المترجم اليوناني

طوال سنوات معرفتي بشيرلوك هولمز، لم يتحدث مطلقًا عن أسرته. ربما لهذا السبب كنت أراه أحيانًا رجلًا بلا مشاعر. كان الذكاء عنده أهم من مشاعر الصداقة والحب. ومع عدم وجود أصدقاء أو أقرباء له، كان أشبه بعقل دون قلب. لذلك اندهشت عندما بدأ يتحدث في أحد الأيام عن أخيه.

كان ذلك مساء أحد أيام فصل الصيف، وأنا وهولمز ننال قسطًا من الراحة بعد العشاء. انتقلنا في حديثنا من موضوع لآخر. وبصورة ما، بدأنا التحدث عن العوامل التي تشكل شخصية المرء. وتساءلنا هل نرث الشخصية التي نصير عليها من والدينا، كما يرث الابن مثلًا عيني والده، أو الابنة شعر والدتها؛ أم أن كل شيء يعتمد على كيفية تنشئتنا.

قلت له: «حسنًا يا هولمز، يبدو لي أن والديك قد ربياك بأسلوب يصعب أن تكون معه أي شيء آخر غير المحقق العظيم الذي أصبحت عليه.»

رد هولمز: «يحمل كلامك بعض الحقيقة يا واطسون، لكنني أعتقد أنه من هذا المنطلق لا بد أن ينتشر الأمر بين أفراد العائلة. لتأخذ مثالًا على ذلك أخي مايكروفت. بالرغم من أننا تربينا بالأسلوب ذاته، فإنه يتمتع بمهارات تفوق مهاراتي بكثير، أؤكد لك ذلك.»

سألته: «إذن، لماذا لم يشتهر مثلك؟»

– «يتمتع مايكروفت بلا شك بقدرة أكبر على الملاحظة والاستدلال، لكنه لا يهتم بالأمور الأخرى التي يستلزمها عملي. فهو لا يتمتع بالنشاط اللازم لجمع الأدلة أو ملاحقة المشتبه بهم. ولا يمكن أن يزعج نفسه بالتجول في الريف للتحقق من صحة أفكاره. لذلك، يستخدم مايكروفت مهارته في التعامل مع الأرقام في تولي بعض المهام لحساب الحكومة.

إنه شخص روتيني يا واطسون، ويفعل الأمور ذاتها كل يوم. في الواقع إذا كنت ترغب في لقائه، فسيسعدني أن أعرّفك به. فهو يكون كل يوم في الوقت نفسه في نادي ديوجينيز كلوب. يمكننا الذهاب إلى هناك الآن.»

قلت له بعد أن تركنا شارع بيكر: «لم أسمع مطلقًا عن نادي ديوجينيز كلوب.»

رد هولمز: «لم يسمع به كثيرون. أعضاؤه مجموعة غريبة من الناس؛ فهم لا يذهبون إلى النادي للالتقاء بالأعضاء الآخرين. في الحقيقة هناك قاعدة تمنعهم من التحدث فيما بينهم. فيرتادون النادي للتمتع بالكراسي المريحة والصحف، ولأنه أيضًا أحد الأماكن القليلة التي يمكن أن ينفردوا فيها بأنفسهم.»

وصلنا سريعًا إلى نادي ديوجينيز كلوب. وفي الداخل ألقيت نظرة على غرفة كبيرة، ورأيت مجموعة من الرجال يجلسون على كراسٍ بمساند، ويقرءون الصحف. لم يكونوا يتحدثون فيما بينهم. وقد أوضح هولمز أن هناك غرفة واحدة مسموح فيها بالتحدث. تركني في هذا المكان، وانتظرت في هدوء. عاد صديقي سريعًا ومعه رجل ضخم ممتلئ الجسم. كان ذلك أخاه الأكبر، مايكروفت هولمز. وقد عكس تعبير وجهه حضور الذهن ذاته الذي يظهر على هولمز.

قال مايكروفت: «تسعدني مقابلتك يا دكتور واطسون. لقد اشتهر أخي بفضل ما تكتبه من قصص عما يخوضه من مغامرات. بالمناسبة يا شيرلوك، لقد توقعت أن تتصل بي الأسبوع الماضي. ظننت أنك قد ترغب في معرفة أفكاري بشأن قضية مانور هاوس. لقد كان آدامز، أليس كذلك؟»

قال هولمز، ونحن نهم بالجلوس: «نعم، كان آدامز.»

قال مايكروفت، وهو يلقي نظرة من النافذة على حركة المرور في الشارع: «أتمنى أن يكون نادينا قد أعجبك يا دكتور واطسون، إنه مكان رائع لملاحظة الناس. على سبيل المثال: الرجلان اللذان يسيران باتجاهنا …»

ألقى هولمز نظرة خاطفة من النافذة، وقال: «لاعب البلياردو والرجل الآخر؟»

أجاب مايكروفت: «نعم، ما الذي تستنتجه عن الرجل الآخر؟»

وقف الرجلان خارج النافذة ليتحدثا. كان بإمكاني رؤية علامات طباشير على سترة الرجل الأول. وكان من الواضح أن مصدر هذا الطباشير هو لعب البلياردو. أما الرجل الثاني، فكان قصيرًا، ولون بشرته أسمر داكن نتيجة للتعرض للشمس. كان يرتدي قبعة ويحمل عددًا من الرُزم تحت ذراعه.

أبدى هولمز ملاحظة قائلًا: «أعتقد أنه جندي.»

قال مايكروفت: «لقد ترك الجيش مؤخرًا.»

– «خدم في الهند …»

– «ضابط …»

أضاف هولمز: «أظن بسلاح المدفعية الملكي.»

قال مايكروفت: «أرمل.»

– «لكن لديه طفل يا عزيزي مايكروفت.»

– «طفلين يا عزيزي شيرلوك، طفلين.»

قلت ضاحكًا: «هذا كثير حقًّا.»

رد هولمز: «على الإطلاق يا واطسون. لتنظر فقط إلى كيف يقف، وإلى ملابسه، وكيف يسير. من السهل ملاحظة أن هذا الرجل كان عسكريًّا وأنه ضابط. وكما تعلم، يخدم الكثير من جنودنا في الهند. وتشير سُمرة بشرته إلى أنه عاد مؤخرًا من هذا البلد.»

استكمل مايكروفت حديثه: «لا يزال يرتدي حذاءه العسكري طويل الرقبة، مما يشير إلى أنه لم يترك الجيش منذ فترة طويلة.»

أضاف هولمز: «وهو لا يسير مثل الجنود الذين سبق لي رؤيتهم في سلاح الفرسان ويمتطون الخيول. وهو أيضًا ليس في سلاح المهندسين الملكي، فوزنه الثقيل لا يتناسب مع العمل الذي يؤدونه. لكنه يُميل قبعته على أحد جانبي رأسه. يمكنك ملاحظة أن أحد جانبي جبينه أقل سُمرة من الآخر. الأمر الذي لا يعني سوى أنه في سلاح المدفعية.»

قال مايكروفت: «توضح ملابسه كذلك أنه في حالة حداد، وفقد شخصًا عزيزًا عليه. وبما أنه يشتري هدايا أطفال، فأعتقد أنه قد فقد زوجته. يحمل خشخيشة لطفل صغير، وكتابًا مصورًا لطفل أكبر سنًّا.»

أدركت حينها أن هولمز كان صادقًا تمامًا عندما وصف لي أخاه في وقت مبكر من ذلك اليوم.

قال مايكروفت: «بالمناسبة يا شيرلوك، هل تهتم بمعرفة تفاصيل قضية طُلب مني التحقيق فيها؟»

أجاب هولمز: «يسعدني ذلك يا أخي العزيز.»

رن مايكروفت الجرس، وكتب سريعًا رسالة على ورقة، ثم أعطاها للنادل.

أوضح مايكروفت الأمر قائلًا: «لقد طلبت من جاري الانضمام إلينا، اسمه ميلاس، وهو يوناني. لقد طلب مني التحقيق في أمر سأدعه يشرحه لكما.»

بعد بضع دقائق، انضم السيد ميلاس إلينا، وأخبرنا بقصته: «أعتقد أنكما قد عرفتما بالفعل أنني أكسب قوت يومي بالعمل مترجمًا يونانيًّا. على سبيل المثال: عندما يكون هناك نزلاء يونانيون لا يتحدثون الإنجليزية بالفنادق، فإنهم يتصلون بي. وفي بعض الأحيان يكون الاتصال في أوقات غريبة لأساعد مسافرين وصلوا لتوهم إلى لندن. لذلك فإنني لم أندهش عندما اتصل بي السيد لاتيمر منذ ليلتين. قال إن صديقًا يونانيًّا له كان يزوره، وإنه بحاجة لخدماتي. بدا في عجلة من أمره، ودفعني إلى الركوب سريعًا في عربة تجرها الخيول.

لم نكن قد ابتعدنا كثيرًا عندما فعل السيد لاتيمر أمرًا شديد الغرابة؛ لقد أخرج عصا صغيرة من جيبه، ووضعها على المقعد الموجود بجانبه، ثم أغلق نوافذ العربة. واندهشت عندما رأيت النوافذ مغطاة بالورق؛ فحجبت عني رؤية ما بخارج العربة.

أوضح لي بعد ذلك أنه لا يريدني أن أعلم إلى أين نحن ذاهبان. كما أخبرني أنه يجب علي عدم اللجوء إلى الشرطة، وسأحصل على مكافأة مقابل ما تكبدته من عناء. كان رجلًا ضخمًا، ولم يكن هناك ما يمكنني فعله.»

تابع ميلاس قائلًا: «سرنا مدة ساعتين تقريبًا حتى توقفت العربة. فتح السيد لاتيمر الباب وخرجت. كنا عند منزل ذي بوابة مقوسة الشكل، وعلى الجانبين يمتد فناء مليء بالحشائش والأشجار. فيما عدا ذلك، لم يكن لدي أية فكرة عن المكان الذي أنا فيه.

وبالداخل تركني السيد لاتيمر مع رجل أكبر سنًّا، قاسي الملامح، ويرتدي نظارات. حذرني هذا الرجل أيضًا من مخالفة ما قيل لي، وإن فعلت، فسأتعرض للمشكلات. وأوضح أن هناك رجلًا يونانيًّا في المنزل، وأنه يريدني أن أطرح أسئلة على هذا الرجل، وأترجم إجاباته إلى اللغة الإنجليزية. وأكد الرجل ذو النظارات على ضرورة عدم قول أي شيء آخر لذلك اليوناني.

اصطحبني إلى غرفة أخرى، كانت كبيرة وضعيفة الإضاءة. وكان بإمكاني رؤية أثاث باهظ الثمن، وشعرت بسجادة سميكة وفخمة تحت قدمي. كانت هناك مجموعة من الدروع اليابانية بجوار المدفأة. في تلك اللحظة، ظهر السيد لاتيمر ومعه اليوناني. وفزعت عندما رأيت وجهه الشاحب شحوب الموت. بدا ضعيفًا للغاية. وإلى جانب هذا المظهر السيئ الذي كان عليه، صدمتني أكثر رؤية الضمادات التي تغطي وجهه. كما اختفى فمه خلف قطعة شريط كبيرة. دفع السيد لاتيمر الرجل ليجلسه على كرسي آخر.

طلب مني الرجل ذو النظارات بعد ذلك أن أطرح مجموعة من الأسئلة، وأجاب الرجل المُضمَّد على كل منها بالكتابة على ورقة.»

تابع السيد ميلاس روايته الغريبة، بينما كنت أنا وهولمز ومايكروفت نستمع إليه: «كان السؤال الأول: هل ستوقع على الأوراق؟ وكانت إجابته: أبدًا! ثم أضاف: إلا إذا شهدتُ زواجها على يد قسيس يوناني أعرفه.

استمر ذلك فترة من الوقت، ثم طرأت على ذهني فكرة. ما إن تأكدت من أن السيد لاتيمر والرجل الآخر لا يمكنهما التحدث باليونانية على الإطلاق، حتى بدأت أضيف أسئلتي إلى أسئلتهما. وبهذه الطريقة تمكنت أنا والرجل اليوناني من التواصل معًا دون أن يعلم الآخرون. وصارت المحادثة على نحو شبيه بذلك:

– «لا فائدة من المقاومة. من أنت؟»
– «لا يهمني. أنا غريب في لندن.»
– «إذن، فأنت تعلم ما سيحدث لك؟ كم مضى على وجودك هنا؟»
– «افعل ما بدا لك. ثلاثة أسابيع.»
– «لن تكون أملاكها ملكًا لك أبدًا. ماذا بك؟»
– «ولن تكون لك أيضًا. لم آكل منذ أيام.»
– «سوف نطلق سراحك إذا وقعت. أين نحن؟»
– «لن أفعل أبدًا. لا أدري.»
– «لا تجني مما تفعله سوى إيذائها. ما اسمك؟»
– «دعني أتحدث إليها. كراتيدس.»
– «وقع، ثم يمكنك رؤيتها. من أين أتيت؟»
– «إذن، فلن أراها ثانيةً أبدًا. أثينا.»

في تلك اللحظة، فُتح الباب، ودخلت امرأة إلى الغرفة. كانت طويلة القامة، وشعرها أسود، وترتدي رداءً أبيض فضفاضًا. دخلت لتسأل عن السيد لاتيمر، لكنها عندما رأت الرجل المضمَّد على الكرسي، هتفت باسمه قائلةً: «بول!»

مزق كراتيدس الشريط الموجود على فمه، ونادى عليها. كانت تُدعى صوفي. اندفع ليعانقها، لكن لاتيمر أمسك بالمرأة وجذبها بعيدًا. وفعل الرجل الآخر الأمر نفسه مع كراتيدس. وعندما عاد الرجل ذو النظارات، أعطاني بعض المال، ثم حذرني، وهو يضحك ضحكة مخيفة، من التحدث مع أي أحد عن تلك الليلة.

عاد السيد لاتيمر، واصطحبني إلى العربة. وسرنا مرة أخرى مدة ساعات، والنوافذ مغلقة. وعندما توقفت العربة أخيرًا، خرجت منها، ووجدتني في الريف. وانطلقت العربة مسرعة، تاركةً إياي بمفردي. ومن هناك توجهت إلى أقرب بلدة، وركبت أول قطار متجه إلى المدينة.

لا أدري أين كنت، أو مع من كنت أتعامل. كل ما أعرفه هو أنني أريد مساعدة ذلك الرجل المسكين. لقد أخبرت أخاك والشرطة بالأمر، وأخبرك به الآن يا سيد شيرلوك هولمز.»

سأل هولمز: «وما الذي فعلته يا مايكروفت؟»

أعطانا الأخ الأكبر إحدى الصحف، وأشار إلى إعلان نصه:

جائزة لأي شخص يدلي بمعلومات عن رجل يوناني يُدعى بول كراتيدس من أثينا، أو امرأة يونانية اسمها صوفي.

قال مايكروفت: «نُشر هذا الإعلان في جميع الصحف اليومية، لكن لم يتقدم أحد.»

سأل صديقي: «ماذا عن السفارة اليونانية؟»

وكانت الإجابة: «لا شيء.»

سأل هولمز: «هل اتصلت بالشرطة في أثينا؟»

وجَّه مايكروفت حديثه إلي قائلًا: «لهذا السبب يتمتع شيرلوك بالشهرة، أما أنا فلا. فهو يتسم بالنشاط في تقفي الآثار، أما أنا فلا. إذا كنت تود التحقيق في الأمر يا شيرلوك، فبالتأكيد …»

رد هولمز: «شكرًا يا مايكروفت. سأحقق في هذه القضية، وسأبقيك أنت والسيد ميلاس على اطلاع بكل ما هو جديد. وفي هذه الأثناء، لو كنت مكانك يا سيد ميلاس، لتوخيت الحذر. فالسيد لاتيمر وصديقه يعلمان الآن أنك لم تبال بتحذيراتهما، وربما تكون في خطر.»

غادرت أنا وصديقي نادي ديوجينيز كلوب، وتوجهنا إلى شارع بيكر. توقفنا عند مكتب التلغراف حتى يبعث هولمز بعدد من الرسائل. بعد ذلك، وأثناء المضي في طريقنا، سألني هولمز عن رأيي في القضية.

قلت له: «يبدو لي أن لاتيمر قد خطف المرأة اليونانية، ربما من أثينا.»

قال هولمز: «أختلف معك يا واطسون. فلاتيمر لا يتحدث اليونانية على الإطلاق، لذلك لا أظن أنه قد ذهب إلى هناك قط. من ناحية أخرى، فإن السيدة تتحدث الإنجليزية. لذلك أعتقد أنها قد أتت إلى إنجلترا من قبل، والتقت بلاتيمر في إحدى مرات زيارتها. وربما تكون قد نشأت بينهما علاقة عاطفية. فهي لم تعط لميلاس انطباعًا بأنها كانت أسيرة.»

أكملت قائلًا: «أعتقد أنها شقيقة السيد كراتيدس. وأظن أنها تملك ثروة ما، وجاء أخوها إلى إنجلترا لإنهاء علاقتها بلاتيمر. لكن لاتيمر والرجل الآخر ما كان ليردعهما أي شيء، فأبقيا على كراتيدس سجينًا لديهما. ولم تكتشف هي الأمر سوى عندما دخلت عليهم صدفة. وبذلك فهي الآن سجينة لديهما أيضًا.»

صاح هولمز: «رائع يا واطسون! ويعتمد الأمر علينا في إنهاء هذه اللعبة. إن حالفنا الحظ، فسنتلقى ردًّا على الإعلان المنشور في الصحيفة. ففي النهاية لم تكن صوفي مختبئة من قبل، وربما تعرف أناسًا هنا، ومن ثم فقد نتمكن من إيجادهم جميعًا.»

وصلنا إلى شارع بيكر، وصعدنا السلم، وفتحنا باب الشقة. واندهشنا لرؤية مايكروفت هولمز في انتظارنا. قال لنا: «أدخلا، أدخلا.»

سأل هولمز أخاه: «كيف وصلت إلى هنا؟»

أجاب مايكروفت: «لقد سبقتكما باستقلال عربة. لقد تلقينا ردًّا على الإعلان، وكان من السيد جيه دافينبورت. وهو يقول إنه يعرف الآنسة كراتيدس، وإنها كانت تقيم في مارتليز، بباكنجهام.»

قال هولمز: «إذن، هذا هو مكانهم جميعًا. سنتصل بشرطة سكوتلاند يارد في الحال، ونصطحب المفتش جريجسون معنا.»

أضفت قائلًا: «من الحكمة إحضار السيد ميلاس أيضًا، فقد نحتاج إلى مترجم.»

قال هولمز: «نعم، رائع يا واطسون. والآن، لنبحث سريعًا عن عربة!»

بينما كنت أنا ومايكروفت ننزل السلم، استدرت ورأيت هولمز يمد يده في أحد الأدراج، ويسحب مسدسًا، ويضعه في جيبه ليلحق بنا بعد ذلك في الشارع.

كان الظلام قد بدأ يخيم على الأرجاء عند وصولنا إلى منزل المترجم اليوناني. لكننا اكتشفنا أن السيد ميلاس غير موجود. أوضحت صاحبة العقار الذي يقطنه أن رجلًا قد حضر للقائه، وغادرا معًا في عربة. وقالت إن الزائر كان رجلًا قصير القامة، يلبس نظارات، وضحكته غريبة.

أسرعنا من هناك متجهين إلى شرطة سكوتلاند يارد، وانضم إلينا المفتش جريجسون، وتوجهنا جميعًا إلى محطة القطار. وصلنا إلى باكنجهام في العاشرة والنصف، واستقللنا عربة بقية الطريق.

كان مارتليز منزلًا كبيرًا وكئيبًا يحيط به فناء كبير. كانت النوافذ مظلمة، وبدا المكان فارغًا.

أبدى هولمز ملاحظة، وهو يتحقق من الطريق المؤدي إلى المنزل: «لقد غادروا. هذه الآثار حديثة للغاية، وقد خلفتها عربة مليئة بالمتاع والراكبين.»

لم يفتح أحد الباب عند طرقه، ففتح هولمز إحدى النوافذ عنوة. وعندما دخلنا، وجدنا أنفسنا في الغرفة الكبيرة التي وصفها ميلاس. وكانت مجموعة الدروع اليابانية بجانب المدفأة. وبينما كنا ننظر حولنا، سمعنا صوت تأوه منخفضًا. كان يأتي من أعلى.

اندفعنا إلى الدور الثاني، واتبعنا الصوت حتى وصلنا إلى الغرفة. كان الباب مغلقًا من الخارج، لكن المفتاح كان لا يزال في الباب. فتح هولمز الباب، ودخل الغرفة. وفي لمح البصر، عاد إلى الرواق مرة أخرى، وهو يسعل ويحكم قبضته على صدره.

قال لاهثًا: «إنه غاز.» نظرنا داخل الغرفة، ورأينا مصباحًا تضيئه شعلة زرقاء صغيرة. كان هذا المصباح مصدر انبعاث غاز سام. وفي ضوئه الضعيف، رأينا شخصين منهارين في أحد الأركان. أخذ هولمز نفسًا عميقًا وعاد إلى داخل الغرفة. فتح إحدى النوافذ، وأمسك بالمصباح، وألقاه بالخارج. ورفعنا بعد ذلك الرجلين، وسحبناهما إلى الرواق.

بدا الإرهاق على وجهيهما، والجفاف على شفاههما من العطش. كانت أيديهما وأقدامهما مكبلة. كان أحدهما المترجم اليوناني، ميلاس. أما الآخر فكان وجهه شاحبًا ومغطى بالضمادات. كان بالتأكيد بول كراتيدس.

لم نتمكن من إنقاذ السيد كراتيدس المسكين، لكن ميلاس استرد عافيته خلال ساعة، وشرح ما حدث. كما توقعنا، زار الرجل ذو النظارات المترجم اليوناني. وما كان أمام ميلاس سوى العودة إلى باكنجهام، حيث أُجبر على استجواب كراتيدس ثانية. وما من شيء أقنع الأخ بالتنازل عن ثروة أخته. فُحبس الرجلان معًا في الغرفة المهلكة، بينما هرب لاتيمر وشريكه مصطحبين صوفي كراتيدس معهما.

•••

لم نكشف أنا وهولمز الستار عن جميع تفاصيل القضية إلا لاحقًا. فتلقينا ردًّا على إعلان مايكروفت في الصحيفة من رجل كان يعرف الآنسة كراتيدس. أخبرنا أنها تنحدر من أسرة يونانية ثرية، وكانت في زيارة لإنجلترا عندما التقت بلاتيمر. علم أصدقاء الآنسة كراتيدس أن نوايا ذلك الإنجليزي كانت سيئة، وأرسلا إلى أخيها يخبرونه بالأمر. لكن عندما وصل أخوها إلى إنجلترا، اختطفه لاتيمر وشريكه. لم تعلم الآنسة كراتيدس حتى أن أخاها كان موجودًا في المنزل ذاته. لذا رجحنا أن الغرض من الضمادات كان إخفاء أخيها خوفًا من أن تلمحه مصادفة. وكما علمنا، لم ينجح الأمر.

بعد ذلك بشهور، لاحظت أنا وهولمز قصة غريبة في الصحيفة. كانت تشير تلك القصة إلى نهاية مأساوية لقيها الرجلان الإنجليزيان أثناء سفرهما إلى المجر بصحبة امرأة. وتوصلت الشرطة إلى أن الرجلين قد تشاجرا، وأثناء الشجار أصيب كلاهما بإصابات مميتة. وكان تعليق هولمز الوحيد هو أن الشرطة تكون مخطئة في بعض الأحيان، وأنه موقن أن لدى الأخت قصة مختلفة، قصة رأت فيها العدالة تتحقق أمام عينيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤