في مداره حول الأرض والكواكب في مساراتها حول الشمس.

تصف قوانين الحركة عند نيوتن ما الذي يحصل لجسمٍ ما وهو في حالة الحركة؛ فنحن نستطيع إذا عرفنا قوانين الحركة أن نتنبَّأ بمستقبل الجسم المتحرِّك إذا توافرت لدينا معلومات دقيقة عن أحواله الابتدائية، مثل سرعته الابتدائية واتجاهه الأصلي … إلخ. وكلما تزوَّدنا بمعلومات ابتدائية أكثر عددًا وأكثر دقة، كلما كانت تنبؤاتنا بالأحوال المقبِلة أكثر صوابًا ودقة أيضًا. وأكثر من ذلك، فإن المعلومات الحالية عن جسمٍ متحركٍ ما، من شأنها أن تكشف لنا عن أوضاعه الماضية أيضًا. فإذا عرفنا الموضع الحالي للأرض بالنسبة إلى الشمس والقمر، وعرفنا سرعة دورانها حول نفسها وحول الشمس، فإننا نستطيع التنبؤ بالكسوفات المقبلة للشمس، ونستطيع أيضًا معرفة كسوفاتها الماضيات. فمن حيث المبدأ، تعتقد الفيزياء النيوتونية بقدرتها على التنبؤ الدقيق والكامل بوقوع أية حادثة فيزيائية، إذا توفَّرت لدى الباحث المعلومات الكافية حولها. إلا أن ما يمنع من تحقيق مثل هذه التنبؤات الدقيقة والكاملة لكل الحوادث، هو الكمية الكبيرة من المعلومات اللازمة أحيانًا بخصوص حادثةٍ ما، وتداخل هذه المعلومات. ولنأخذ مثالًا على ذلك حالةً بسيطة تتعلق بارتداد كرة عن حائط وسقوطها بزاوية معينة في موضع معين، إن التنبؤ بمسار هذه الكرة قبل اصطدامها، ونقطة الاصطدام، ثم ارتدادها ونقطة سقوطها على الأرض، يتطلب تحصيل معلومات كاملة عن شكل وحجم ومرونة الكرة، وعن سرعتها الابتدائية وزاوية قذفها، وعن كثافة وضغط ورطوبة وحرارة الهواء، وعن سرعة الريح وزاوية تأثيره على المقذوف، وعن صلابة الحائط، وما إلى ذلك. فإذا تضمَّنت الحادثة الواحدة أكثر من عنصر، زاد حجم المعلومات وتعقَّدت الرابطة بينها إلى درجةٍ قصوى. ومع ذلك، فإن إمكانية التنبؤ الدقيق والكامل تبقى قائمة، ولو نظريًّا، حتى في أعقد الحالات. وقد بلغت هذه القناعة عند نيوتن حدًّا من الرسوخ، دفع به إلى القول بأنه لو قُيِّض لنا معرفة كل المعلومات الابتدائية المتعلقة بلحظة نشوء الكون، وكنا قادرين على معالجتها بكفاية تامة، لاستطعنا التنبؤ بكل الأحداث التي تعرَّض لها الكون في الماضي وبما ينتظره في المستقبل.

تقود هذه الرؤيا النيوتونية إلى تصور حتمي جبري للكون؛ فكل ما جرى ويجري وسوف يجري، قد تم تقريره في مطلع الأزمان، وما الكون إلا آلة جبَّارة تعمل بدقةٍ وفق العوامل الأولى التي أطلقت حركتها، ووفق قوانين دقيقة تنطبق على الأجسام الأرضية والأجسام السماوية معًا، وذلك بضم مبدأ التثاقل إلى مبادئ الحركة. ولكي يختبر نيوتن صحة اشتمال قوانينه، التي استنبطها من ملاحظة حركة الأجسام من حوله، على حركة الأجرام السماوية البعيدة، قام بحساب حركة القمر وبعض الأجرام الأخرى في المجموعة الشمسية، باستخدام معادلاته في الحركة العادية، ثم قارن الأرقام التي توصَّل إليها بالأرقام المتحصلة لدى علماء الفلك، فجاءت النتائج متطابقةً كل التطابق. وبذلك ألغى نيوتن، وبضربةٍ واحدة، الفاصل التقليدي القديم بين الأجسام الأرضية والأجسام السماوية، فكلا النوعين يخضع للقوانين نفسها. فكان هذا أول توحيد من نوعه بين السماء والأرض، قائم على ملاحظة علمية مبرهَن عليها تجريبيًّا ورياضيًّا.

على عكس الفيزياء التقليدية، فنحن في ميكانيك الكم لا نستطيع، من حيث المبدأ، أن نعرف ما يكفي عن الوضع الراهن لعناصر الحادثة الفيزيائية، لنستطيع التنبؤ بأوضاعها المستقبلية، حتى لو توفَّرت لدينا أفضل معدات القياس. والمسألة هنا لا تتعلق بحجم هذه المهمة وصعوبتها، كما هو الحال في الفيزياء النيوتونية، بل استحالتها؛ ذلك أن طبيعة المادة في العالم الصغري تجعلها عصيَّة على أساليب الفيزياء المعتادة في توقُّع المسار المقبِل للحدث. ولنضرب مثالًا على ذلك، حادثة تقليدية في العالم الكِبري وأخرى كمومية في العالم الصِّغري.

إذا أقلعت طائرة من المطار ب في طريقها إلى المطار ج، بسرعة ثابتة مقدارها ٨٠٠كم في الساعة، فإننا نستطيع في أية لحظة معرفةَ مكانها على الطريق المؤدي إلى مطار الهبوط ج، طالما أننا نملك معلومات عن سرعتها ووجهتها، فنقول إن الطائرة ستكون بعد ساعتين في س على مسافة ١٦٠٠كم من مطار الانطلاق. أما في العالم الكمومي، فإن التجارب على الجسيمات الدقيقة قد برهنت عدم قدرتنا على معرفة سرعة جُسيم ما وموضعه في آنٍ واحد؛ ففي الوقت الذي نستطيع به ضبط سرعة الجسيم، فإننا نفقد تمامًا موضعه، وعندما نستطيع تحديد موضعه نفقد سرعته، وهذا ما يُعرَف بمبدأ الريبة أو اللاتعيين٢  The Uncertainity Principle في الفيزياء الكمومية. هذا الوضع لا ينشأ، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، عن قصور في الوضع الحالي لتقنيات القياس، بل هو وضعٌ ناجم عن طبيعة العالم الكمومي، الذي تتحدى ظواهره تجاربنا اليومية وفهمنا المعتاد. وتتعدى حالة اللاتعيين التي تواجهنا في ملاحظة حركة الكموم، والعلاقة بين سرعة الجسيم وموضعه، إلى علائق أخرى مثل الزمن الذي تستغرقه حادثة على المستوى الذري والطاقة اللازمة لإتمامها.

إن عدم قدرتنا على تقرير سرعة وموضع الجسيم، يعني أننا لا نستطيع التنبؤ بدقة بأحواله المقبلة كما هو الأمر مع الأجسام المتحركة في عالمنا المعتاد. من هنا، فإن ميكانيك الكم لا يتنبأ بأحداث محدَّدة، بل باحتمالات وقوع هذه الأحداث. وفي هذا المجال، فإن ميكانيك الكم يتمتع في حساب الاحتمالات بالدقة نفسها التي يتمتع بها الميكانيك التقليدي في توقع الأحداث؛ فالفيزياء التقليدية تقول: إذا كانت الأمور الآن على حالة كذا وكذا، فإن كذا وكذا لا بد حاصل. أما الفيزياء الكوانتية فتقول: إذا كانت الأمور الآن على حالة كذا وكذا، فإن احتمال حدوث كذا وكذا هو … وهنا يُحسَب الاحتمال بدقةٍ وفق أساليب رياضية خاصة.

ينجم عن هذا الوضع الذي نواجهه على المستوى الكمومي، مسألة فلسفية على غاية من التعقيد؛ فالجسم الحقيقي يجب أن يتمتع بسرعة معينة، ويجب في الوقت نفسه أن يتواجد في موضع معين. ولكن الوضع الكمومي يخيِّرنا بين معرفة واحد فقط من هذين الوجهين على حساب فقدان الآخر. وهذا يعني أننا لا نؤثر فقط في عالم الواقع، بل إننا نعمل بشكلٍ ما على خلقه. فخيارنا لقياس السرعة يُظهر لنا السرعة، وخيارنا لمعرفة الموضع يُظهر لنا ذلك الموضع. وبتعبير آخر، فإن خيارنا لمعرفة الموضع يُظهر لنا ذلك الموضع. وبتعبير آخر، فإن خيارنا لاكتشاف خاصية ما ربما يعمل على خلق هذه الخاصية وإظهارها إلى حيِّز وعي المراقِب. وهنا يزول مفهوم الإنسان المراقِب للطبيعة، ليحلَّ محلَّه مفهومُ الإنسان المشارِك في حدوث عمليات الطبيعية. وفي هذا يقول الفيزيائي المعروف من جامعة برنستون جون ويلر ما يلي:

«إن أهمَّ ما في الفيزياء الكوانتية أنها ألغت مفهوم العالَم الذي يقع وراء عدسة المراقب المستريح خلف أدوات رصده. إن رصد جُسيم صغير مثل الإلكترون يتطلب من المراقب أن يخترق أداة رصده ليصل إليه، إن عليه أن يختار بين تحضير عدته لرصد سرعة الإلكترون أو تحضيرها بشكل مختلف لرصد موضعه؛ لأن أحد التحضيرَين يمنع ويستبعد التحضير الآخر. وفوق ذلك، فإن عملية القياس تُغير من حالة الإلكترون الأصلية، ولن يعود الحال إلى ما كان عليه قبل القياس. فإذا أردنا أن نصِف حقيقة ما حدث، وجب علينا أن نتجاوز مفهوم المراقب، ونستبدله بالمفهوم الجديد وهو المشارك؛ ذلك أن الكون هو، بطريقة غريبة ما، كونٌ تشاركي.»٣

ففي العالم الصِّغري، إذَن لا يستطيع الفيزيائي أن يلعب دور المراقب الموضوعي، كما كان حال الفيزيائي التقليدي، والموضوعية العلمية هنا لا محل لها ولا معنى؛ لأن المراقب ينخرط بشكل عضوي في العالم الذي يراقبه، إلى درجة تأثيره في الظاهرة التي يراقبها. فنحن جزء من الطبيعة، وعندما نقوم بدراسة أية ظاهرة من ظواهرها، فإن الطبيعة بشكلٍ ما هي التي تعمل على دراسة نفسها بنفسها. ولسوف نرى فيما بعدُ كيف انتهت الفيزياء الحديثة إلى موقف غير علمي (بالمعنى القديم للكلمة)، وذلك باكتشافها أن الرجوع إلى الوعي ضرورةٌ أساسية من ضرورات صياغة قوانين الميكانيك الكمومي. أما الآن فلنعُد إلى بعض الأفكار الأولية حول العالم الصِّغري.

إن الانتقال من العالم الكِبري إلى العالم الصِّغري يتم على مرحلتين؛ الأولى تنقلنا إلى المستوى الذري، والثانية إلى المستوى ما دون الذري؛ أي عالم الجسيمات الدقيقة. إن أصغر جسم في العالم الكبري يمكن رؤيته بأقوى المجاهر ليحتوي على ملايين الذرات التي لا يمكن رؤيتها مباشرةً بأية وسيلة كانت. وإذا أردنا إعطاء فكرة عن مدى ضآلة حجم هذه الذرات الموجودة، مثلًا، في كرة بحجم طابة التنس، فإننا نطلب من القارئ أن يتخيل هذه الطابة وقد تضخَّمت حتى غدت بحجم الكرة الأرضية، عندها فقط يمكن له رؤية ذراتها التي تكون بحجم حبات العنب تملأ هذه الطابة التي ضاهت الأرض عظمًا. ولكن الذرة ليست أصغر مكونات المادة؛ فلقد اكتشفت الفيزياء الحديثة، منذ أواخر القرن التاسع عشر، أن الذرة تتألف بدورها من جُسيماتٍ أصغر منها، تم حصرها مبدئيًّا في ثلاثة هي البروتون والنيترون والإلكترون، ودُعيت بالجُسيمات الأولية، اعتقادًا من العلماء بأن هذه هي المكونات الأساسية للمادة ولبناتها الأولى. فإذا أردنا إعطاء فكرة عن مدى ضآلة هذه الجسيمات، بدورها، بالنسبة إلى الذرة، فإننا نطلب من القارئ أن يتخيل الذرة وقد صارت بحجم قبة مسجد يعادل ارتفاعها مبنًى باثنَي عشر طابقًا، عند ذلك يستطيع أن يرى نواة الذرة على شكل بضع حُبيبات من المِلح هي البروتونات والنيترونات المكوِّنة للنواة، وأن يرى الإلكترونات عبارة عن نثرات من الغبار الدقيق تتحرك على مدارات حول النواة، أبعدُها يتطابق وسقف القبة العالية. هذا هو النظام الشمسي للذرة كما تصوَّره الفيزيائي البريطاني رذر فورد عام ١٩١١م، وكما طوَّره بعد ذلك الدانيمركي نيلز بوهر N. Bohr عام ١٩١٣م، اعتمادًا على تجربته المشهورة في تحليل طيف توهُّج غاز الهيدروجين.

إلا أن نظرية الكم التي ظهرت بعد ذلك بقليل، وتطورت خلال العقود الأولى من القرن العشرين، قد أظهرت لنا أن الجسيمات الأولية في العالم ما دون الذري لا يمكن مقارنتها من حيث طبيعتها بحبات الملح أو نثرات الغبار؛ لأن هذه الحبات والنثرات في العالم الكبري هي «أشياء» أو «موضوعات» ذات كِيان محدَّد، أما الجسيمات المدعوَّة بالأولية، فلا تمتلك «وجودًا» من هذا القبيل، بل إنها تنحو لأن تكون موجودة. ومقدار ميلها إلى الوجود يمكن حسابه بواسطة الاحتمالات. إنها مقدار أو كم من شيءٍ ما لا نستطيع تحديد هويته حتى الآن. وبتعبير آخر، فإن الوحدات الأساسية المكونة للمادة ليست لبنات مادية، بل هي كموم من موجود لا ندري كُنهه، وأحداث احتمالية تتحقق عندما نُجري عليها عملية القياس والرصد. وبما أن عملية الرصد تغيِّر، كما رأينا، من حقيقة المرصود وتُحدِث فيه اضطرابًا، فإننا لن نعرف قط حقيقةَ المرصود في ذاته، وبمعزل عن الراصد، هذا إن كانت له حقيقة مستقلة عن مشاركتنا إياه حال الوجود. لقد أظهرت التحليلات الدقيقة لعمليات الرصد على المستوى الصِّغري، أن الجسيمات الدقيقة (= ما دون الذرية) لا يمكن فهمها ككيانات منعزلة مستقلة عن بعضها، وإنما كنوع من العلائق المتبادلة بين أدوات الرصد وما يرافقها من تحضيرات من جهة، والنتائج التي تتحصل لدينا في نهاية عملية القياس والرصد من جهة أخرى. ونحن كلما توغَّلنا في أعماق المادة، تقابلنا الطبيعة بنوع من الوجود تغيب في مواجهته فكرة المكونات الأساسية، ليحل محلها فكرةُ النسيج الموحد الذي تشكِّله العلائق لا الوحدات المادية الصغرى. ومع ذلك، فإن فيزياء الكم بقيت تتعامل مع الجسيمات الأولية باعتبارها «أشياء» و«موضوعات»؛ وذلك لسببَين؛ الأول استمرار نوع من الفكر الفيزيائي التقليدي في الفيزياء الحديثة، والثاني عدم وجود خيار آخر في الوقت الحاضر أمام الفيزياء؛ لأن لغاتنا التقليدية ومفاهيمنا السائدة ليست في حال يسمح بابتكار مصطلحات جديدة تستوعب الرؤية الجديدة للكون.

لقد قلنا إن ميل الظواهر دون الذرية إلى الوجود تحكُمه الاحتمالات. أما مبدأ الاحتمال فمتصل بالإحصاء، والإحصاء هو وصف لسلوك الجماعات لا الأفراد. تُستخدم أساليب الإحصاء الحديثة على نطاق واسع اليوم من أجل التنبؤ بسلوك المجموعات. من ذلك مثلًا، ما تقوم به الجهات المختصة في مجتمعٍ ما من دراسة النمو السكاني لهذا المجتمع، والمعدلات المرتقبة لزيادة السكان خلال فترة معينة قادمة. إن هذه المعدلات المرتقبة تتنبأ بزيادة إجمالية مقدارُها كذا، ولكنها تعجز عن التنبؤ بالعائلات التي سوف تساهم في تقديم المواليد الجديدة وتلك التي لن تفعل. وإدارة المرور في المدن الكبيرة تقوم بدراسات إحصائية تشمل بعض التقاطعات الحرجة، لتعرف نسبة السيارات التي تنعطف نحو اليسار وتلك التي تنعطف نحو اليمين، أو التي تتبع قدمًا نحو الأمام. وهنا تُقدم قوانين الإحصاء مساعدةً بالغة في التنبؤ بالسلوك الإجمالي للسيارات، ولكنها تعجز عن تحديد السيارات التي سوف تنعطف يمينًا أو يسارًا.

لقد عرفت الفيزياء التقليدية مبادئ الإحصاء وأفادت منها، إلا أنها اعتقدت بأن الصورة الإحصائية لسلوك مجموعة فيزيائية ما، هي نتاج إجمالي لسلوك عناصر المجموعة. فالضغط الحاصل مثلًا على جدران مضخة هوائية، هو مجموع اصطدامات جزيئات الهواء المضغوط بتلك الجدران، ونحن نستطيع ولو من حيث المبدأ أن ندرس مسار كل جزيء داخل المضخة وحساب الضغط الفردي الذي يمارسه. أما في الفيزياء الكوانتية، فنحن لا نمتلك من حيث المبدأ أي وسيلة للتنبؤ بالسلوك الفردي لأي جسيم؛ ولذا فإن التركيز هنا يتم على السلوك الإجمالي، أما السلوك الفردي فسلوك احتمالي صِرف ولا نستطيع تحديده بدقة. والاحتمال هو الخصيصة الأساسية لميكانيك الكم. وهنا نستطيع أن نسوق مثالًا مبسَّطًا يوضِّح مفهوم الاحتمال الكوانتي. فكلنا يعرف أن الكربون المُشعَّ يتحلل بمرور الزمن عن طريق إطلاقه لإشعاعات معينة، وأن هذا النوع من الكربون يخسر نصف وزنه كل ١٦٠ سنة. فإذا دفنَّا في الأرض غرامًا واحدًا من الكربون المشع، فسنكون على بينة تامة من أننا لو أخرجناه بعد ١٦٠٠ سنة فسنراه وقد تحوَّل إلى نصف غرام فقط، ولكننا لا نستطيع معرفة الذرات التي ستتحلل وتلك التي ستبقى سليمة، كل ما نستطيع تقريره هو أن ٥٠٪ من هذه الذرات سوف ينطلق على شكل إشعاعات، و٥٠٪ منها سوف يبقى في شكله الحالي.

إن الطابع الإحصائي للقوانين الفيزيائية الناظمة للعالم الذري وما دون الذري، لا يعكس جهلنا الحالي بالعالم الصِّغري قدر ما يعكس طبيعة ذلك العالم، حيث الاحتمال هو الخصيصة الأساسية التي تحكم كل العمليات الجارية فيه. فالجسيمات الأولية لا توجد على وجه التأكيد في أمكنة ومواضع معينة، وإنما تُظهر ميلًا للوجود، والحوادث الذرية لا تأخذ مجراها على وجه التأكيد في أزمنة معينة وبطرائق محددة، وإنما تُظهر ميلًا للحدوث. فمن غير الممكن، مثلًا، أن نقول على وجه التأكيد أين يوجد الإلكترون على مداره حول النواة، وإنما نستطيع تكوين احتمالات عن ميله للتواجد في أمكنة مختلفة حول النواة، وذلك من خلال صيغة رياضية تُدعى تابع الاحتمال، تدُلنا على إمكانيات تواجد الإلكترون في أمكنة متنوعة وأزمنة متنوعة. لنفرض الآن أننا حرَّرنا هذا الإلكترون من مداره حول النواة بواسطة تجهيزات معدة لهذا الغرض، وذلك بقصد دراسة خصائصه وسلوكه. إن إتمام عملية الرصد والاختبار هذه لن يتم إلا إذا ارتحل الإلكترون حرًّا وعبر مسافة معينة، من منطقة التجهيز التي حرَّرناه فيها إلى منطقة أخرى معدة للقياس، حيث نتلقاه على لوح حسَّاس كما هو موضَّح في الشكل أدناه.

إن كل الأحوال التي يمرُّ بها الإلكترون من مكان إطلاقه إلى اصطدامه باللوح الحساس، هي أحوال احتمالية صِرفة؛ فنحن لا نستطيع التأكد من مكان وجوده على مسار ارتحاله في زمن معين، بل لدينا عدد من الاحتمالات عن تواجده في أماكن معينة وأزمنة معينة، تقدمها لنا الصيغة المعروفة بتابع الاحتمال. وكذلك الأمر عن موضع سقوطه على اللوح الحساس؛ إذ إن تابع الاحتمال يقول لنا إن هنالك ٦٠٪ لإمكانية سقوطه في المنطقة x و٤٠٪ لسقوطه في المنطقة y، والأمر كله خاضع للصدفة. فإذا سقط الإلكترون على اللوح الحساس، فإنه يترك آثارًا مرئية عليه يمكن تحليلها رياضيًّا بمساعدة الكمبيوتر لاستخلاص النتائج. وبتعبير آخر، فإن خصائص الإلكترون لا يمكن تحديدها في معزل عن هذه العملية، التي تنقسم إلى إجراءات في منطقة التجهيز وإجراءات في منطقة الاختبار، والجسيم لا يوجد ولا يكون له معنًى إلا في هذا السياق الرصدي، إنه ليس كيانًا مستقلًّا، وإنما رابطة تصل بين شقَّي جملة الرصد. ويجري التأكد من ذلك، إذا أدخل القائمون على التجربة تعديلات على عملية التجهيز أو على عملية القياس؛ لأن خصائص الإلكترون المرصود سوف تتبدل تبعًا لذلك. وهذا كله يعني أن الجسيمات ما هي إلا تجريدات ذهنية تفيدنا في التعامل العملي مع العالم الكمومي ولا تتمتع بوجود حقيقي.

سوف تتضح أمامنا هذه الأفكار على غرابتها تدريجيًّا، وسيكون لنا وقفات مطولة معها لاحقًا. أما الآن فعودة ثانية إلى بعض المفاهيم الأولية.

يعتقد معظم الناس بأن الفيزياء إنما تدور حول أشياء لا تتمتع بصفة الحياة، وذلك بعكس الكائنات العضوية الحية. غير أن هذا التمييز بين الحي والجامد قد صار اليوم أكثر مرونة، خصوصًا في أعماق عالم الجسيمات، حيث تبدو هذه الجسيمات في التجارب وكأنها تعالج المعلومات وتتصرف وفق قراراتها الخاصة، التي تستند بدورها إلى قرارات تتخذها جسيمات أخرى بعيدة عنها. وأكثر من ذلك؛ فقد بيَّنت بعض التجارب أن تبادل المعلومات بين الجسيمات يجري بشكل آني ودون أن يستغرق زمنًا ما مهما كان ضئيلًا؛ أي إنها تخرق المطلق الوحيد في عالم الفيزياء، الذي هو سرعة الضوء. وهذا يعني أن الجسيمات تشكِّل ما يُشبه العضوية الواحدة، وأن الكون برُمَّته ليس إلا كيانًا عضويًّا متصلًا.

والقصة تبدأ عام ١٩٠٠م باكتشاف للفيزيائي الألماني ماكس بلانك، يُعتبر البداية الفعلية لميكانيك الكم. لقد اكتشف بلانك أن البنية الأساسية للطبيعة هي بنية متقطعة، وكان ذلك في سياق دراسته لإشعاع الأجسام السوداء عند تسخينها. كان الفيزيائيون قبل بلانك يعرفون أن الإشعاع الناجم عن توهج الأجسام المسخنة يحدُث نتيجةً لاستثارة ذرات الجسم بالحرارة؛ ذلك أن إلكترونات الذرات المستثارة تأخذ بالذبذبة والاهتزاز بتأثير الحرارة التي امتصتها، ثم إنها تشعها بشكل متصل وتدريجي حتى تهدأ وتفقد كل الطاقة المكتسبة. ولكن بلانك قد اكتشف أن الأجسام المسخنة لا تكتسب الطاقة بشكل متصل ثم تشعها بالطريقة نفسها، مثل نابض تم ضغطه ثم تُرك لكي يتمدد ثانيةً، وإنما تكتسب هذه الطاقة ثم تشعها على دفقات منتظمة متقطعة أشبه بالرِّزَم المتساوية أو الوحدات المتماثلة، وكلما شعت مقدارًا من هذه الرِّزَم هبطت إلى مستوًى طاقي أدنى، حتى تهدأ تمامًا وتتوقف عن الاهتزاز. وقد اعتمد بلانك مصطلح Quanta، أي الكم، للإشارة إلى رِزَم الطاقة هذه، مُدخِلًا بذلك المفهومَ الكمومي إلى عالم الفيزياء، رغم أنه سوف يمرُّ سبع وعشرون سنة قبل أن تتخذ النظرية الكمومية شكلها وتُدعى بهذا الاسم.
لقد اكتشف بلانك أن الطاقة يتم استيعابها وإشعاعها على دفقات أو كموم، ولكن أينشتاين هو الذي أثبت بعد ذلك بخمس سنوات أن الطاقة نفسها تحدُث على دفقات، وأننا لا نواجهها إلا في سلوكها الكمومي هذا. وقد استخدم أينشتاين تجربة بسيطة لإثبات نظريته، قوامها حُزمة من الضوء يجري تسليطها على لوح مَعدِني أملس. عندما يصطدم الضوء بالسطح المعدني، فإنه يتسبب في اقتلاع عدد من الإلكترونات التي تترك ذراتها وتتحرك طائرةً في الهواء. ولا يمكن لهذه الظاهرة أن تحدُث إذا كان الضوء عبارة عن موجة تتحرك في الأثير، كما كان الاعتقاد سائدًا، بل لا بد أن يكون الضوء تيارًا من حُبيبات تندفع بطاقة معينة من شأنها اقتلاع الإلكترونات، كما يفعل حجر طائر في الهواء اصطدم بحائط وأدَّى إلى تفتيت بعض نثرات الملاط عند موضع الاصطدام وإطلاقها في الهواء. وقد دُعيت هذه الظاهرة بالأثر الكهرضوئي Photoelectric Effect، ودُعيت حُبيبات الضوء بالفوتونات.

ثم قادت هذه التجربة أيضًا إلى ملاحظة أن تخفيف شدة الضوء المسلَّط على السطح، لا يؤدي إلى تخفيف سرعة الإلكترونات المتطايرة نتيجة الصدم، بل إلى الإقلال من عددها فقط، وهذا يعني أن طاقة رِزَم الضوء الوارد إلى السطح لم تهبط بتخفيف شدته، وإنما قلَّ عدد هذه الرِّزم مع احتفاظها بقوة الصدم ذاتها، أما تخفيف طاقة رزم الضوء الوارد إلى السطح، وهو الذي يدلنا عليه هبوط سرعة الإلكترونات المقتلعة، فيحدث نتيجةً لتغيير لون يمتلك مقدارًا من الطاقة يزيد أو يقل عن فوتونات اللون الآخر، بينما تتماثل كمية الطاقة في فوتونات اللون الواحد؛ وبذلك أكَّد أينشتاين ما كان بلانك قد اكتشفه سابقًا من تناسب الطاقة طردًا مع شدة توتر الضوء. فالضوء البنفسجي ذو التردد (= التوتر، الذبذبة) الأعلى في الطيف الشمسي، يتألف من فوتونات ذات طاقة أعلى من الضوء الأحمر ذي التردد الأدنى في الطيف. وهذه العلاقة البسيطة بين التردد والطاقة هي شأن مركزي في ميكانيك الكم.

ولكن المشكلة هنا أننا عندما نتحدث عن التردد، فإننا ننظر إلى الضوء باعتباره موجة لا جسيمات تتلاحق في تيار دافق. والفرق بين الموجة الطاقية وتيار الفوتونات يُشبه الفرق بين موجة ماء على سطح البحر وسِرب من الأسماك يسير تحتها في اتجاه واحد؛ فالموجة في أي وسيط مادي مثل الماء تبدو على الشكل الآتي:

فالتردد هو عدد الموجات التي تعبُر نقطة معيَّنة مثل س في ثانية واحدة؛ فإذا عبرت النقطةَ س عشرُ موجات في الثانية، قلنا إن تردُّد الموجة هو ١٠ دورات في الثانية، وإذا عبرتها مائة موجة قلنا إن تردُّدها هو مائة دورة في الثانية، وهكذا … وكما نلاحظ من الشكل أعلاه، فإن للموجة طولًا هو المسافة الفاصلة بين ذروتين متتاليتين، ولها ارتفاع هو علو الذروة عن محور الحركة. ومن التردد نستنتج السرعة؛ فسرعة الموجة هي عدد تردداتها مضروبًا بطول الموجة. ولكننا بخصوص موجة الضوء لا نحتاج إلى إجراء مثل هذا الحساب؛ لأن لموجة الضوء سرعة ثابتة في الفضاء، وهي ٣٠٠٠٠٠كم في الثانية أو ١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية، كما أثبتت التجربة. فكيف يمكن للضوء أن يتبدَّى أحيانًا كموجة وأحيانًا أخرى كجسيمات يُلاحق بعضها بعضًا؟ إن الجسيم هو شيءٌ ما يشغل حيزًا معينًا، أما الموجة فإنها انتشار في وسطٍ ما لأثر طاقي معين. فنحن إذا رمينا حجرًا في ماء ساكن، فإننا نلاحظ عددًا من الأمواج يصدُر عن مركز الصدم، يتوسع بشكل دائري حتى يتلاشى تمامًا. إن ما يحدث هنا هو أن الطاقة الحركية التي يحملها الحجر أثناء قذفه، قد انتشرت في الماء على هيئة أمواج ولَّد بعضها بعضًا، دون أن يكون لدينا هنا أي جسم مادي يتحرك على محور الموجة، حتى الماء. فالماء الذي ينقل الموجة لا يتحرك معها دائمًا، بل يصعد ويهبط في مكانه دون أن يتقدم معها. من هنا فإن ما قد يعتقده البعض لأول وهلة، من إمكانية التوحيد بين ظاهرة الموجة وظاهرة الجسيم، بتخيل جسيم يسير على موجة، لا يتمتع بأساس علمي؛ فالجسيمات في الطبيعة لا تسير إلا في اتجاه مستقيم، وجزيئات الماء الذي تعبره الموجة لا تتحرك معها، بل تدور في مكانها لدى عبور الموجة، كما هو مبيَّن أدناه.

إن ما يعرفه الجميع عن الضوء هو أنه ذو طبيعة موجية، وأنه يتشكل من موجات طاقة لا من رِزم متقطعة تسير في الفضاء. وهذا أمرٌ تدعمه التجربة، ولا يستطيع أحدٌ أن يبرهن على عكسه، منذ أن قام توماس يونغ بتجربته المشهورة قبل أينشتاين بمائة عام، وأثبت من خلالها موجية الضوء. استفاد يونغ من مراقبته لسلوك الموجات المائية، ومن ظاهرة الحيود التي يمكن ملاحظتها في هذه الموجات، وهي الظاهرة التي سنتوقف عندها قليلًا قبل أن نشرح تجربة يونغ نفسها.

تصور أنك تحلِّق في حوامة فوق حاجز لصدِّ الأمواج أمام أحد الشواطئ، في هذا الحاجز فتحةٌ تسمح بمرور سفينتَين كلٌّ في اتجاه، والموج يصطدم بالحاجز ثم يرتدُّ عنه. عندما نُنعم النظر فيما يجري عند الفتحة، فإننا نلاحظ أن الموجات التي تصل إليها تجتازها إلى الطرف الثاني حتى تتلاشى في المياه الهادئة الواقعة خلف الحاجز، كما هو موضَّح في الشكل أدناه.

والآن إذا قمنا بإحداث فتحة أخرى في الحاجز أضيق من الأولى، لا تسمح بمرور أكثر من قارب عادي واحد، وعُدنا إلى مراقبة سلوك الأمواج عند هذه الفتحة، فإننا سنلاحظ سلوكًا مختلفًا للأمواج الواصلة إليها؛ فبدلًا من اجتياز الموجة للفتحة نحو الطرف الآخر، فإن اصطدامها بالحاجز عند الفتحة يؤدي إلى تشكيل موجات جديدة أصغر، تتوسع في حلقات حول الفتحة التي تتخذ مكان البؤرة، فيما يشبه الأثر الذي يُحدِثه سقوط حجر في ماءٍ ساكن، كما هو موضح في الشكل أدناه. وهذا ما يُدعى بالحيود Diffraction. وتفسير ظاهرة الحيود هذه يكمن في مقارنة عرض الفرجة الجدارية بطول الموجة المتجهة نحوها؛ ففي الحالة الأولى كان عرض الفتحة أوسع من المسافة الفاصلة بين ذروتَي موجتَي جبهتين؛ الأمر الذي يسمح بمرور الأمواج إلى الجهة الأخرى؛ أما في الحالة الثانية فإن عرض الفتحة كان مُساويًا لطول الموجة أو أضيق من ذلك؛ الأمر الذي يؤدي إلى ظاهرة الحيود.

فإذا كان الضوء موجة، فإننا قادرون ولا ريب على ملاحظة حيود أمواجه عند مرورها عبر ثَقْب ضيق. وللتأكد من ذلك نستطيع أن نُجري التجربة الآتية: نضع أمام منبع ضوئي حاجزًا أحدثنا وسطه فتحةً مربَّعة أبعادها بضعة سنتيمترات، فنجد أن الضوء يمرُّ من خلال الفتحة ويرسم على الحائط المقابل شكلًا مربَّعًا مماثلًا لمربَّع الفتحة، ذا حواف واضحة يتمايز عندها النور والظلمة، كما هو موضَّح في الشكل أدناه.

إن الأمواج الضوئية هنا قد عبرت الفتحة دونما عائق، وعكست شكل الفتحة المربَّع على الحائط، دونما حيود. ولكننا إذا استبدلنا الحاجز ذا الفتحة المربعة الواسعة بآخر ذي فتحة ضيقة لا تزيد فرجتها عن شق الموسى، وبذلك لا تسمح بمرور الموجة الضوئية، حصل لدينا الحيود، وتشكَّلت على الجدار بقعة ضوئية غير منتظمة تمامًا يتداخل عند حوافها النور والظل. وكما نلاحظ من الشكل أدناه، فإن هذه البقعة غير المنتظمة تعكس على الحائط شكل الشق الذي مرَّت عبره، كما كان حال البقعة المنتظمة الحواف التي عكست شكل الفتحة المربعة؛ لأن الضوء هنا قد حاد عند الشق، مكوِّنًا مويجات متتابعة جديدة ناشئة عن اصطدام الموجة بالشق دون أن تستطيع عبوره بسبب ضيقه بالنسبة لعرضها. استنادًا إلى ظاهرة الحيود هذه، قام توماس يونغ بتجربته المعروفة في إثبات الطبيعة الموجية للضوء.

استخدم يونغ الشمس كمنبع ضوئي، فجعل ضوءها يمرُّ في فتحة إلى حاجز صنع فيه ثقبين صغيرين جدًّا، متوضعين على خطٍّ عمودي، يمكن تغطية كلٍّ منهما بصفيحة معدنية. وراء الحاجز هنالك جدار يتلقى الضوء القادم من أحد الثقبين أو من كليهما، كما هو مبيَّن في الشكل أدناه. سمح يونغ لنور الشمس أن يمرَّ من أحد الثقبين وكان الآخر مغلقًا، فوجد على الجدار بقعة ضوئية غير منتظمة تمامًا يتداخل عند حوافها النور والظل؛ لأن الضوء قد حاد عند الثقب، ثم سمح للضوء أن يمرَّ عبر الثقبين معًا فوجد على الجدار، بدلًا من بقعتَي ضوء تمثلان حيود الضوء عند الثقبين، عددًا من المناطق المضيئة والمناطق المظلمة المتناوبة.

figure

إن التفسير الوحيد لتكون هذه المناطق المتعاقبة من النور والظلمة على الجدار، يكمن في ظاهرة معروفة تمامًا في ميكانيك الموجة، وهي التداخل. ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة إذا رمينا في حوض ماء ساكن حجرَين في وقتٍ واحد، وفي نقطتين متقاربتين عند ذلك تتشكل مجموعتان من الموجات تتوسعان باتجاه بعضهما إلى أن تتداخلا. نلاحظ في نقاط تقاطع الموجات تشكُّل ذُرًى عالية ووديان منخفضة. فالذروة العالية يشكلها التقاء قمتَي موجتين، تتضافران لتُشكلا ذروةً عالية واحدة، أما الوادي الذي يناظرها فيشكله التقاء قمة موجة بقاع موجة أخرى، فتتفانى الموجتان، ويظهر الماء ساكنًا عند التقائهما. وهذا بالضبط ما يحدُث في تجربة توماس يونغ؛ فحيود الضوء عند الثقبين يؤدي إلى تشكيل مجموعتين من الأمواج، التي تقترب من بعضها ثم تتداخل، فيؤدي تداخلها إلى تكوين مناطق مضيئة تفصل بينها مناطق معتمة. فالمناطق المضيئة تشكِّلها ذُرى موجات الضوء المتضافرة، التي يؤدي تطابقها إلى إضاءة نقطة السقوط بشدة على الحائط. أما المناطق المعتمة فيشكِّلها تفاني الموجات، عندما تكون إحدى الموجتين في قمتها والأخرى في حضيضها؛ أي إن الضوء لا بد أن يكون موجة؛ لأن الموجات وحدها هي التي تُحدِث نمط التداخل. وبذلك نكون قد حصلنا على «حقيقتين» حول طبيعة الضوء؛ فتجربة يونغ قد أثبتت بما لا يدع مكانًا للشك أن الضوء هو طاقة متصلة يرتحل أثرها في موجات، أما تجربة أينشتاين، التي جرت بعد ذلك بمائة عام، فقد أثبتت بما لا يدع مكانًا للشك أيضًا بأن للضوء بنية حُبيبية، تؤلفها الفوتونات التي تنتمي بشكلٍ ما إلى زمرة الأجسام المادية، رغم عدم تمتُّعها بكتلة؛ أي إن الضوء هو موجة وجسيم في آنٍ معًا، وهما حقيقتان تنفي إحداهما الأخرى؛ لأن الأثر الطاقي شيء والجسيم شيء آخر. وهذه أول أعجوبة هزَّت أركان المنطق القديم والفيزياء التقليدية. ولكن الظاهرة الكمومية تُخفي في جَعْبتها الكثير من الأعاجيب؛ فبعد اكتشاف أينشتاين للبنية الحُبيبية للطاقة بعقدَين من الزمان، أثبتت تجربة حاسمة أخرى أن المادة أيضًا ذات طبيعة مزدوجة في بنيتها الأولية الدنيا، فالجسيمات الأولية المشكلة للمادة رغم تركيبها الحُبيبي فإنها تتصرف كالأمواج أيضًا.

في عام ١٩٢٤م، ألقى فيزيائي فرنسي شابٌّ قنبلةً جديدة مزَّقت كل أمل باقٍ بلقاء الفيزياء التقليدية بالفيزياء الجديدة؛ فلقد اقترح لوي دوبروي L. Debroglie بأن للمادة أيضًا أمواجًا مُرافِقة لها، ودعم مقولته هذه بحلول رياضية تعتمد معادلات بلانك وأينشتاين. وقد حدَّدت حلوله الرياضية طول الموجات المرافقة للمادة، مثبتًا أنه كلما ازداد عزم الجسيم (= Momentum)٤ كلما قصرت الموجة المرافقة له. وبعد ذلك ببضعة أعوام قام ديفسون C. Davisson بتجربة أثبتت نتائج دوبروي الرياضية، ونال الاثنان جائزة نوبل للفيزياء، تاركين بقية الفيزيائيين أمام المعضلة الجديدة؛ أن المادة أيضًا موجة.

أعاد ديفسون تجربة الشقَّين بوضع شاشة تلفزيونية على الحائط في منطقة السقوط، وباستبدال المنبع الضوئي بقاذف إلكترونات. والإلكترونات كما نعرف هي جسيمات مادية ذات كتلة يمكن قياسها، وتدخل بشكل أساسي في تكوين ذرات المادة. أرسل ديفسون نحو الحاجز حزمة من الإلكترونات بعد إغلاق أحد الشقَّين، فعبرت الإلكترونات الشق المفتوح وسقطت على الشاشة، حيث شكَّلت عليها نمطَ توزُّع شبيهًا بنمط توزُّع فوتونات الضوء؛ فمعظم الإلكترونات قد سقط حول المركز المقابل للشق، ثم قل انتشارها نحو الأطراف وصولًا إلى الحواف غير المنتظمة للبقعة، التي كان النور والظل يتداخلان عندها في التجربة السابقة؛ أي إن الإلكترونات قد شكلت على الشاشة ما يشبه بقعة النور غير المنتظمة، وإننا أمام ظاهرة حيود موجي، رغم أننا لا نقذف ضوءًا بل حزمة جسيمات مادية. وللتأكد من ظاهرة الحيود هذه قام ديفسون بإطلاق حزمة ثانية من الإلكترونات نحو الحاجز، ولكن مع فتح الشقين هذه المرة. وبدلًا من تشكل بقعتين غير منتظمتين على الشاشة، كلٌّ منهما تقابل أحد الشقين المفتوحين، فقد تشكَّلت مناطق ظليلة تزدحم فيها مواضع سقوط الإلكترونات وأخرى خالية؛ الأمر الذي يشير إلى التداخل الموجي بين حزمتَي الإلكترونات الصادرة عن الشقين. إن الإلكترونات التي عبرت الشق الواحد المفتوح لن تسقط في نفس البقعة، التي سقطت فيها بعد فتح الشق الثاني، بل إنها تختار مناطق معينة لسقوطها دون الأخرى، مكونةً شرائط مزدحمة وأخرى خالية.

ننتقل الآن إلى الجزء الأكثر إثارة في التجربة؛ فبدلًا من حزمة الإلكترونات، قام المجرِّب بإطلاق الإلكترونات فُرادى، ومن أجل كل إلكترون يعبر الحاجز نضع على الحائط بدلًا من الشاشة لوحًا فوتوغرافيًّا حساسًا، يسجل لنا موضع سقوط الإلكترون المقذوف. تم إغلاق أحد الشقَّين وترك الآخر مفتوحًا، ثم أُطلقت الإلكترونات واحدًا إثر آخر، مع تغيير اللوح الحساس عقب سقوط كل إلكترون. بعد سقوط عدد كبير من الإلكترونات، قام المجرِّب بوضع الألواح الشفَّافة التي تجمَّعت لديه بعضها فوق بعض في وضعية المطابقة، وكل لوح منها يحمل أثر سقوط إلكترون واحد، فنتجت لديه بقعة غير منتظمة مشابهة لبقعة النقاط عبر المنتظمة، التي ظهرت على الشاشة التلفزيونية لدى إطلاقنا لحزمة الإلكترونات على شق واحد مفتوح، أعاد المجرِّب الكرة بعد فتح الشقين معًا، وأخذ يطلق الإلكترونات فرادى أيضًا مع تغيير اللوح الحساس في كل مرة، وبعد سقوط عدد كبير من الإلكترونات، رتَّب الألواح الحساسة الشفافة بالطريقة نفسها، فتكونت لديه مناطق مزدحمة وأخرى خالية مشابهة لتلك التي ظهرت على الشاشة التلفزيونية، لدى إطلاق حزمة الإلكترونات على الشقين المفتوحين، وهذا يدل على أن مجموعة الأحداث الإفرادية المتمثلة بعبور إلكترون واحد لأحد الشقَّين المفتوحين، تُظهر تداخلًا موجبًا أيضًا، وأن الإلكترون المفرد يسلك كموجة لا كجسيم إذا كان الشق الآخر مفتوحًا. فكيف يعرف الإلكترون وهو يتوجه نحو شق واحد ليمرَّ منه أن الشق الآخر مفتوح فيسلك كموجة لا كجسيم؟ وكيف له أن يعرف ما الذي ينوي إلكترونٌ آخر أن يفعله، فيُحجِم عن السقوط في الشرائح الخالية مفضِّلًا السقوط في الشرائح الأخرى المعدة لسقوط الإلكترونات الأخرى؟

يقول الفيزيائي هنري ستاب: «إن اللغز المركزي في النظرية الكوانتية، هو انتقال المعلومات بهذه السرعة والكيفية، فأنَّى للجسيم أن يعرف بوجود شقَّين؟ وكيف يمكن تحصيل المعلومات عما حدث هناك لتقريرِ ما يمكن أن يحدُث هنا؟»٥ ويجيب بعض الفيزيائيين على هذه التساؤلات بأن يعزوا للجسيمات وعيًا من نوعٍ ما. يقول ووكر: «ربما كان علينا أن نعزو وعيًا من نوع خاص إلى كل عمليات الميكانيك الكوانتي … وبما أن كل ما يجري من حولنا هو في النهاية نتيجة لحادثة كوانتية أو أخرى، فإن الكون يبدو مسكونًا بعدد لا نهائي من وحدات وعي صغيرة، وغير مفكرة، مسئولة عن السير التفصيلي لعمليات الكون.»٦

لقد كان اكتشاف الطبيعة المزدوجة للطاقة وللمادة، بمثابة الضربة القاصمة لقانون السببية في الفيزياء التقليدية. فوفق القوانين النيوتونية، كنا نستطيع التنبؤ بنتائج معينة وبشكل حتمي، إذا عرفنا الشروط الابتدائية لأية حادثة. أما الآن فإن معلوماتنا عن الشروط الابتدائية لا تفيد بتاتًا في التنبؤ بنتيجة الحادثة، وتجربة الشقَّين الآنفة الذكر أكبر دليل على ذلك. فهنا، ورغم التماثل التام للشروط الابتدائية، فإن الإلكترون يهبط في مكانين مختلفين، وهو يسلك كجسيم مادي وكموجة أيضًا، وذلك تبعًا لطريقة ترتيب معدات التجربة. وهكذا يبدو أنه يتوجب علينا منذ الآن أن نقبل نظرات متعارضة في رؤية المادة والتعامل معها.

لقد أظهر أينشتاين أن الطاقة ذات طبيعة جسيمية، وأنها تأتي على دفقات، ولكنه لم يدحض النظرية الموجية، ناهيك عن أنه لم يكن راغبًا في ذلك. ولتفسير هذا التعارض في طبيعة الطاقة، اقترح أينشتاين وجود «موجات شبحية» ترافق الفوتونات وتقود خُطاها، وهذه الموجات هي كياناتٌ رياضية لا تملك وجودًا فعليًّا؛ فالفوتونات يبدو أنها تتبع مسارات لها كل الخصائص الرياضية للموجة، ولكن هذه الموجة لا وجود لها. ورغم أن قلة من الفيزيائيين ما زالت ترى في هذا التفسير حلًّا مُرضيًا، إلا أن الغالبية العظمى وجدت أنه لا يفسر شيئًا رغم منطقيته. وفي عام ١٩٢٤م، تم إنجاز أول خطوة عملية مهمة نحو فهم الظاهرة الكمومية؛ فلقد اقترح ثلاثة من الفيزيائيين وعلى رأسهم نيلز بوهر N. Bohr، أن الموجات المرافقة للجسيمات هي موجات احتمال. والاحتمال هنا يشير إلى أمر في طور الحدوث ولكنه لم يحدث بعد، إنه ميل الشيء إلى التحقق، وهذا الميل إلى التحقق يمتلك نوعًا من الوجود، رغم عدم بلوغه مرحلة الحادثة المكتملة. وبِناءً عليه، فإن موجات الاحتمال هي كيانات رياضية يستطيع الفيزيائيون الاعتماد عليها من أجل التنبؤ باحتمالات وقوع أو عدم وقوع حادثة ما. إلا أن الفرق بين موجات أينشتاين الشبحية وموجات الاحتمال هذه، هو أن موجات الاحتمال تُطلعنا على حوادث ذات وجود خاص لم نعهده من قبل. يقول فيرنر هايزنبرغ:
«إنها تعني ميلًا نحو شيءٍ ما؛ فهي بشكلٍ ما تعبيرٌ كمِّي عن مفهوم الكمون في الفلسفة الأرسطية. وإن فيها أمرًا يقف في موقع الوسط بين فكرة الحادثة والحادثة نفسها؛ فهي نوع غريب من الحقيقة الفيزيائية، يتوسط بين الإمكان والتحقق الفعلي.»٧

إن ما يحدُث فعلًا في تجربة الشقَّين عندما نقذف الإلكترونات فرادى، هو أن احتمال سقوط الإلكترون المفرد، يتحسس كلا الشقين محدِثًا موجتين تجتازان إلى الجهة الأخرى وتتداخلان مع بعضهما، وبما أن ذُرى إحدى الموجتين ووديان الأخرى تتضافر أو تتفانى، محدِثةً حزمًا ممتلئة وأخرى فارغة (أو مضيئة ومظلمة في حال قذف الفوتونات)، فإن هناك احتمالًا أكبر لتوجُّه الجسيم نحو مواضع الحزم الأكثر وميضًا والابتعاد عن الحزم المظلمة. وبسبب اللاتعيين المتأصِّل في موضع الإلكترون وحركته، وهو اللاتعيين الذي يؤدي إلى الطبيعة الموجية، فإنه ليس من الممكن التنبؤ بالمسار الذي سوف يسلكه الجسيم فعلًا، إلا أنه يمكن التنبؤ بسلوك مجموعة كبيرة من الإلكترونات على أساس إحصائي، وذلك من خلال التحليل الرياضي للموجة. ولقد أظهرت التجارب بعد ذلك أن الطبيعة الموجية والجسيمية للفوتون والإلكترون، تتعداهما إلى بقية مكونات الذرة والعالم الصغري إجمالًا، بل وللذرة نفسها وللجزيئات. وأكثر من ذلك؛ فإن تمتع العالم الصغري بموجات احتمال، يقود إلى القول بوجود موجات الاحتمال في العالم الكبري أيضًا؛ فلكل شيء في عالمنا موجة احتمال خاصة به؛ الكرة المقذوفة، والسيارات المنطلقة، وحتى الناس أنفسهم. غير أن ما يمنع من ملاحظة أثر الأمواج الاحتمالية في العالم الكبري هو قصرها المتناهي في الصغر.

في تجارب ميكانيك الكم، هنالك دومًا منطقة للتجهيز ومنطقة للقياس؛ ففي تجربة الشقَّين مثلًا، تتألف منطقة التجهيز من القاذف الإلكتروني ومن الحاجز ذي الشقَّين، وقد وُضعا وفق ترتيب معين مدروس. أما منطقة القياس (أو الرصد)، فتتألف من اللوح الفوتوغرافي الحساس الموضوع على بُعد معين من منطقة التجهيز. نقوم بإعداد الجسيم في منطقة التجهيز، ثم يترك ليرتحل إلى منطقة القياس، بشكل معزول عن المؤثرات الخارجية (وفي الحقيقة، فإن عمليات التحضير والقياس تكون في معظم الحالات أكثر تعقيدًا من تجربة الشقَّين، خصوصًا في تجارب تصادم الجسيمات التي تجري في المسارعات النووية). من حيث المبدأ، فإننا نتصور الجملة المقاسة وهي ترتحل بين المنطقتين دون تدخُّل أو توجيه، وفق قانون سببي خاص وضع أسُسَه الفيزيائيُّ النمساوي أروين شرودينغر عام ١٩٢٤م في معادلته المعروفة بمعادلة شرودينغر الموجية؛ ذلك أن ما يجري بين منطقة التجهيز ومنطقة القياس أثناء الارتحال المفترض للجسيم هو انتشار لممكنات، يجري تمثيله رياضيًّا بما يدعوه الفيزيائيون بالدالة الموجية (= التابع الموجي wave function)؛ لأنها تبدو رياضيًّا كموجة تنتشر في حلقات. وهذه الدالة هي ابتكار ذهني رياضي يمثل كل الممكنات التي يمكن أن تحدث للجملة المقاسة (الإلكترون مثلًا) عندما تتفاعل مع جملة المراقبة التي تتضمن معدات القياس والرصد، إضافة إلى القائمين على التجربة أنفسهم. ويجري تشكيل الدالة الموجية رياضيًّا بواسطة معادلة شرودينغر من أجل كل لحظة بين زمن مفارقة الجسيم لمنطقة التجهيز وظهور أثره في جملة المراقبة. وبعد الانتهاء من حساب دالة الموجة، نقوم بإجراء عملية رياضية على الدالة من أجل الحصول على دالة أخرى ندعوها بدالة الاحتمال، وهذه تخبرنا عن الاحتمالات القائمة في كل زمن لكل ممكن ممثل في دالة الموجة، فهي تقول بأن هناك فرصًا مقدارها كذا وكذا لتحقيق هذا الممكن أو ذاك.

إن الدالة الموجية للإلكترون المرتحِل في مثالنا، تحتوي على النتائج الممكِنة كلها لتفاعله مع أجهزة الرصد، وذلك كأن يهبط الإلكترون في المنطقة أ أو ب أو ج أو د من اللوح الحساس، فما إن يتخذ الإلكترون مساره حتى تدخل الدالة الموجية في أطوارها المتغيرة وفق معادلة شرودينغر، إلى أن يتفاعل الجسيم مع جملة المراقبة. في هذه اللحظة يتحقق واحد من الممكنات المتضمنة في الدالة الموجية، وتتحول بقية الممكنات إلى صفر؛ أي إن الدالة الموجية تفقد كيانها وتتلاشى. كل هذا يعني أننا لا نعرف شيئًا بالفعل عن حالة الجسيم بين منطقة التجهيز ومنطقة القياس، كما أننا لا نعرف عن مكان هبوطه على اللوح الحساس، كل ما نستطيع القيام به هو حساب احتمالات متتابعة عن مكان الهبوط، أما فيما بين المنطقتين فلا يوجد لدينا جسيم مؤكد في حالة الحركة. ومن الناحية الرياضية، لا يوجد جسيم على الإطلاق. وعليه فإننا لا نستطيع وصف حالة الجسيم بمفاهيم محددة ذات طبيعة متعارضة؛ لأنه لا يوجد في مكان محدد، وفي الوقت نفسه غير غائب تمامًا، وهو لا يغير موضعه، وفي الوقت نفسه لا يبقى في مكان ثابت. إن ما يتغير هنا هو النمط الاحتمالي. وبكلمات الفيزيائي روبرت أوبنهايمر:

«لو تساءلنا مثلًا: هل يبقى موضع الإلكترون على حاله؟ كان الجواب بالنفي. ولو تساءلنا: هل يتغير موضع الإلكترون بمرور الزمن؟ كان الجواب بالنفي. ولو تساءلنا: هل هو في حالة حركة؟ كان الجواب بالنفي.»٨
ويقول الفيزيائي نيلز بوهر: «إن الجسيمات المادية المستقلة، ليست إلا تجريدات من صنعنا، أما خصائصها فلا يمكن تحديدها وملاحظتها إلا من خلال تفاعلها مع جُمل أخرى.»٩

وهكذا تكشف نظرية الكم عن علائقية متأصلة في طبيعة الكون؛ فهي تُظهر عدم مقدرتنا على تقسيم المادة إلى وحدات مكونة أولية منفصلة بعضها عن بعض. صحيح أننا كلما أوغلنا في عالم المادة وجدنا أنها مؤلفة من جسيمات، إلا أن هذه الجسيمات ليست تلك اللبنات الأساسية التي تصورها ديموقرطيس ونيوتن، بل هي تجريدات ذات فائدة عملية من أجل التعامل مع المادة. ففي المستوى ما دون الذري، في عالم الجسيمات الأولية، تتحول الأجسام المادية إلى أنماط موجية احتمالية، وهذه الأنماط الاحتمالية لا تمثل احتمالات لأشياء بل احتمالات لعلائق متبادلة. إن التحليل المتأنِّي لعملية الملاحظة والرصد هنا، تظهر أن الجسيمات ما دون الذرية لا يمكن فهمها ككيانات مستقلة، وإنما كعلائق بين ما يجري في مرحلة التحضير للرصد ومرحلة القياس اللاحقة. وبذلك تُطلعنا نظرية الكم على الوحدة الضمنية للكون، بإظهارها عدم إمكانية تجزئة العالم إلى مكونات متناهية في الصغر تتمتع بوجود مستقل عن الكل، وأن هذا الكل ليس إلا نسيجًا متصلًا من العلائق التي تُكونه، أما الوعي الإنساني الذي يراقب الطبيعة ويحاول فهمها بشكل تجزيئي، فليس إلا جزءًا من هذه العلائقية الشمولية؛ إنه النقطة التي تنتهي عندها أية حادثة وتتخذ معناها.

ينقلنا موضوع الرصد الذي كنا نُجريه لغاية الكشف عن الجسيم، إلى مسألة جديدة من مسائل الفيزياء الكوانتية، وهي دور المراقب في تحقيق الحادثة التي كانت مطوية في موجات الاحتمال؛ ذلك أن الدالة الموجية تتلاشى في منطقة القياس عندما يتداخل المراقب من أجل تحقيق أحد الاحتمالات. فإلى أي حد يساهم الوعي في صنع الحادثة الفيزيائية؟ تُطلعنا الفيزيائية الحديثة على أمر في غاية الغرابة، وهو أننا لا نستطيع رصد شيء في العالم الصغري دون أن نعمل بذلك على إحداث تغيير فيه؛ فالمراقب وموضوع مراقبته يتداخلان، وهما في حالة اعتماد متبادل لا تنفصم عراه. وبتعبير آخر، فإن ما نحصل عليه من خلال فعل المراقبة، ليس معلومات موضوعية عن «العالم الخارجي»، بل معلومات عن تداخلنا وتفاعلنا مع هذا «العالم الخارجي». وهذا ما يدعوه الفيزيائيون بالتكاملية Complementarity. والتكاملية مفهومٌ طوَّره نيلز بوهر، أصلًا، من أجل تفسير الطبيعة المزدوجة للضوء؛ فقد رأى بوهر أن الخصيصة الموجية للضوء والخصيصة الحُبيبية ضروريتان رغم تعرضهما من أجل فهم ظاهرة الضوء؛ لأن هاتين الخصيصتين ليستا في الواقع خصيصتين للضوء، بل إنهما خصيصتان لتداخلنا مع ظاهرة الضوء؛ فنحن نستطيع أن ندفع الضوء إلى إظهار هذه الخصيصة أو تلك باختيار التجربة المناسبة. فإذا أردنا إظهار الخصيصة الموجية قمنا بإجراء تجربة الشقين، وإذا أردنا إظهار الخصيصة الجسيمية أجرينا تجربة أينشتاين في الأثر الكهرضوئي. وهذا يعني أن المراقب الواعي هو صلة الوصل بين مظهرَي الضوء، وأنه بدون الوعي يبقى الضوء بدون خصائص محددة.
ولكن القول بحاجة الضوء إلى الوعي ليُظهر خواصه، يقودنا إلى الاعتراف بأن الوعي الذي يتفاعل مع الضوء يحتاج بدوره إلى الضوء وإلى غيره لكي يتلمس خصائصه الذاتية. وفي هذا يقول بوهر: «إننا لا نستطيع أن نعزو الوجود الحقيقي المستقل، بالمفهوم الفيزيائي المعتاد، إلى الظاهرة المرصودة، ولا إلى القائم بالرصد أيضًا؛١٠ ذلك أن عالمنا الذي نعيش فيه لا يتألف من «أشياء»، بل من علائق وتفاعلات، وأن الخصائص ليست من طبيعة ما يتمظهر على أنه «شيء»، بل من طبيعة الترابطات التي تتوسع في شبكة منسوجة بإحكام لتشمل الكون كله. وفي هذا يقول هايزنرغ: «إن العلوم الطبيعية لا تقوم بمجرد وصف وتفسير الطبيعة، بل هي جزء من ذلك التفاعل بيننا وبين الطبيعة.» ويقول أيضًا: «إن ما نرصده ليس الطبيعة في ذاتها، بل الطبيعة كما تتبدى لطرائقنا في استجوابها.»١١ وبناءً على ذلك فقد قدَّمت الفيزياء الكوانتية مفهوم المشارك لكي يحل محل مفهوم الراصد أو المراقب. وهناك بوادر منذ الآن على ضرورة تضمين الوعي الإنساني في أي وصف فيزيائي للعالم.

لقد ألهمت أمواج المادة الفيزيائي النمساوي إروين شرودينغر فكرةً جديدة حول بنية الذرة؛ فبدلًا من التصور المعتاد لإلكترونات حُبيبية تدور حول نواة الذرة في مدارات تتوسع نحو الخارج، خرج شرودينغر بنظريته عن أمواج الاحتمال التي تحيط بالذرة في دوائر مغلقة متتابعة. فإذا قمنا بعملية الرصد للتحري عن الإلكترونات، وجدناها في مكانٍ ما على هذه المدارات، إلا أننا لا نستطيع القول بأن هذه الإلكترونات تدور حول النواة بالمفهوم التقليدي للفيزياء النيوتونية. وبما أن المسار الذي تتحرك عليه موجات الاحتمال هذه هو مسارٌ مغلق، فإن الأمواج المتشكلة على المدارات هي من النوع الذي ندعوه بالأمواج الواقفة. والأمواج الواقفة هي نمطٌ موجي يظهر عندما تكون الأمواج محصورة في حيِّز محدود، لا يسمح للموجة بالتلاشي كما تتلاشى الموجات في المدى المفتوح، مثل الهواء الطلق والحيز المائي الواسع؛ ذلك أن الأمواج في الحيز المحصور تُجبَر على الارتداد على نفسها، مشكِّلةً سلسلة مقابلة من الأمواج تعود نحو المصدر الذي يردها مجددًا، وهكذا في حركة دائبة تؤدي إلى تكوين الموجة الواقفة بين نهايتَي الحيز المحصور. ونحن نستطيع رؤية هذه الأمواج الواقفة بالعين إذا ربطنا نهاية حبل إلى الجدار، ثم شددنا النهاية الأخرى باليد، ورحنا نُحرِّك الساعد بشدة صعودًا وهبوطًا، عند ذلك تظهر أمامنا موجات الحبل وكأنها واقفة رغم حركته، كما هو مبيَّن في الشكل أدناه.

والشيء المهم الذي نلاحظه من هذا الشكل، هو أن الموجات تتوزع ضمن الحيز المغلق بشكل متساوٍ لا يسمح بظهور أجزاء من الموجة، بل هناك على الدوام عددٌ تام من الموجات، فإذا زادت كانت وحدة الزيادة موجة واحدة لا نصف أو ربع موجة، وإذا نقصت فإنها تنقص بالطريقة ذاتها؛ فهي موجات كمومية تأتي دومًا في دفقات. إن مثل هذه الحبال الموجية المؤلفة من عُقد متصلة النهايات، هي التي تحيط بنواة الذرة وفق نظرية شرودينغر التي تم التأكد من نتائجها الرياضية تجريبيًّا. وبذلك حل التصور الجديد محل التصور القديم، وأعطى نتائج تجريبية عملية باهرة؛ فالذرة لم تعد نظامًا شمسيًّا مصغَّرًا، وبدل الجسيمات التي تدور حول النواة علينا الآن أن نتخيل أمواجًا احتمالية مكان المدارات القديمة. فإذا قمنا بعملية الرصد، فإننا سنعثر على الإلكترون في مكانٍ ما على الحبال الموجية، ولكننا لا نستطيع القول بأن الإلكترونات تدور حول النواة بالمفهوم الميكانيكي التقليدي. انظر الشكل أدناه:

غير أننا في محاولة التعرف على مضامين الفيزياء الحديثة، يجب أن نحذر من الاعتقاد بأن النظرية عندما تعطي نتائج عملية هي نظرية تصف «الحقيقة»، ويمكن تطبيقها على أوسع نطاق؛ فنظرية شرودينغر في أمواج الاحتمال والموجة الواقفة (أو الساكنة)، ومعادلاته الرياضية التي تم تطبيقها على أوسع نطاق، تخفق في فيزياء الجسيمات ذات الطاقة العالية، حيث يقوم الفيزيائيون باستخدام المسرعات النووية من أجل إحداث التصادم بين الجسيمات عن طريق شحنها بطاقات عالية جدًّا. والسبب في ذلك راجع إلى أن الجسيمات المتصادمة ونواتجها، إنما تتحرك بسرعات خيالية تقارب أحيانًا سرعة الضوء؛ الأمر الذي يُحتم علينا أن نأخذ بالحسبان مفاهيم النظرية النسبية، وهذا ما لم تفعله نظرية شرودينغر. إن أي نظرية فيزيائية تطمح اليوم إلى بعض الشمول أو كله، عليها أن تترك حيزًا للقران بينها وبين النظرية النسبية.

بدأت فيزياء الجسيمات ذات الطاقة العالية كاستمرار للبحث القديم عن اللبنات الأساسية التي تتشكل منها المادة. ففي بداية هذا البحث عن مكونات المادة، اكتشف الفيزيائيون الذرة، ثم اكتشفوا بعد ذلك مكونات الذرة، وهي ثلاثة: البروتون والنيترون والإلكترون، فدعَوها بالجُسيمات الأولية. وبعدها بدأ السعي لاكتشاف المكونات التي تتألف منها هذه المكونات الثلاثة للذرة، وذلك باستخدام تقنيات التصادم العنيف بينها لغرض تفكيكها ومعرفة مكوناتها، بعد أن تأكَّد لهم أنها ليست أولية ولا بسيطة التركيب. ففي المسارعات النووية، يطلق جسيم التسديد (الذي يُدعى بالقذيفة) في مسارٍ دائري يؤمن شحنه بطاقة حركية عالية، قبل أن يُترك متجهًا إلى حجرة التصادم المدعوة بحجرة الضباب. عند الدخول إلى حجرة الضباب الموضوعة ضمن حقل مغناطيسي، تنحرف الجسيمات ذات الشِّحنة الموجبة في اتجاه معاكس للجسيمات ذات الشحنة السالبة، وبناءً على شدة هذا الانحراف يمكن حساب كتلة الجسم الذي يترك وراءه أثرًا تلتقطه وسائل فوتوغرافية عالية التقنية، وهذا الأثر يُشبه ذيل الأبخرة الذي تتركه وراءها الطائرات النفاثة.

إلا أن التصادمات العنيفة في المسارعات لم تحقِّق الآمال المعقودة عليها في الكشف عن اللبنات الأولية المكوِّنة للجسيمات الذرية؛ ذلك أن هذه التصادمات لم تؤدِّ إلى تفكيك الجسيمات الأولية إلى مكوناتها، بل إلى خلق جسيمات جديدة ذات طبيعةٍ أولية كطبيعة الجسيمات الداخلة في عملية التصادم. وبعض هذه الجسيمات الجديدة تتمتع بكتلة معادِلة لكُتل الجسيمات المولدة لها. وهذا يشبه قيامنا بإجراء تصادم عنيف بين سيارتَين لمعرفة الأجزاء المؤلفة لهما، ولكننا بدل الحصول على نوابض ونواقل حركة وعجلات وما إليها، فإن التصادم قد أعطانا سيارات أخرى بعضها يماثل تمامًا السيارتين الأصليتين. يمثل الشكل أعلاه رسمًا تخطيطيًّا مأخوذًا عن صورة فوتوغرافية من حجرة التصادم، يمثل اصطدامًا بين بروتونين، حيث قام البروتون الأول بعد دخوله حجرة التصادم باقتلاع إلكترون عن مساره في ذرته، ثم تابع ليصطدم بالبروتون الثاني، لينتج عن اصطدامهما ستة عشر جسيمًا جديدًا.

fig40
كيف حصل ذلك؟ ومن أين جاءت الجسيمات الجديدة؟ إن جزءًا من الإجابة تُقدمه لنا نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين، أما الإجابة الكاملة فما زالت من المهمات القائمة لفيزياء الجسيمات؛ فالجسيمات الجديدة تنشأ عن الطاقة التي تكتسبها الجسيمات الداخلة في التصادم أثناء تسريعها، والطاقة تزيد في كتلة الجسيم المتسارع؛ فإذا وصلنا إلى نقطة الاصطدام، كانت الكتلة الأصلية للجسيمين، إضافة إلى الكتلة التي اكتسباها من جرَّاء السرعة الزائدة، كافية لتخليق الجسيمات الجديدة الناجمة عن التصادم. فلقد علَّمتنا النظرية النسبية مبدأ التعادل بين الكتلة والطاقة، من خلال المعادلة الشهيرة: ط = ك × س٢؛ أي: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء؛ أي إن الكتلة ليست إلا شكلًا من أشكال الطاقة، وإن العالم المادي الذي كنا بسبيل معرفة جوهره هو عالم بدون جوهر مادي؛ ذلك أن جوهره غير مستقلٍّ عن الحوادث التي تكونه على مستوى الجسيمات، حيث الممثل والمسرحية شيءٌ واحدٌ، والمغني والأغنية نسيجٌ متكامل، والراقص والرقصة لا يمكن تمييزهما. إن عالم الجسيمات دون الذرية هو رقصة خلق وفناء دائم، حيث تتحول الطاقة باستمرار إلى كتلة والكتلة إلى طاقة. وبتعبير آخر أدق نقول: حيث تتحول الطاقة إلى أشكالها الأخرى؛ لأننا، سواء في النسبية أم في ميكانيك الكم، نواجه أشكالًا لا جواهر، والمهم في أية ظاهرة هو الشكل الذي يتبدى به الحدث، لا جوهر مكوناته.

لكي نفهم المعنى العميق المتضمن في معادلة أينشتاين الآنفة الذكر، لا بد لنا من تقديم توضيح مُبسَّط لمفهوم الطاقة ومفهوم الكتلة؛ ففي حياتنا اليومية نقول عن جسمٍ ما بأنه يحتوي على طاقة، إذا كان قادرًا على الإتيان بعملٍ ما. وهذه الطاقة تأخذ أشكالًا كثيرة؛ كالطاقة الحركية، والطاقة الحرارية، والطاقة الكهربائية، والطاقة الكيميائية، والطاقة التثاقلية وغيرها. فبصرف النظر عن شكلها، فإن الطاقة تُستخدم لأداء عملٍ ما. وفي فيزياء الذرة، فإن الطاقة ترتبط بنشاط أو عملية ما، وأهميتها الأساسية تكمن في حقيقة أن الطاقة المتضمَّنة في عمليةٍ ما، هي طاقة محفوظة على الدوام. قد تُغيِّر الطاقة من شكلها بطرائق شديدة التعقيد، ولكنها لا تفقد شيئًا من كميتها المتضمَّنة في أية عملية. أما الكتلة فمرتبطة دومًا بجسم مادي ما، وهي مقياس لوزنه؛ أي للأثر الثقالي الواقع عليه. إضافة إلى ذلك، فإن الكتلة هي مقياس لعطالة الجسم؛ أي لمقاومته فعل التسارع. فالأجسام ذات الكتلة الكبيرة أصعب على إكسابها سرعة إضافية من الأجسام ذات الكتلة الصغيرة، ويستطيع أن يختبر هذا الأمرَ كلُّ مَن حاول دفع سيارة على الطريق. وفوق ذلك، فإن الكتلة ترتبط في المفاهيم الفيزيائية التقليدية بجوهر غير قابل للفناء، هو أصغر جزء مكوِّن لها، والذي يكوِّن أيضًا كل كتلة أخرى.

ولكن ها هي النظرية النسبية تُوحِّد بين هذين المفهومين المستقلين، وذلك بإظهارها أن الكتلة ليست إلا شكلًا للطاقة؛ فالطاقة لا يمكن لها فقط أن تتحول من أحد أشكالها إلى الآخر، كما هو الحال في تحول الطاقة الكهربائية إلى طاقة حرارية، وإنما يمكن لنا أيضًا أن نبحث عنها في كتل الأشياء؛ فالطاقة المتضمنة في كتلة جسيم ما، مثلًا، تعادل كتلة الجسيم مضروبةً بمربع سرعة الضوء. وهذا ما يفسِّر لنا تخليق المادة واختفاءها في المسارعات النووية، فإذا تم تسريع جسيم إلى ما يقارب سرعة الضوء، فإن كتلته تزداد باطراد، وهذه الزيادة في الكتلة ما هي إلا تعبير عن تحوُّل طاقة الحركة إلى مادة، ثم إذا اصطدم هذا الجسيم المتسارع بجسيم متسارع آخر، تحوَّلت كتلتاهما إلى طاقة، تعمل بدورها على تخليق جسيمات أخرى جديدة تنتج عن التصادم. من هنا يمكن القول بأن الكتلة ليست أكثر من طاقة مخزونة في قمقم علاء الدين. ونحن إذا تأمَّلنا مجددًا معادلة أينشتاين أعلاه لتبيَّن لنا من أول وهلة الكمُّ الهائل من الطاقة المخزون في جزء صغير من المادة؛ فلمعرفة كم الطاقة هذا يتوجب علينا أن نضرب الكتلة برقم خيالي هو مربع سرعة الضوء. ولإعطاء مثال توضيحي عن ذلك نقول: إن كتلة البروتون مثلًا تساوي حوالَي جزء واحد من مليون مليار مليار من الغرام، ولكن رغم ضآلة هذه الكتلة، فإنها تنتج لدى استحالتها إلى طاقة، ومضة من الضوء يمكن رؤيتها بالعين المجردة على مسافة تبلغ عشرة أمتار.

إضافة إلى التوحيد بين الكتلة والطاقة في مفهوم نِسبي واحد، فقد عمدت النظرية النسبية أيضًا إلى التوحيد بين الزمان والمكان في مفهوم نِسبي واحد. ولتوضيح هذا الأمر لا بد لنا من إلقاء نظرة على القوانين الخمسة للنظرية النسيبة.١٢

انطلق أينشتاين في بناء نظريته من مبدأين؛ أولهما مبدأ ثبات سرعة الضوء، الذي حوَّله من لغز إلى بدهية يبتدئ بها، وثانيهما مبدأ نسبية الحركة. ولنبتدئ بالمبدأ الأول. فما الذي نعنيه بقولنا إن للضوء سرعة ثابتة مقدارها ٣٠٠٠٠٠كم في الثانية أو ١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية؟ إذا كنت في سيارة تنطلق بسرعة ١٠٠كم في الساعة، وأمامك سيارة أخرى تسبقك بسرعة ١٥٠كم في الساعة، وقمت من مكانك بقياس سرعة السيارة الأمامية، فإنها ستكون حتمًا ٥٠كم في الساعة، وهذا الرقم هو حاصل طرح السرعتين من بعضهما. أما إذا كانت السيارتان تنطلقان نحو بعضهما في اتجاهين متعاكسين، فإن سرعة السيارة الأخرى مقاسةً من قِبلك ستكون ٢٥٠كم في الساعة، وهو حاصل جمع السرعتين المتعاكستين. وهذه من حسابات الحركة المعروفة منذ أيام غاليلو. إلا أن الضوء، وعلى عكس كل ما يتحرك في الطبيعة، يتحرك بسرعةٍ ثابتة وبصرف النظر عن الوضع الحركي للمراقب. فإذا عمدت إلى قياس سرعة شعاع قادم إليك من مصدر مُشع ساكن، لوجدتها ٣٠٠٠٠٠كم/ثا، وإذا تحرَّكت نحو مصدر الشعاع بسرعة ١٠٠٠٠٠كم/ثا، لوجدت أن سرعته أيضًا ثابتة، وهي ٣٠٠٠٠٠كم/ثا. والأعجب من ذلك أنك إذا لاحقت شعاعًا هاربًا وأنت تتحرك بسرعة تصل إلى ٢٥٠٠٠٠كم/ثا، لوجدت أيضًا سرعة الضوء ثابتة، ولما استطعت أبدًا أن تقصر المسافة بينك وبينه.

أما عن نسبية الحركة، فيمكن شرحها من خلال المثال الآتي. تصور أنك قد غادرت الأرض في مركبة فضائية انطلقت بسرعة منتظمة مقدارها ٥٠٠٠كم/سا، حتى غابت الأرض تمامًا عن ناظرَيك. بعد أن غدوت وحيدًا في الفضاء، فإنك تفترض بأنك ما زلت تسير بالسرعة نفسها؛ لأنها السرعة التي انطلقت بها. غير أن هذه الفرضية غير مؤكدة، ناهيك عن أن مقدار السرعة في الفراغ أمر لا معنى له؛ نظرًا لعدم وجود مرجع تبتعد عنه أو تقترب منه، ويعين لك مقدار سرعتك بالنسبة إليه. لنفترض الآن أن سفينةً فضائية أخرى قد مرَّت بك، وأنك قمت بقياس سرعتها من مكانك عند عبورها لك فوجدتها ١٠٠٠كم/سا. وبما أنك تفترض أن سرعتك ما زالت ٥٠٠٠كم/سا بالنسبة إلى الأرض، فإن تقديرك لسرعة السفينة الأخرى بالنسبة للأرض أيضًا سيكون ٦٠٠٠كم/سا، وهو حاصل جمع السرعتين المنتظمتين. إلا أن هذه العملية الحسابية خاطئة كليًّا في حال غياب مرجعية واحدة للحركة بالنسبة إليكما معًا. وفي الواقع، فإن هناك احتمالات أخرى لتفسير تخطِّي السفينة الأخرى لك بسرعة ١٠٠٠كم/سا؛ فقد تكون أنت واقفًا بسفينتك والأخرى تتحرك بسرعة ١٠٠٠كم/سا؛ وقد تكون سرعتك ١٠٠٠٠كم/سا، والسفينة الأخرى قد مرَّت بك بسرعة ١١٠٠٠كم/سا؛ وقد تكون السفينة الأخرى واقفة وأنت ترجع إلى الأرض بسرعة ١٠٠٠كم/سا. كل هذا سوف يدفعك إلى عدم التفكير نهائيًّا بالسرعة الحقيقية؛ لأنه لا وجود لمثل هذه السرعة في حال غياب المرجع الثابت، وكل ما تستطيع قوله هو أن سرعة السفينة العابرة بالنسبة إليك هو ١٠٠٠كم/سا، أو بالعكس؛ لأن الحركات كلها نسبيةٌ بعضها إلى بعض في غياب المرجعية المشتركة. انطلاقًا من هذين المبدأين صاغ أينشتاين قوانين النظرية الخاصة في النسبية، التي سأسوقها فيما يأتي مجردة عن معادلاتها الرياضية.

  • القانون الأول: إن كل جسم مادي متحرك ينكمش في اتجاه حركته، حيث يغدو طوله أقصر فأقصر، إلى أن يختفي كليةً إذا بلغ سرعة الضوء. لنفترض أن لدينا مركبتَين فضائيتين، طول الواحدة منهما عند قاعدة الانطلاق عشرون مترًا. أُطلقت المركبتان إلى الفضاء الخارجي حيث غابتا عن أية مرجعية ثابتة. بعد ذلك عبرت المركبة أ زميلتها ب بسرعة نسبية مقدارها ١٥٠٠٠٠كم/ثا؛ أي بما يعادل نصف سرعة الضوء. يقوم طاقم ب بقياس سرعة المركبة العابرة ليتأكد من سرعتها بالنسبة إليه، ثم يعمد إلى قياس طولها في الوقت نفسه، فيجده ١٧ مترًا فقط لا عشرين. وهو الرقم الذي تعطيه بالفعل معادلة أينشتاين في انكماش الأجسام المتحركة. فإذا زادت السرعة النسبية بينهما لتصل إلى ٩٠٪ من سرعة الضوء، أي ٢٧٠٠٠٠كم/ثا، وقام طاقم ب مرةً أخرى بقياس طول المركبة العابرة أ، لوجده عشرة أمتار فقط. أما إذا بلغت سرعة أ بالنسبة إلى ب سرعة الضوء نفسها، وهو افتراض جدلي لا يمكن تحقيقه، فإن طول المركبة العابرة بسرعة الضوء سيكون صفرًا. ومن الجدير بالذكر أن طاقم المركبة العابرة أ إذا قام بقياس المركبة الأخرى التي يتجاوزها ب، لوجد أنها هي التي تنكمش إلى ١٧ مترًا في الحالة الأولى، وإلى ١٠ أمتار في الحالة الثانية، وأنها هي التي تتلاشى تمامًا إذا عبرها بسرعة الضوء، وذلك في الوقت الذي يجد طاقم كل مركبة أن طول مركبته ثابت لا يتغير. وهذا يعني أن وحداتنا الاصطلاحية لقياس المكان هي وحدات نسبية تطول وتقصر؛ مما يستتبع القول بنسبية المكان (= الفضاء)؛ لأنه لا فرق بين المتر الذي ينكمش في السرعات العالية، وبين المكان الذي يشغله هذا المتر.
  • القانون الثاني: إذا تحرك جسم بالنسبة إلى مشاهد، فإن كتلة الجسم المتحرك ستزداد كلما ازدادت سرعته، وتعطي المعادلة الرياضية لهذا القانون مقدار زيادة الكتلة بدقةٍ متناهية. فإذا عُدنا إلى مثالنا السابق عن المركبتين الفضائيتين، وافترضنا أن وزن كلٍّ منهما في قاعدة الانطلاق هو ١٠٠٠كغ، تقوم المركبة أ باجتياز المركبة ب بسرعة ٢٥٠٠٠٠كم/ثا، وعندها قام طاقم ب بقياس كتلة أ فوجد أنها تصل إلى ١٢٠٠كغ، فإذا زادت سرعة المركبة أ إلى ٢٧٠٠٠٠كم/ثا؛ أي ٩٠٪ من سرعة الضوء، فإن كتلتها ستصير ضِعف ما كانت عليه في قاعدة الانطلاق؛ أي ٢٠٠٠كغ. والشيء نفسه يحدث إذا قام طاقم أ بقياس كتلة ب عند تجاوزها، وذلك في الوقت الذي يجد كل طاقم أن كتلة مركبته ثابتة لا تتغير.

    وقد تم إثبات صحة نتائج معادلة أينشتاين هذه في تجارب المسارعات النووية، وأعطت القياسات أرقامًا متطابقة تمامًا مع نتيجة المعادلة. من هذه التجارب ما أجراه معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، حيث استطاع رفع سرعة إلكترون واحد إلى ٠٫٩٩٩٩٩ من سرعة الضوء، فزادت كتلته المقاسة ٩٠٠ مرة عن كتلته قبل التسريع.

  • القانون الثالث: وتعطي معادلته مقدار السرعة النسبية بين جسمين متحركين. وهذا المقدار ليس جمعًا بسيطًا لمقدار السرعتين إذا كان الجسمان يتحركان في اتجاه بعضهما، ولا طرحًا إذا كانا يتحركان عكس بعضهما. ففي مثالنا الأسبق عن سيارتين تتجهان نحو بعضهما، قمنا بجمع سرعة الأولى إلى سرعة الثانية، وحصلنا على ١٠٠كم/سا + ١٥٠كم/سا = ٢٥٠كم/سا، ولكن معادلة أينشتاين الثالثة تجعل الفرق بين حسابنا العادي هذا وحساب النسبية، حوالَي جزء من مليون جزء تقريبًا من السنتيمتر. وهذا فارقٌ ضئيل جدًّا يمكن تجاهله في مسائل الحياة اليومية. أما في السرعات العالية التي تُقارِب سرعة الضوء، فإن معادلة النسبية تغدو ضرورية. فإذا تحرَّكت المركبتان الفضائيتان، في مثالنا السابق، نحو بعضهما بسرعة ١٦٠٠٠٠كم/ثا، فإن السرعة النسبية بينهما لا يمكن أن تكون ١٦٠٠٠٠كم/ثا + ١٦٠٠٠٠كم/ثا = ٣٢٠٠٠٠كم/ثا؛ لأن هذه السرعة تزيد بمقدار ٢٠٠٠٠كم/ثا عن سرعة الضوء، وهذا مُحال. أما تطبيق معادلة أينشتاين الثالثة فيعطينا سرعةً نسبية بين المركبتين مقدارها ٢٥٩٠٠٠كم/ثا، وهي أقل من سرعة الضوء.
  • القانون الرابع: تزداد طاقة الجسم المتحرك بزيادة سرعته، وهذه الطاقة المضافة هي طاقة الحركة. ويقول القانون: إن هذه الطاقة ذات كتلة تُضاف إلى كتلة الجسم المتحرك، وتُحسب بواسطة المعادلة التي أوردناها سابقًا، وهي ط = ك × س٢.
  • القانون الخامس: إن الزمن يتسارع أو يتباطأ تبعًا لسرعة الجملة الفيزيائية المتحركة بالنسبة إلى جملة فيزيائية أخرى. لنفترض في مثال المركبتين أنهما انطلقتا في توقيت واحد من قاعدة الانطلاق، ثم حافظتا بعد ذلك على سرعة نسبية بينهما مقدارها صفر. في هذه الحالة، فإن الساعة الحائطية المعلَّقة في كل مركبة تشير إلى التوقيت نفسه. فإذا زادت السرعة النسبية بين المركبتين، فإن الأمر العجيب الذي يحدث هو اختلاف التوقيت في ساعة كل مركبة عن الأخرى؛ فالزمن سوف يبطئ في واحدة ويبقى على حاله في الأخرى. والأعجب من ذلك أن طاقم كل مركبة سوف يجد أن ساعته هي الدقيقة، وأن الأخرى هي التي تبطئ. فإذا فرضنا أن السرعة النسبية بينهما وصلت إلى ١٥٠٠٠٠كم/ثا، ونظر طاقم ب إلى ساعة المركبة أ التي تجتازه، لوجد أنها أقل بست دقائق، وإذا زادت السرعة إلى ٢٧٠٠٠٠كم/ثا، وجد طاقم ب أن ساعة أ قد أبطأت بمقدار النصف تمامًا. وهذا ما تبيِّنه المعادلة الخامسة من معادلات النسبية الخاصة.

    ومن خصائص هذه المعادلة الخامسة المتعلقة بالزمن أن نتائجها تسير في اتساقٍ تام مع نتائج المعادلة الأولى المتعلقة بانكماش الطول؛ فالزمن في المعادلة الخامسة يتغير بالنسبة إلى السرعة، بنفس «العامل الرياضي» الذي يتغير وفقه الطول بالنسبة إلى السرعة، بحيث يغدو الزمن صفرًا في المركبة أ عندما يغدو طولها صفرًا أيضًا. وهذا يعني وجود صلة عميقة جدًّا بين المكان الثلاثي الأبعاد الذي نعيش ضمنه وبين الزمن، وأن هذه الأبعاد لا وجود لها من دون الزمن؛ لأنه البعد الرابع للوجود الفيزيائي، وهو كمٌّ فيزيائي مثله مثل الطول والعرض والعمق. إن الإنجاز الأكبر للنسبية الخاصة هو ضمُّ العناصر الأربعة للكون في عنصرين؛ فبدلًا من الزمان والمكان والطاقة والكتلة، صار لدينا زمان-مكان وكتلة-طاقة.

غير أن أينشتاين لم يكن راضيًا تمامًا عن إنجازه في نظرية النسبية الخاصة؛ لأنها ركَّزت على حركات الأجسام التي تسير بسرعات ثابتة، وأغفلت حركة الأجسام المتسارعة بإغفالها لمبدأ التثاقل (أو الجاذبية). وهذا ما تداركه أينشتاين بعد ذلك بعشر سنوات، عندما نشر في عام ١٩١٥م نظريته في النسبية العامة.

وجد أينشتاين من خلال المعادلات الشديدة التعقيد للنسبية العامة أنه لا يوجد في الكون شيءٌ اسمه قوة الجاذبية بالمفهوم النيوتوني. أما ما يتبدى على أنه قوة تثاقل بين الأجسام، فليس إلا نتيجة لانحناء المتصل الزماني المكاني (= الزمكان) حول الكتلة السابحة في الفضاء؛ أي إن المكان (= الفضاء) ليس متصلًا متماثلًا ومتشابهًا في جميع أرجاء الكون، بل إنه يتحدب حول الكتل المتأثرة في أرجائه. ولو قُيِّض لعينٍ بصيرة أن ترى الفضاء من خارج الكون، لوجدته أشبه بمادة هلامية تتكاثف حول النجوم والأجرام، ويزداد هذا التكاثف كلما ازدادت كتلة الجِرم الذي يحيط به الهلام. فالفضاء يتحدب حول الشمس أكثر من تحدُّبه حول الأرض، ويتحدب حول الأرض أكثر من تحدُّبه حول القمر. هذا التحدب حول الكتل الكبيرة هو الذي يفسِّر دوران الكواكب حول الشمس في نظامنا الشمسي والأنظمة الشبيهة به؛ ذلك أن التحدب الشديد للزمكان حول الشمس يُجبر الأجرام من حولها على الطواف في مدارات إهليلجية، هي أشبه بأخاديد محفورة في المتصل المنحني، حدَّدتها طبيعة الفضاء المتحدب الرباعي الأبعاد. كما أن التحدب حول الجِرم لا يؤدي فقط إلى إجبار الأجرام الأصغر على الدوران حوله، بل إلى إجبار الضوء القادم إليه على الانحناء أيضًا وإن بدرجة أقل. وقد تم التأكد من انحناء الضوء عند كوكب الأرض، من خلال تجربة معروفة شهيرة، من التجارب التي تمَّت لإثبات صحة النسبية العامة.

أكتفي بهذا القدر من شرح النظرية النسبية، وأعود إلى فيزياء الجسيمات ذات الطاقة العالية، حيث توقفت.

إن اكتشاف الفيزياء لحقيقة أن الكتلة ليست إلا شكلًا من الطاقة، قد أدَّى إلى إحداث تغيير أساسي في نظرتنا إلى الجسيم؛ فبما أن المادة لم تعد مرتبطة بجوهرٍ مادي، فإن الجسيمات قد بدت الآن على حقيقتها كرِزَم من الطاقة لا كجواهر مادية. وبما أن الطاقة هي فعل ونشاط وعمليات جارية أبدًا، فإن الجسيمات بالتالي ذات طبيعة حركية دينامية لا سكونية. إن القران بين النسبية ونظرية الكم يقودنا إلى تصور الجسيمات من منظور نِسبوي، في إطار ينحلُّ ضمنه الزمان والمكان إلى مُتصل ذي أبعاد أربعة، والتحول نهائيًّا عن تصورها كعناصر مادية سكونية في أبعاد ثلاثة، مثل حبَّات رمل مرصوصة. عند ذلك فقط سوف تبدو لنا على حقيقتها كأشكال في الزمان وفي المكان، وكأنماط دينامية ذات وجه مكاني وآخر زماني. فالوجه المكاني يجعلها تبدو كأشياء ذات كتلة معينة، والوجه الزماني يجعلها تبدو كعمليات جارية تشتمل على الطاقة المعادلة لتلك الكتلة المكانية. إن هذه الأنماط الدينامية، أو رزم الطاقة، هي التي تشكل البنية الذرية والجزيئية المستقرة للمادة المرئية، وتعطيها شكلها الصلب، الذي يجعلنا نظن بأنها قد صُنعت من جوهر مادي ثابت. أما في الأعماق السفلى لهذا المظهر المرئي الصلب، فلا تواجهنا سوى أنماط دينامية، تتحول بعضها إلى بعض في رقصة أبدية للطاقة هي جوهر الوجود.

لقد قادت فيزياء الجسيمات خلال الأربعين سنةً الأخيرة، إلى اكتشاف ما يزيد من المائة نوع من أنواع الجسيمات الأولية، وجميعها ليس في الواقع «أوليًّا» بالمعنى الأصلي لهذه الكلمة، معظم هذه الأنواع لا يعيش بعد تخليقه في المسارعات النووية أكثر من جزء أو بضعة أجزاء من مليون جزء من الثانية الواحدة. ويمكن تمييز كل نوع من خلال خصائص ثلاث، هي: الكتلة، والشِّحنة، واللف (= spin)؛ أي الدوران الذاتي على محور وهمي. تُحسب كتلة الجسيم انطلاقًا من حالته السكونية التي تُدعى بكتلة السكون rest mass؛ لأن كتلته بعد ذلك تتغير تبعًا لسرعته. أما شحنة الجسيم فهي إما سالبة وإما موجبة وإما حيادية. وأما معدل اللف فأساسي جدًّا لتمييز شخصية الجسيم، إلى درجة أن تغيير هذا المعدل يؤدي إلى تدميره تمامًا. وهنا يجب أن نضع نُصْب أعيُننا بأن مسألة اللف، مثلها مثل مسألة الحركة، هي شأن اصطلاحي؛ لأنه كما أن الجسيم ليس حُبيبة مادية تتحرك في الفضاء، كما أسلفنا، فإنه ليس حُبيبة مادية ذات معدل لف ثابت. وعلى حد قول الفيزيائي ماكس بورن فإن: «لف الجسيمات دون الذرية يتضمن فكرة اللف، دون أن يكون هناك شيء يلف.»١٣

ومع اكتشاف هذه الجسيمات، اكتشف الفيزيائيون أن لكل جسيم نظيرًا يشبهه تمامًا ولكنه يختلف عنه في الشحنة، وقد دُعيت هذه الجسيمات بالجسيمات المضادة. فإذا اجتمع جسيم ونقيضه تفانيَا فورًا، وذلك كالتقاء إلكترون بنقيضه المدعو بوزيترون؛ فمثل هذا اللقاء يؤدي إلى فنائهما فورًا في ومضة ضوء، وينشأ عنهما فوتونان ينطلقان بسرعة الضوء. إن مادة عالمنا المرئي مؤلفة من الجسيمات الاعتيادية، ولكن الفيزيائيين يعتقدون بوجود مادة نقيضة في أرجاء الكون مؤلفة من جسيمات نقيضة.

لقد قلنا سابقًا بأن المادة كلها في عالمنا تؤلِّفها الذرات، وهذه الذرات تؤلفها البروتونات والنيترونات والإلكترونات. أما الجسيم الرابع في عالمنا فهو الفوتون، وحدة الضوء المادية العديمة الكتلة. إن ثلاثة من هذه الجسيمات الرئيسية تتمتع بوضع مستقر؛ أي إنها تعيش إلى الأبد إن لم تدخل في عملية تصادم، وهي البروتون والإلكترون والفوتون. أما النيترون فيتحلل بشكل تلقائي فيما يُدعى بعملية تحلُّل بيتا، وهي العملية المميزة لبعض أنماط النشاط الإشعاعي. ففي هذه العملية الإشعاعية يتحول النيترون إلى بروتون، مع تخليق إلكترون من العدم وجسيم آخر عديم الكتلة يُدعى نيترينو. ويؤدي تحوُّل نيترونات بعض المواد المشعة إلى بروتونات، إلى تغيير في ذراتها؛ وبالتالي تحويلها إلى عناصر أخرى. ويتميز هذا الجسيم المدعو نيترينو بالاستقرار أيضًا، مثله مثل الجسيمات الثلاثة الآنفة الذكر. أما بقية الجسيمات التي تم التعرف عليها حتى الآن، فغير مستقرة، ولا تعيش أكثر من جزء من مليون جزء من الثانية كما ذكرنا منذ قليل، فهي إما أن تتلاشى، أو تدخل سلسلة من التحولات تؤدي بها في النهاية إلى حالة مستقرة، وذلك بتحولها مجددًا إلى بروتون أو إلكترون أو فوتون. إن دراسة الجسيمات غير المستقرة عملٌ مكلِّف وعلى غاية من التعقيد؛ لأنه يتطلب دومًا استخدام تقنية التصادمات في المسارعات النووية.

وفي الواقع، فإن التصادمات ليست وحدها المسئولة عن تخليق الجسيمات الجديدة، وعن تحول الجسيمات بعضها إلى بعض؛ فمثل هذه التحولات تحدُث بصورة دائمة في العالم الصغري ودونما توقف، بل إنها قانون ذلك العالم. إن الإلكترونات السابحة في مداراتها حول النواة تطلق فوتونات ضوء لا تكاد تتخلق حتى تعود الإلكترونات إلى ابتلاعها، لكي تعود ثانيةً إلى إطلاق غيرها، وهكذا دونما توقُّف. وهذه الفوتونات التي تطلقها الإلكترونات في داخل الذرة ليست فوتونات أصيلة؛ لأن الفوتون الأصيل ما إن يولد حتى يطير مبتعدًا بسرعة الضوء، أما هذه ففوتونات «كسيحة»١٤ لا تتمتع بكل خصائص الفوتون، ولا تستطيع تمثيل دور الموجة الضوئية المرتحلة في الفضاء. وتحدث عملية لفظ الإلكترون للفوتون وإعادة ابتلاعه من جديد، في ومضة زمنية خاطفة لا تتعدى ١٠ −١٥ من الثانية.

كما تقوم مكونات النواة، من بروتونات ونيترونات، بتفاعل مع نفسها مُشابِه لتفاعل الإلكترون مع نفسه؛ فالبروتون يطلق جسيمًا اسمه البيون، ثم يعيد ابتلاعه قبل أن يستكمل قوته ليصير بيونًا أصيلًا. وبما أن كل البروتونات متشابهة، فإننا نستطيع الافتراض بأن البروتون في تفاعله مع نفسه قد فني، مصدِرًا بروتونًا آخر وبيونًا، منتهِكًا بذلك قانون انحفاظ الطاقة؛ لأن كتلة الجسيمين الجديدين أكبر من كتلة الجسيم الأول الذي صدرا عنه (انظر المخطط أدناه)، هذا الانتهاك لقانون انحفاظ الطاقة ممكن في حالة واحدة فقط، وهي أن يحصل التفاعل في لحظة تبلغ من القِصر حدًّا لا يسمح للقانون بالانتباه إليها، ويُحسَب هذا الزمن وفق إحدى معادلات مبدأ اللاتعيين لهايزنبرغ.

وهكذا يتوجب على الجسيمين الجديدين أن يفنيا في ومضة لا حساب لها في سير الزمن، وأن يخلقا بفنائهما بروتونًا جديدًا واحدًا. وهذه عملية دائبة تستمر إلى ما لا نهاية. وهنالك نوع آخر لتفاعل البروتون مع نفسه؛ فبدلًا من أن يطلق بيونًا حياديَّ الشحنة، كما في الحالة الأولى أعلاه، فإنه يطلق بيونًا موجبًا ثم يتحول هو نفسه إلى نيترون. أو بافتراض آخر، فإن البروتون يفنى مصدِرًا بيونًا موجبًا ونيترونًا (انظر المخطط أدناه). ومرة أخرى، وضمن الوقت الذي يُتيحه مبدأ اللاتعيين، يفنى الجسيمان الجديدان لكي يخلقا بروتونًا واحدًا مكانهما.

وهكذا يمكننا تصور البروتون والنيترون داخل النواة، وكلٌّ منهما مغلَّف بسحابة من البيونات الكسيحة، التي ما إن تخلق من الفراغ حتى تعود إليه. ولكن إذا اقتربت سحابتان لبروتون ونيترون من بعضهما كثيرًا، فإن البيون الذي يطلقه البروتون يلتقطه النيترون، ويؤدي هذا التبادل إلى أن يتحول البروتون إلى نيترون، والنيترون إلى بروتون وفق المخطط أدناه. وهذا ما يؤدي إلى ربط هذين الجسيمين النوويين بقوة هائلة يدعوها الفيزيائيون بالقوة الفائقة، وهي أعظم قوى الطبيعة قاطبةً. وهذا يعني أن القوة، أية قوة في الطبيعة، ما هي إلا عملية جارية لتبادل جسيمات كسيحة بين جسيمات أصيلة، وأن القوة والمادة هما، مرة أخرى، وجهان لحقيقة واحدة.

تُدعى أمثال المخططات التي أوردناها أعلاه بمخططات فيينمان، نسبةً إلى الفيزيائي الذي ابتكرها R. Feynman. ومخططات فيينمان يجب أن تُرسَم، من حيث المبدأ، على محورَين يمثِّلان المكان والزمان، وفق التالي:
يمثل المخطط أعلاه، حادثة تفاعل إلكترون حر مع نفسه أثناء سيره في الفراغ. ينطلق الإلكترون من نقطةٍ ما في المكان مع تقدُّمه في الزمان؛ أي إن حركته هي حركة أفقية مكانية وشاقولية زمانية؛ لأن كل متحرك إنما يتحرك في المكان والزمان معًا، أما ما يبقى على حاله دون حركة، فإن حركته هي شاقولية فقط؛ لأنه ينتقل في الزمان فقط. في نقطةٍ ما محددة على مخطط فيينمان أعلاه، يلفظ الإلكترون فوتونًا أصيلًا ينطلق آنَ ولادتِه بسرعة الضوء نحو اليمين، وقد مثَّله المخطط بخط متقطع، أما الإلكترون فإنه يقوم بتغيير اتجاه حركته عند النقطة نفسها منحرفًا نحو اليسار؛ وذلك بسبب تأثُّر عزم انطلاقه Momentum بعد لفظ الفوتون. وبعد أن ينحرف فإنه يسير بسرعة أبطأ.

وتنبع أهمية مخططات فيينمان من اكتشافه لتقابُل هذه المخططات المكانية الزمانية مع طرائق التعبير الرياضية التي تصف الحادثة نفسها، والتي تعطي احتمالات التفاعلات الممكنة. وعليه، فإن بإمكاننا النظر إلى أي مخطط من هذه المخططات، باعتباره نظيرًا لمعادلة رياضية، وبديلًا عنها. وإليكم مخططًا آخر، يظهر تصادمًا بين إلكترون وبوزيترون (أي إلكترون نقيض):

في المخطط أعلاه، يأتي إلكترون من اليسار ليلتقي مع نقيضه البوزيترون القادم من اليمين في نقطة التلامس (ويجب أن نلاحظ هنا عدم وجود عملية تصادم عنيف). يتفانى الجسيم ونقيضه، ويتخلق عن فنائهما فوتونان أصيلان ينطلقان بسرعة الضوء كلٌّ في اتجاه. وفي الواقع، فإن كل حادثة في العالم الصغري يؤدي إليها فناء الجسيمات الداخلة في التفاعل، كما ينجم عنها تخليق لجسيمات أخرى جديدة. وتُرسم الحادثة على مخطط فيينمان على شكل عقدة صغيرة سوداء، كما هو واضح أعلاه. من هنا يمكن النظر إلى المخطط السابق الذي يمثِّل لفظ الإلكترون للفوتون عند نقطة الحادثة، ثم انعطافه نحو اليسار، على أنه تمثيل لفناء الإلكترون عند نقطة الحادثة، وظهور فوتون وإلكترون جديدَين، وهو تفسيرٌ أكثر بساطة واتساقًا.

لننظر مرةً أخرى إلى المخطط أعلاه، والذي يمثِّل تماسَّ الإلكترون مع البوزيترون، ولنفترض بأننا نستطيع استخدام اتجاه رأس السهم لتمييز الإلكترون من نقيضه البوزيترون؛ فإذا كان رأس السهم نحو الأعلى دلنا على الإلكترون، وإذا كان نحو الأسفل دلنا على البوزيترون. عند ذلك، سوف يبدو المخطط كما هو موضَّح أدناه.

ولكن بما أن مخططات فيينمان تصف حادثةً تجري في الزمان والمكان، وأن الحركة الزمانية فيها صاعدةٌ نحو الأعلى، فإن رأس السهم النازل في المخطط أعلاه سوف يشير إلى زمن معكوس للبوزيترون. فهل ستكون هذه الطريقة في التمييز، على المخطط، بين الجسيم ونقيضه صالحةً من الناحية الرياضية؟ في الواقع، لقد اكتشف فيينمان عام ١٩٤٩م، ومن خلال مطابقة معادلاته الرياضية مع المخططات المقابلة لها، أنه لا فرق من الناحية الرياضية بين موجة بوزيترون تتطور زمنيًّا نحو الأمام، وموجة إلكترون تتطور زمنيًّا نحو الوراء. وبتعبير آخر، فإن الجسيم النقيض هو ذات الجسيم متحركًا في زمن معكوس. من هنا، فإن تدوير المخطط أعلاه في الاتجاهات الأربعة سوف يعطي النتائج نفسها، كما هو مبيَّن أدناه.

في المخطط الأيسر، الذي هو نتاج تدوير المخطط الأصلي ربع دورة نحو اليسار، نجد إلكترونًا يأتي من اليمين ليصطدم مع فوتون يأتي من اليسار، فينتج عن تصادمهما إلكترون آخر وفوتون آخر. وهذا ما يحصل فعلًا بالحل الرياضي وبالتجربة العملية. في المخطط الأوسط، الذي هو نتاج تدوير المخطط الأصلي نصف دورة، نجد فوتونَين يتصادمان لينتج عنهما إلكترون يتجه نحو اليسار وبوزيترون يسير هابطًا عكس الزمن. وفي المخطط الأيمن، الذي هو نتاج تدوير المخطط الأصلي ثلاثة أرباع الدورة، نجد بوزيترونًا وفوتونًا يتصادمان لينتج عنهما بوزيترون آخر وفوتون آخر. وإليكم الآن مخططًا يرسم تصادمًا لفوتونين عند النقطة B.
إن تصادم هذين الفوتونين سوف يخلق عند B إلكترونًا وبوزيترونًا (وأذكِّر هنا بأننا لا نرسم للفوتون اتجاهًا لأنه نقيض نفسه). يلتقي البوزيترون الناجم عن الحادثة B بإلكترون قادم من اليسار، فيتفانى الجسيم ونقيضه عند A، وينجم عن تفانيهما فوتونان ينطلقان بسرعة الضوء. ولكننا إذا تأمَّلنا المخطط مجددًا، فإن التفسير الأفضل للمخطط يقدِّم نفسه فورًا، فهنالك إلكترون على يسار الشكل يتقدم نحو A، حيث يلفظ عندها فوتونين؛ الأمر الذي يؤدي إلى تحويله إلى نقيضه البروزيترون. يسير البوزيترون في زمن معكوس نحو B، وهناك يمتص فوتونين قادمين من الأسفل، فيعكس اتجاهه في الزمن مجددًا ويتحول إلى إلكترون مرة أخرى، منطلقًا نحو اليمين. وبهذه الطريقة، نكون قد استبدلنا جسيمًا واحدًا يتحرك باتجاه الزمن حينًا وعكس الزمن حينًا آخر، استبدلناه بالجسيمات الثلاثة الداخلة في التفاعل بجسيم واحد يتحرك في اتجاه الزمن حينًا وعكس الزمن حينًا آخر. وهذه هي صورة المتصل الزماني المكاني الواحد التي تقودنا إليها النظرية النسبية.

إن النظرة النيوتونية للمكان والزمان هي نظرة دينامية، حيث الحوادث تتطور بمرور الزمان الأحادي الاتجاه، الذي يسير من الماضي نحو المستقبل عبر الحاضر. أما النسبية الخاصة، فتقودنا إلى القول بأنه من الأنسب والمُجدي أكثر، أن نفكر بمساحةٍ ساكنة للمكان والزمان، هي المتصل الزماني المكاني (الزمكان). في هذه الصورة الساكنة لا تتطور الحوادث في اتجاه محدد، بل إنها فقط توجد. فإذا قُيِّض لنا أن نرى البعد الرابع؛ وهو الزمن في اتصاله مع أبعاد المكان الثلاثة، واستطعنا أن نستعرضه دَفعةً واحدة كما نستعرض عناصر المكان، لوجدنا أن الحوادث لا تتطور في زمان ينساب، بل تقدم نفسها لنا كلوحة منسوجة في قماش المتصل الزماني المكاني، حيث الماضي والحاضر والمستقبل موجود معًا وفي تطابق مع المكان. وهذا يعني أن الإحساس بتطور الحادثة عبر الزمن، ما هو إلا نتاج لطبيعةِ وعيِنا الذي يسمح لنا برؤية قطاع صغير فقط في كل مرة من تلك الصورة الإجمالية الزمكانية. وفي هذا يقول الفيزيائي الفرنسي لوي دي بروي، صاحب نظرية الموجة، ما يأتي:

«في المتصل الزماني المكاني، يُعطى الماضي والحاضر والمستقبل لكلٍّ منا في رزمة واحدة … إلا أن كل واحد، وبمرور زمنه، يستكشف شرائح جديدة من الزمكان، تبدو له كجوانب متتابعة للعالم المادي. أما في الحقيقة، فإن جِماع الحوادث المشكِّلة للزمكان موجودة قبل معرفتنا بها.»١٥

هذا إذَن هو معنى الزمكان في الفيزياء النسبية. إن الزمان والمكان متطابقان وموحدان في متصل ذي أربعة أبعاد. في هذا المتصل يمكن لتفاعل الجسيمات أن يسير في أي اتجاه؛ فإذا أردنا أن نتصور التفاعلات الممكنة جميعًا، الموجودة في قطاع معين من الزمكان، فعلينا أن نلتقط لها صورة كلمح البصر، تُظهر كل المدى الزمني المتضمَّن وكل المساحة المكانية أيضًا. أما لماذا تستطيع الجسيمات في العالم الصِّغري أن تتحرك بحريةٍ صعودًا وهبوطًا في الزمن، ولا تقدر على ذلك أجسام العالم الكِبري بما فيها الإنسان، فإن فيزياء الكم، وعلم التيرمو-ديناميك، يقدِّمان على هذا السؤال إجابة لا نجد متسَعًا هنا لعرضها.

كانت مخططات فيينمان والنظرية التي تقوم عليها، والمعروفة بنظرية الحقل الكمومي، أول محاولة جِدِّية للتوحيد بين النسبية والكوانتية. ولقد أثبتت هذه النظرية فعاليتها في وصف التفاعلات الكهرطيسية، التي تتضمن الإلكترونات والفوتونات بشكل رئيسي، ولكنها بدت فيما بعدُ أقل ملاءمة لوصف التفاعلات القوية للجسيمات الأثقل المدعوة بالهادرونات، من أمثال البروتونات والنيترونات والبيونات، وغيرها من الجسيمات الثقيلة، التي تتطلب شحنها بسرعات عالية جدًّا لإتمام عمليات التصادم. وهنا ظهرت نظرية مصفوفة التبعثر Scattering Matrix، المعروفة اختصارًا بالمصفوفة S، كأفضل بديل لوصف الهادرونات وتفاعلاتها. إن المبدأ الذي تقوم عليه المصفوفة S، هو عدم النظر إلى ما يجري بين بداية التجربة ونهايتها، بل فقط إلى مُدخَلات التجربة ومُخرَجاتها؛ فهي تركِّز على الحادثة أكثر من تركيزها على الجسيمات. إن مخططًا للمصفوفة S، مبنيًّا على جداولها الرياضية، يمكن أن يبدو على الشكل التالي:

يمثِّل هذا المخطط حادثة تصادُم بروتون وبيون سالب، ينجم عنهما في النهاية بروتون وبيون سالب، أما ما الذي حدث بين هذا الوضع الأوَّلي الذي ابتدأت به التجربة والناتج الأخير لها، فلا يُظهره المخطط كما كانت مخططات فيينمان تفعل. والآن إذا زادت مدخلات التجربة، يمكن للمخططات أن تبدو على الشكل الآتي:

إن الجسيم وفق نظرية المصفوفة S، هو حالة وسيطة في شبكة التفاعلات. والخطوط هنا لا تمثِّل التطور في الزمان والمكان، كما كان الحال في مخططات فيينمان، بل هي قنوات تفاعُل تجري عبرها الطاقة من أجل تخليق جسيمات أخرى؛ فالنيترون مثلًا هو قناة تفاعل يمكن تشكيلها بواسطة تصادم بروتون وبيون سالب، ولكن إذا توفَّرت طاقة أكبر، يمكن تخليق النيترون بواسطة تصادم قوي بين جسيم لامدا وكوان حيادي، وهكذا إلى آخر هذه الممكنات واحتمالات تحقيقها. لننظر الآن إلى المخطط الآتي:
إن النيترون في هذا المخطط، ورمزه الحرف n، هو قناة تفاعل بين أربعة جسيمات؛ فقد تم أولًا تخليق النيترون بواسطة تصادم بين بروتون p وبيون سالب، ثم قام النيترون نفسه بتخليق لامدا سالب وكوان موجب؛ أي إن الجسيمات في المخطط جميعها حوادث في شبكة واحدة، وكل جسيم منها عبارة عن تركيب محتمل لغيره من الجسيمات، كما أنه في الوقت نفسه متضمن في غيره. فالجسيمات حوادث، ولا وجود لها إلا في علاقتها بضعها مع بعض. وهذا يعني بشكلٍ ما أن كل جزء من الطبيعة في العالم الصِّغري ينطوي على الأجزاء الأخرى. وفي هذه النتيجة التي توصَّلت إليها الفيزياء الحديثة ما يشبه بعض الأفكار البوذية حول طبيعة العالم. نقرأ في أحد كتب التعاليم المنسوبة إلى بوذا: «في سماء إندارا، هنالك شبكة عقدُها من أحجار كريمة، قد نُسجت بطريقة تجعل الناظر إلى أحد أحجارها يرى كل أحجار الشبكة منعكسة فيه. كذا هو حال الكون؛ إن كل شيء فيه ليس نفسه فقط، بل يحتوي على كل شيء آخر.»١٦

وفي الواقع، فلقد وصلت الفيزياء الحديثة في رحلة اكتشافها لأعماق المادة وطبيعة الكون إلى حافة الصمت، وباتت اللغة عاجزة عن نقل الوقائع الكمومية التي تبدو مفهومة تمامًا بلغة الرياضيات إلى لغة الحروف والكلمات. وهذا ما يدعوه بعض الفيزيائيين بمأزق اللغة. وهم لشدة إحساسهم بهذا المأزق، انطلقوا للتبشير بمنطق كمومي جديد، يحل محل المنطق التقليدي، وقد بدأت المحاولات الأولى في هذا الاتجاه تظهر في بعض المقالات والمؤلفات الحديثة.

لقد لاحَظ الرُّواد الأوائل لنظرية الكم، منذ البداية، ترابطًا غريبًا وعصيًّا على التفسير بين الظواهر الكمومية، واعتبروه أمرًا يمكن للنظرية تفسيره في المستقبل. ولقد أظهر هذا الترابط نفسه بشكلٍ جليٍّ بطرُق عدة رأيْنا إحداها في تجربة الشقَّين، عندما كان الإلكترون يعرف بطريقةٍ ما أن الشق الآخر مفتوح، ويكيِّف مساره وفقًا لذلك. إلا أن عددًا من التجارب اللاحقة قادت إلى استنتاجات محيِّرة للعقل حول طبيعة الترابط بين أجزاء العالم الكمومي. وأكثر هذه التجارب شهرةً هي التجربة التي اقترح مبادئَها ثلاثةٌ من الفيزيائيين، هم: أينشتاين وبودولسكي وروزين، حوالَي عام ١٩٣٥م، والتي لم تُنفَّذ عمليًّا إلا في السنوات الأخيرة، بعد أن تطوَّرت التكنولوجيا إلى الحد الذي سمح باختبار أفكارهم.

يمكن فهم المبدأ الأساسي في «أحجية أينشتاين وبودولسكي وروزين»، وهو الاسم الذي اشتهرت به، وذلك بتصور قذيفة تم إطلاقها من مدفع. تدل التجربة على أن المدفع يرتدُّ في لحظة الإطلاق إلى الخلف باندفاع يساوي اندفاع القذيفة إلى الأمام تمامًا، ولو كان المدفع والقذيفة متساويَين في كتلتهما فإنهما ينطلقان بعد الإطلاق باتجاهين متعاكسين لكن بسرعتين متساويتين. وإذا كانت سبطانة المدفع محلزنة كما هي العادة، فإن القذيفة تأخذ بالفتل حول نفسها في أثناء انطلاقها، ويحدُث الأمر نفسه للمدفع الذي ينفتل في الاتجاه المعاكس. بكلمات أخرى، فإن كلًّا من الحركة الانسحابية والدورانية اللتين تكتسبهما القذيفة لدى انطلاقها، يؤديان إلى رد فعل في المدفع لحظةَ الإطلاق يعاكس تمامًا حركة القذيفة. وفي المستوى دون الذرِّي، توجد أيضًا جسيمات تطلق قذائف في حركة انسحابية ودورانية. وقد بيَّنت التجارب أن ارتداد ومعدَّل فتل كلٍّ من الجسيمات وقذائفها، تخضع للقواعد نفسها التي تحكم المدفع وقذيفته. وبعض الجسيمات يمكن أن تتفكك إلى وحدتين متماثلتين تمامًا، مما يجعلهما ينطلقان باتجاهَين ومعدل لف متعاكسَين تمامًا. فالبيون مثلًا، وهو جسيم عديم اللف في الأصل، يتفكك في أقل من عشرة أجزاء من مليون مليار من الثانية، منقسمًا إلى فوتونين ينطلقان باتجاهين متعاكسين، ثم إن فتل أحدهما يأخذ اتجاهًا معاكسًا للآخر، فإذا انطلق أحدهما يلف في اتجاه عقارب الساعة، انطلق الآخر وهو يلف في عكس اتجاه عقارب الساعة؛ لذلك وبسبب هذا الترابط التام بين اتجاه انطلاق ولف الفوتونين، يجب أن يعطي رصد أحدهما معلومات عن الآخر.١٧

والآن يمكن للتجربة أن تسير على الوجه التالي: نقوم بتفكيك أحد الجسيمات لنحصل على جسيمَين آخرين ينطلقان كلٌّ في خط سير معاكس للآخر، وفي اتجاه لف معاكس أيضًا؛ فإذا كان أحدهما يلف على مساره نحو الأعلى كان الآخر يلف نحو الأسفل، وإذا كان الواحد يلف نحو اليمين كان الآخر يلف نحو اليسار. لنفترض الآن أننا تركنا مسافة كبيرة بين هذين الجسيمين لا تسمح بأي نوع من الاتصال بينهما، ثم عمدنا إلى تغيير اتجاه لف أحدهما عن طريق إدخاله في حقل مغناطيسي (الحقل المغناطيسي يغيِّر دومًا اتجاه لف الجسيمات)، عند ذلك تحدُث لدينا ظاهرة لا يمكن تفسيرها، وهي أن الجسيم الآخر الذي لم يمرَّ عبر الحقل المغناطيسي يغيِّر من اتجاه لفه في الوقت نفسه الذي يغيِّر نظيره اتجاه لفه بتأثير الحقل المغناطيسي، بحيث يبقى الجسيمان متعاكسين في اتجاه حركة اللف، وكأنهما ما زالا شريكين في جملة فيزيائية واحدة، رغم المسافة الشاسعة التي تفصل بينهما.

والأغرب من ذلك أن نتيجة التجربة تبقى واحدة إذا افترضت صيغها الرياضية أن الجسيمين قد ابتعدا عن بعضهما مسافةً ضوئية؛ إذ يبقى أحد الجسيمين يغيِّر اتجاه لفه كلما تعرَّض اتجاه لف الآخر إلى التغيير، ودون فاصل زمني على الإطلاق؛ مما يدل على أن هذا النوع من التواصل ليس تواصلًا بالإشارة، بل هو تواصُل ترابُط عميق يتخطى مفاهيمنا المعتادة عن السببية الفيزيائية. وهذه نتيجة لم تكن في منظور أينشتاين وزميلَيه عندما صاغوا هذه التجربة الذهنية الرياضية.

fig52

قد يرى البعض أن نتائج مثل هذه التجارب لا تمتُّ بصِلة إلى حياتنا اليومية؛ لأن نتائجها لا تنطبق إلا على الجسيمات الدقيقة، وأن العالم من حولنا يبقى خاضعًا، بهذا الشكل أو ذاك، إلى المبادئ التقليدية التي نعرفها. ولكن الحقيقة هي أن العالم الكبري يتألف من ذرات خاضعة إلى مبادئ الكم؛ ففي حفنة صغيرة من المادة العادية لا تزيد في حجمها عن السنتيمتر المكعب، هناك آلاف من مليارات من الذرات، وكلها تتفاعل وتتصادم ملايين المرات في الثانية. ولدى تفاعل جسيمين ذريين ثم انفصالهما، لا نستطيع اعتبار أيٍّ منهما كيانًا حقيقيًّا مستقلًّا؛ لأن حقيقة كلٍّ منهما لا تنبع منه، بل من صيغة الترابط التي تجمعه إلى غيره؛ ذلك أن جميع الجُمل الكمومية عبر الكون كله مترابطة معًا لتشكِّل كلًّا غير قابل للتجزئة، هو المستوى الوحيد الذي يمكن لنا عنده التفكير بالحقيقة.

في عام ١٩٦٤م، نشر الفيزيائي الأيرلندي ج. س. بيل J.S. Bell برهانًا رياضيًّا عُرِف فيما بعدُ باسم نظرية بيل، التي اعتبرها البعض أهمَّ عمل فردي في تاريخ الفيزياء. ولقد عمل بيل على تطوير نظريته خلال السنوات العشر التي تلَت نشرها، حتى آلت إلى شكلها الناضج الحالي. والنظرية بناءٌ رياضي شديد التعقيد، لا يمكن شرحه بعيدًا عن لغة الرياضيات، ولكن إحدى أهمَّ خلاصات برهانها هو أن الأجزاء المؤلفة للكون تلتقي مع بعضها عند المستوى الأساسي والعميق للوجود، وتتصل بطريقة مباشرة وكأنها تذوب في لُجَّة لا تتمايز فيها الأشياء. كما تُبرهِن النظرية انطلاقًا من صحة التنبؤات الإحصائية لنظرية الكم، أن العالم ليس كما يتبدَّى لنا، أو بالأحرى كما عوَّدنا أنفُسنا على رؤيته. ولا يقتصر زوغان العالم هذا على المستوى الصغري، بل يتعداه إلى المستوى الكبري؛ أي إن عالمنا اليومي بكل أحداثه ومجرياته لا يسير كما نظن أنه يسير. وقد أتبع بيل نظريته بتجربة ذهنية مشابهة لتجربة أينشتاين وروزين وبودولسكي، تم فيما بعد التحقُّق من نتائجها بالتجريب العملي عام ١٩٧٢م، على يد الفيزيائيين Clause وFreedman، حيث أثبت هذان العالمان أن الجسيمات تتواصل مع بعضها بدون إشارة تنتقل بينهما. وقد كتب الفيزيائي هنري ستاب عن نظرية بيل يقول:
«إن الشيء الهام في نظرية بيل هو نقلها للمشكلة التي تطرحها الظاهرة الكوانتية على المستوى الصغري إلى المستوى الكبري. وهي تُظهر أن أفكارنا المعتادة عن الكون من حولنا قاصرة على المستوى الكبري قصورها على المستوى الصغري.»١٨ ويقول أيضًا: «إن الظاهرة الكوانتية تقدِّم بيِّنة من الطراز الأول على أن المعلومات تنتقل بطريقة لا تمتثل للقواعد التقليدية … إن كل ما عرفناه حتى الآن يقودنا إلى القول بأن العمليات الأساسية للطبيعة تقع خارج الزمان والمكان، ولكنها تولد حوادث متوضعة في الزمان والمكان.»١٩
ومعنى قول ستاب هنا هو أن الحوادث الفيزيائية، سواء على المستوى الصغري أم على المستوى الكبري، لا تجد أسبابها عند الجذور المرئية أو الملموسة بالتجريب، بل في مستوًى أعمق لا تستطيع تجربتنا الوصول إليه. وهذا ما يُسميه الفيزيائي دافيد بوهم بالكلانية غير المتجزئة Unbroken Wholeness، مما سوف نتحدث عنه بعد عرضٍ موجَز لفرضية البوتستراب Bootstrap، التي نشأت في السياق النظري والتجريبي للمصفوفة S، على يد الفيزيائي ج. تشو Geoffrey Chew الذي طوَّر فكرة البوتستراب إلى فلسفة للطبيعة، ثم استخدمها لبناء نظرية للجسيمات مصاغة بلغة المصفوفة S.

تُعتبر البوتستراب بمثابة الرفض النهائي والحاسم، الذي أعلنته الفيزياء الحديثة، للنظرة الميكانيكية للكون. فبالنسبة للفيزياء التقليدية، يقوم الكون على بنيةٍ قوامها لَبِناتٌ أساسية هي الوحدات الأولية المكوِّنة للمادة، والتي لا يمكن تجزئتها إلى أصغر منها أو تحليلها. أما وفق النظرية الجديدة للكون، وهي النظرة التي تعبِّر عنها البوتستراب أحسن تعبير، فإن المادة لا يمكن فهمها باعتبارها تجمعًا لكيانات مادية صغيرة لا يمكن تحليلها؛ لأن الكون هو نسيج مُحكَم من حوادث متداخلة ومعتمدة بعضها على بعض، بحيث لا يمكن اعتبار أي جزء من الكون أكثر أولية أو أساسية من الآخر؛ لأن خصائص كل جزء فيه تعتمد على خصائص الأجزاء الأخرى. يضاف إلى ذلك أن الاتساق الكلي للعلائق المتبادلة بين الأجزاء، هو الذي يحدِّد بنية النسيج بكامله. من هنا فإن البوتستراب لا تنكر فقط المكونات المادية الأساسية، بل إنها تنكر المكونات الأساسية من أي نوع، سواء جاءت على صيغة قوانين أو معادلات رياضية أو مبادئ؛ وبذلك تبتعد البوتستراب عن فكرة كانت جوهرية في علوم الطبيعة لمئات خلَت من السنين، وهي فكرة القوانين الأولية للطبيعة؛ فالقوانين كما يلمسها الفيزيائيون اليوم ليست إلا ابتكارًا ذهنيًّا يساعد على رسم خريطة للحقيقة، ولكنها لا ترسم الحقيقة نفسها.

أما الفيزيائي دافيد بوهم David Bohm،٢٠ فتقوم نظريته على الكلانية Wholeness والنظام المنطوي Implicate Order، على فكرة أن الظواهر الكوانتية لا يمكن فهمها إلا إذا توقَّفنا عن النظر إلى الجزء باعتباره الوحدة الأساسية للدراسة، وحوَّلنا اهتمامنا إلى الكل؛ ذلك أن دراسة العالم الكمومي تقودنا إلى مفهوم كلَّاني غير متجزِّئ للكون، يتنافى مع المفهوم التقليدي عن كون مؤلَّف من أجزاء ذات وجود مستقل ومنفصِل، حيث العلائق الكمومية التي لا يمكن فصمها هي الواقعة الأساسية، أما الأجزاء التي تسلك في استقلال ظاهري، فليست إلا أشكالًا عرَضية في ذلك الكل.
يُعتبر بوهم أيضًا واحدًا من أهم الفيزيائيين الذين ساروا بنظرية الكم نحو نتائجها الفلسفية القائمة على الصيغ الرياضية والتجارب العملية؛ فالعالم كما يتبدى لهذا الفيزيائي والمفكر العميق، هو عالمٌ متكثِّر الأبعاد. وليس المستوى الذي تجري ضِمنه حياتنا اليومية وتنشط فيه علومنا الطبيعية، إلا المستوى السطحي للوجود، وهذا المستوى ذو أربعة أبعاد، ويدعوه بوهم بالمستوى المنبسط (أو النظام المنبسط) Explicate Order. ورغم أن هذا المستوى السطحي الظاهري يمكن وصفه اعتمادًا على مظاهره وحدها، إلا أن فهمه لا يتيسر لنا باختراقه نحو المستوى الأعمق للوجود، وهو المستوى الذي يشكِّل الخلفية الشاملة التي تقوم عليها خبرتنا الفيزيائية والسيكولوجية والروحية، ويدعوه بوهم بالمستوى المنطوي Implicate Order. فعند هذا المستوى الخفي الباطني، تتَّحد كل الظواهر التي تبدو مستقلة ومتمايزة في المستوى المنبسِط الظاهري، وفيه تجد الأحداث الفيزيائية الغامضة تفسيرها. وهذان المستويان، يتبادلان الظهور والخفاء في حركةِ جريانٍ كلي، حيث ينبسط جزء من هذا الجريان على السطح ليُعطي أشكالًا ذات استقرار نِسبي، ولكنها متجذِّرة في ذلك الجريان السفلي غير المنظور، ثم ما انبسط يعود إلى الانطواء فإلى الانبساط، وذلك في حركة تبادلية دائبة. ويوضح بوهم أن هذه الصورة للحركة الكلانية ليست نتاج تأمُّل ذهني بحت، ولكنها «المعنى» الذي تنطوي عليه رياضيات ميكانيكا الكم، أو بتعبير آخر، فإن رياضيات الكم ليست إلا وصفًا لهذه الحركة الكلانية (Holomovement). يقول:
«إن الكلانية هي الأمر الحقيقي، وما التجزئة إلا حاصل استجابة الكل لأفعال الإنسان التي يوجهها إدراك يقوم على أفكار متجزئة. وبتعبير آخر، فإن المقترب التجزيئي في النظر إلى الكون، هو الذي يدعو الكون إلى إظهار استجابات متجزئة … إن كل ما نحتاجه بالفعل هو مرانٌ صعب وطويل على التخلي تدريجيًّا عن أساليبنا التجزيئية في التفكير، لنستطيع اتخاذ مقتربات كلية من الحقيقة، تدفعها إلى الاستجابة إلينا بطريقة كلية.»٢١
«إن النتائج الضمنية لكلٍّ من النظرية النسبية والنظرية الكوانتية، تُظهر الحاجة إلى رؤية العالم ككلٍّ غير مجزَّأ تندمج فيه الأجزاء وتتَّحد. في هذا الكل، تُعتبر النظرة الذرية للمادة نوعًا من التبسيط والتجريد، يَصلُح فقط ضِمن مجال محدَّد. أما الرؤيا الجديدة، فيمكن أن ندعوها بالكلَّانية غير المتجزِّئة في حركتها الجارية Undivided Wholeness in Flowing Movement. في هذا الجريان الكوني، لا يمكن اعتبار العقل والمادة بمثابة جوهرَين مستقلين؛ لأنهما وجهان مختلفان لحركةٍ كلانية متصلة. وبهذه الطريقة يكون بمقدورنا النظر إلى جوانب الوجود جميعها في اتصالها لا في انفصالها، ونُنهي تلك التجزيئية الكامنة في النظرية الذرية إلى المادة، وهي النظرة التي تدفعنا إلى فصل كل شيء عن كل شيء آخر على جميع المستويات.»٢٢
«لقد اكتشفنا أن الجسيمات التي اعتُبرت أولية، يمكن تخليقها وإفناؤها وتحويلها؛ مما دل على أنها أشكال ذات استقرار نِسبي مستخلَصة من مستوًى أعمق للحركة. وقد نفترض هنا أن هذا المستوى قابل بدوره للتحليل إلى جسيمات أكثر رهافة، ربما تكون الجوهر الأخير للحقيقة، إلا أن فكرة الجريان التي نستكشفها هنا تنفي مثل هذه الفرضية؛ لأنها تتضمن أن أية حادثة أو كيان، أو أي شيء مما يمكن ملاحظته ووصفه، هو استخلاص وتجريد من حركة كلية جارية، غير معينة أو معروفة. وهذا يعني أنه بصرف النظر عن تطور معارفنا في قوانين الفيزياء، فإن محتوى هذه القوانين لن ينطبق إلا على تجريدات لا تمتلك إلا استقلالية نسبية في وجودها وسلوكها.»٢٣

(١) خلاصة ونتائج

لقد قادنا هذا العرض السريع، والشامل إلى حدٍّ ما، إلى استخلاص بضع نظرات جديدة إلى الكون، لا تتناسب مع أي شيء نعرفه سابقًا ونطمئن إليه. ولعل أهم فكرة زوَّدَتنا بها الفيزياء الحديثة، من أجل الرؤيا الجديدة للكون، هي عدم وجود لَبِنات أساسية أو مكوِّنات أولية للمادة، وأن بنية الذرة لا يمكن وصفها كتجمُّع لبروتونات ونيترونات في نواة يدور حولها الإلكترونات في مدارات ثابتة، على طريقة النظام الشمسي، وأن هذه الجسيمات الذرية ليست أولية، مثلما أن الجسيمات الناجمة عن تحطيمها بالتصادم ليست أولية أيضًا. وبتعبيرٍ آخر، فإن الجسيم الأولي لا وجود له، وإن المادة التي تحيط بنا هي مادة بدون جوهر مادي. فلقد أظهرت الجسيمات، الذرية منها وما دون الذرية، بالتجربة أنها عبارة عن عمليات جارية، وليست كيانات مستقلة بأي شكل من الأشكال. وأخذ العالم يبدو لنا أكثر فأكثر على أنه نسيج مُحكَم من حوادث مترابِطة متداخلة، لا يتمتع أي جزء منه بصفة الأساسية والجوهرية؛ لأن خصائص كل جزء في هذا النسيج تعتمد على خصائص الجزء الآخر، بحيث تقرر العلائق المتبادلة بين الأجزاء، واتساقها العام، البنية الكلية للمادة.

إن نتائج فيزياء الجسيمات ذات الطاقة العالية، يمكن تلخيصها بالقول المُثير الذي أوردناه آنفًا، وهو أن كل جسيم في العالم الصِّغري يتألف من كل الجسيمات الأخرى. وهنا يجب ألا نتخيل أن كل جسيم يحتوي بقية الجسيمات فعلًا، ووفق المفاهيم الفيزيائية التقليدية، بل أن نتخيل تلك الجسيمات وهي تتضمن بعضها بعضًا بالمفهوم الدينامي الاحتمالي للمصفوفة S، حيث يتخذ كل جسيم وضعه في النسيج الكلي، كحالة ترابط احتمالية لبقية مجموعات الجسيمات التي يمكن أن تتفاعل مع بعضها من أجل تخليق هذا الجسيم. ففي تجارب التصادمات العنيفة في المسارعات النووية، أظهرت الجسيمات الثقيلة من البروتونات والنيترونات والبيونات وغيرها، أنها عبارة عن بنية احتمالية مركبة، مكوناتها جسيمات ثقيلة أخرى، وجميعها لا تتمتع بصفة الجسيمات الأولية. فالبروتون قد يخلِّق بروتونًا آخر، وإذا شُحن بطاقةٍ أعلى قد يخلق عددًا من البروتونات والنيترونات والبيونات، التي تعود بدورها إلى تخليقه من جديد؛ وبهذا فإن كل جسيم ثقيل على المستوى الصغري يلعب ثلاثة أدوار؛ فهو جسيم يتمتع باستقلال ظاهري من جهة، وهو بنية مركبة تؤلفها جسيمات أخرى يمكن أن تتخلق عنه من جهة ثانية، وهو عامل تبادُل بين جسيمين آخرين من جهة ثالثة. وهذا التبادل الذي تمارسه الجسيمات فيما بينها، هو الذي يضمُّها إلى بعضها في قوة ندعوها بالقوة الفائقة؛ أي إن القوة ليست شيئًا مختلفًا عن المادة، بل هي قيام الجسيمات بتبادل جسيمات أخرى. وبهذه الطريقة فإن كل جسيم يعمل على تخليق جسيمات تقوم بدورها بتخليقه، وكل شيء متضمن في كل شيء آخر. ورغم أن هذا المفهوم الصعب يمكن إعطاؤه معادلًا رياضيًّا دقيقًا، إلا أن شرحه بالكلمات لا يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الإيضاح.

كما أوصلتْنا الفيزياء الحديثة إلى أخطر اكتشاف يتعلق بطبيعة المعرفة، وهو أن كل القوانين التي ظننَّا دومًا أنها تحكم العمليات الطبيعية، ما هي في الواقع إلا ابتكارات ذهنية تساعدنا على فهم الطبيعة؛ أو بتعبير آخر، ما هي إلا طريقتنا في فهم الطبيعة. من هنا، فإن كل ما نراه من قوانين فاعلة فيما حولنا، هو تقريبات تجعل هذا القطاع أو ذاك معقولًا ومفهومًا بالنسبة إلينا؛ إنها أشبه بالخرائط المرسومة التي لا تربطها بالهيئات الطبيعية التي تصوِّرها إلا أوهى الروابط. ومن ناحية أخرى، فقد وحَّدت الفيزياء الحديثة بين طرفَي عملية المعرفة، فلم يعد هناك «عارف» و«موضوع معرفة»؛ لأن المراقب الإنساني، كما تبيَّن لنا، ضروري لتعيين صفات وخصائص الموضوع المادي، الذي يبقى دون تعيين بعيدًا عن الوعي، وعن تفاعله مع من يراقبه؛ وبذلك سقطت الموضوعية العلمية القديمة، ولم يعد بإمكان الفيزيائي أن يلعب دور المراقب الموضوعي؛ لأنه متصل بالظواهر التي يراقبها إلى درجة التأثير في خصائص موضوعات مراقبته. إن أية حادثة في العالم هي حلقة في سلسلة من العمليات الجارية التي تنتهي عند الوعي الإنساني الذي يرصد ويراقب، بحيث لم يعد ممكنًا صياغة قوانين النظرية الكوانتية بغير الرجوع إلى الوعي. وقد رأينا بوضوح، ومن خلال عدد من الأمثلة والتجارب، كيف أن الحوادث تبقى معلقة في الفراغ كمجموعة احتمالات، إلى أن يتدخل المراقب، مجبِرًا أحد هذه الاحتمالات على التحقق، ومُحدِثًا ما أسميناه بانهيار الدالة الموجية. فالفوتونات تتصرف كالموجات ما سُمح لها أن تتصرف كذلك، وتنتشر في الفضاء دون أن يكون لها موضع معين، ولكن بمجرد أن يسأل المراقب عن مكانها، وذلك بتعيين الشق الذي تمرُّ عبره في تجربة الشقَّين، أو يجعلها تصطدم بحاجز، فإنها تغدو فجأةً جسيمات مادية.

ورغم أن الفيزياء لم تَعمِد بعدُ إلى إدخال الوعي باعتباره عنصرًا فيزيائيًّا كغيره من العناصر المشتملة بالتجربة، وذلك بسبب شدة تأثير الأفكار القديمة التقليدية، إلا أن مثل هذه الخطورة تغدو ضروريةً أكثر فأكثر بالنسبة لأية نظرية فيزيائية مستقبلية؛ ذلك أن الإنسان ضروري لوجود الكون بمقدار ضرورة الكون لوجود الإنسان؛ لأننا نعيش في عالم تشاركي لا غنى فيه لأحد مكوِّنَيه عن الآخر، والوعي والمادة متضمنان في بعضهما في عروة وُثقى لا تنفصم. غالبًا ما نستمع إلى البعض يقول: «لماذا أتيت إلى هذا العالم؟» أو «يجب أن أفعل كذا قبل أن أغادر العالم»، أو ما إلى ذلك من صيغ تعبيرية تعكس نظرتنا إلى أنفسنا كمخلوقات ضئيلة عابرة في هذا العالم. ولكن الإنسان، كما بدأ يعي وجوده الآن، ليس كائنًا غريبًا «يأتي» إلى العالم ثم «يخرج منه»، بل هو عنصرٌ لازم لقيام عالمه بالذات، إنه يشارك بصنعه وإظهاره إلى حيز الوجود، والكون ليس مجموعة من الظواهر الكائنة «هناك»، تمارس «وجودها» في معزل عن الإنسان، بل هو تعيين مشترط بالوعي ومتضافِر معه على إظهار ما ندعوه دومًا ﺑ «الحقيقة».

لقد قُمنا في هذا الفصل برحلة في الفيزياء الحديثة، لغرض اكتشاف علاقة الإنسان بالكون؛ الإنسان-الوعي بالكون-المادة، وهي العلاقة التي اقترحتُ أننا واجدون في صميمها بذرة المعتقد الديني، ومن ورائه الدافع الديني. فهل فسَّر لنا درس الفيزياء هذه العلاقة؟ وهل بِتْنا على عتبة قول كلمتنا الأخيرة؟

١  في دراستي للنظرية الكوانتية، أفدت من عدد متنوع من المراجع الحديثة، إلا أن صياغتي الأخيرة لهذا النص قد استندت إلى مرجعَين رئيسين هما:
  • Gary Zukav, The Dancing Wu Li Masters, An Overview of New Physics, Flaminco, Glasco 1984.
  • Fritjof Capra, The Tao of Physics, Flaminco, Glasco 1983.
أما المراجع الأخرى، فسوف أشير إليها في مواضع الاقتباس منها.
٢  جرت العادة في الترجمات العربية على استخدام تعبير مبدأ الريبة كمقابل لتعبير The Uncertainity Principle الذي وضعه الفيزيائي هايزنبرغ. وقد وجدت في المقابل العربي ترجمةً حرفية لا تنفُذ إلى المعنى الحقيقي للتعبير الذي لا يفيد معنى الريبة قدر ما يفيد معنى اللاتعيين واللاحتمية.
٣  John Wheeler, in: J. Mehra (etd), The Physicist Conception of Nature, Dordrecht Holland, 1973, p. 244.
٤  العزم هو مفهوم للسرعة Velocity يأخذ بعين الاعتبار كتلة الجسم، حيث العزم = السرعة × الكتلة.
٥  Henry Stap, Are Superluminal Connections Necessary? Nuovo Cimento, 40 b, 1977, p. 191 (cited in: Gary Zukav, op, cit, p. 87).
٦  E. A. Walker, The Nature of Consiousness, Mathematical Biosciences, 7, 1970, pp. 175–176 (cited in: Gary Zukav, op. cit, p. 88).
٧  Werner Heisenberg, Physics and Philosophy, New York, Harber, 1958, p. 41.
انظر أيضًا الترجمة العربية للدكتور أدهم السمان، فيزياء وفلسفة، دمشق ١٩٨٤م.
٨  R. Oppenheimer, Science and the Common Understanding, Oxford 1954, pp. 42–43 (cited in: F. Capra, op. cit, p. 166).
٩  N. Bohr, Atomic Physics and the Description of Nature, Cambridge 1934, p. 57 (cited in: F. Capra, op. cited: p. 149).
١٠  IBID, P. 53.
١١  W. Heisenberg, op. cit, pp. 75, 57.
١٢  د. عبد الرحيم بدر، الكون الأحدب .. قصة النظرية النسبية، طرابلس، لبنان ١٩٨٦م.
١٣  M. Born, The Restless Universe, New York, 1951, p. 206 (cited in: Gary Zukav op. cit, p. 227).
١٤  قمت بنحت هذه الكلمة العربية كمقابل للكلمة الإنكليزية Virtual التي يستعملها الفيزيائيون لوصف هذا النوع غير الأصيل من الجسيمات، وبالمعنى الفيزيائي فإن Virtual Particle هو الجسيم الموجود كأمر واقع لا كشيء أصيل في ذاته.
١٥  F. Capra, op. cit, p 205.
١٦  Gary Zukav, op. cit, p. 255.
١٧  هذا المقطع عن ترجمة د. حاتم النجدي لكتاب Paul Davies، العوالم الأخرى Other, Worlds، دار طلاس، دمشق ١٩٩٠م، ص١٢٧–١٢٩.
١٨  Henry Stapp, S. Matrix, Interpretation of Quantum Theory, Physical Rev. d3, 1971 (cited in: G. Zukav op. cit, p. 300).
١٩  Henry Stapp, Are Superluminal Connections Necessary? Nuovo Cimento, 40B, 1977 (cited in: G. Zukav, op. cit, p. 310).
٢٠  هذا الشرح لأفكار بوهم يستند إلى كتابه المعروف: David Bohm, Wholeness and the Implicate Order, Ark, London 1984.
٢١  Ibid, p. 7.
٢٢  Ibid, p. 11.
٢٣  Ibid, p. 43.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤