مقدمة

هذا الجزء الخامس من تاريخ التمدن الإسلامي هو آخر أجزاء الكتاب، فنحمد الله لأننا وفقنا إلى إتمام هذا العمل الشاق، مع ما يعتوره من العقبات ويحتاج إليه من إعمال الفكرة والمراجعة لما توخيناه فيه من التحقيق والتدقيق، ولا سيما بعد أن عمدنا إلى ذكر المراجع في هوامش الصفحات، مع الإشارة إلى الكتاب والجزء والصفحة من كل منها، ولا يخفى ما يقتضيه ذلك من التيقظ والتعب في ضبطه والتوفيق بين أجزائه، ولكنه أعاننا من الجهة الأخرى على الإيجاز في بعض الأماكن، اكتفاء بالإشارة إلى خلاصة الموضوع وإحالة القارئ في استيفائه إلى المصدر الأصلي لئلا يخرجنا إيراده إلى التطويل.

على أن كثرة الموضوعات وتعدد فروعها وتداخلها، قد حملنا أحيانًا على إيراد بعض النصوص في جزء مع ورودها في جزء آخر قبله، وإنما فعلنا ذلك رغبة في استيفاء الأدلة وإحكام البرهان، وبتنسيق المقدمات ونتائجها وتفاديًا من إرجاع القارئ إلى بعض الأجزاء السابقة، وإن كنا لم نعمد إلى هذا التكرار إلا عند الضرورة؛ لأن وجهتنا الأولى في كتابتنا إنما هي بسط العبارة وإيضاح الموضوع، حتى ينجلي للقارئ كأنه مجسم، على أننا كثيرًا ما أحلنا المطالع إلى مراجعة ما سبق ذكره في أماكنه.

والجزء الذي نحن بصدده أكثر سائر الأجزاء طلاوة وأقربها إلى أفهام المطالعين على اختلاف طبقاتهم وتفاوت معارفهم؛ لأنه يبحث في مثل ما ألفوه من العادات والآداب مما تلذ مطالعته وتتوق النفس إلى معرفته، من الأبحاث الاجتماعية والموضوعات العمرانية والأحوال العائلية، مما يريده الناس عادة بقولهم «حضارة» أو «مدنية»، وهو في الحقيقة بعض ظواهرهما على ما تبين لك في الأجزاء السابقة.

فموضوعات هذا الجزء سهلة على المطالع، ولكنها شاقة على المؤلف، لخلو كتب القوم من أمثالها على الأسلوب الذي تطلبناه في هذا الكتاب، ولو بحثت فيما كتبه أسلافنا في التاريخ والأدب والعلم وغيرها، ما رأيت لأحدهم فصلًا ولا جملة ولا فقرة في نظام الاجتماع مثلًا أو طبقات الناس أو الآداب الاجتماعية أو الحضارة أو الأبهة، إلا ما قد يرد عرضًا في أثناء النوادر أو الحكم أو التراجم أو الوقائع مما استعنا به في الاستدلال على بعض الحقائق المذكورة.

وأبحاث هذا الجزء تنتظم في أربعة أبواب كبرى:
  • (١)

    نظام الاجتماع.

  • (٢)

    الآداب الاجتماعية.

  • (٣)

    حضارة المملكة.

  • (٤)

    أبهة الدولة.

فنظام الاجتماع أساسه طبقات الناس، ولذلك قدمنا الكلام بفصول في طبقاتهم قبل الإسلام في جزيرة العرب وما يحدق بها من البلاد العامرة في الشام والعراق ومصر وفارس وإفريقية، ثم طبقاتهم بعد الإسلام وما طرأ عليها من التغيير في أيام الراشدين فالأمويين فالعباسيين، وبسطنا الكلام في نظام الاجتماع في العصر العباسي، فقسمنا الناس إلى طبقتين كبيرتين: الخاصة والعامة، وجعلنا الخاصة أربع طبقات: الخليفة، وأهله، وأهل دولته، وأرباب البيوتات، وأضفنا إلى الخاصة طوائف من الناس يصح إلحاقهم بها سميانهم «أتباع الخاصة» وهم: الجند، والأعوان، والخدم، ويدخل في طائفة الخدم: العبيد، والجواري، والخصيان، وبينا ما كانت عليه كل طبقة أو طائفة في عهد ذلك التمدن.

وجعلنا العامة طبقتين كبيرتين: الأولى المقربون وهم فئة من العامة سمت بهم قرائحهم أو هممهم إلى اللحاق بالخاصة، كأصحاب الفنون الجميلة وأهل الأدب والشعر والغناء وأرباب التجارات الثمينة والصناعات العليا … وذكر ما كان يكتسبه هؤلاء من الأموال المتدفقة من خزائن الدولة، وأما الطبقة الثانية من العامة فهم معظم الأمة، وينقسمون إلى فئتين: الأولى أهل القرى وهم السواد الأعظم، والثانية عامة أهل المدن وهم أكثر سكانها، ويتعاطون الصناعات اليدوية والتجارات الصغرى، وبينهم طوائف العيارين والشطار والمخنثين وغيرهم، وذكرنا تاريخ كل منها.

وأما الآداب الاجتماعية فصدرناها بتمهيد في تاريخها من زمن الجاهلية، فذكرنا مناقب البدو كالعصبية والأنفة والوفاء والسخاء والنجدة والأريحية والعفة، وكيف تسرب الفساد إلى هذه المناقب تدريجًا بتقدم القوم في معارج الحضارة، وذكرنا الأسباب التي بعثت على تبديل بعضها في عصر الراشدين فالأمويين إلى العصر العباسي، وبسطنا الكلام في آداب هذا العصر بسطًا وافيًا؛ لأنه هو المراد بهذا الباب، فقسمنا الكلام فيه إلى فصول في العائلة ونظامها وما يتخلل ذلك من حال المرأة العربية، فبينا عفتها وأنفتها في الجاهلية وأوردنا أمثلة ممن اشتهرن فيها بالشجاعة والحزم والرأي، وكيف تبدلت أحوالها في عصر الترف بما أدخله عليها الرجل من الجواري والسراري، حتى ذهبت الغيرة ونشأ سوء الظن فحبسها وضيق عليها، وأفردنا فصلًا لأسلوب الارتزاق في عهد ذلك التمدن بالسخاء المتسلسل على سنة العرب.

وجعلنا كلامنا في المعيشة العائلية فصولًا في الطعام واللباس والمأوى، فأجملنا في تاريخ كل منها في أيام الجاهلية وما أحدثه فيه ذلك التمدن.

ثم أتينا إلى الباب الثالث من هذا الجزء وهو حضارة المملكة، فقسمناه إلى قسمين: أولهما العمارة أو العمران، وثانيهما الثروة والرخاء، والعمارة إما في المدن أو في القصور، فأتينا بأمثلة من عمارة أهم المدن الإسلامية، وأشهر القصور والمباني في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة وغرناطة وغيرها، أما الثروة فيدور الكلام فيها على أبحاث في ثروة الخلفاء والأمراء وما تقتضيه من التأنق في الطعام والتنعم باللباس والتزين بالأثاث والرياش والمجوهرات ونحوها … ثم القصف وما يلابسه من التسري وعقد مجالس الغناء والشراب، ثم السخاء وقد نظرنا فيه من أيام الراشدين إلى العباسيين، وكيف تدرج القوم في مقدار الصلة ونوعها، ويتخلل ذلك فصول في الغناء وتاريخه من الوجهة الاجتماعية والأدبية، والمسكر وخلاصة أقوالهم في تحريمه وتحليله وتاريخ انتشاره وانغماس الخاصة فيه، فضلًا عن العامة وما نتج عن ذلك من التهتك والإسراف والفحشاء.

أما أبهة الدولة فجعلنا مدار الكلام فيها على الخلفاء وأحوالهم، من سذاجة الراشدين وتقشفهم إلى بذخ العباسيين وأبهتهم، وقسمنا البحث في هذا العصر إلى فصول عديدة في مجالس الخلفاء ومواكبهم واحتفالاتهم وعلاقاتهم بالدول المعاصرة وملابسهم وألعابهم وملاهيهم، ويتفرع القول في مجالسهم إلى المجالس العامة ومجالس الأدب والغناء والمناظرة وغيرها، فوصفنا المجلس وفرشه ومراتب الجلاس فيه وشروط الاستئذان في الدخول والتحية وآداب المجالسة وعلامة الصرف ونحو ذلك، وقسمنا ملاهيهم إلى فصول في الصيد والسباق والكرة والصولجان ورمي البندق وارتباط السباع وغيرها.

وذيلنا هذا الجزء بجدول أسماء الكتب التي ذكرت في هوامش الأجزاء الخمسة مع اسم المؤلف وسنة نشر الكتاب ومحل طبعه، فضلًا عن فهرس هذا الجزء.

وقد بذلنا الجهد في تحري الحقيقة وتوخينا الإنصاف والإخلاص بما يبلغ إليه الإمكان، فإن أحسنا فذلك قصدنا وأقصى مرادنا، وإن أسأنا فعن غير عمد منا وما العصمة إلا لله وحده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤