الفصل الثاني عشر

غادر الملازم براشوف المُعسكَر فجرًا، وأحكم تثبيت خُرْجه إلى حصانه ثم انطلق. أربع عشرة ساعة عبر الأمطار والأنهار التي امتلأت بجُثَث الأبقار النَّافِقة، مارًّا بمستشفيات ميدانية غارقة في الماء، وحقول شمندر مغطَّاة بالمِلْح. ظلَّ يمتطي الحصان ليلًا ونهارًا عبر الأمطار التي تشبه الأرز الذي ينسكب من حقيبة من الخَيْش، عبر طرق مُبتلَّة مُوحَلة ومفارق طُرق غارقة في الطين. ولم يكن قادرًا معظم الرحلة على أن يرى أبعد من أنف حصانه، ثم توقَّفت الأمطار، وبلا سابق إنذار انطمس بصيص ضوءٍ كان يلوح في السماء كالثقب، وسطع قمرٌ أبيض …

«آنسة كوهين.»

رفعت إلينورا رأسها عن كتابها، فوجدته السيد كروم.

«إنَّ الكاهن مولر بالطابق الأسفل. لقد حضر من أجل الدَّرْس. هل أُخْبِره أن يقابلكِ في المكتبة؟»

هزَّت إلينورا رأسها، وانتهت من الفقرة التي كانت تقرؤها، ثم أغلقت كتابها واضعة المؤشِّر. انتظرت السيد كروم حتى يغادر قبل أن تنهض من المقعد، ورَمَقت نفسها في مرآة مائدة الزينة، ثم اتخذت طريقها هابطةً الدَّرَج. لم تكن واثقة من جدوى تلك الدروس، ولكنها وعدت مُنصِف بِك أنها ستجرِّبها لمدة شهر على أقل تقدير. ظلَّت تجرُّ يدها بامتداد السور الرخامي البارد، وهبطت حتى غرفة الانتظار، ثم اتَّجهت إلى الجانب الآخر من الغرفة في اتجاه قُطْريٍّ. وعندما وصلت إلى المكتبة، وقفت فترة طويلة في مدخلها تراقب مُعلِّمها الجديد وهو يتصفَّح كتابًا. كان ظهره باتجاه الباب، فلم تستطع أن تحدِّد ماذا كان يفعل، ولكن كان واضحًا أنه يداعب الحافة السفلى لفتحة أنفه بإبهامه.

قال الكاهن عندما لاحظها أخيرًا: «مرحبًا، يسعدني أن أقابلكِ مرة أخرى يا آنسة كوهين.» كان وجهه يَشِي بالطيبة والصراحة، تزيِّنه عينان دامعتان زرقاوان بلون أواخر الصيف.

لم يكن ثمة شيء محدَّد في الكاهن مولر يُثِير النفور منه؛ فثيابه نظيفة وأنفاسه تفوح برائحة النعناع، وهو يتحدَّث دون أي بادرة من التكبُّر؛ ولكن لم تستطع إلينورا أن تتخلَّى عن الشعور بأنهما ذوا أهداف متناقِضة، رغم كلِّ الأدلة التي تؤكِّد عكس ذلك.

قال وهو يشير إلى المقعد المجاور له: «تفضِّلي بالجلوس، إذا سمحتِ.»

تردَّدت إلينورا لحظة، ثم اتجهت إلى الجانب الآخر من الغرفة وجلست في المقعد المجاور له. كانا جالسَيْن على المائدة المُصمَتة المصنوعة من خشب البلوط التي يُطلِق عليها البِك مكتب الكولونيل؛ وذلك لأسباب لا تعلمها، وإن كانت تُرجِّح أنها ذات صِلَة بمِهْنة مالِكه السابق.

«ما زلتِ لا تتحدَّثين؟»

فهزَّت رأسها إيجابًا.

«سيصعب علينا القراءة بصوت عالٍ.»

وجدت إلينورا ورقة في أحد أدراج المكتب، فأخرجت قلمًا من جيب عباءتها.

ثم كتبت: «يمكنني أن أسمع، ويمكنني أن أقرأ أيضًا.»

«حسنًا.»

قلَّب الكاهن حتى الصفحة الرابعة من كتاب قراءة مُهترِئ ذي غلاف باللونين الأحمر والذهبي، يشبه كثيرًا ذلك الذي أحضره على العشاء في تلك الليلة، وبدأ على الفور يقرأ مُتتبِّعًا أسفل الكلمات بأصبعه.

«مِنسا مِنسا مِنسام مِنساي مِنساي مِنسا.»

وفي نهاية العمود توقَّف واستدار نحو إلينورا.

«هل فهمتِ؟»

فهزَّت رأسها.

«إنها اللاتينية، لغة روما، لغة فرجيل وأوفيد وشيشرون وقيصر.»

كانت تعرف مَنْ هو أوفيد؛ فكلُّ أهل كونستانتسا يعرفونه، وقيصر إمبراطور روماني، وفرجيل هو من كتب «الإنيادة»، ولكنها لم تكن قد سمعت عن شيشرون.

«مَنْ هو شيشرون؟»

فأوضح الكاهن: «إنه ماركوس توليوس شيشرون، ربما يُعَد أعظم خطيب في العالم على الدوام. سوف تقْضِين أنتِ وتُولي الكثيرَ من الوقت معًا على مدار الأشهر القليلة القادمة، وأتوقَّع أنكما ستصبحان صديقين.»

طبقًا للخطة التي أعدَّها هو والبِك، كان الكاهن مولر يأتي إلى المنزل مرتين أسبوعيًّا يومَي الإثنين والخميس بعد الإفطار. ورغم أن إلينورا ظلَّت متحفِّظة تجاهه، فقد استمتعت بدروسها؛ تصريف الأفعال والأسماء، والترتيب الثابت لقواعد مَبنيَّة على أخرى، وصوت الكاهن الأجش، وتلقَّت دروسها بسهولة ويسر. وكان بوسعها أن تتذكر كلمات أيِّ نصٍّ قرأته منذ أسبوع، وكانت تُتابِع النصوص الفلسفية المُعقَّدة بإصرار عنيد، وتلاحظ أَوْجه ترابُط لم يفكِّر فيها الكاهن نفسه. ولكن من بين مواهبها الكثيرة، كان أكثر ما أثار إعجابَ معلِّمها براعتها في تعلُّم اللغات، فبالنسبة إليها كان تعلُّم لغة جديدة لا يزيد عن ملْء مجموعة من الفراغات. فخلال ثلاثة أسابيع من الدرس الأول، أصبحت على دِراية بمبادئ اللغة اللاتينية قراءةً وكتابةً. وخلال شهرين، أصبح بوسعها أن تترجِم فقرات طويلة من «الإنيادة»، وتؤلِّف الحججَ التي تدْحَض بها آراء تُولي. وسرعان ما عرَّفها الكاهن مُتشجِّعًا بهذا النجاح في اللغة اللاتينية على اللغة الإغريقية وأرسطو والبطالمة وهيرودوت وأسخيلوس والقديس أوغسطين.

لم تغيِّر دروس الكاهن سوى القليل في عادات إلينورا الخارجية، فظلَّت تقضي معظم أيامها تقرأ في المقعد المجاور للنافذة البارزة تتناوب على قراءة «الساعة الرملية» والكتب التي حدَّدها لها الكاهن، وظلَّت ترفض الكلام أو مُبارَحة المنزل، ولكن حالها على المستوى الداخلي كانت تتحسَّن تدريجيًّا، فكانت تسْتمتِع بالمناقشات المشاكِسة للقدماء، وتَجِد قدرًا من السحر في النثر حَسَنِ الصياغة. فسطرٌ مثل ذلك، من حوار أفلاطون الذي يحمل عنوان «فيدروس»: «ساحراتٌ وجيادٌ مجنَّحة تنطلق بسرعة»، سيجلب حتمًا ابتسامةً إلى شفتيها. «ساحراتٌ وجياد مجنَّحة تنطلق بسرعة». ظلَّت تكرِّر الكلمات لنفسها عدة مرات حتى أصبحت الساحرات معها، متجهِّمات الطلعة يُحدِّقْن على نحو مُخِيف، ويتحرَّكن على أحصنة مُجنَّحة.

ورغم استمتاعها الشديد بدروسها، لم تكن إلينورا تثق بالكاهن تمام الثقة. لم يكن ثمة حادث مُحدَّد أثار رِيبتها، ولكنَّه مجموع التفاصيل. كان كثيرًا ما يغيِّر مواعيد الدروس، متعلِّلًا بأن لديه مواعيدَ مهمَّة لا يمكنه تغييرها، وكان يوجِّه لها أسئلة غريبة عن البِك، ووجدته أكثر من مرَّة يفتِّش في أدراج مكتب الكولونيل. ولكن الحادث الذي أكَّد شكَّ إلينورا على نحوٍ دائم وَقَعَ بعْدَ مرور بضعة أسابيع على بدْءِ تعليمها اللغة الإغريقية. وصل الكاهن متأخِّرًا حوالي ساعة في ذلك الصباح، وعندما وصل بدا شارِدَ الذهن. فتح الستائر وأغلقها مرتين قبل أن يطلب منها أن تبدأ، وأخذ يعَضُّ على رأس قلمه وهو يَذْرَع المكان جِيئةً وذهابًا، بينما كانت تقرأ لنفسها وأصبعُها يتتبع الكلمات، وأخذ حَفِيف سرواله يُشِير إلى مرور الوقت كما لو كان بَنْدول إيقاع قَلِق.

وبعد فَتْرة وجيزة، سُرِقت بعض الماشية من جزيرة وابية على يد أوتولايكس، وافترض يوريتوس …

شعرت إلينورا بلمسة خفيفة من يد الكاهن على كَتِفها، فتوقَّفت عن القراءة.

«ماذا تَذْكُرين عن أوتولايكس؟»

وبينما كان يغيِّر وضعه، شعرت بكُمِّ قميصه يمسُّ ذراعها على نحوٍ أزعجها، فقطَّبت عينيها ووضعت أصبعها تحت الكلمات.

«إنه إحدى شخصيات الأوديسا، جدُّ أوليسيس لأبيه.»

حدَّقت إلى ورق الحائط الأحمر المُزركَش أمامها، وتذكَّرت الفقرة المناسبة، وكتبتها في أسفل الصفحة:

وبالفعل، فَوْر أن بدأت تُحمِّم سيدها، علمت في الحال أن تلك هي الندبة التي سبَّبها له خنزير برِّي عندما كان يصطاد في جبل بارناسوس مع جدِّه الرائع أوتولايكس، الذي كان أمهر لصٍّ وشاهِد زُور في العالم بأَسْرِه.

ابتسم الكاهن قائلًا: «نعم، بالضبط.» وتابع قائلًا وهو يرفع يده عن كتفها ويغيِّر اتجاهه: «إذا لم يكن لديكِ مانع، لديَّ شيء جديد اليوم.»

جلس الكاهن مولر أمام مكتب الكولونيل، ومدَّ يدَه في حقيبته فأخرج أنبوبًا فِضِّيًّا صغيرًا. تأمَّل النقوشَ بامتداد الحافة العلوية، وفتحه ثم أخرج قطعة ملفوفة من الورق، وبسطها في منتصف المكتب، ثم ثبَّتها من الجانبين بمُثقِّلة الورق. كانت الورقة مغطَّاة تقريبًا بالكامل بالحروف اليونانية، ولكن الكلمات لم تكن يونانية. لم يُخبِرها عن مصدر هذه الورقة، ولا عن السبب الذي يدعوه ليحتفظ بها في أنبوب مزخرف كهذا.

قال الكاهن: «كما ترين، فتلك الحروف لا تصنع كلماتٍ، حتى ولو كلمات مفهومة بالنسبة إلينا على الأقل. ولكنْ ثمة نمط، نظام. وهدف هذه الأُحْجية هو اكتشاف النمط، وهذا هو درس اليوم.»

أمسكت إلينورا برأسها بين راحتَي يدَيْها، وحدَّقت إلى الحروف. استجمعت تركيزها قدْرَ ما استطاعت في نقطة واحدة، وهو ما كانت تفعله عندما ترغب في تذكُّر شيء ما؛ استشهاد أو قاعدة نحوية أو تاريخ أو كلمة جديدة. كانت بارِعة في تذكُّر الأشياء، وحالما تلتقط شيئًا في ذهنها فإنه لا يهرب منها أبدًا. ولكن اكتشاف حلِّ تلك الأُحْجية كان مهمة مختلفة تمامًا، كتعلُّم لغة جديدة بلا كتاب، أو كإدراك أن الريش هو الثلج دون أن يُخبِرك أحدٌ بذلك. زفرت إلينورا أنفاسها، واستقامت في جلستها، وتركت ذهنها يسترخي. وبدلًا من التركيز على الحروف، تركت تركيزها يتفرَّق إلى آلاف من الأشعَّة الصغيرة. أغلقت عينيها وأرخت إطباق أسنانها، وتركت الحروف تتحرَّك عبر ساحة الضوء المستمرَّة التي تتراقص داخل جفنَيْها. اهتزَّ كلُّ حرف في ذاته بالإضافة لاحتمالات كلِّ الحروف الأخرى بكلِّ اللغات التي تعرفها، وهكذا تكوَّنت الجملة: «الأربعاء وقت الظهيرة، خلف مقهى أوروبا.»

فتحت عينيها مرة أخرى فأبصرت المكتبة والكاهن بأنبوبه الفِضِّي، ورفع الكاهن حاجِبيه بينما كانت تكتب الإجابة:

الأربعاء وقت الظهيرة، خلف مقهى أوروبا.

«كيف توصَّلتِ إلى ذلك؟»

هل تلك هي الإجابة الصحيحة؟

فقال الكاهن وهو يعَضُّ على شفته السفلى: «نعم، أعتقد ذلك، ولكن ما يهمني أكثر من ذلك هو كيف توصَّلْتِ إلى الإجابة.»

«تأخذ الرقم المرتبط بكل حرف من الحروف اليونانية، ثم تطرح منه اثنين، ثم تحوِّل الرقم الجديد إلى الأبجدية العثمانية.»

«تمامًا!»

توقَّف للحظة كي يتأكَّد من الإجابة، ثم طوى الورقة وأعادها في حامِل المستندات، ونهض واقفًا يعتذر لها لاضطراره إلى مقاطعة دَرْس اليوم، مؤكِّدًا لها أنه سيعوِّضه لها يوم الخميس، ثم انصرف.

رغم أن دروس الكاهن قد قدَّمت لها القليل من العون، فقد كانت حرَّة في قضاء أيَّامها كما تحب. اختارت أن تجلس معظم الوقت هادئةً في غرفتها تقرأ كتابًا، ولكن مع قدوم الصيف والزيادة البطيئة لطول النهار، وعودة الطيور المهاجِرة للوجود بانتظام بامتداد البوسفور، ازداد فضول إلينورا بشأن الأشياء المحيطة بها. فرغم أنها لم تكن تنوي مبارحة منزل البِك، فقد زادت رائحةُ براعم المشمش المُتفتِّحة من جرأة جولاتها في الأَرْوِقة والغُرَف الخالية. وذات مساءٍ في أحد أيام الأربعاء قُبَيل شهر يونيو، داهمتْها رغبة مفاجئة في استكشاف جناح الحريم. وضعت المؤشِّر عند الموضع الذي توقَّفت عنده في كتاب «التاريخ الطبيعي» لبليني، وهبطت الدَّرَج، ثم انعطفت يسارًا أسفل الدَّرَج. وفي نهاية القاعة الرئيسة وراء المكتبة وقاعة الاستقبال وغرفة موسيقى اكتشفتها منذ بضعة أسابيع، وجدت إلينورا نفسها في مدخل جناح الحريم؛ وهو باب شاهق الارتفاع ضيِّق ذو نقوش على هيئة أشكال سداسيَّة مُتداخِلة.

فُتِح الباب على رَدْهة مُعتَمة تفوح برائحة الأتْربة وبيوت العنكبوت. كانت غرفة الانتظار لجناح الحريم غرفةً رقيقة شاهقة الارتفاع تتناثر فيها قِطَع الأثاث غير المستخدم والبقايا المُهترِئة لوساداتٍ من نسيج السندس الوردي، ويسود أرجاءها جوٌّ مُتْرِب يوحي بالإهمال استطاعت أن تستشعره حتى وهي ما زالت تقف في المدخل. عطست وخَطَتْ خطوة داخل الغرفة، ثم أغلقت الباب خلفها. عطست مرة أخرى ومسحت أنفها بطرف كُمِّها، وهنا فقط لاحظت سُلَّمًا يمتد مُتقاطِعًا أعلى الحائط الخلفي. كان هذا السُّلَّم يؤدِّي حسبما تعلم إلى ممرٍّ عائم تحت السقف. لم تكن لديها فكرة إلى أين يؤدِّي الباب، أو ما الذي قد تكتشفه خلفه، ولكن أليس ذلك هو الغرض من الاستكشاف؟

استنشقت إلينورا الهواء الراكد، ثم عبرت الردهة وصعدت الدَّرَج الخشبي. كانت تُصدِر صريرًا مع كلِّ خطوة، فتشبَّثت بالدرابزين طَلَبًا للدَّعْم. وفي أعلى الدَّرَج وجدتْ بابًا غير مُزخرَف مصنوعًا من خشب الأرز، وحاولت أن تُدِير المِقْبض، فدار في يدها بيُسْر كاشفًا عن رُواق مُظلِم يمتد مُستقيمًا في الاتجاه المعاكس لجوف الحائط. ولم تستطع إلينورا أن ترى من مكانها سوى غمامة من التراب ومجموعة من الفئران تعدو عبر العتبات. مسحت يدها في عباءتها من الأمام، وأخذت بضع خطوات حَذِرة في الرواق، واستطاعت أن تتبيَّن بقعة من الضوء على بُعْد. وضعت ذراعيها أمام وجهها، وتوجَّهت نحو الضوء مُنحنِية أسفل الأشعة، وأخذت تتوقَّف كلَّ بضع خطوات كي تُزِيل خيوط العنكبوت عن شعرها.

اكتشفت أن الضوء يتدفَّق في الأَرْوقة عبر حاجزٍ شبكي يشبه ذلك الذي رأته على نافذة عربة البِك. وضعت رأسها عند الحاجز، فشاهدت أسفل منها أَرْفُف الكتبِ ومجسَّمات الكرة الأرضية وموائد القراءة بالمكتبة، كما لو كانت تشاهد مسرحًا، ووضعت يدها على قلبها الذي خَفَق بشدَّة بين ضلوعها. كما علمت لاحقًا، فإن تلك الأَرْوِقة أمرٌ مألوف في إسطنبول، وهي مُصمَّمة كي تتمكَّن سيدات المنزل من مشاهدة المناسبات الاجتماعية دون أن يعرِّضن شَرَفَهن للخطر، وهي مَبنيَّة في معظم القصور العتيقة الضخمة بامتداد البوسفور. ولكن عندما اكتشفت إلينورا تلك الأَرْوِقة للمرة الأولى، كانت كمَنْ وجدت الباب السحري لعالَم آخر، أو صندوقها الخاص الذي يمكنها من خلاله مراقبة كلِّ غرفة في المنزل.

ربما كانت ستعود أدْراجَها لو لم تشعر عندئذٍ بتيار من الهواء البارِد يخترق الظلام. مرَّت بمفاصل أصابعها على الألواح الخشبية المكشوفة التي تغطِّي حوائط الرُّواق، وواصلت تقدُّمها نحو مصدر الهواء. عبرت فوق غرفة الطعام وغرفة الانتظار؛ حيث رأت خيال السيدة داماكان يختفي في جناح الخَدَم. وفي زاوية المنزل بجوار ما قدَّرت أنه موضع غرفتها، انحنى الرُّواق انحناءة حادَّة وانفصل في اتجاه المطبخ. ومن هذا التقاطع وجدت سُلَّمًا خشبيًّا ضيِّقًا يقود لأسفل. لم تكن إلينورا على يقين من ذلك، ولكن بدا كما لو كان الهواء يأتي من أسفل الدرج.

أمسكَتْ بالدرابزين بيدها الخالية، واتَّخذت طريقها بحذرٍ أسفل الدَّرَج إلى غرفةٍ ذات باب حديدي صغير مثبَّت في الحائط. لم يكن ارتفاع الباب أطول منها كثيرًا، ولم يَزِد عَرْضه عنها سوى ضِعْف واحد، وكان يعلوه الصدأ البرتقالي حول الأقفال، وتتجمَّد فوقه طبقة من الرطوبة المُختلِطة بالغبار. كان مَلْمسه دافئًا، وبدا كما لو أنه لم يُفتَح منذ فترة طويلة. وجدتْ أن مصدر الهواء شقٌّ بين إطار الباب وخشب المنزل، ناتج عن استقرار المنزل في أساسه. كان ثمة شعاع ضئيل من ضوء النهار يتسلَّل عبر الشق، ورائحة التِّبْن تملأ المكان حولها. نظرت إلينورا خلفها ثم قرعت منتصف الباب، فأصدر صوتًا عميقًا أجوفَ كما لو كان جرسًا كبيرًا. وضعت أُذنها على الباب، ولكن فيما عدا صدى قَرْع الباب فإنها لم تسمع أيَّ شيء. وقفت إلينورا فترة طويلة واضعةً يدها على مِقْبض الباب قبل أن تُقرِّر ألَّا تغامر، وأخبرت نفسها وهي تهرول صاعدةً الدَّرَج وتَتتبَّع خطواتها عبر الرواق، بأن ذلك الاستكشاف يكفي ليوم واحد، ذلك الاستكشاف أكثر من كافٍ بالنسبة إلى يوم واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤