طبقات الناس قبل الإسلام

ويقسم الكلام في ذلك إلى وصف طبقات الناس:
  • (١)

    في الشام والعراق.

  • (٢)

    في مصر.

  • (٣)

    في إفريقيا.

  • (٤)

    في بلاد فارس.

  • (٥)

    في جزيرة العرب.

(١) طبقات الناس في الشام والعراق

نريد بهذين البلدين ما بين دجلة في الشمال الشرقي وآخر حدود الشام في الجنوب الغربي، وسكان هذه البقعة أكثر أمم الأرض اختلاطًا في أجناسهم وأديانهم وآدابهم لكثرة الدول التي توالت عليها من أقدم أزمنة التاريخ، وللعلماء أبحاث طويلة وآراء متضاربة في أحوالهم لا محل لها ولا فائدة منها، وخلاصة ما يستخرج من أبحاثهم أن أقدم من عرف من أهل تلك البلاد بطون من الساميين، وكانت مساكن القبائل السامية تمتد من دجلة عند ما بين النهرين شمالًا شرقيًّا إلى سواحل سوريا حتى العريش فالبحر الأحمر غربًا، وشواطئ اليمن وحضرموت جنوبًا، فخليج فارس وبحر عمان شرقًا، وهي عبارة عن بلاد ما بين النهرين والعراق وسوريا وفلسطين وجزيرة سينا وجزيرة العرب.

والساميون ثلاثة فروع كبرى:
  • (١)

    الآراميون، وهم القبائل السامية الشمالية، كانت مواطنهم فيما بين النهرين والعراق وسوريا إلا قسمًا من شواطئها.

  • (٢)

    العبرانيون، وهم القبائل السامية الوسطى، وموطنهم في فلسطين وشواطئ سوريا.

  • (٣)

    العرب، وهم القبائل السامية الجنوبية، ومقامهم في جزيرة العرب وما يليها من بادية الشام والعراق وجزيرة سينا.

(١-١) الآراميون

فالآراميون كانت لغتهم فرعًا من اللغة السامية يُعرف باللغة الآرامية، وانقسموا بتوالي الأجيال إلى أمم اشتهرت في التاريخ، أهمها أمة السريان فيما بين النهرين والعراق، والكلدان في أعالي سوريا، وانقسمت اللغة بهذا الاعتبار إلى الفرعين السرياني والكلداني.

والعبرانيون يُراد بهم أبناء إبراهيم عليه السلام، وقد استقروا في فلسطين نحو القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ويلحق بهم الفينيقيون وكانوا يتكلمون لغة تشبه العبرانية.

وأما العرب فكانوا يتفاهمون بلغة من اللغات السامية هي العربية، ومن فروعها أو أخواتها الحميرية والحبشية، وأقرب القبائل العربية إلى الشام الأنباط، وكان لهم شأن في أثناء تسلط الرومان على الشام سيأتي ذكره.

فما بين النهرين والعراق والشام وفلسطين كانت في أقدم أزمنة التاريخ مأهولة بشعوب سامية تتقارب نسبًا ولغة، أما قبل نزول الساميين فكانت مقامًا لأمم لا يُعرف أصلها، وكان الساميون أقوى منهم فغلبوهم على بلادهم واستقروا فيها، وأخذ أولئك في الانقراض قبل الميلاد بعدة قرون، وهاك ترتيب مساكن الساميين هناك من الشمال إلى الجنوب: السريان، فالكلدان، فالفينيقيون، فالعبرانيون، فالأنباط، وخالطتهم أمم شتى غير سامية، أقامت بين أظهرهم في بقاع مختلفة من بلادهم، غير بقايا الشعوب الأصلية مما يطول بيانه، ولكن الساميين تغلبوا عليهم جميعًا وعاشت أديانهم وآدابهم وعاداتهم.

على أن مركز هذه البلاد الجغرافي جعلها عرضة لمطامع الفاتحين من الأمم القديمة، كالحثيين والآشوريين والفرس، فكانوا يتناوبون فتحها أو اكتساحها وتتقاطر شعوبهم إليها، ولكن الأمر لم يستقم لدولة من هذه الدول في سوريا كما استقام لليونانيين خلفاء الإسكندر، فإن هذا القائد العظيم فتح هذه البلاد في القرن الرابع قبل الميلاد، وأوغل فيها وغرس في نواحيها بذور الحضارة الإغريقية، وقد اختلطت هذه العناصر الإغريقية بعناصر الحضارات الأصلية في هذه البلاد ونشأ عن ذلك ما يُعرف بالحضارة الشبيهة بالهيلينية Hellenistic، وتوافد إليها اليونان وأقاموا فيها واختلطوا بأهلها ولا سيما بعد ظهور النصرانية وهي في سلطة الرومان، ولكن العنصر اليوناني ما زال متغلبًا عليها، وأكثر تغلبه على سواحل بحر الروم، ويضعف شأنه في الداخل تدريجًا.

ومع ذلك الاختلاط ظلت الشعوب السامية محافظة على آدابها وعاداتها ولغاتها، ولا سيما اليهود فإنهم مع ما أصابهم من الاضطهاد والسبي ظلوا من حيث الآداب والدين على نحو ما كانوا عليه في أيام داود وسليمان، إلا ما أصاب لغتهم من التغيير في أثناء السبي ببابل، فإنها اختلطت بالسريانية والكلدانية وعرفت باللغة الآرامية أو الكلدانية، وبها كتبوا التلمود وانقسموا إلى اليهود والسامريين، أما من بقي من الشعوب السامية ولا سيما السريان فتنصروا وانفردوا بآدابهم وعاداتهم، وأكثرهم كانوا يقيمون في العراق وما بين النهرين وأعالي سوريا إلى فلسطين.

(١-٢) الأنباط

فكانت حدود الشام الغربية على سواحل بحر الروم يغلب عليها العنصر اليوناني، وحدودها الشرقية مما يلي البادية يغلب عليها العنصر العربي، وكان هناك في أوائل القرن الرابع قبل الميلاد أمة عربية عُرفت بالأنباط أو النبط، كان مقامهم وراء فلسطين غربًا جنوبيًّا على أنقاض الأدوميين، في بقعة تمتد من جزيرة سينا إلى حوران، تُعرف بالبلاد العربية الصخرية Arabia petraea، ولا تزال آثار مدينة بطرا باقية إلى الآن وفيها الأبنية المنقوشة والتماثيل المنحوتة ونحوها، حاربهم الروم سنة ٣١٢ق.م بقيادة انتيجونوس وكان الأنباط عشرة آلاف مقاتل، وذكر ديودورس أنهم يجتنبون الزراعة رغبة في الرحلة، ويعيشون على اللحوم والألبان ويحرمون الخمر تحت طائلة القتل، وإنما شرابهم الماء يحلونه بالمن وهو كثير عندهم، وكانوا يتجرون بالمر والأطياب يحملونها من شواطئ البحر الأحمر وبلاد العرب، وبالحمر أو القار يحملونه من البحر الميت إلى مصر ليستخدمه المصريون في التحنيط، وكانت طرق التجارة بين مصر وسائر المشرق لا تسلك إلا على يدهم، وإلا فإنهم يهاجمون القوافل وينهبون التجار، ثم تغلب عليهم البطالسة وقهروهم، فتباعدوا عن حدود مصر ونزلوا حوران، ونبغ منهم في القرن الأول قبل الميلاد ملك يسميه اليونانيون اريتاس (الحارث) حارب عامل دمشق وغلبه على مدينته واستولى عليها وعلى ملحقاتها تحت رعاية الرومانيين نيفًا وأربعين سنة، ثم صار الأنباط حلفاء الرومان في القرن الأول للميلاد، وامتدت شوكتهم في أثناء ذلك إلى جزيرة العرب مما يلي سواحل البحر الأحمر.

وظلت مدينة بطرا مركزًا تجاريًّا بين الشرق ومصر، حتى اكتشف الناس الطريق من القصير إلى قفط على النيل فأخذت بطرا في التقهقر، وكان الأنباط قد تحضروا فذهبت خشونتهم وعجزوا عن الغزو والحرب وركنوا إلى الزراعة وأووا إلى المنازل وانغمسوا في الترف، فجاءهم تراجان الروماني سنة ١٠٥م فحاربهم وأخضعهم وأذلهم فذهبت عصبيتهم وانحلت قواهم وأخلدوا إلى الدعة، واختلطوا بأهل البلاد الأصليين من السريان أو الآراميين، وانتشروا على حدود سوريا وفلسطين مما يلي البادية بين جزيرة سينا والفرات، ولم تقم لهم قائمة من ذلك الحين.

ولما جاء المسلمون لفتح الشام وجدوا بقايا هذه الأمة هناك يتكلمون اللغة الآرامية أو السريانية، لغة أهل العراق وما بين النهرين، فحسبوا الأنباط والعراقيين أمة واحدة فأطلقوا عليهم جميعًا اسم «الأنباط»، والذي اتفق عليه المحققون أن أنباط بطرا وما يليها عرب، وإنما تكلموا الآرامية على أثر اختلاطهم بأهل الشام والعراق بعد ذهاب دولتهم، ويظن علماء التوراة أن النبطيين ينسبون إلى نباطوط من آباء التوراة.

ولما ضعف الأنباط ظهر مكانهم على حدود الشام والعراق أجيال جديدة من العرب، اتخذهم الروم والفرس حلفاء يردون عنهم غارات إخوانهم أهل البادية، أو ينصرونهم في الحروب التي كانت تنشب بين تينك الدولتين قبيل الإسلام، فأقام حلفاء الروم في جهات حوران وهم الغساسنة، وأقام حلفاء الفرس على شاطئ الفرات في الحيرة وهم المناذرة، فإذا انتشبت حرب بين الروم والفرس تجند الغساسنة للروم والمناذرة للفرس، ودافع كل منهما عن أصحابه، فكانوا مع بداوتهم وسذاجتهم عونًا قويًّا لهاتين الدولتين الضخمتين ينصرون إحداهما على الأخرى، ولنحو هذا السبب أقام العرب على الحدود بين الفرس والروم فيما بين النهرين والعراق، وفيهم بطون من إياد وربيعة ولخم وتنوخ.

فسكان الشام والعراق عند ظهور الإسلام كان معظمهم من بقايا الآراميين الأصليين، وهم السريان في الشمال والشرق، واليهود والسامريون في الجنوب، وبقايا الأنباط في الغرب، يليهم العرب الغساسنة والمناذرة ثم قبائل إياد وربيعة بين النهرين، ويتخلل هذا المجموع شتات من أمم أخرى كالجراجمة في جبل اللكام١ والجرامقة في الموصل٢ وأخلاط من مولدي اليونان والرومان على الشواطئ، ومولدي الفرس والأكراد في الشمال، وكانت جامعة الدين قد غلبت على جامعة النسب أو الجنس أو اللغة، فأصبحت الطوائف تنتسب إلى مذاهبها الدينية، كالنصارى واليهود والسامريين، وينقسم النصارى إلى ملكيين ويعاقبة ونساطرة وموارنة وغيرهم، وكانت الديانة والسياسة مرتبطتين إحداهما بالأخرى، والحزب الديني عبارة عن حزب سياسي يستخدم في تأييد الدولة، فالكنيسة القسطنطينية كانت أم كنائس المشرق، وشعوب هذه الكنائس تنقاد إلى تلك الكنيسة لتأييد سلطة القيصر صاحب العرش فيها، والكلام في تفصيل ذلك يطول.

(١-٣) نظام الاجتماع في الشام والعراق

أما موقف الأهالي من الحكومة فكان على غير المألوف بيننا، لبعد النسبة بين الحاكم والمحكوم في تلك الأيام، ولا سيما في البلاد التي يحكمها الغرباء البعيدون عن أهلها لغة أو دينًا أو جنسًا. فالرومان كانوا يعدون البلاد وأهلها ملكًا لهم يتصرفون فيهم كيف شاءوا، وكان الفلاحون في كثير من البلاد يعدون من توابع العقار، فينتقل العقار من مالك إلى آخر، وفلاحوه معه يسمونهم serfs أي الأقنان (جمع قن)، إلا الذين تسمو بهم هممهم إلى التقرب من رجال الدولة بالصناعة أو الأدب أو التجارة وهم قليلون. فكان الناس طبقتين: طبقة الخاصة وهم الملك وأهله وأعوانه ورجال الدين ومن جرى مجراهم، والعامة أهل البلاد الأصليون وأكثرهم الفلاحون أو الأكرة.
فخاصة أهل الشام في العصر الروماني حكامها وهم البطارقة، والبطريق غير البطريرك. وكان البطارقة عند الرومانيين جماعة من أشراف المملكة الرومانية، نشأوا مع مدينة روما وكان لهم نفوذ عظيم في الدولة الرومانية، وانحط شأنهم بعد انقسامها ولم يبق لهم عمل، فلما امتدت سطوة الروم إلى المشرق رأوا تلك البلاد البعيدة لا يستطيع الحكم فيها وإخضاع أهلها إلا أهل السطوة والهيبة، فعهدوا بذلك إلى البطارقة وولوهم المستعمرات الشرقية وفي جملتها الشام ومصر، وكانت الشام ولاية واحدة تقسم إلى ١١ إقليمًا، على كل إقليم بطريق معه الجند كأنه حاكم مستقل،٣ وكانت حدود الشام بالنظر إلى الحكومة تنتهي من الشمال الشرقي إلى الفرات، ولا يدخل العراق وما بين النهرين فيها، وإنما جعلناهما في كلامنا عن الأهالي؛ لأنهم وأهل الشام من أصل واحد كما رأيت.

(٢) طبقات الناس في مصر

إن سكان مصر أقل اختلاطًا بغيرهم من سكان الشام والعراق، ومع ذلك فقد توالت الهجرة إلى مصر من أقدم أزمنة التاريخ قبل زمن الفراعنة.

والفراعنة أكثرهم من الفاتحين الغرباء، فكانوا إذا فتحوا مصر واستقام الأمر فيها هاجر إليها أهل عصبيتهم لاستثمار ذلك الفتح، فيأتون على أن تكون إقامتهم وقتية ريثما يجتمع لهم المال، ولكن أكثرهم لا يرجعون ولا تمضي بضعة أجيال حتى يختلطوا بالسكان ويصيروا جزءًا منهم، كما حدث في زمن الرعاة والفرس واليونان والرومان وغيرهم ممن فتحوا مصر قبل الإسلام، والغالب في الفاتحين أنهم لا يزالون يميزون عصبيتهم على عصبية سائر رعاياهم، حتى ينتقل الأمر من أيديهم إلى فاتح آخر فتتناسى عصبيتهم ويندمجون في جملة الوطنيين، ناهيك بمن يأتي مصر للاتجار أو الاستثمار لاشتهارها بالخصب والرخاء.

وكان الفاتحون يترفعون غالبًا عن الاختلاط بسائر أفراد الأمة، فيكون منهم الجند ورجال الدولة والكهنة ونحوهم من أهل السيادة، ويجعلون مقامهم في المدن الكبرى ويبقى الشعب للفلاحة والصناعة والخدمة، فالبطالسة حكموا مصر نحو ٣٠٠ سنة، وتقاطر اليونان في أيامهم بكثرة، وكانوا يقيمون في الإسكندرية أو غيرها من العواصم، وأكثرهم من الجند أو التجار أو رجال الدولة لإدارة الحكومة، وكذلك كان شأن الرومان، فإنهم تولوا وادي النيل ستة قرون، والروماني يجتهد في أن يميز نفسه عن المصري لغة ومذهبًا وخلقًا، وكانوا يقيمون في المعاقل والحصون أو المدن الكبرى كما كان حالهم في الشام.

فلما ظهر الإسلام كان سكان مصر طبقتين:
  • (١)

    الرومان أو الروم، وعاصمتهم الإسكندرية ومنهم رجال الدولة والأجناد وبعض رجال الدين.

  • (٢)

    الأهالي وهم الأقباط الأصليون، يخالطهم بعض المولدين من اليونان والرومان وغيرهم من النازحين للتجارة أو الخدمة أو غيرهما، من أهل الشام واليمن والعراق والنوبة وإفريقية، وكان بين الحكومة والأهالي فاصل آخر مذهبي، فكان الروم على مذهب الملك وهم الملكيون، والأقباط على مذهب يعقوب البردعي وهم يعاقبه.

(٣) طبقات الناس في إفريقية

يريد العرب بإفريقية البلاد الواقعة في شمال إفريقيا، حيث الآن تونس وطرابلس والجزائر ومراكش، وهي في الأصل مستعمرة سامية لبعض النازحين من فينيقية قبل الميلاد بعدة قرون، بنوا فيها مدينة قرطاجة أو قرطجنة وأنشأوا دولة تعتبر شرقية باعتبار أصلها وإن كانت غربية في موقعها؛ لأن أهلها ساميون ولغتها من أخوات اللغة العربية، وقد حارب القرطجنيون الرومانيين ونازعوهم على السيادة، فقطعوا إليهم البحار وجبال الألب حتى حاصروا روما وكادوا يذهبون بدولتها، ولو فعلوا ذلك لتغير وجه الأرض عما نعرفه، ولكنهم أخفقوا فرجعوا ثم ارتد عليهم الرومان وحاربوهم في بلادهم حتى أفنوهم وخربوا مدينتهم، وتوالى على قرطاجة بعدهم أمم شتى كالرومان والوندال وغيرهم.

أما أهل البلاد الأصليون فقد كان معظمهم قبل القرطجنيين أقوامًا من الجنس البربري يعتصمون بالجبال دأبهم النهب والغزو، ولما ذهب القرطجنيون وخلفهم الرومان وجدوا أهل تلك البلاد طبقتين؛ إحداهما: حضرية تتوطن السواحل فيما هو الآن مراكش والجزائر وتونس يتعاطون التجارة والصناعة، والأخرى: تسكن الجبال والبادية، فسموا الأولى الموريتانيين والثانية النوميديين، وكان النوميديون من القبائل الرحل الأشداء فلم تقو الدولة الرومانية على إذلالهم، بل كانوا كثيرًا ما يهاجمون حاميتها في المدن ويعودون إلى جبالهم، ذلك كان شأنهم مع من فتح إفريقية بعد الرومان، وما زالوا على ذلك حتى جاء المسلمون وفتحوا إفريقية وأهلها طبقتان: الأولى أهل المدن وهم الموريتانيون ومن اختلط بهم من الأمم الفاتحة كالروم والوندال وقد اعتنقوا النصرانية وتحضروا، والثانية النوميديون وهم لا يزالون على بداوتهم وظلوا ممتنعين في جبالهم إلى أواخر القرن الأول للهجرة، وهم الذين يسميهم العرب قبائل البربر على ما هو مدون في كتبهم، ولهم شأن كبير في تاريخ الإسلام.

(٤) طبقات الناس في بلاد فارس

نريد ببلاد فارس ما بين دجلة في الغرب الجنوبي ونهر جيحون في الشرق الشمالي، ويدخل فيها خوزستان وكرمان ومكران وبلاد الجبال وخراسان وأذربيجان وأرمينيا وغيرها، وهي تحوي شعوبًا شتى من أمم مختلفة لا يمكن حصرها وتمييزها بعد أن طال العهد عليها، ولكنها تمتاز على أي حال عما يجاورها من سكان العراق والشام وامتيازًا كليًّا في الجنس واللغة والدين: أما الجنس فسكان بلاد فارس أكثرهم من الجنس الآري وهو غير الجنس السامي الذي عمر الشام وما وراءها كما تقدم، أما اللغة فالفارسية من اللغات الآرية أخوات لغات أوربا وهي غير اللغات السامية، وأما الدين فالمذهب الذي كان شائعًا في تلك البلاد قبل الإسلام هو الزردشتية أو المجوسية في حين أن ديانة أهل العراق والشام كانت النصرانية واليهودية.

وتوالى على بلاد فارس دول كثيرة حتى فتحها الإسكندر في القرن الرابع قبل الميلاد، فلما مات واقتسم المملكة قواده لم يستطيعوا استبقاء تلك البلاد في حوزتهم، فاقتسمها أمراؤها وهم المعروفون بملوك الطوائف، حتى قام أردشير بن ساسان سنة ٢٢٤م فجمع كلمتها بالسيف وتوالى عليها أهله إلى ظهور الإسلام، وهي الدولة الساسانية.

فلما ظهر الإسلام كان سكان تلك المملكة طبقتين: العامة والخاصة، أما العامة فأهل البلاد الأصليون ومنهم الفلاحون والصناع والخدم وغيرهم من نتاج الاختلاط قرونًا بين القبائل الآرية وبعض القبائل الطورانية من الأتراك والديلم، وكانوا يسمون عند ظهور الإسلام «الطاجية»، ولا يعرف أصل هذه اللفظة تماما،٤ ولكنهم يريدون بها طبقة العامة، والطاجية ضخام الأجسام أقوياء الأبدان.
وأما الخاصة فالملك وأهله ورجال دولته ورجال الدين والأشراف من بقايا الدول السالفة، فبعد الملك وأهله تأتي طبقة الشهارجة «شهريجان» أو السهارجة،٥ وهم أشراف السواد وأرباب الدولة كالبطارقة عند الروم، تليهم طبقة الدهاقين — وأحدهم دهقان — وينتسبون إلى الملوك القدماء من الدول السالفة، وهم أصحاب الأرض وفي أيديهم أكثر البقاع التي يستغلونها على رقاب الطاجية، والدهاقين خمس مراتب، وقد يتولون الإمارات ويتعاطون الحكومة كأمراء بخارا (بخارا خدا) فقد كانوا عند ظهور الإسلام من الدهاقين، وكذلك هرات، وقد يكون الدهقان مثل بعض العامة.

وكانت مملكة فارس — عند ظهور الإسلام — في حوزة الدولة الساسانية، تقسم إلى عمالات يتولى كل عمالة أمير يسمونه «مرزبان» وأصل معنى هذه اللفظة قائد الحدود، على أن بعض العمال كانوا يتمتعون بشيء من الاستقلال في أحكامهم، ولا سيما في الإمارات البعيدة، وكان بعضها مستقلًّا استقلالًا تامًّا ويتخذ كل أمير لقبًا خاصًّا به، مثل «رتبيل» لقب أمير سجستان، و«رنجان» لأمير سمندجان، و«جيغويه» لصاحب طخارستان، و«اصبهبذ» لصاحب بلخ، و«باذان» لمرو الروذ، «شهرك» للطالقان، و«أخشيد» لصاحب فرغانة، وقس عليه، على أن بعض الولايات، كمرو وسرخس وطوس، كان يتولاها المرازبة.

وأكبر نفوذًا وسطوة من أشراف المملكة وملوكها رجال الدين وهم كهنة الزردشتية، ويسميهم المسيحيون المجوس، واسمهم عند الفرس الموبذان وأحدهم «موبذ»، وهم كالأساقفة عند النصارى، رئيسهم يسمونه «موبذ موبذان» مثل رئيس الأساقفة، وكان نفوذهم في الدولة يفوق نفوذ الملك،٦ ومنهم القضاة أو من يقوم مقامهم في الحكومة بين الناس.
وكان في بلاد الفرس جماعات تجمعهم نسبة أو صفة يقيمون في بلد أو يتنقلون في البلاد، كالأساورة والسيابجة والزلط والأحامرة ونحوهم.٧

(٥) طبقات الناس عند العرب الجاهلية

قد علمت أن سكان جزيرة العرب من الشعوب السامية إخوان الآراميين والعبرانيين، ولكنهم لم يصبهم ما أصاب إخوانهم في العراق والشام من الاختلاط، لامتناع جزيرتهم على الفاتحين بما يحدق بها من البوادي التي يعسر سلوكها على الجيوش، وقد هم بها الآشوريون واليونان والروم وغيرهم ورجعوا عنها بلا طائل، حتى إذا كان القرن الخامس للميلاد فتح الأحباش قسمها الجنوبي (اليمن) وعجزوا عن الحجاز، فاستنصر اليمنيون الفرس فنصروهم وأخرجوا الأحباش وحلوا محلهم واختلطوا بأهل اليمن وعرفوا بالأبناء الأحرار.

على أن بلاد العرب كانت ملجأ النازحين من الشام أو مصر أو العراق، فرارًا من ظلم أو ضغط أو امتناعًا على الحكومة لسبب من الأسباب، وأكثر الأمم نزوحًا إليها اليهود، لكثرة ما قاسوه من الاضطهاد منذ خروجهم من مصر إلى أن اضطهدهم الروم في عهد طيطس وغيره، وهاجر إليها كثيرون من اليونان والرومان والفرس والهنود والأحباش وغيرهم بلا حرب ولا اضطهاد، ومع ذلك فإن العرب ظلوا مستقلين بأنسابهم وعاداتهم وآدابهم، ويقسمون باعتبار النسب أو الوطن إلى: قحطانية أو يمنية، وعدنانية أو حجازية، وانقسمت لغتهم بهذا الاعتبار إلى حميرية ومضرية، وقد فصلنا طبقات العرب وقبائلهم وحلفاءهم ومواليهم وعبيدهم في الجزء الرابع من هذا الكتاب.

(٦) نظام الاجتماع في عصر الراشدين

بينا في الجزء الرابع ما أحدثه الإسلام من التغيير في العصبية العربية، وما تولد به من الطبقات الجديدة التي لم تكن قبل الإسلام، كالمهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل القادسية، وما اقتضاه النسب الهاشمي أو القرشي من العصبيات الجديدة، ومنهم طبقات الأشراف من العلويين أو العباسيين وأبناء الأنصار والمهاجرين، على ما وضعه عمر في ديوانه من مراتب العطاء باعتبار تلك الطبقات٨ وما يلحق بذلك من طبقات التابعين وتابعي التابعين والانتساب إلى مشاهير الصحابة كآل الزبير وآل أبي بكر وغير ذلك مما اقتضاه الإسلام والفتوح، فتولد من ذلك بيوتات إسلامية غير البيوتات العربية التي كانت قبل الإسلام.

وعندما سار العرب لفتح الشام والعراق كان أول من لقيهم على حدودها العرب أبناء لغتهم وأهل عصبيتهم، ولما أوغلوا في هذين البلدين استأنس أهلوها باللسان العربي لقربه من لسانهم الآرامي أو السرياني، مع بعد لسان حكامهم يومئذ الرومي أو الفارسي عنهم — فكان ذلك من جملة ما مهد لهم أسباب الفتح — أما طبقات الناس الأصلية في هذين القطرين فقلما أصابها تغير في عصر الراشدين؛ لأن المسلمين لم يكونوا يخالطونهم ولا يدخلون في شيء من أحوالهم الإدارية أو الدينية أو السياسية، وإنما كان همهم اقتضاء الجزية والخراج وحماية من دخل في ذمتهم من أهل الكتاب، فكانوا يقيمون في مضاربهم أو معاقلهم بضاحية البلد المفتوح بما يشبه الاحتلال العسكري — إلا من دخل في حوزتهم من الأرقاء بالأسر أو السبي ومن أعتقوه فصار من الموالي — وهناك طبقة جديدة نشأت بانتشار الإسلام خارج جزيرة العرب، وهم المسلمون من غير العرب، ولهم شروط وأحوال تخالف ما للعرب على ما بيناه في الجزء الرابع.

(٧) نظام الاجتماع في عصر الأمويين

كانت قصبة الإسلام على عهد الراشدين في المدينة بجوار قبر النبي ، فنقلها الأمويون إلى الشام قرب البلاد المفتوحة، وعملوا على توسيع دائرة مملكتهم، فجردوا الجيوش وفتحوا المدن حتى وطئت حوافر خيولهم ما وراء النهر في أقصى الشرق … وركبوا بحر المجاز (مضيق جبل طارق)، إلى إسبانيا ففتحوها وما وراءها من بلاد الإفرنج إلى منتصف غالة وهي ما يُعرف الآن بفرنسا، ونصبوا أعلامهم على أعظم مدائن الفرس والترك والروم والإسبان والإفرنج، وهددوا القسطنطينية، وحولوا الاحتلال المؤقت إلى السيادة الدائمة، وأقاموا دولة الإسلام في هذه الأقطار وأيدوها بنقل دواوين الحكومة في الشام ومصر والعراق من اليونانية والقبطية والفارسية إلى العربية، وبعد أن كانت تلك الدواوين يتولاها أهل البلاد غير المسلمين جعلوها في أيدي المسلمين، وضربوا النقود العربية فاستعاضوا بها عن نقود الروم والفرس، ونقشوا عليها الآيات القرآنية بدلًا من الصور والرموز، ونقلوا طراز الدولة من اليونانية أو الفارسية إلى العربية، فآل ذلك كله إلى انتشار العرب في الأرض وسيادة العنصر العربي ونشر اللغة العربية.

وقد استمسك العرب بعصبيتهم خلال العصر الأول الذي تلا الفتح، وفرقوا بين أنفسهم وبين الموالي تفرقة واضحة، وانقسموا هم أنفسهم إلى قحطانيين وعدنانيين، وظل العرب في أيامهم على بداوتهم بما كانوا يتوخونه من المحافظة على خشونة الجاهلية وسذاجتها وآدابها.

فطبقات الناس في العصر الأموي تقدمت خطوة عما كانت عليه في زمن الراشدين، فكان الناس طبقتين كبيرتين: المسلمين وغير المسلمين، والمسلمون طبقتان: العرب وغير العرب وهم الموالي، وظل غير المسلمين، وهم أهل الذمة من القبط والأنباط والروم والفرس وغيرهم، على ما كانوا عليه قبل الإسلام، إلا من دخل منهم في خدمة المسلمين من الأطباء والكتاب والمترجمين؛ فقد نشأت منهم طبقة جديدة من أهل الذمة لم تكن قبل الإسلام، هذا إلى ما حدث في أثناء الفتوح الأموية والحروب الأهلية من انتقال بعض الطوائف والجماعات من بلد إلى آخر، كانتقال السيابجة والزط إلى سواحل الشام في أيام معاوية، ونقل الحجاج لجماعة من زط السند إلى العراق وإسكانه إياهم بأسافل كسكر، وسبى عبيد الله بن زياد خلقًا من أهل بخارا وإنزاله إياهم البصرة، ولما بنى الحجاج مدينة واسط نقل كثيرًا منهم إليها فأقاموا فيها وتناسلوا٩ فضلًا عمن كانوا يصطحبونهم أحيانًا في حملاتهم البعيدة للفتح أو الغزو، فقد يكون في الحملة جماعات من البرابرة والأنباط والأقباط والجرامقة والجراجمة١٠ فهؤلاء إذا فتحوا بلدًا أقاموا فيه وتناسلوا واختلطوا بأهله.

وبالجملة فإن الهيئة الاجتماعية في أيام الأمويين كانت في بدء انتقالها من حالها القديمة في عصر الروم والفرس إلى حالها الجديد الذي ستكون عليه في العصر الإسلامي، ولم يتم ذلك الانتقال وتتكيف هذه الهيئة الاجتماعية بشكلها الخاص بالإسلام والتمدن الإسلامي إلا في العصر العباسي، لترفع الأمويين عن الاختلاط بغير العرب ورغبتهم في البقاء على البداوة، ومع إيغال جنودهم في بلاد فارس وخراسان وتركستان ومصر والمغرب والأندلس، فإنهم قلما اختلطوا بأهلها أو اقتبسوا منهم أو قلدوهم في شيء من عاداتهم وأخلاقهم، إلا ما اتخذوه من الحرس والبريد والسرير على ما يأتي بيانه، أما العباسيون فنظرًا لتغلبهم بالموالي على الأمويين فقد جعلوا مقامهم بين أشياعهم الفرس، فبنوا بغداد على الحدود بين الفرس والسريان، أو بين الآريين والساميين، أو بين المجوس والنصارى، وقربوا الفرس واتخذوا منهم الوزراء والعمال ورجال الدولة، فنظموا لهم الدواوين على نحو ما كانت عليه في الدولة الساسانية.

هوامش

(١) البلاذري: فتوح البلدان، القاهرة ١٩٣٢، ص١٦٣ وما بعدها.
(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري، ص١٣١.
(٣) راجع تفصيل ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب.
(٤) الهلال، ص٩٩ سنة ١٣.
(٥) المسعودي ١٢٣ ج١.
(٦) Le Christianisme dans l’Empire Perse, 6.
(٧) البلاذري ٣٨١.
(٨) الجزء الأول من هذا الكتاب.
(٩) البلاذري ٣٨٤.
(١٠) البيان والتبيين ١١٤ ج١ وابن الأثير ٣٥ ج٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤