مقدمة

قد يصف كثير من الفلاسفة المهنيين العاملين في العصر الحالي أنفسهم بأنهم «فلاسفة تحليليون». ولا شكَّ في أن هذا ينطبق على كثير من الفلاسفة الذين يُدرِّسون في الكليات والجامعات في الدول الناطقة بالإنجليزية. ولكن الفلسفة التحليلية كانت تنمو سريعًا في مكان آخر، أحد الأدلة على ذلك ما حدثَ على مدى العشرين عامًا الماضية أو نحوها من تأسيس مجتمعات الفلسفة التحليلية عبر العالَم، من شرق آسيا وحتى أمريكا اللاتينية. ولكن هذا لا يعني أن ثَمَّة إجماعًا على ما تعنيه «الفلسفة التحليلية» أو على اهتماماتها وأساليبها ونجاحاتها الأساسية. ولكني آمل أن يمنحك هذا الكتاب بعضَ الأفكار عما تتضمنه الفلسفة التحليلية وعن إنجازاتها ونقاط قوتها، وكذلك عن مواطن قصورها ونقاط ضعفها.

ثَمَّة ادعاء عادةً ما يُصرَّح به عن الفلسفة التحليلية، وهو أنها تركِّز كثيرًا على الوضوح والدقة والصرامة؛ وضوح التفكير، ودقة التعبير، وصرامة المُحاجَّة. فالفلاسفة التحليليون يحاولون أن يوضِّحوا قَدْر إمكانهم المسائلَ الفلسفية التي يتناولونها، وأن يعبِّروا عن أفكارهم بأكبر قدرٍ ممكن من الدقة (باستخدام اللغة العادية والمصطلحات التقنية، حسب الحاجة)، وأن يعرضوا حُججهم بأكبر قدرٍ ممكن من الصرامة (عادةً باستخدام المنطق الصوري). أعتقد أن الوضوح والدقة والصرامة، بلا شك، خِصالٌ فكرية أساسية، وحاولتُ أن أجسِّدها في هذا الكتاب (ولكني قلَّلتُ استخدامَ المنطق الصوري إلى أدنى حدٍّ ممكن). وسيرجع الأمر إليكم في الحُكم على مدى نجاحي في ذلك. ولكن، حتى وإن لم أحقق النجاح الذي أملتُ تحقيقه، فإنني آمل أن ترى على الأقل السببَ الذي جعل هذه الخِصال قيِّمة.

رغم ذلك، فإنَّ الوضوح والدقة والصرامة ليست الخِصال الفكرية الوحيدة. فالإبداع والإنتاجية والمنهجية ثلاثُ خِصال أخرى يجدر ذكرُها. أعتقد أن الفلسفة التحليلية في أفضل تصوُّراتها تتسم بهذه الخِصال أيضًا، ولكن يمكن تقدير ذلك على نحو أفضل. ففي رأيي، كل الفلسفة الجيدة «إبداعية من الناحية المفاهيمية»؛ فهي تمدُّنا بمصادر مفاهيمية جديدة تساعدنا في التفكير في الأمور بمزيد من التركيز والعُمق، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تطبيقاتٍ مُثمِرة وتطوير نظرياتٍ أكثر منهجيةً. لم تكن الفلسفة التحليلية تشتهر بإنشاء النُّظم في المناهج الكبرى لبعض الفلاسفة القدامى. بل على النقيض، كانت تتعلق عادةً بالنهج التدريجي؛ تُقسَّم المشكلات الصغيرة إلى أجزاء أصغر ليتمَّ تناولها الواحدَ تِلو الآخر. إلا أن مَكمَن الخطر في هذا النهج هو أنه من السهل إغفال رؤية الأصول بالتركيز على الفروع؛ الانتقاد الذي طال، بلا شك، بعضًا من مجالات الفلسفة التحليلية في العصر الحالي. ولكن تستحق أيضًا الطبيعة المنهجية للفلسفة التحليلية، ولا سيَّما طبيعة الدوافع التي تقوم عليها، تقديرًا أكبر. وعليه، فثَمَّة هدفٌ آخر لهذا الكتاب، وهو إعطاء لمحة عن كلٍّ من الإبداع المفاهيمي للفلسفة التحليلية والصورة العامة التي يمكن باستخدامها تقديرُ نتائجها المثمِرة وطموحاتها المنهجية.

الأسئلة الفلسفية

إن إحدى طرق عرض الفلسفة التحليلية هي تناول السؤال الذي سنستعرضه بالتفصيل في الفصل الأول: كم يبلغ عدد الأشياء الموجودة في العالم؟ من السهل طرح هذا السؤال. فبمجرد أن يتعلم طفلٌ العَدَّ وكيفية استخدام كلمتَي «شيء» و«عالم»، قد يطرح هذا السؤال (غالبًا عندما تضعه في فراشه لينام). ولكن، هل ثَمَّة إجابة لهذا السؤال؟ هل يُعد سؤالًا منطقيًّا من الأساس؟ هذا السؤال ليس مثالًا منفردًا. فثَمَّة كثير من الأسئلة المشابهة. أين كنت قبل أن تحمل بي والدتي؟ ما الفترة الزمنية التي استغرقها خلقُ العالم؟ هل الأعداد موجودة؟ هل المعادلة ٢ + ٢ = ٤ صحيحة في كل مكان؟ هل قولنا «هذه الجملة غير صحيحة» صوابٌ أم خطأ؟ هل أملك إرادةً حُرة؟ من السهل طرح كل هذه الأسئلة، ومن البديهي أن تفكِّر أنه لا بد من وجود إجابة لها؛ فقط لأنها تشبه الأسئلة التي لها إجابات، «أين كنتُ قبل الانتقال إلى برلين؟» «ما الفترة الزمنية التي استغرقتُها في تأليف هذا الكتاب؟» «هل حيوانات الباندا موجودة؟» وما إلى ذلك. ولكن ستكون الإجابات، بأي حال من الأحوال، واضحة، إذا كانت للأسئلة إجابات.

إذا لم تكن لهذه الأسئلة إجابات، فهل ستكون بلا معنًى؟ لا يبدو أنها بلا معنًى، فنحن نفهم الكلمات المستخدَمة في طرحها والأسئلة مُحكَمة من حيث التركيب النحوي. ولكن، حتى إن وصفناها بأنها بلا معنًى، فستكون هذه هي إشارة الانطلاق لشرح سبب اختلافها عن الأسئلة المشابهة التي لها إجاباتٌ مباشرة. لماذا هي بلا معنًى؟ وما الذي يميِّزها عن مثيلاتها التي لها معنًى؟ وما الذي نعنيه بكلمة «معنًى»؟ وما علاقة أن تكون لها إجابة بأن تكون ذات معنًى؟

إنَّ الأسئلة التي ليست لها إجاباتٌ مباشرة، والتي يبدو أنه يجدُر بها أن تكون كذلك، سمة من سمات الفلسفة. ولا شكَّ أنه قد يتضح في نهاية المطاف أن بعضَها له إجابات؛ إذ يسهم تقدُّم العلم في توفير الموارد المفاهيمية والبيانات التجريبية لإجابة تلك الأسئلة. ولكن تظل أسئلةٌ أخرى مستعصيةً على الإجابة، وتثير حالة من الغموض الفلسفي. يمكن دائمًا إعطاء «إجاباتٍ» مبتكرة. أين كنت قبل أن تحمل بي والدتي؟ هل كنت لمعة في عينَي والديَّ؟ ما هذه إلا استعارة. هل كنت في ذهن الرب؟ سنحتاج للإجابة عن هذا السؤال إلى نظرياتٍ دينية قوية، إن كان من الممكن إجابته من الأساس. هل كنت جزءًا من جسم إنسان آخر أو حيوان ماتَ قبل أن أُولَد؟ مع هذا السؤال، سيكون علينا أن نركن إلى عقيدة تناسُخ الأرواح.

من شأن هذه الإجابات المبتكرة أن تُبرز غرابة هذه الأسئلة أو تَعذُّر إجابتها. فقد ظلت هذه الأسئلة تُطرَح على مدى تاريخ الفكر الإنساني، ولا شكَّ في أن العديد منها قد طُرِح، كما اقترحنا سابقًا، على نحو فطري بمجرد أن امتلكت اللغةُ الكلماتِ والتركيبَ النحوي الملائمَين. أُعطيَت إجاباتٌ عن هذه الأسئلة على مدى تاريخ الفكر الإنساني، ولا سيَّما من قِبَل الفلاسفة، إلا أن الفلاسفة لم يتطرقوا إلى هذه الأسئلة حتى وقتٍ قريب نسبيًّا — في القرن العشرين — من خلال الانتباه إلى آليات اللغة والوعي بالطرق المختلفة التي يمكن أن تضلِّلنا بها اللغة. وهذا هو النهج الذي يُميِّز ما أصبح يُسمَّى «الفلسفة التحليلية»، خاصةً مع تطوُّرها خلال النصف الأول من القرن العشرين. سنتناول السؤال عن كيفية وسبب تسمية الفلسفة التحليلية بهذا الاسم في الفصل الأخير من هذا الكتاب بعدما نتناول بعض الأمثلة عما تتضمنه. ولكن، من الجلي أن الفلسفة التحليلية تُسمَّى «تحليلية» بسبب تركيزها على التحليل. ولكن، هذا بدوره يثير التساؤل عما نعنيه بكلمة «تحليل»، وما أنواع التحليل المستخدَمة في الفلسفة التحليلية. ولا يمكن تفسير هذا أيضًا إلا باستخدام أمثلة، وسنتناول مجموعة من الأمثلة المختلفة في السطور القادمة.

التفكير وإعمال الفِكْر

بتناول هذه الأمثلة، كلُّ ما أرغب في فعله، في المقام الأول، هو إشراكك في «نشاط» التفلسف التحليلي. تمتلك الفلسفة التحليلية عددًا كبيرًا من المعالم الفكرية. إلا أنني لا أهدف إلى أن أكون مرشدك السياحي، بل أن أكون حارسك الشخصي (ربما كانت هذه أفضل تسمية حاليًّا!) في رحلة التفكير وإعمال الفِكْر. من منطلق سعيي لإشراكك في ممارسة التفلسف الفعلي، سأعرِّفك على مدى رحلتنا على بعض الأفكار الرئيسية لخمسة من مؤسِّسي التقليد الفلسفي التحليلي: جوتلوب فريجه (١٨٤٨–١٩٢٥)، وبرتراند راسل (١٨٧٢–١٩٧٠)، وجورج إدوارد مور (١٨٧٣–١٩٥٨)، ولودفيج فيتجنشتاين (١٨٨٩–١٩٥١)، وسوزان ستيبينج (١٨٨٥–١٩٤٣). وقد اختير الموضوع الأساسي لكلٍّ من الفصول الخمسة الآتية لهذا الغرض. ولكننا لن نستعرض سوى الأفكار المتعلقة بموضوع الكتاب. ومن ثَم، يجب ألا يُنظَر إلى الفصول على أنها دراساتٌ كاملة عن الفلاسفة الذين تتحدث عنهم. كما سنصادف أفكارًا لفلاسفة آخرين أيضًا، ولكن في كتاب من هذا النوع، من المستحيل أن نجد متسعًا للحديث عنهم قدر ما يستحقون هم أيضًا. ثَمَّة كثير من الدراسات المتاحة عن أفكارهم، من ملخصات في الموسوعات إلى الرسائل العلمية الأكاديمية. وسوف نسترسل في بعض الأفكار الجديرة بالشرح في الفصل الأخير، وللاستزادة سنقدِّم بعض الاقتراحات بقراءاتٍ إضافية في نهاية هذا الكتاب.

ولكن، دعوني أُسديكم نصيحةً خاصة قبل أن نبدأ الرحلة. إذا كنتَ حديث العهد بالفلسفة التحليلية، فلن تفهم ما نفعل من دون التعرف على مفاهيم معيَّنة. ومن دون الإلمام بالمفاهيم ذات الصلة، لن نتمكَّن حتى من التفكير في أفكار معيَّنة؛ ومن ثَم إذا كان الهدف هو منحك هذه الأفكار، فلا بد من استيعاب المفاهيم جيدًا. قد تبدو بعض هذه المفاهيم، على غرار مفهوم أن يُصنَّف موضوعٌ ما طبقًا لمحمولٍ ما، أو مفهوم التطابق مع الذات، غريبةً عند مصادفتها للوهلة الأولى، ولكنك ستجدها واضحة نسبيًّا بمجرد تفسيرها. وعلى الرغم من أن مفاهيم أخرى، مثل مفهوم المفهوم نفسه أو مفهوم المعنى، تبدو مألوفة، فستحتاج إلى فهمهما بأسلوب أدق وأكثر تخصصًا. وثَمَّة مفاهيم أخرى جديدة تمامًا، مثل مفهوم العدد فوق المنتهي. ومن ثَم، إذا وجدت أثناء قراءتك هذا الكتاب أنك لم تستوعب أحد المفاهيم في البداية، فتحلَّ بالصبر. ففي بعض الأحيان، قد تحتاج إلى قراءة الفقرة مرةً أخرى. فقراءة الفلسفة تختلف عن قراءة الروايات. ولذا، سيكون عليك أن تتأنَّى في القراءة، وتعيد القراءة، بل تتوقَّف عن القراءة في بعض الأحيان لتفكِّر بإمعان قبل أن تواصل القراءة من جديد. وفي بعض الأحيان، ستحتاج إلى أن تدرك الوظيفة التي يؤديها المفهوم قبل أن تتمكن من استيعابه، ثم يمكِنك العودة إلى التفسير الأول لتعزِّز فهمك له. وكما قلتُ في البداية، الفلسفة التحليلية، على غرار جميع أنواع الفلسفة الجيدة، إبداعية من الناحية المفاهيمية، ومثلما هو الحال مع جميع الأنشطة الإبداعية الجيدة، قد لا تُدرَك أصالتها وقيمتها على الفور. ولكن، إذا ثابرت، فستفتح أمامك المواردُ المفاهيمية الأكثر ثراءً ومهارات المنطق المُحسَّنة التي ستكتسبها عالمًا كاملًا من الفكر العقلاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤