ورثة الجسد الحي

كان اسم المنزل الذي يقع في جنكينز بيند هو ذاك الاسم المطبوع على لافتة من صنع العم كريج تتدلى من الشرفة الأمامية بين راية حمراء والعلم البريطاني. بدا المنزل كما لو كان مركز تجنيد أو نقطة عبور على الحدود، فقد كان يومًا ما مكتبَ بريد، ولا يزال يحتفظ بتلك الهيئة الرسمية شبه العامة؛ وذلك لأن العم كريج كان كاتب بلدة فيرمايل، وكان الناس يقصدونه للحصول على تصاريح الزواج وغيرها من أنواع التصاريح، وكان مجلس البلدة يجتمع في عرينه أو مكتبه، الذي كان يضم خزاناتٍ للملفات وأريكةً جلدية سوداء، ومكتبًا ضخمًا ذا غطاء متحرك وأعلامًا أخرى، وصورة للآباء المؤسِّسين للاتحاد الكونفدرالي، وأخرى للملك والملكة والأميرات الصغيرات في ثياب حفل التتويج الفاخرة. وثمة صورة أخرى محاطة بإطار لمنزل خشبي كان يقع مكان هذا المنزل الكبير الجذاب المصنوع من الطوب العادي. وكانت تلك الصورة تبدو كما لو أنها تنتمي لبلد آخر، كل شيء بها أقل ارتفاعًا ووضوحًا وأكثر ظلمة من هنا. وقد نما حول المباني دغل ضبابي يعجُّ بالعديد من النباتات دائمة الخضرة مدببة الأطراف، وكان الطريق الظاهر في الصورة من الأمام مصنوعًا من جذوع الأشجار المرصوصة.

«إنه ما يُطلق عليه طريق مرصوف بجذوع الأشجار.» قالها العم كريج لي في لهجة توجيهية.

كنا نتطلَّع إلى صورة تضم العديد من الرجال الذين يرتدون قمصانًا، ويزيِّن وجوههم شوارب متدلِّية، وترتسم على وجوههم تعبيرات حادة، ولكنها في الوقت نفسه تُوحي بقلة الحيلة، وكانوا يقفون حول حصان وعربة، وكنت أنا قد ارتكبت خطأ سؤال العم كريج عما إذا كان في الصورة.

فقال: «ظننت أنك تعرفين القراءة.» وأشار إلى التاريخ المكتوب تحت عجلات العربة: ١٠ يونيو ١٨٦٠، واستأنف: «حتى والدي لم يكن حينها رجلًا بالغًا، ها هو ذا خلف رأس الحصان، ولم يتزوج حتى عام ١٨٧٥، وولدت أنا عام ١٨٨٢. هل يجيب هذا على سؤالك؟»

لقد استاء مني، لا بسبب أي تفاهات بشأن عمره، وإنما بسبب أفكاري غير الدقيقة عن الزمن والتاريخ، وتابع بصرامة: «عندما ولدتُ، كانت كل تلك الشجيرات التي ترينها في الصورة قد اختفت، وكان ذلك الطريق أيضًا اختفى، وحل محله طريق مفروش بالحصى.»

كانت إحدى عينيه قد أصيبت بالعمى، وخضع لعملية جراحية فيها، ولكنها ظلَّت معتِمة عليها غِشاوة، وكان جفن تلك العين متدلِّيًا بصورة مخيفة، وكان وجهه مربعًا مرتخيًا وجسده ممتلئًا. وكان ثمة صورة أخرى لا في غرفته، بل في الغرفة الأمامية في الجانب الآخر من الردهة، يظهر فيها العم كريج ممددًا على بساط أمام والديه العجوزين الجالسين، وكان آنذاك مراهقًا بدينًا، أشقر الشعر، يرتسم على وجهه ملامح الرضا عن النفس ويتمدد مرتكزًا برأسه على مرفقه. وجلست العمة جريس والعمة إلسبيث شقيقتاه الصغيرتان على وسادات عند رأسه وقدميه، وهما ترتديان فساتين البحارة، ويغطي جبهتيهما القليل من الشعر المنسدل المجعد. وكان جدي لوالدي — الذي توفي بمرض الأنفلونزا عام ١٩١٨ — يقف خلف مقعد الوالدين ومعه على جانبٍ العمةُ مويرا (التي كانت رشيقة حينها!) التي تعيش في بورترفيلد، وعلى الجانب الآخر العمة هيلين التي تزوَّجت من أرمل وطافت حول العالم، وتعيش الآن حياة الأثرياء في بريتيش كولومبيا. وكانت العمة إلسبيث أو العمة جريس تقول وهي تنفض الغبار عن الصورة: «انظري إلى عمك كريج! ألا يبدو مغترًّا بنفسه كالقطة التي انتهت من لعق القشدة كلها؟» كانتا تتحدَّثان عنه كما لو كان لا يزال نفس الصبي الممدد في غطرسة خادعة تدلِّلانه وتسخران منه.

كان العم كريج يحب نثر المعلومات، والتي كنت أجد بعضها مشوقًا والبعض الآخر لا. فكنت أودُّ أن أسمع عن ملابسات تسمية جنكينز بيند بهذا الاسم على اسم شاب لقي مصرعه بعد أن سقطت عليه شجرة على مقربة من هنا، وهو شاب لم يكن قد مرَّ على وجوده في تلك البلدة سوى أقل من شهر. وقد أطلق جد العم كريج — أي جدي الأكبر الذي كان يبني منزله هنا ويفتتح مكتب البريد وينشئ مدينة تمنَّى أن تصبح مدينة مهمة يومًا ما، وآمن بذلك في أعماقه — اسم هذا الشاب على المدينة، فبأي شيء آخر كان الناس سيتذكرون هذا الشاب الأعزب؟

«أين لقي مصرعه؟»

«على مقربة من هنا، على بعد أقل من ربع ميل.»

«أيمكنني أن أرى المكان؟»

«لا توجد علامة مميزة تُحدِّده، فليس هذا هو نوعَ الأشياء الذي يضعون علامة لتحديده.»

نظر إليَّ العم كريج باستنكار، فلم يكن الفضول من الأشياء التي تؤثر فيه، وغالبًا ما كان يعتبرني طائشة وغبية، ولكنني لم آبَهْ كثيرًا لهذا؛ فقد كان ثمة شيء عام وموضوعي بشأن حكمه عليَّ جعلني أشعر بالحرية، وهو نفسه لم يكن يُؤذيه أو ينتقص منه أنني لست أهلًا لتوقُّعاته، رغم أنه كان يشير إلى هذا. وهذا هو الفرق الكبير بين أن أخيِّب ظنه وأن أخيِّب ظن أمي أو حتى عماتي. ولكن طابع حب الذات الذكوري ذاك هو ما جعل التواجد معه أمرًا مريحًا.

والنوع الآخر من المعلومات التي أعطاني إياها تتعلق بالتاريخ السياسي لمقاطعة واواناش، وولاء العائلات الكبرى، والعلاقات بين الناس، وما حدث في الانتخابات. كان أول شخص أعرفه يؤمن حقًّا بعالَم الأحداث العامة والسياسة، ولا يشك في أنه جزء من تلك الأشياء. ورغم أن والديَّ كانا يستمعان دائمًا للأخبار ويشعران بالإحباط أو بالراحة مما يسمعان (وغالبًا ما يشعران بالإحباط، لأننا كنا في بداية الحرب)؛ كان يخالجني الشعور بأنه بالنسبة لهم — كما هو الحال بالنسبة لي — كل ما يحدث في العالم خارج عن نطاق سيطرتنا، أحداث خيالية ولكنها مأساوية. أما العم كريج، فلم يكن يشعر بالخوف؛ فقد كان يرى صلة بسيطة بين نفسه وهو يتولى شئون البلدة — مهما كانت مزعجة في الغالب — وبين رئيس الوزراء في أوتاوا وهو يتولى شئون البلاد. وكانت له وجهة نظر متفائلة بشأن الحرب، فهي انفجار ضخم في الحياة السياسية العادية وسيأتي يوم وتتوقف بعد أن تخور قواها، وكان مهتمًا بكيفية تأثير الحرب على الانتخابات، وتأثير التجنيد الإجباري على الحزب الليبرالي أكثر من اهتمامه بسير الحرب نفسها، رغم أنه وطني، فهو يعلق العلم ويبيع سندات النصر.

عندما لا يكون منخرطًا في العمل في شئون البلدة، كان ينشغل بمشروعين: وهما تاريخ مقاطعة واواناش، وشجرة العائلة التي تعود جذورها إلى عام ١٦٧٠ في أيرلندا. لم يكن أي شخص في عائلتنا قد قام بأعمال مميزة؛ فبعضهم قد تزوَّج من بروتستانتيين أيرلنديين آخرين وكوَّنوا عائلات كبيرة، والبعض الآخر لم يتزوج، وبعض الأطفال تُوُّفوا في صغرهم، ولقي أربعة أفراد من عائلتنا حتفهم في حريق، وفقد رجل زوجتين له أثناء الولادة، وتزوَّج أحدهم من امرأة كاثوليكية، وقدِمُوا إلى كندا واستمروا بالطريقة نفسها، وغالبًا ما كانوا يتزوَّجون من المشيخيين ذوي الأصل الاسكتلندي. ورأى العم كريج أنه من الضروري اكتشاف أسماء كل هؤلاء الأشخاص، وصلتهم بعضهم ببعض، وتواريخ الميلاد والزواج والوفاة — أو على الأقل الميلاد والوفاة إذا كانت تلك هي الأحداث التي وقعت لهم فحسب — وغالبًا ما يكون هذا بمجهود كبير وقَدْر هائل من المراسلات حول أنحاء العالم (فلم ينسَ الفرع من العائلة الذي ذهب إلى أستراليا)، وكتابة كل هذه المعلومات هنا بالترتيب وبخطه الواضح الأنيق. لم يبحث عن معلومات عن أي شخص في العائلة فعل ما هو أكثر إثارة للاهتمام — أو أكثر خزيًا — من الزواج بامرأة كاثوليكية (حيث كان المذهب الذي تعتنقه المرأة يدوَّن بالحبر الأحمر أسفل اسمها)، فقد كان هذا كفيلًا بإرباك السجل الذي يضعه بالكامل، لو أن أحدهم فعل ما هو أكثر من هذا. لم تكن أسماء الأشخاص هي المهمة بالنسبة له، بل الهيكل المعقد المحكم من الحيوات من الماضي التي تدعم وجودنا.

وينطبق الأمر نفسه على تاريخ المقاطعة التي افتتحت، واستوطنها الناس، وكبرت، ودخلت مرحلة التدهور البطيء الحالي عن طريق كوارث بسيطة فحسب؛ مثل حريق تابرتون، والفيضان المنتظم لنهر واواناش، وبعض فصول الشتاء المروعة، وبعض جرائم القتل غير الغامضة، وأفرزت ثلاث شخصيات بارزة فحسب؛ وهم قاضٍ بالمحكمة العليا، وعالم آثار نقب عن الآثار في القرى الهندية الواقعة حول خليج جورجيا وألَّف كتابًا عنها، وسيدة كانت قصائدها تُنشر في الصحف في أنحاء كندا والولايات المتحدة. لكن لم يكن ذلك ما يهم، وإنما الحياة اليومية هي التي تهم؛ فقد كانت ملفات العم كريج وأدراجه تعجُّ بقصاصات من الصحف والخطابات التي تصف أحوال الطقس، وتروي قصة عن حصان هارب، وقوائم الحاضرين في الجنائز، وهو تجميع هائل للحقائق العادية للغاية، والتي كان شغله الشاغل أن يرتِّبها. فكل شيء يجب أن يدخل إلى الإطار التاريخي الذي يصنعه، كي يجعله التاريخ الكامل لمقاطعة واواناش، ولم يكن يغفل شيئًا؛ ولذلك عندما توفي لم يكن قد وصل إلا إلى عام ١٩٠٩ فحسب.

عندما قرأت بعد عدة أعوام عن ناتاشا في رواية «الحرب والسلام»، وكيف «عزت أهمية كبرى لمساعي زوجها الفكرية المجردة، رغم أنها لم تكن تفهمها.» خطر في بالي العمة إلسبيث والعمة جريس. لم يكن الأمر ليشكِّل فارقًا ما إذا كان العم كريج لديه «مساعٍ فكرية مجردة» أو أنه كان يقضي اليوم في فرز ريش الدجاج، فقد كانتا على استعداد للإيمان بما يفعله. كان لديه آلة كاتبة سوداء قديمة ذات حوافَّ معدنية حول المفاتيح، وأذرعها السوداء الطويلة مكشوفة، فكان عندما يبدأ بالكتابة عليها بأسلوبه البطيء المتقطع عالي الصوت — ولكن الموثوق به — كانتا تخفضان صوتيهما، وتوجِّهان نظراتِ توبيخٍ عبثيةً بعضُهما لبعض إذا ما أحدثت المقلاة ضوضاء، ولسان حالهما يقول: «إن كريج يعمل!» وترفضان خروجي إلى الشرفة خوفًا من أن أسير أمام نافذته وأُزعِجه. لقد كانتا تحترمان عمل الرجال أكثر من أي شيء في العالم، وفي الوقت نفسه تتَّخِذانه مادة للضَّحِك. كان هذا الأمر غريبًا، فقد كانتا تُؤمِنان تمامًا بأهميته، وفي الوقت نفسه تُعبِّران عن حكمهما فيه بأنه تافه وبلا جدوى. وهما لا تتدخلان فيه أبدًا، أبدًا، فثمة خط فاصل هو الأوضح على الإطلاق بين عمل الرجل وعمل المرأة، وأي تعدٍّ على هذا الخط أو أي اقتراح لتخَطِّيه، كانتا تقابلانه بضحكة هادئة مندهشة يملؤها شعور بالتفوق مفعم بالندم.

كانت الشرفة مكان جلوسهما في فترة ما بعد الظهيرة بعد انتهائهما من السباق الصباحي؛ من مسح الأرض، وجمع الخيار، والتنقيب عن البطاطس، وجمع الفاصوليا والطماطم، والتعليب، والتخليل، والغسيل، ووضع النشا، والرش، والكي، والمعالجة بالشمع، والخبز. لم تكونا تجلسان هناك عاطلتين عن العمل، بل كان حجر كل منهما مليئًا بالعمل كذلك؛ من نزع النوى من الكرز، إلى تقشير البازلاء، إلى نزع البذور من التفاح. كانت يداهما وسكاكينهما القديمة الداكنة ذات المقابض الخشبية تتحرك بسرعة مذهلة كما لو أنها تنفذ عملية انتقامية. وكان يمرُّ كلَّ ساعة سيارتان أو ثلاث، وعادة ما كانت تهدئ من سرعتها وتلوح؛ إذ عادة ما يكون بها أناس من أهل البلدة. وكانت العمة إلسبيث أو العمة جريس تَصيح بعبارة الترحيب المضيافة بصيغتها القروية: «لِمَ لا تتوقفون لبرهة وترتاحون من ذلك الطريق الترابي؟» فيرد الجالسون في السيارة قائلين: «كنا سنفعل لو كان لدينا الوقت، متى ستأتون لزيارتنا؟»

كانت العمة إلسبيث والعمة جريس ترويان القصص، ولم يبدُ الأمر كما لو كانتا تخبرانِنِي بها للتسلية، بل كما لو أنهما ستقصَّانها على أية حال من أجل متعتهما الشخصية، حتى وإن كانتا وحدهما.

«ذاك الرجل الذي استأجره أبي — هل تذكرينه؟ — ذلك الأجنبي كانت طباعه شيطانية، عذرًا على اللفظ. ماذا كانت جنسيته يا جريس؟ ألم يكن ألمانيًّا؟»

«بل كان نمساويًّا، وجاء من ذلك الطريق يبحث عن عمل فاستأجره أبي، ولكن أمي لم تتمكن من التغلب على خوفها منه، فلم تكن تثق بالأجانب.»

«لا عجب في ذلك.»

«وجعلته ينام في مخزن الحبوب.»

«كان طوال الوقت يصرخ ويسبُّ باللغة النمساوية. هل تذكرين عندما قفزنا عبر محصول الكرنب خاصته؟ كان فيضان السباب باللغة الأجنبية يجعل الدم يتجمد في العروق.»

«حتى قررت أن أتحداه.»

«ماذا كان يحرق في ذلك الوقت؟ كان في البستان يحرق الكثير من الأغصان …»

«يرقة الخيمة.»

«نعم بالضبط، كان يحرق حشرات يرقة الخيمة، وارتديتِ أنت ثياب العمل الخاصة بكريج وقميصًا، وحشوْتِ نفسك بالوسادات، وأخفيت شعرك أسفل قبعة أبي المصنوعة من اللباد، ولطخت يديك ووجهك بالسواد كي تبدي مثل الزنوج …»

«وأخذتُ سكين اللحم؛ تلك السكين الطويلة الخطرة التي لا تزال لدينا هنا …»

«وتسللتِ عبر البستان واختبأتِ خلف الأشجار، ألم أكن أنا وكريج نشاهد ذلك طوال الوقت من نافذة الطابق العلوي؟»

«لا يمكن أن يكون أبي وأمي كانا موجودين في هذا الموقف.»

«كلا، كانا قد رحلا إلى المدينة! ذهبا إلى جوبيلي راكبين عربة يجرها حصان.»

«دنوت منه حتى مسافة خمس ياردات، وتسللت من خلف جذع شجرة … يا إلهي! ألم يصرخ وقتها؟ لقد أطلق صرخة هائلة ثم أنار الطريق بحثًا عن الإسطبل. لقد كان جبانًا بكل معنى الكلمة.»

«ثم دخلتِ إلى المنزل، وخلعتِ تلك الثياب واغتسلتِ قبل أن يعود أبي وأمي من المدينة، وجلسنا جميعًا حول مائدة العشاء ننتظره، وكنا نأمل في أعماقنا أن يكون قد هرب.»

«كلا، لم أكن أتمنى ذلك، بل كنت أريد أن أرى تأثير ما فعلت على وجهه.»

«ثم دخل هو شاحبًا كالورقة وعابسًا كالشيطان، وجلس دون أن يتفوَّه بكلمة واحدة. كنا نتوقع على الأقل أن يشير إلى وجود زنجي مجنون طليق في المقاطعة، ولكنه لم يفعل.»

«لم يرغب في أن يفضح كم كان جبانًا حينها، كلا.»

وأخذتا تضحكان حتى تناثرت الفاكهة من حجريهما.

«لم أكن أنا دائمًا من ينفِّذ الحيل، لم أكن الوحيدة التي بإمكانها التخطيط للقيام بخدع! لقد كنتِ أنتِ صاحبة فكرة وضع العلب القصدير فوق الباب الأمامي عندما كنتُ بالخارج لحضور حفل راقص، لا تنسيْ ذلك.»

«كنتِ أنت بالخارج مع ميتلاند كير (يا لَميتلاند المسكين! لقد مات)، كنتِ بالخارج في حفل راقص في جيريكو …»

«جيريكو! كلا كان حفلًا راقصًا في مدرسة ستون!»

«حسنًا، أيًّا كان، كنتِ تُدخلينه إلى القاعة الأمامية كي تتمنيْ له ليلة سعيدة، كنتِ تُدخلينه متسللًا، كنتما هادئين كحملين وديعين …»

«ثم فجأة سقطت العلب …»

«بدا صوتها كما لو كان انهيارًا جليديًّا قد حدث؛ فقد قفز أبي من الفراش واختطف بندقية الصيد. هل تذكرين بندقية الصيد في غرفتهما، كانت دائمًا خلف الباب؟ وفجأة عَمَّ ارتباك شديد! واختبأتُ أنا تحت أغطية الفراش أكتم ضحكاتي بالوسادة في فمي؛ كي لا يسمعني أحد!»

لم تتوقفا عن القيام بخدع حتى الآن؛ فذات مرة دخلت أنا والعمة جريس غرفة النوم التي كانت العمة إلسبيث تأخذ بها القيلولة راقدة على ظهرها وتغطُّ في نوم عميق، فرفعنا عنها الغطاء بحذر شديد وقيَّدنا كاحليها معًا بشريط أحمر. وفي فترة ظهيرة أحد أيام الأحد عندما كان العم كريج نائمًا في مكتبه على الأريكة الجلدية، وأُرسلتُ أنا كي أوقظه وأخبره بأن زوجين شابين بالخارج يطلبان الحصول على تصريح زواج، فنهض متذمرًا، وخرج إلى المطبخ الخلفي، وغسل وجهه وبلل شعره وصففه، وارتدى ربطة عنقه وصدريته وسترته — فلم يكن يمنح تصاريح الزواج قط دون أن يكون مرتديًا الثياب الرسمية المناسبة — وخرج إلى الباب الأمامي، فوجد امرأة عجوزًا ترتدي تنورة طويلة ذات مربعات، وتضع شالًا على رأسها وتنحني متكئة على عصًا، ومعها رجل عجوز ينحني بالطريقة نفسها، يرتدي حلة لامعة وقبعة عتيقة. كان العم كريج لا يزال يشعر بالنعاس، فقال متشككًا: «حسنًا، كيف حالكما …؟» قبل أن ينفجر في غضب ممتزج بالمرح قائلًا: «إلسبيث! جريس! أيتها الشيطانتان!»

وفي وقت حلب الأبقار، كانتا تربطان شعريهما بأوشحة تتدلى أطرافها كما لو كانت أجنحة صغيرة، وترتديان الثياب المهترئة البالية، وتتجولان في ممرات الأبقار، وتلتقطان عصًا في مكان ما من الطريق، وكانت الأبقار لديهما مزودة على أعناقها بأجراس ثقيلة تصدر أصوات صلصلة. وذات مرة، عندما كنت أنا والعمة إلسبيث نتتبع الصوت المتقطع البطيء لتلك الأجراس حتى حافة الدغل، رأينا أيلًا يقف ساكنًا واقفًا بين جذوع الأشجار المقطوعة ونباتات السرخس الكثيفة. لم تتفوه العمة إلسبيث ببنت شفه، ولكنها مدت يدها بالعصا كما لو كانت ملكة تأمرني بأن أظل صامتة، وظلَلْنا نحدق به للحظة قبل أن يرانا ويقفز بسرعة، حتى بدا وكأن جسده قد التفَّ نصف دائرة في الهواء، في حركة تشبه حركات الراقصين، ووثب بعيدًا إلى أعماق الدغل وأردافه تتحرك لأعلى ولأسفل. كان مساءً حارًّا وهادئًا، والضوء يكوِّن حزمًا ذهبية كَلَوْنِ المشمش على جذوع الأشجار، وقالت العمة إلسبيث: «في الماضي، اعتدنا رؤية هذه الحيوانات بانتظام. عندما كنا صغارًا، كنا نراها في الطريق إلى المدرسة، ولكن ليس الآن، فهذا أول أيل أراه منذ أعوام طويلة لا أتذكر عددها.»

وفي الإسطبل، أرياني كيف أحلب الأبقار، وهي مهمة ليست بسيطة كما تبدو، وكانتا تتبادلان دفع اللبن في فم قط يقف على ساقيه الخلفيتين على بعد بضعة أقدام، وهو قط قذر مخطط يدعى روبر. هبط العم كريج وهو لا يزال مرتديًا قميصه الرسمي وقد شمر الأكمام، ويرتدي صديريته ذات الظهر اللامع، وقلماه الجاف والرصاص مثبتان في جيبه. وكان يُشرف على عمل فرازة القشدة، وكانت العمة إلسبيث والعمة جريس تحبان الغناء أثناء حلب الأبقار، وكانتا تغنيان أغاني مختلفة في الوقت نفسه، وكل منهما تحاول أن تطغى على الأخرى وتشكو قائلة: «لست أدري كيف تخيلت تلك المرأة أنها تعرف الغناء!» كان وقت حلب الأبقار يجعلهما تشعران بالجرأة والابتهاج؛ فالعمة جريس — التي كانت تخشى دخول مخزن المنزل خشية أن تجد بها خفاشًا — كانت تجري عبر فناء مخزن الحبوب تضرب الأبقار الضخمة طويلة القرون على مؤخراتها وتلاحقها خارج البوابة حتى المرعى، أما العمة إلسبيث فكانت تحمل صفائح القشدة بحركة قوية يسيرة — بلا مبالاة تقريبًا — كما لو كانت بقوة شاب في عنفوانه.

ولكن هاتين هما نفس المرأتين اللتين تتحولان في منزل والدتي إلى امرأتين عابستين خبيثتين عجوزين ومستعدتين للشعور بالإهانة عند أول بادرة، وبعيدًا عن مسمع والدتي كانتا تقولان لي: «أتلك هي الفرشاة التي تمشطين بها شعرك؟ ظننا أنها تخص الكلب!» أو «أهذا هو ما تجففون به الأطباق؟» وكانتا تنحنيان على أوعية الطعام وتحكَّانها، تحكان كل ذرة من اللون الأسود الذي تراكم منذ آخر زيارة لهما. وكانتا غالبًا ما تستقبلان ما تقوله أمي بابتسامات دهشة صغيرة، فقد كانت صراحتها وجرأتها تصيبهما بالشلل في لحظتها، ولم يكن بوسعهما سوى أن تنظرا إليها نظرة خاطفة تشي بعجزهما، كما لو كان ضوء قاسٍ قد بهر أعينهما.

بل وكانت أكثر الأمور التي تتفوه بها أمي كرمًا ولطفًا هي ما تعتبرانها أفدح الأخطاء، فالعمة إلسبيث كانت تعزف على البيانو سماعيًّا، وكانت تجلس وتعزف المقطوعات القليلة التي تعرفها، حتى عرضت عليها أمي أن تعلمها قراءة النوتة الموسيقية.

«كي تتمكني من عزف مقطوعات جميلة.»

فرفضت العمة إلسبيث وهي تطلق ضحكة رقيقة مصطنعة، كما لو أن أحدهم عرض أن يعلِّمها لعب البلياردو، ثم خرجت ووجدت حوض ورد مهملًا، وانحنت في التراب تحت شمس الظهيرة الحارقة، وأخذت تقتلع الأعشاب الضارة، فقالت أمي بنبرة مرحة لا تخلو من التحذير وهي عند باب المطبخ: «لم أعد أهتمُّ بهذا الحوض، لقد فقدت الأمل فيه، فلا يوجد به سوى نبتة لندن برايد العجوز تلك، وسوف أقتلعها قريبًا على أية حال.» ولكن العمة إلسبيث استمرت في التخلص من الأعشاب الضارة وكأنها لم تسمع شيئًا، فارتسم على وجه أمي تعبير الاستياء ثم اللامبالاة، وجلست في مقعدها المريح الظهر المصنوع من القماش، وانحنت إلى الخلف وأغلقت عينيها، وظلت هكذا لا تفعل شيئًا وتبتسم ابتسامة غاضبة حوالي عشر دقائق. كان الأمر برمته كما لو أن أمي تسير في خطوط مستقيمة، بينما تتخذ العمة إلسبيث والعمة جريس طريقًا متعرجًا حولها، تتراجعان وتختفيان ثم تعودان مرة أخرى، تراوغان بصوت ناعم، ولكن لا يمكن التخلص منهما. وكانت هي تدفعهما بعيدًا عن طريقها كما لو كانتا نسيج عنكبوت، أما أنا فقد كنت أكثر حكمة من أن أفعل ذلك.

أما في منزلهما في جنكينز بيند — حيث عدت معهما لزيارة الصيف الطويلة — فقد كانتا تنتعشان وتمتلئ أجسادهما كما لو أنهما وضعتا في الماء. كنت ألحظ ذلك التغيير بنفسي، وأنا أيضًا — مع شعور خفيف بوخز الضمير والخيانة — كنت أستبدل بعالم أمي المليء بالأسئلة الجادة المتشككة وأعمال المنزل التي لا تنتهي — والمهمة إلى حد ما — والكتل البارزة في البطاطس المهروسة والأفكار المحيرة؛ أستبدل بهذا العالم عالمَهما المليء بالعمل والمرح، بالراحة والنظام، وبالشكليات المعقدة. فكان ثمة لغة جديدة تمامًا، عليَّ أن أتعلمها في منزلهما، فالمحادثات هناك كانت على مستويات عديدة، فلم يكن شيء يقال صراحة، فكل دعابة قد تكون هجومًا مستترًا. كان الاستنكار لدى أمي صريحًا واضحًا كالجو القاسي، أما الاستنكار لديهما فكان يأتي كجروح الموس المغلفة باللطف بصورة تصيب المرء بالحيرة. وكان لديهما الموهبة الأيرلندية المتمثلة في السخرية الشديدة المغلفة بالاحترام.

تزوجت ابنة العائلة التي تسكن في المزرعة المجاورة من محامٍ — رجل من المدينة — افتخرت به عائلتها كثيرًا وأحضرته كي يتعرَّف عليهما، فقامت العمة إلسبيث والعمة جريس بالخَبز وتلميع الفضة وتحضير الأطباق المطلية يدويًّا والسكاكين ذات المقابض المرصعة باللآلئ؛ استعدادًا لزيارته، وقدَّما له الكعك وحلوى الزبد وقالب المكسرات والفطائر. وكان شابًّا شرهًا، أو ربما كان شديد الارتباك، وكان يتناول الطعام بدافع العصبية؛ حيث كان يلتقط كعكات كاملة كانت تتفتت في طريقها إلى فمه، ويلوث الفتات شاربه. وعلى طاولة العشاء، بدأت العمة جريس — دون أن تتفوه بكلمة — تقليدَ طريقته في تناول الطعام، وأخذت تبالغ تدريجيًّا وهي تقلد أصوات الابتلاع وتمسك بأشياء وهمية من طبقها. وصاحت العمة إلسبيث بكياسة وهي تنحني على المائدة: «سيدي المحامي، هل كنت دائمًا مهتمًّا بحياة الريف؟» وقد جعل هذا — بعد ترحيبهما الشديد له وكياستهما في التعامل معه — قُشَعْرِيرَةً باردة تسري في جسدي؛ بمثابة تحذير. وقد كان حكمهما الأخير عليه، والذي قالاه بمزاح، هو: «إنه يظن نفسه شخصًا مهمًّا؟» فأخذت أفكر في نفسي: «إنه يظن نفسه شخصًا مهمًّا، ألا تظنَّان هما أنفسهما أنهما امرأتان مهمتان؟» فالادِّعاء والتظاهر يحيط بنا من كل مكان.

لا يعني ذلك أنهما كانتا ضد الكفاءة، بل كانتا تعترفان بها في عائلتهما، في عائلتنا، ولكن كان يبدو أنه من المفترض إبقاؤها سرًّا. وكان الطموح هو ما يثير قلقهما، فالطموح يعني وكأن المرء يخطب ودَّ الفشل ويخاطر بأن يجعل من نفسه مثارًا للسخرية. وقد أدركت أن أسوأ ما يمكن أن يحدث في الحياة هو أن يسخر منك الآخرون.

قالت لي العمة إلسبيث: «إن عمك كريج واحد من أذكى الرجال وأكثرهم شعبية واحترامًا في مقاطعة واواناش، وكان من الممكن أن يُنتخب لعضوية المجلس التشريعي أو يصبح عضوًا في مجلس الوزراء، إذا أراد ذلك.»

«ألم يُنتخب العم كريج؟»

«لا تكوني سخيفة، إنه لم يترشَّح قط. لم يكن ليدع اسمه يدخل قوائم الترشيح، لقد فضَّل ألا يفعل ذلك.»

وكان هذا هو الإيحاء الغامض — والجديد بالنسبة لي — أن اختيار عدم فعل الأشياء يتَّضح في نهاية الأمر أنه أكثر حكمة واحترامًا للذات من فعلها، فهم يحبون أن يرفض الناس العروض التي تقدم لهم مثل الزواج والمناصب والفرص والأموال. كانت ابنة عمي روث ماكوين التي تعيش في تابرتون قد حصلت على منحة لدخول الجامعة نظرًا لتفوقها، ولكنها فكَّرت في الأمر ورفضتها مفضِّلة الجلوس في المنزل.

«فضلت ألا تفعل ذلك.»

لماذا كان ذلك عملًا رائعًا يستحق الإعجاب؟ على غرار بعض التناغمات الدقيقة في الموسيقى أو في الألوان، كان جمال الرفض أبعد من نطاق إدراكي، ولكنني لم أكن مستعدة كوالدتي لأن أنكر وجودهم.

أما أمي، فقالت عن روث ماكوين: «إنها تخشى أن تُخرج رأسها من جحرها.»

كانت العمة مويرا متزوجة من العم بوب أوليفانت، ويعيشان في بورترفيلد، ولديهما ابنة واحدة تُدعى ماري آجنس، ولدت متأخرة في حياتهما الزوجية. وأثناء الصيف، كانت العمة مويرا تقود أحيانًا مسافة الثلاثة عشر ميلًا، التي تفصل بين بورترفيلد وجنكينز بيند، لزيارة مسائية مصطحبة معها ماري آجنس. كانت العمة مويرا تعرف كيف تقود سيارة، وهو ما اعتبرته العمة إلسبيث والعمة جريس شجاعة بالغة منها (وكانت أمي تتعلم قيادة سيارتنا، فكانتا تظنان أنها فكرة طائشة وغير ضرورية). وكانتا تترقبان عبور سيارتها، قديمة الطراز مربعة السقف، للجسر وظهورها على الطريق من اتجاه النهر، وتخرجان لاستقبالها بسيل من صيحات التشجيع والإعجاب والترحيب كما لو كانت قد وجدت طريقها للتو عبر الصحراء الكبرى، لا عبر الطرق الغبارية الحارة من بورترفيلد.

كانت لمحة الخبث التي تتراقص تحت مجاملاتهما إلى بقية العالم تغيب تمامًا في اهتمامهما ببعضهما، واهتمامهما بأشقائهما وشقيقاتهما، فلم يكن أفراد العائلة يكنُّون بعضُهم لبعض سوى مشاعر الحنان والفخر. والشعور نفسه تجاه ماري آجنس أوليفانت، التي لم أستطع منع نفسي من التفكير في أنهما تفضلانها عليَّ. كنت أجد منهما الحفاوة والترحيب والاستمتاع بصحبتي، ولكنني كنت ملوثة بمؤثرات أخرى، وبحقيقة أن نصف عنصر الوراثة فقط ينتمي إليهم، فنشأتي في نظرهم مليئة بالهرطقة التي لا يمكن إصلاحها بالكامل، أما ماري آجنس، فقد بدا لي كما لو كانت تُستقبَل بعاطفة خالصة أكثر إشراقًا وثقة.

في جنكينز بيند لم يكن يُذكر قط أن ثمة أي مشكلة بشأن ماري آجنس، وفي حقيقة الأمر لم يكن هناك أمر خطير بالفعل، فقد كانت مثل معظم الناس، فيما عدا أنك لا تتخيلها وهي تذهب للمتجر وحدها وتبتاع شيئًا أو تذهب إلى أي مكان وحدها، بل عليها أن تكون دائمًا مع أمها. لم تكن حمقاء، ولم تكن تشبه إيرين بولوكس وفرانكي هول في طريق فلاتس، وبالطبع لم تكن بلهاء لدرجة أن يُسمح لها بركوب الأرجوحة في معرض كينزمنز طوال اليوم مجانًا كما كان يسمح لهما، حتى وإن كانت العمة مويرا سوف تسمح لها بأن تجعل من نفسها موضع سخرية، فإنها لن تفعل. كانت بشرتها تبدو مكسوة بطبقة من الغبار كما لو كان عليها لوح زجاج رقيق متسخ أو ورقة خفيفة زيتية.

قالت أمي — التي تستمتع دائمًا بتقديم التفسيرات — عنها: «لقد تعرضت للحرمان من الأكسجين، تعرضت للحرمان من الأكسجين في قناة الولادة، فقد ضم العم بوب أوليفانت ساقي العمة مويرا وهي في طريقها للمستشفى؛ لأن الطبيب أخبرهما أنها قد تتعرض للنزيف.»

لم أكن أرغب في سماع المزيد، أولًا كنت أجفل من الفكرة المتضمنة أنه أمر قد يحدث لأي شخص، وأنني أنا شخصيًّا ربما كنت سأتعرض لذلك بسبب نقص شيء عادي معروف قابل للقياس مثل الأكسجين، كما جعلتني كلمة قناة الولادة أتخيل نهرًا من الدماء مستقيم الضفتين. وتخيلت العم بوب أوليفانت وهو يمسك بساقي العمة مويرا الثقيلتين المليئتين بالأوردة ويضمهما معًا وهي تلهث وتحاول أن تضع مولودها، ولم أتمالك نفسي من التفكير في هذا الأمر بعدها كلما رأيته. وكلما رأيناه في منزله يكون جالسًا بجوار المذياع يدخن الغليون ويستمع إلى مسلسلي «بلاكي من بوسطن» أو «دورية الشرطة»، وسط صرير الإطارات وطلقات البنادق وهو يهز رأسه الأصلع. هل كان يضع غليونه في فمه وهو يضم ساقي العمة مويرا؟ هل كان يمنحها إيماءات تأكيدية وهي تصرخ من الألم أثناء الولادة، كما يفعل وهو يستمع إلى «بلاكي من بوسطن»؟

ربما بسبب هذه القصة بدا لي أن الكآبة التي تتدفق من العمة مويرا لها رائحة تتعلق بأمراض النساء؛ مثل رائحة الضمادات المطاطية الغامضة على ساقيها. كانت امرأة يمكنني تشخيصها الآن بالإصابة بدوالي الأوردة والبواسير، وهبوط الرحم وتكيسات المبيضين، والالتهابات والإفرازات، والورم والحصوات في أماكن عديدة؛ إحدى الناجيات البدينات المحطمات من حياة الإناث واللاتي يتحركن بصعوبة وحذر، وفي جعبتها الكثير من القصص لتحكيها. كانت تجلس في الشرفة على المقعد الهزَّاز وهي ترتدي — رغم ارتفاع درجة الحرارة — فستانًا أنيقًا داكن اللون ذا طبقات كثيرة، يرتعش من تلألؤ الخرز عليه، وقبعة كبيرة على شكل عمامة، وجوربين بنيين ضاربين إلى الحمرة، كانت أحيانًا تدليهما للأسفل كي تجعل الضمادات «تتنفس». ولا يمكننا الدفاع كثيرًا عن الزواج إذا ما قارنتها بشقيقتيها اللتين لا يزال بإمكانهما القفز بسرعة، ولا تزالان تفوح منهما رائحة الانتعاش والصحة، واللتين تذكران من حين لآخر مقاس وسطيهما في غير رضًا. حتى أثناء مجرد الوقوف أو الجلوس، أو الحركة على الكرسي الهزاز، كانت العمة مويرا تطلق دمدمات من الشكوى التي كانت لاإرادية ومعبرة كأصوات الهضم أو إطلاق الريح.

أخذت تخبرنا عن بورترفيلد، لم تكن مدينة تمنع احتساء الكحوليات كمدينة جوبيلي، بل كان بها قاعتان لتناول الشراب تواجهان بعضهما البعض على كلا جانبي الشارع الرئيسي، تقع كل منهما في أحد فندقي المدينة، وأحيانًا في مساء يوم السبت أو صباح يوم الأحد يقع شجار مروِّع في الطريق. ويقع منزل العمة مويرا على بعد نصف مربع سكني من الشارع الرئيسي وقريبًا من الرصيف، ومن وراء نافذتها الأمامية المظلمة شاهدتْ الرجال يضحكون بأصوات مرتفعة كالهمجيِّين، وشاهدتْ سيارة تدور حول نفسها ثم تتحطَّم في أحد أعمدة الهاتف حتى تهشَّمت عجلة القيادة واخترقت قلب السائق، كما رأت رجلين يجرَّان فتاة ثملة لا تستطيع الوقوف وتتبوَّل في الطريق وهي مرتدية ملابسها، ونظفت آثار قيء المخمورين من على سور منزلها المطلي. لم يكن كل هذا أكثر مما تتوقَّع رؤيته، ولم يكن سكارى يوم السبت فحسب هم الوقحين الذين يرتكبون أفعالًا فاضحة، بل أيضًا البقالون والجيران وعاملو توصيل الطلبات للمنازل المحتالون. وكان صوت العمة مويرا وهي تحكي بتمهل يمتد على مدار اليوم ويبدو وكأنه يملأ الفناء كالنفط الأسود، والعمة إلسبيث والعمة جريس تُبديان تعاطفهما معها.

«كلا، لا يتوقع أحد أن يمكنكما احتمال هذا!»

«إننا لم نكن نعلم كم نحن محظوظون هنا.»

وكانتا تهرولان جيئة وذهابًا؛ بفناجين الشاي، وأكواب عصير الليمون، والبسكويت الطازج بالزبد، ومسحوق الخبيز، وكعك مارثا واشنطن، وشرائح الكعك بالزبيب، وحلوى صغيرة من الفاكهة المجففة المكسوة بالسكر والمغلفة بجوز الهند، والتي تكون لذيذة المذاق.

كانت ماري آجنس تجلس وهي تستمع وتبتسم. ابتسمت لي. لم تكن ابتسامة ساذجة، بل كانت ابتسامة شخص يقدم — على نحو إلزامي بل وحتى استبدادي — لطفل كلَّ مظاهر الود التي لا يمكن منحها لأي شخص آخر بحكم الخوف والعادة. كان شعرها الأسود قصيرًا وأشواك البشرة تبدو على رقبتها النحيلة ذات اللون البني الفاتح، وكانت ترتدي نظارة طبية. كانت العمة مويرا تجعلها ترتدي ثياب طالبة في المرحلة الثانوية التي لم تمر بها هي قط؛ تنورة ذات طيات مربعة النقش فضفاضة عند الخصر، وقميصًا أبيض اللون واسعًا للغاية وطويل الأكمام ومكويًّا بعناية. لم تكن تضع مستحضرات التجميل أو حتى مسحوقًا لإخفاء الشعر الناعم الداكن على جانبي فمها. وكانت تتحدث إليَّ باللهجة القاسية المتغطرسة غير الواثقة لشخص لا يكتفي بإثارة غيظ الآخرين، وإنما يحاكي أساليب إثارة الغيظ، فكانت تحاكي الطريقة التي سمعت بعض المتهوِّرين والمرحين — ربما أصحاب المحال — يخاطبون بها الأطفال.

أمسكت بي وأنا أنظر عبر الألواح الزجاجية الصغيرة الملونة حول الباب الأمامي، وسألتني: «لماذا تفعلين هذا؟»

ثم قالت وهي تنظر عبر الجزء الأحمر من الزجاج: «الفناء يحترق!» ولكنها ضحكت ساخرة مني كما لو كنت أنا من قلتها.

وفي أحيان أخرى، كانت تختبئ في البهو المظلم ثم تقفز وتمسك بي من الخلف مغطِّية عينيَّ بيديها قائلة: «احزري من أنا! من أنا؟!» كانت تعانقني وتدغدغني بقوة حتى أصرخ، وكانت يداها ساخنتين وجافتين وعناقها عنيفًا. كنت أقاومها بأقصى طاقتي، ولكنني لم أستطع أن أسبَّها أو أبصق عليها أو أجذبها من شعرها كما أفعل مع زميلاتي في المدرسة بسبب كبر سنها — فهي نظريًّا امرأة ناضجة — ومكانتها التي تتمتع بالحماية، وهكذا فقد اعتبرتها متنمرة وقلت: إنني أكرهها، ولكن بالطبع ليس في جنكينز بيند. وفي الوقت نفسه، شعرت بالفضول ولم أشعر بالضيق عندما اكتشفت أنني قد أكون شديدة الأهمية — بصورة لا يمكنني فهمها حتى — بالنسبة لشخص ليس مهمًّا بالنسبة لي على الإطلاق. فكانت تدحرجني على سجاد البهو وهي تدغدغ بطني بعنف كما لو كنت كلبًا، وفي كل مرة كانت تغمرني الدهشة بقدر ما تسيطر عليَّ قوتها غير المتوقعة، وألاعيبها غير العادلة. كنت أشعر بالذهول نفسه الذي يجتاح المختطَفين الذين يدركون أنه في العالم الغريب لآسريهم هم ذوو قيمة لا تتعلق بأي شيء يعرفونه عن أنفسهم.

كنت أعلم أمرًا آخر حدث لماري آجنس أخبرتني به أمي؛ فقبل عدة أعوام كانت في الفناء الأمامي لمنزلهم في بورترفيلد عندما كانت العمة مويرا تغسل الثياب في القبو، وأتى خمسة صبية أقنعوها بأن تتنزَّه معهم واصطحبوها إلى الأرض التي تقام عليها المعارض، وخلعوا عنها ملابسها، وتركوها راقدة على الوحل البارد حتى أصابها التهاب الشعب الهوائية وكادت تموت؛ ولذلك فهي ترتدي دائمًا ملابس داخلية ثقيلة حتى في الصيف.

أعتقد أن الإحساس بالإهانة — فقد أخبرتني أمي بالقصة كي تحذِّرني من احتمال التعرض للإهانة إذا ما اقتنعت يومًا بالخروج مع الصِّبية — يكمُن في خلع ثيابها بالكامل، في أنها كانت عارية. وقد أورثتني فكرة كوني عارية شعورًا بالخزي في أعماقي. ففي كل مرة كنت أتذكر الطبيب وهو يخلع سروالي ويحقن مؤخرتي بمصل الجدري، كنت أشعر بالغضب والاضطراب والإذلال على نحو لا يطاق. تخيلت جسد ماري آجنس وهي ترقد عارية على الأرض ومؤخرتها الباردة ظاهرة للعيان — فهي بالنسبة لي أكثر عضو مخزٍ يبدو عاجزًا في جسد الإنسان، وخطر لي أنني لو حدث لي ذلك فلن أستمر على قيد الحياة بعدها.

«ديل، عليك أنت وماري آجنس أن تذهبا في نزهة سيرًا على الأقدام.»

«عليكما أن تتسابقا حول الحظيرة حتى تعثرا على روبر.»

نهضتُ في انصياع للأوامر، لكني في ركن الشرفة ضربتُ العصا في التعريشة الموجودة هناك في استياء همجي؛ لم أكن أرغب في الذهاب مع ماري آجنس، بل كنت أرغب في البقاء وتناول الطعام وسماع المزيد عن بورترفيلد، تلك المدينة الفاسدة الحزينة التي تغص بأشخاص يشبهون أفراد العصابات لا يمكن الوثوق بهم. وسمعت ماري آجنس وهي تأتي خلفي بخطواتها الثقيلة المتعثِّرة.

«ماري آجنس، ابتعدي عن الشمس أينما كنت، ولا تذهبي للتجديف في النهر، فأنت معرَّضة للإصابة بالبرد في أي وقت من العام!»

قطعنا الطريق وسرنا بمحاذاة ضفة النهر، وفي وسط حرارة الحقول الجافة بعد حصادها وقيعان المجرى المائي المتشققة والطرق البيضاء المغبرة، كان نهر واواناش يمثل قناة تُلطِّف من حرارة الجو. وكانت الظلال هي ظلال أوراق الصفصاف الرقيقة التي لم تكن تحجب أشعة الشمس أكثر مما يحتفظ المنخل بمحتوياته. وكان الوحل على ضفاف النهر جافًّا، ولكنه لم يكن قد تحوَّل إلى تراب بعدُ، بل كان كمسحوق السكر الذي يزيِّن الكعك، مكسوًّا بقشرة رقيقة أعلاه ولكنه رطب وبارد بالأسفل، وكان ممتعًا في السير عليه. خلعت حذائي وسرت حافية القدمين، فصاحت ماري آجنس مستنكرة: «سوف أشي بك!»

«أخبريهم إذا أردت.» ونعتُّها في سري «مزعجة غبية.»

كانت الأبقار قد نزلت إلى النهر وتركت آثار حوافرها في الوحل، وتركت أيضًا رَوَثَها المستدير الذي يبدو عندما يجف ككرات مصنوعة يدويًّا، أو كألعاب من الصلصال المصنوع يدويًّا. وعلى الجانبين من حواف الماء كان ثمة بسط ممتدة من أوراق الزنابق، وبين الحين والآخر تظهر إحدى زنابق الماء صفراء اللون، والتي تبدو شاحبة وهادئة وجذابة، حتى إنني اضطررت إلى رفع أطراف ثوبي وطيها في سروالي، والخوض بين الجذور في الوحل الأسود الذي يقطر من بين أصابع قدمي، ويعكر الماء، ويملأ أوراق الزنابق وبتلاتها.

فصاحت ماري آجنس في انفعال غاضب: «سوف تغرقين، سوف تغرقين.» رغم أن مستوى الماء كان بالكاد تجاوز ركبتي. وعندما أحضرت الزهور للشاطئ بدت خشنة وذات رائحة نفاذة وبدأت تموت على الفور، فاستأنفت السير في طريقي، متناسية أمرها، وسحقت البتلات في يدي.

مررنا على بقرة نافقة ترقد وساقاها الخلفيتان في الماء، وكان الذباب الأسود يزحف ويتجمع على جلدها ذي اللونين البني والأبيض ويلمع في الشمس كالتطريز بالخرز.

أمسكت بعصًا وضربت على جلد البقرة، فارتفع الذباب محلِّقًا في دوائر ثم هبط مرة أخرى. تخيَّلت أن جلد البقرة عبارة عن خريطة؛ واللون البني يرمز إلى المحيط والأبيض إلى القارات العائمة، أخذت أتتبَّع بعصاي أشكالها الغريبة وسواحلها المتعرِّجة محاولة الحفاظ على طرف العصا بين اللونين الأبيض والبني بالضبط، ثم قدت العصا عبر العنق متتبعة حبلًا مشدودًا من العضلات، فقد نفقت البقرة وعنقها مشدود كما لو كانت تحاول الوصول للماء، ولكنها كانت ترقد في الاتجاه الخاطئ، ثم قرعت بالعصا على وجهها، كنت أكثر جبنًا عندما تعلَّق الأمر بلمس الوجه، وكنت أجبُن عن النظر في عينيها.

كانت عيناها مفتوحتين تمامًا، تبرز كنتوء أملس داكن اللون فَقَدَ القدرة على الإبصار يلمع كالحرير، وبه بريق ضارب إلى الحمرة من انعكاس الضوء، كما لو كانت برتقالة محشوَّة في جورب حريري أسود. استقرَّ الذباب في جانب واحد، وتجمع بشكل جميل كما لو كان حلية ملونة بألوان قزح. كان لديَّ رغبة قوية في وخز العين بعصاي كي أرى ما إذا كانت سوف تنهار أم ترتج وتتداعى كالهلام، كاشفة أنها من التركيب نفسه، أم أن الطبقة الجلدية على السطح سوف تتمزَّق وتطلق سراح الأجزاء المتعفِّنة بداخلها تاركة إياها تسقط على الوجه. حركت العصا حول العين، ثم سحبتها، فلم أستطع، لم أستطع أن أَخِزَ العين.

لم تقترب ماري آجنس، بل قالت محذرة: «اتركيها وشأنها، تلك البقرة العجوز الميتة. إنها قذرة، وسوف تعرضين نفسك للقذارة.»

فقلت وأنا أطيل في حروف الكلمة بتلذُّذ: «أيتها البقرة الميتة، أيتها البقرة الميتة.»

فقالت ماري آجنس بلهجة آمرة: «تعاليْ إلى هنا.» ولكنني شعرت أنها خائفة من الاقتراب.

أثارت البقرة النافقة في مخيلتي كل أفكار الانتهاك والتدنيس؛ فأردت أن أخزها وأسحقها بقدمي وأتبول عليها، والقيام بأي شيء كي أعاقبها، كي أعبِّر عن مدى الاحتقار الذي أشعر به لكونها ميتة، كأن أوسعها ضربًا أو أحطِّمها أو أبصق عليها أو أمزِّقها أو ألقيها بعيدًا! ولكنها كانت لا تزال تتمتع ببعض القوة، فهي ترقد وعلى ظهرها خريطة لامعة غريبة، وعنقها مشدود، وعيناها ملساء. لَم أكن قد نظرت من قبل إلى بقرة حية، وكنت دائمًا أفكر فيما خطر ببالي الآن: لِم توجد أبقار؟ لِم تتخذ النقاط البيضاء الشكل الذي هي عليه الآن، ولا تتكرر قط — لا في أي بقرة أخرى أو أي مخلوق آخر — بالشكل نفسه؟ عدت مرة أخرى إلى تتبُّع حدود القارة على جلد البقرة وأنا أدفع العصا بقوة في محاولة لرسم خط محدد، وانتبهت لشكل الخط كما كنت أنتبه أحيانًا لشكل القارات أو الجزر على الخرائط الحقيقية، كما لو كان الشكل نفسه يكشف سرًّا أكبر من الكلمات، وكما لو كنت سأفهمه إذا حاولت بجهد أكبر، وكان لدي الوقت لذلك.

قلت باحتقار لماري آجنس: «أتحداك أن تلمسيها، أن تلمسي بقرة ميتة.»

فتقدمت ماري آجنس ببطء، ولدهشتي انحنت وهي تتمتم وتنظر إلى العين كما لو كانت تعلم أنني كنت أتفكر فيها، ووضعتْ يدها عليها، نعم وضعتْ راحة يدها على العين. وفعلتْ ذلك بجدية وبتردد، وبرباطة جأش رقيقة ليست من شيمها. وفور أن فعلتْ ذلك، وقفتْ ووضعت يدها أمام وجهي وراحتها في اتجاهي، وأصابعها مبسوطة حتى بدت يدًا ضخمة داكنة أكبر من وجهها بالكامل، وضحكت في وجهي.

قالت: «إنك خائفة الآن من أن أمسك بك.» وقد كنت خائفة بالفعل، ولكنني ابتعدت عنها بأقصى قدر من الغطرسة استطعت استجماعه.

وهكذا، بدا لي أنه غالبًا لا أحد سواي يعلم ما يحدث بالفعل، أو يعلم حقيقة الأشخاص. فعلى سبيل المثال؛ كان الناس يقولون: «يا لماري آجنس المسكينة!» أو يلمِّحون لذلك عن طريق انخفاض في نبرة الصوت أو لهجة حماية خافتة، كما لو كانت لا تملك أسرارًا أو مكانًا خاصًّا بها، ولكن هذا لم يكن حقيقيًّا.

•••

«لقد وافت المنية عمك كريج مساء أمس.»

قالتها أمي بصوت يغلب عليه الخجل وهي تبلغني بذلك.

كنت أتناول إفطاري السري المفضل — الذي يتكون من القمح المغموس في دبس السكر الأسود — وأجلس على الرصيف الإسمنتي خارج منزلنا في شمس الصباح. كان قد مرَّ يومان على عودتي من جنكينز بيند، وعندما ذكرت العم كريج تذكرته في آخر صورة رأيته عليها وهو يقف في مدخل البيت، مرتديًا صدريته وقميصه وهو يلوح لي مودعًا بلطف، وربما بنفاد صبر.

أصابني ذلك النظام المعقد بالحيرة. «مات!» بدا الموت كما لو كان شيئًا إراديًّا، شيئًا اختار أن يفعله بكامل إرادته، كما لو أنه قال: «سوف أموت الآن.» وفي تلك الحالة فلا يمكن أن يكون أمرًا نهائيًّا، ولكنني كنت أعلم أنه كذلك.

«في قاعة أورانج في مدينة بلو ريفر، كان يلعب الورق.»

بدأ عقلي يرسم صورة لما حدث: طاولة لعب الورق في قاعة أورانج المضيئة (رغم أنني كنت أعلم أن اسمها الحقيقي «قاعة أورانجمين»، وأن الاسم لا علاقة له باللون بالضبط مثلما كان اسم المدينة بلو ريفر لا علاقة له بنهر أزرق)، كان العم كريج يقسم الأوراق بطريقته الجادة وجفونه المتثاقلة، وكان يرتدي صدريته ذات الظهر المصنوع من الساتان وأقلامه الحبر والرصاص مثبتة في جيبه. ثم؟

«أصيب بأزمة قلبية.»

أزمة قلبية، تبدو كما لو أنها انفجار، كما لو كانت ألعابًا نارية تنطلق مطلقة قضبانًا من الضوء في كل الاتجاهات، ومفجرة كرة صغيرة من الضوء — كان هذا هو قلب العم كريج أو روحه — تحلِّق في الهواء، حيث تعثَّرت وانطفأت. هل قفز من مقعده، ولوح بذراعيه في الهواء وصرخ؟ كم استغرق الأمر؟ هل أُغلقت عيناه؟ هل كان يعلم ماذا يحدث؟ بدت إيجابية أمي المعتادة معتمة، وكانت شهيتي للحصول على التفاصيل تثير استياءها. أخذت أتتبعها في أرجاء المنزل وأنا عابسة ومصرة وأكرر أسئلتي. أردت أن أعرف، فلا يوجد مصدر للحماية ما لم يكن في المعرفة. أردت أن يقوم أحدهم بتثبيت الموت وعزله خلف حائط من الحقائق والظروف؛ كي لا يظل طليقًا متنقلًا، مُتجاهَلًا ولكنه قوي، منتظرًا أن يحل في أي مكان.

ولكن بحلول يوم الجنازة، كانت أمور كثيرة قد تغيرت، فقد استعادت أمي الثقة واستعدت أنا هدوئي، ولم أعد أرغب في سماع المزيد عن العم كريج أو عن الموت، وأخرجت أمي فستاني الأسود ذا النسيج مربع النقش من كرة النفتلين، ونفضت الغبار عنه، ووضعته على حبل الغسيل كي يتعرَّض للهواء.

«إنه مناسب للصيف، فهذا الصوف الخفيف أفضل من القطن. وعلى أية حال، فهذا هو الفستان الوحيد داكن اللون الذي تملكينه، ولكنني لا أهتم، فلو كان الأمر بيدي كنت سأسمح لك بارتداء اللون القرمزي، وإذا كانوا يؤمنون بالمسيحية حقًّا لكان هذا ما يرتدونه كلهم، وكانوا سيقضون وقتهم في الرقص والابتهاج، فهم في نهاية المطاف يقضون حياتهم بأكملها في الغناء والابتهال للخروج من هذا العالم والذهاب في طريقهم إلى السماء. ولكنني أعلم عماتك جيدًّا، فسوف تتوقَّعان ملابس داكنة اللون، تقليدية حتى النخاع!»

لم تتفاجأ أمي عندما سمعت أنني لا أرغب في الذهاب.

وقالت بصراحة: «لا أحد يرغب في الذهاب، لا أحد يرغب في ذلك على الإطلاق، ولكنك مضطرة لذلك. عليك أن تتعلمي مواجهة الأمور أحيانًا.»

لم أحب الطريقة التي قالت بها ذلك؛ فقد كان حماسها وحيويتها زائفين مبتذَلين، ولم أستطع الوثوق بها، فدائمًا عندما يخبرك الآخرون بأن عليك مواجهة ذلك الأمر أحيانًا؛ عندما يسرعون بك بصورة واقعية تجاه أي نوع من الألم أو الأعمال المشينة أو الاكتشافات البغيضة، تلمح في أصواتهم نبرة الخيانة؛ ذلك الابتهاج البارد المتخفي الذي لا ينجحون في إخفائه تمامًا، شيئًا يتوق لإيلامك. نعم وفي حالة الوالدين أيضًا، بل في حالة الوالدين تحديدًا.

تابعت أمي قائلة، بمرح لا يخلو من نبرة تُنذِر بشؤم: «ما الموت؟ وماذا يعني أن يموت المرء؟»

«أولًا، ما الإنسان؟ هو عبارة عن نسبة كبيرة من الماء، مجرد ماء نقي. فلا شيء مميز في الإنسان. أهي مادة الكربون التي تعد أبسط العناصر، وما قيمتها؟ ثمانية وتسعون سنتًا؟ هذا كل شيء. ولكن الشيء المميز حقًّا هو طريقة تركيب تلك العناصر مع بعضها. الطريقة التي يتركب بها جسم الإنسان، لدينا القلب والرئتان، لدينا الكبد والبنكرياس والمعدة والمخ. كل تلك الأشياء، ما هي؟ إنها تركيبات من العناصر! وعند تركيبها، تركيب جميع المكونات نحصل على إنسان! ونطلق عليه العم كريج أو والدك أو أنا، ولكنه في نهاية المطاف ليس إلا تلك «التركيبات»، تلك الأجزاء توضع معًا وتعمل بطريقة معينة في الوقت الحالي. وما يحدث بعد ذلك أن أحد الأعضاء يتعطل أو ينهار، وفي حالة العم كريج، فهو القلب، وهكذا نقول إن: العم كريج قد مات، ذلك الشخص أصبح ميتًا. ولكن هذه هي فقط طريقتنا للنظر إلى الأمر، تلك هي طريقتنا البشرية فحسب. فإذا لم نكن نفكر طوال الوقت في الأشخاص، وكنا نفكر في الطبيعة، فسنجد أن الطبيعة مستمرة من حولنا وأن أجزاءً منها تموت؛ حسنًا لا أعني أنها تموت، بل تتغير — هذه هي الكلمة التي أبحث عنها — تتغير إلى شيء آخر. فكل تلك العناصر التي يتكون منها الشخص تتغير وتعود إلى الطبيعة مرة أخرى، ثم تظهر من جديد على هيئة الطيور والحيوانات والزهور، فالعم كريج ليس بالضرورة أن يكون العم كريج! بل هو أزهار!»

فقلت: «سوف أصاب بالغثيان من الركوب في السيارة، وسوف أتقيَّأ.»

فقالت والدتي — التي كانت ترتدي ملابسها الداخلية وتضع العطر على ذراعيها المكشوفتين: «كلا لن تفعلي.» ثم جذبت فستانها الأزرق الداكن المصنوع من قماش الكريب، وأدخلت جسدها فيه عبر رأسها، وتابعت: «تعالي أغلقي لي الأزرار. يا له من فستان أرتديه في هذا الجو الحار! يمكنني أن أشم رائحة المنظفات عليه، فالحرارة تطلق تلك الرائحة. دعيني أخبرك عن مقال كنت أقرؤه قبل أسبوعين، فهو يتناسب تمامًا مع ما أقوله الآن.»

دخلت إلى غرفتها وأحضرت قبعتها التي ارتدتها أمام مرآة مكتبي الصغيرة، وهي تجمع خصلات شعرها الأمامية تحتها على عجل، وتترك بعض خصلات الشعر الخلفية تتدلى من الخلف. كانت قبعة صغيرة مستديرة ذات لون قبيح كان رائجًا خلال الحرب، وهو اللون الأزرق الخاص بالقوات الجوية.

واستأنفت حديثها: «يتكون الناس من أعضاء، وعندما يموت شخص — كما نقول نحن — يكون عضو واحد فقط، أو اثنان، هو ما تلف، وبعض الأجزاء الأخرى قد تعمل لمدة ثلاثين أو أربعين عامًا أخرى. فالعم كريج — على سبيل المثال — قد يكون لديه كلى سليمة تمامًا يمكن لشاب مريض بالكلى أن يستخدمها، وهذا المقال يؤكد أن تلك الأجزاء سوف تُستخدم يومًا ما! هذا هو كل ما في الأمر. تعالي إلى الطابق السفلي.»

تبعتها للأسفل نحو المطبخ، وبدأت هي تضع أحمر الشفاه أمام المرآة المعتمة المعلَّقة فوق حوض المطبخ. كانت أمي تحتفظ — لسبب ما — بمستحضرات التجميل هناك، على رف قصديري لزج فوق الحوض وتتركها تختلط مع زجاجات أقراص الدواء القديمة الداكنة، وشفرات أمواس الحلاقة، ومسحوق تنظيف الأسنان، والفازلين، وجميعها بلا أغطية.

«نقل الأعضاء! على سبيل المثال: العينين. لقد أصبح نقل العينين ممكنًا بالفعل، ليس العين بأكملها بل القرنية حسبما أعتقد، وهذه مجرد بداية. يومًا ما سيصبح من الممكن نقل القلب والرئة وكل الأعضاء التي يحتاجها الجسد، حتى المخ، وإنني أتساءل: هل سيصبح من الممكن يومًا ما نقل «المخ»؟ وهكذا فلن تموت تلك الأعضاء أبدًا، بل ستحيا ولكن في جسد شخص آخر، جزءًا في تركيبة أخرى. وهكذا فلن يعود بإمكاننا الحديث عن الموت تمامًا على الإطلاق. وكان عنوان ذاك المقال هو «ورثة الجسد الحي»، فسوف نصبح جميعنا ورثة بعضُنا لأجساد البعض، وسنصبح جميعًا متبرعين أيضًا. أما الموت نفسه كما نعرفه الآن، فسوف نتخلَّص منه.»

هبط أبي لأسفل مرتديًا حلته الداكنة.

«هل كنت تنوين مناقشة تلك الأفكار مع من سيحضرون الجنازة؟»

فأجابت أمي بنبرة واقعية: «كلا.»

«لأنهم يملكون بالطبع مجموعة مفاهيم مختلفة، وقد يستاءون بسهولة.»

فصاحت أمي: «إنني لا أقصد قطُّ إثارةَ استياءِ أيِّ شخص، لا أقصد هذا إطلاقًا. ولكنني أعتقد أنها فكرة جميلة، إن بها جمالها الخاص. أليست أفضل من فكرة الجنة والنار؟ لا أستطيع فهم الناس، لا أستطيع مطلقًا فهم ما يؤمنون به. هل يعتقدون أن عمك كريج يرتدي الآن منامة بيضاء ويطوف في عالم الخلود الأبدي في هذه اللحظة؟ أم أنهم يعتقدون أنه دُفن تحت الأرض وأنه الآن يتحلل؟»

«إنهم يؤمنون بالاثنين معًا.» قالها أبي وهو يقف في وسط المطبخ يطوق أمي بذراعيه معانقًا إياها برفق وقوة في آن واحد، وبحرص على ألا يفسد قبعتها أو وجهها الذي أضفت عليه مسحة من اللون الوردي.

كنت أتمنى هذا الأمر في بعض الأحيان، أن أرى والديَّ يؤكدان بالنظرات أو بالعناق العلاقة الرومانسية — لا الرغبة — التي نشأت بينهما وجمعتهما برباط الزواج. ولكن في تلك اللحظة، عندما رأيت أمي تتحول إلى شخصية وديعة مرتبكة — كما أوضح استرخاء ظهرها ولكن ليس كلماتها — وأبي يلمسها لمسات رقيقة حنونة وحزينة، غير أن حزنه لم يكن يمت بصلة بالعم كريج، شعرت بالقلق ووددت أن أصرخ فيهما كي يتوقفا ويعود كل منهما إلى شخصيته المنفصلة المستقلَّة التي لا تجد دعمًا. فقد خشيت أن يستمرا ويرياني شيئًا لا أرغب في رؤيته بالضبط مثلما لا أرغب في رؤية العم كريج ميتًا.

«أوين ليس مضطرًّا للذهاب.» قلتها بمرارة وأنا أدفع وجهي نحو الشبكة الرخوة على الباب الشبكي، وأنا أراه جالسًا في الفناء في عربته القديمة وهو حافي القدمين متسخ منعزل يتظاهر بأنه أي شخص آخر، ربما رجل عربي في قافلة أو أحد أبناء الإسكيمو على زلاجة تجرها الكلاب.

فابتعدا بعضهما عن بعض وتنهَّدت أمي قائلة: «لا يزال أوين صغيرًا.»

بدا المنزل وكأنه موضوع على واحدة من تلك الأحجيات؛ تلك المتاهات التي تُرسم على الورق، به نقطة سوداء في أحد المربعات أو الغرف، ويفترض بك أن تجد طريقك للدخول إليه أو للخروج منه. كانت النقطة السوداء في تلك الحالة هي جثة العم كريج، وكان كل همي منصبًّا على تجنبها لا الوصول إليها، وألا أفتح حتى أكثر الأبواب أمانًا ظاهريًّا بسبب ما قد أجده ممددًا خلفه.

كانت لفائف التبن لا تزال هناك؛ ففي الأسبوع الماضي عندما كنت أزوره، كان التبن قد تم جزُّه بارتفاع يصل إلى درج الشرفة، ولفُّه في شكل خلايا نحل متسقة ومستوية أعلى من ارتفاع رأس الإنسان. وفي المساء، كانت لفائف التبن — التي تلقي ظلالًا طويلة بارزة، ثم عندما تغرب الشمس تتحول إلى ظلال صلبة ساكنة رمادية اللون — تكوِّن صورة قرية بأكملها، أو إذا نظرت حول زاوية المنزل باتجاه بقية الحقل، تجد أنها تكون مدينة كاملة من الأكواخ السرية المتشابهة تمامًا ذات اللون الرمادي المائل إلى الأرجواني. ولكن أحدها قد انهار، أحدها كان رخوًا ومحطمًا متاحًا لي كي أقفز فيه. كنت أتراجع وأقف على السلالم، ثم أجري باتجاهه وذراعاي مفتوحتان في شغف، وأهبط داخل التبن الطازج الذي لا يزال دافئًا ولا يزال يحتفظ برائحته العشبية. كان مليئًا بالورود الجافة؛ مثل زهرة المسك الأبيض والأرجواني وتودفلاكس الأصفر وورود زرقاء صغيرة لا يعرف أحد اسمها، تغطي ذراعيَّ وساقيَّ ووجهي بالخدوش، وعندما نهضت من بين أكوام التبن كانت تلك الخدوش تحرقني أو تتوهَّج في النسيم المتصاعد من النهر.

أتت العمة إلسبيث والعمة جريس، وقفزتا بين أكوام التبن أيضًا، ومئزرتيهما تتطايران وهما تضحكان على نفسيهما. وعندما تأتي لحظة القفز كانتا تترددان ثم تقفزان بلا اندفاع كافٍ، وتهبطان في وضع جلوس محتشم وأيديهما متباعدة كمن يقفز على وسادة، أو وهما تمسكان شعرهما.

وعندما عادتا وجلستا في الشرفة ومعهما أوعية من الفراولة كانتا تقشرانها لصنع المربى، بدأت العمة جريس تتحدث لاهثة، ولكن بصوت هادئ متأمِّل.

«تخيلي إذا مرت سيارة ونحن نفعل هذا، أما كنت ستتمنين الموت حينها؟»

فاستخرجت العمة إلسبيث دبابيس الشعر من شعرها وتركته ينسدل على ظهر مقعدها. عندما كان شعرها مثبَّتًا بدبابيس الشعر كان يبدو كله تقريبًا رمادي اللون، ولكنها عندما تركته ينسدل ظَهَرَ به الكثير من الشعر الحريري البني الداكن بلون فراء المنك. وهزَّت رأسها للأمام وللخلف وهي تطلق صيحات سعادة خافتة، ومرَّرَتْ أصابعها خلال شعرها كي تتخلص من بقايا التبن الذي تطاير والتصق بشعرها.

وقالت: «كم نحن حمقى!»

أين كان العم كريج وقتها؟ كان يكتب بحماس خلف نوافذه المغلقة وستائره المنسدلة.

وكانت لفائف التبن المسحوق أيضًا كما تركتها عندما انتهت زيارتي، ولكن الآن كان الرجال يسيرون على بقايا التبن وهم يرتدون حللًا داكنة كالغربان الطويلة ويتبادلون أطراف الحديث، وكان إكليل من الزنابق البيضاء معلقًا على الباب الأمامي الذي كان مفتوحًا جزئيًّا. أتت ماري آجنس وهي تبتسم فرحًا، وجعلتني أقف ساكنة وهي تربط وشاحي وتربطه مرة أخرى. كان المنزل والفناء مكتظَّين بالناس، وجلس الأقارب من تورونتو في الشرفة، وبدت الطيبة واضحة على وجوههم، لكنهم كانوا معزولين عن بعض بإرادتهم فكل منهم يجلس على حدة. أُجبرت على الذهاب والتحدث إليهم وأنا أتحاشى تمامًا النظر إلى النوافذ التي تقع خلفهم خوفًا من رؤية جثة العم كريج. وخرجت روث ماكوين وهي تحمل سلة من الخيزران مليئة بالورود ووضعتها على حافة الشرفة.

وقالت: «ثمة ورود أكثر مما يحتمل المنزل.» كما لو كان ذلك شيئًا سيحزننا جميعًا، وتابعتْ: «فرأيت أن أضعهم هنا بالخارج.» كانت شقراء متحفِّظة يبدو عليها الجزع والشحوب — فهي بالفعل عانس. كانت تعلم أسماء الجميع، وقدَّمتني أنا وأمي لرجل وزوجته من جنوبي البلاد. كان الرجل يرتدي سترة بدلة فوق رداء سروالي.

وقالت المرأة بفخر: «لقد أعطانا تصريح الزواج.»

قالت أمي: إنها يجب أن تدخل إلى المطبخ، وتبعتها وأنا أفكر في أنه على الأقل من المستحيل أن يكونوا وضعوا جثة العم كريج هناك حيث تفوح روائح القهوة والطعام. وكان الرجال في الردهة أيضًا يقفون كجذوع الأشجار التي يتعيَّن عليك أن تشق طريقك خلالها. وكان بابا الغرفة الأمامية مغلقين ووضعت أمامهما سلة من نبات الدلبوث.

كانت العمة مويرا — التي كانت متَّشِحَة بالثياب السوداء كما لو أنها سارية ضخمة — تقف عند مائدة المطبخ تعدُّ فناجين الشاي.

وقالت: «لقد عددت الفناجين ثلاث مرات، وفي كل مرة أحصل على رقم مختلف.» كما لو كان ذلك سوء حظ خاص بها وحدها لا يصيب غيرها، وتابعت: «عقلي لا يستطيع العمل اليوم، ولا يمكنني الوقوف على قدمي أكثر من ذلك.»

أما العمة إلسبيث التي كانت ترتدي مئزرًا رائعًا مكويًّا بعناية به زخرفة من الشاش الأبيض، فقد قبَّلتني أنا وأمي وقالت وهي تتراجع متنهدة كما لو أنها أحرزت إنجازًا: «إن جريس بالأعلى ترطِّب عينيها. لا يمكننا تصديق ذلك، الكثير من الناس حضروا إلى هنا! أخبرتني جريس أنها تعتقد أن نصف سكان المقاطعة هنا، فقلت لها: ماذا تقولين؟ نصف سكان المقاطعة؟ لن أتفاجأ إذا حضر كل سكان المقاطعة! ولكننا نفتقد هيلين، لقد أرسلت باقة من الزنبق.»

فقالت بلهجة عملية وهي تنظر إلى الفناجين: «يا إلهي! يجب أن يكون هناك عدد كافٍ، كل الفناجين الأنيقة لدينا وفناجين المطبخ وتلك التي اقترضناها من الكنيسة!»

فهمست امرأة عند المائدة: «افعلي كما فعلوا في جنازة بول، فقد أبعدت الفناجين الأنيقة وأوصدت عليها الخزانة واستخدمت تلك التي اقترضتها من الكنيسة، وقالت إنها لن تغامر بطقم الخزف النفيس الخاص بها.»

فأدارت العمة إلسبيث عينيها الحمراوين في تقدير، وهو تعبيرها المعتاد ولكنه مخفف؛ نظرًا للظرف الحالي.

«ولكن الطعام سوف يكفي على أية حال، أعتقد أن لدينا هنا ما يكفي لإطعام الخمسة آلاف شخص.»

وأنا أيضًا اعتقدت ذلك، فأينما نظرت كنت أجد طعامًا: لحم الخنزير المشوي، والدجاج المشوي الكبير الحجم يبدو لامعًا، والبطاطس المطهوة، وحساء الطماطم، وسلطة البطاطس، وسلطة الخيار والبنجر، ولحم الخنزير المحمر، والفطائر، والبسكويت المصنوع بمسحوق الخبيز، والخبز المدور، والخبز بالمكسرات، والخبز بالموز، وكعك الفاكهة، والكعك الفاتح والداكن، ومارينج الليمون، وفطائر التفاح والتوت، وأطباق الفاكهة المحفوظة، وعشرة أصناف أو اثني عشر صنفًا من المخللات والمقبلات، ومخلل قشر البطيخ، وهو المفضل لدى العم كريج، فقد كان دائمًا يقول إنه يرغب في تناول وجبة كاملة منه مع الخبز والزبد فحسب.

قالت العمة مويرا بنبرة غاضبة حزينة: «ليس أكثر من كافٍ، ففي الجنائز يأكل الجميع بشهية مفتوحة للغاية.»

حدث هرج ومرج في الرواق، فقد كانت العمة جريس تعبر والرجال يُفسحون لها الطريق وهي تشكرهم باستسلام وامتنان كما لو كانت عروسًا، وتبعها القس الذي تحدث إلى السيدات في المطبخ بحماس مكتوم.

«حسنًا، أيتها السيدات! أيتها السيدات! لا يبدو أنكن جعلتن الوقت يمر عليكن بتثاقل، فالعمل شيء مفيد، العمل شيء مفيد وقت الحزن.»

انحنت العمة جريس وطبعت قبلة على وجنتي، فشممت رائحة كريهة ضعيفة — رائحة تحذيرية — امتزجت بعطرها. وهمست لي برقة ومرح كما لو كانت تعدني بمكافأة: «هل ترغبين في رؤية العم كريج؟ إنه في الغرفة الأمامية، وهو يبدو وسيمًا للغاية تحت باقة الزنبق التي أرسلتها العمة هيلين.»

بدأت بعض السيدات يتحدثن إليها، فانسللت ناجية. مررت عبر البهو مرة أخرى، وكانت أبواب الغرف الأمامية لا تزال مغلقة، وفي أسفل الدرج عند الباب الأمامي كان أبي ورجل لا أعرفه يسيران بخطوات سريعة ويستديران ويقيسان بأيديهما بحذر.

«هنا سيكون المكان الشائك. هنا.»

«هل نخلع الباب؟»

«تأخر الوقت كثيرًا على هذا الأمر، لن ترغب في إحداث فوضى، كما أنه قد يزعج السيدات إذا رأيننا ونحن نخلعه. إذا تمكنَّا من الالتفاف هكذا …»

وأسفل البهو الجانبي كان ثمة عجوزان يتحدثان فمررت من بينهما.

«ليس كما كان الوضع في الشتاء، أتذكر جيمي بول؟ كانت الأرض كالصخر، ولم يكن بوسعك أن تحدث فيها ثقبًا باستخدام أية أداة مهما كانت.»

«كان عليه أن ينتظر ما يزيد عن شهرين كي يذوب الجليد.»

«بحلول ذلك الوقت كان ثمة ثلاث أو أربع جثث تنتظر. دعني أرى، جيمي بول …»

«نعم هو، وكانت هناك السيدة فرالي، والسيد …»

«كلا، انتظر، لقد توفيت قبل الجليد، وكانت ظروف دفنها جيدة.»

مررت عبر الباب في نهاية البهو الجانبي إلى الجزء القديم من المنزل، وكان يُطلق عليه المخزن. كان من الخارج يبدو منزلًا صغيرًا من جذوع الأشجار ملحقًا بجانب المنزل الحجري الكبير. وكانت النوافذ صغيرة ومربعة ومنحرفة قليلًا كالنوافذ غير المقنعة في منزل الدمية. ولم يكن أي ضوء يتسلل إلى داخل المنزل تقريبًا؛ وذلك بسبب أكوام النفايات الشاهقة المكدسة في كل مكان حتى أمام النوافذ؛ مثل ممخضة اللبن، والغسالة اليدوية القديمة، وهيكل الفراش الخشبي المفكك، وجذوع النخل، وأحواض المياه، والمناجل، وعربة أطفال مهلهلة كسفينة شراعية مائلة على جنبها. وكانت تلك هي الغرفة التي ترفض العمة جريس دخولها، أما العمة إلسبيث فقد كان عليها دخولها دائمًا إذا ما أرادتا الحصول على شيء منها. فكانت تقف في المدخل وتتشمَّم الهواء بقوة وتقول: «يا له من مكان! إن الهواء هنا يبدو كما لو كان هواء مقبرة!»

أحببت إيقاع تلك الكلمة عندما سمعتها تتلفَّظ بها للمرة الأولى. لم أكن أعرف ما هي بالضبط، وتخيلت أننا داخل بيضة رخامية مجوفة يملؤها الضوء الأزرق الذي لا يحتاج إلى الدخول من الخارج.

كانت ماري آجنس تجلس على ممخضة اللبن ولا تبدو عليها المفاجأة.

وسألتني برفق: «لماذا أتيت إلى هنا؟ سوف تضلين الطريق.»

لم أجبها، ودون أن أستدير أخذت أتجوَّل في الغرفة. تذكرت أنني كنت أتساءل عما إذا كان ثمة شيء في عربة الأطفال تلك. بالطبع كان هناك أشياء، كومة من مجلات «فاميلي هيرالد» القديمة. سمعت صوت أمي تناديني، وبدت قلقة بعض الشيء ومتَّسمة بالاحترام رغمًا عنها. لم أصدر صوتًا لا أنا ولا ماري آجنس. ماذا كانت ماري آجنس تفعل هنا؟ كانت قد عثرت على زوج من الأحذية النسائية طويلة الرقبة قديمة الطراز مربوطة بالأشرطة في مقدمتها، ومزينة بالفراء، وكانت تمسك بهما بقوة، ثم حكت الفراء تحت ذقنها.

«إنها فراء أرنب.»

ثم جاءت إليَّ ووضعت الحذاء أمام وجهي مباشرة.

«فراء أرنب؟»

«لا أريدهما.»

«تعالي كي تلقي نظرة على العم كريج.»

«كلا.»

«إنك لم تريه بعد.»

«كلا.»

ظلت واقفة أمامي تسد طريقي وتحمل الحذاء في كلتا يديها، ثم قالت مرة أخرى بنبرة خبيثة مغرية: «تعاليْ كي تري العم كريج.»

«لن أفعل.»

ألقت الحذاء ووضعت يدها على ذراعي، وغرست أصابعها فيها بقوة. حاولت التخلص منها، ولكنها أمسكت بي باليد الأخرى وجذبتني نحو الباب. وبالنسبة لفتاة ضعيفة كهذه — فتاة كادت تلقى حتفها بالتهاب الشعب الهوائية ثلاث مرات من قبل — كانت تتمتع بقوة خارقة. تسللت يدها حتى خصري، وبقبضة محكمة فظة أمسكت بيدي، وظل صوتها متمهلًا ناعمًا مبتهجًا.

«تعاليْ كي تري العم كريج.»

فخفضت رأسي وأدخلت ذراعها في فمي المفتوح، وأمسكت بذراعها الملساء المتينة من تحت المرفق، وظللت أعضها حتى مزقت الجلد بحرية تامة معتقدة أنني قد فعلت أسوأ ما يمكنني فعله. لقد تذوَّقت دماء ماري آجنس أوليفانت!

•••

لم أكن مضطرة لحضور الجنازة، ولم يكن أحد ليجبرني على أن أُلقي نظرة على العم كريج. فأدخلوني إلى مكتبه على الأريكة الجلدية التي كان يغفو عليها في وقت القيلولة وحيث كان الأزواج ينتظرون للحصول على تصاريح الزواج، ووضعت فوق ركبتيَّ بطانية رغم حرارة الجو وبجواري كوب من الشاي، وقد منحوني كذلك شريحة من الكعك، ولكني تناولتها في الحال.

عندما عضضت ماري آجنس ظننت أنني أقطع نفسي من كل شيء، ظننت أنني أبعد نفسي بعيدًا حيث لن يكون عقاب ما كافيًا، وحيث لن يجرؤ أحد على أن يطلب مني النظر إلى رجل ميت أو إلى أي شيء آخر. ظننت أنهم سوف يكرهونني جميعًا، وبدت لي الكراهية في ذلك الوقت شيئًا مرغوبًا فيه للغاية وكأنه هدية من الأجنحة.

ولكن كلَّا، فالحرية لا تأتي بهذه السهولة، رغم أن العمة مويرا — التي ظلت تؤكد أنها اضطرت إلى جذبي بعيدًا عن ذراع ماري آجنس والدماء تغرق فمي (وهي كذبة، فقد كنت قد ابتعدت عنها بالفعل، وكانت ماري آجنس تقف منحنية هناك تبكي وقد تملَّك منها الذهول بعد أن خارت قواها الشيطانية) — أمسكت بكتفيَّ وأخذت تهزُّني بقوة وهي تمسك وجهي الذي كان على بُعد سنتيمترات قليلة من صدرها المصفح، وجسدها يرتجف فوقي كتمثال يوشك على الانفجار.

«كلبة مسعورة! الكلاب المسعورة فقط هي التي تعض بهذا الشكل! يجب على والديك أن يحبساك!»

وضعت العمة إلسبيث منديلًا على ذراع ماري آجنس، وجذبتها العمة جريس والسيدات الأخريات وأخذن يربتن عليها.

«سوف أصطحبها إلى الطبيب، يجب أن يخيط لها هذا الجرح وتأخذ حقنًا، فقد تكون تلك الطفلة مسعورة. ثمة أطفال مسعورون بالفعل.»

«كلا يا عزيزتي مويرا، إنها بالكاد تخطت الجلد، إنه ألم لحظي فحسب، لا يحتاج الأمر سوى تنظيف الجرح ووضع ضمادة عليه وسوف يصبح الأمر على ما يرام.» حوَّلت العمة إلسبيث والعمة جريس انتباههما من ماري آجنس إلى شقيقتهما، وأمسكتا بها كل منهما من جانب لتهدئا من روعها، كما لو كانتا تحاولان الإبقاء عليها سليمة في قطعة واحدة حتى يمر خطر الانفجار. «لا يوجد ضرر خطير يا عزيزتي، لا يوجد ضرر خطير.»

ارتفع صوت أمي الواضح — والذي أوحى لي بالخطر — وهي تقول: «إنه خطئي أنا، إنه خطئي بالكامل. لم يكن عليَّ أن أُحضر هذه الطفلة إلى هنا اليوم، إنها شديدة العصبية والتوتر، ومن الوحشية تعريض طفلة كهذه لموقف حضور جنازة.» وعلى غير المتوقع — وفي أغرب وقت يمكن أن يشعر فيه المرء بالامتنان — فقد أبدت تفهمًا وقدَّمت لي وسيلة إنقاذ عندما لم تعد ذات فائدة كبيرة.

ولكنها كانت ذات تأثير، رغم أنه في بعض الأحيان كان استخدام كلمة «وحشية» في حد ذاته كفيلًا بخلق هالة من الصمت والذعر حولها. ولكنها في تلك المرة وجدت تعاطفًا، فقد تبنَّت الكثير من السيدات تفسيرها وأخذن يُسهبن فيه.

«إنها على الأرجح لم تكن تدرك ما تفعله.»

«كانت في حالة هستيرية من التوتر والانفعال.»

«لقد فقدتُ الوعي ذات مرة في جنازة قبل أن أتزوج.»

طوقتني روث ماكوين بذراعها وسألتني عما إذا كنت أرغب في تناول قرص أسبرين.

وهكذا، بينما وجدت ماري آجنس من يواسيها وينظف جرحها ويضمِّده، ووجدت العمة مويرا من يهدئ من روعها (كانت هي من تناولت الأسبرين وبعض الحبوب الخاصة للقلب من حقيبتها)، كنت أنا أيضًا محاطة بمن يعتني بي، واصطحبوني إلى تلك الغرفة ووضعوني على الأريكة وغطَّوني بالبطانية كما لو كنت مريضة، وأعطوني كذلك الكعك والشاي.

لم يفسد تصرفي الجنازة، كان الباب موصدًا، ولم يكن بوسعي أن أراها، ولكنني كنت أسمع أصوات الغناء مقطعًا في البداية ثم بعد ذلك بمزيد من الطاقة واللهفة والإيمان الراسخ.

لأن ألف سنة في عينيك
مثل يوم أمس بعد ما عبر
وكهزيع من الليل
جرفتهم.

كان المنزل مليئًا بالأشخاص المتزاحمين، ملتحمين كأقلام الرصاص القديمة غير الحادة يغنُّون في انصياع، وكنت أشعر أني أقف وسطهم رغم كوني محبوسة وحدي هنا. وسوف يتذكر معظمهم طوال حياتهم أنني قد عضضت ذراع ماري آجنس أوليفانت في جنازة العم كريج، وهكذا سوف يتذكرون أنني كنت شديدة العصبية غريبة الأطوار أو سيئة التربية أو حالة يصعب تصنيفها. ولكن تصنيفي لن يخرج عن هذا، كلا، سوف أصبح «فرد العائلة» الشديد العصبية الغريب الأطوار السيئ التربية، وهذا أمر مختلف تمامًا.

إن الحصول على السماح يخلق نوعًا غريبًا من الشعور بالخزي. شعرت بالحر، ليس بسبب البطانية فحسب، بل شعرت أنني مقيدة ومختنقة كما لو كنت أتحرك وأتحدث لا من خلال الهواء بل من خلال وسط سميك كالقطن. كان ذلك الشعور بالخزي جسديًّا، ولكنه يفوق الخزي الجنسي كثيرًا — شعوري السابق بالخزي من العري — فالآن لم يكن الأمر مجرد جسد عارٍ فحسب، بل بدا وكأن كل الأعضاء الداخلية — كالمعدة والقلب والرئتين والكبد — ترقد مكشوفة وعاجزة. وأقرب شعور مررت به في حياتي لهذا الشعور هو ما شعرت به عندما كنت أتعرض للدغدغة بصورة تفوق قدرتي على الاحتمال، وهو شعور حسي رهيب بالافتضاح والعجز وخيانة الذات. وقد امتدَّ ذلك الشعور بالخزي مني ليغمر كل أنحاء المنزل ويغطي الجميع، حتى ماري آجنس، وحتى العم كريج في حالة الاستسلام المنبوذة الراهنة. أن تكون بشرًا من لحم ودم ما هو إلا نوع من الإذلال. وهكذا، تملَّكت حواسي رؤيا هي النقيض تمامًا من رؤيا المتصوف عن الضوء والنظام التي يتعذر التعبير عنها، رؤيا — يتعذر التعبير عنها هي الأخرى — عن الاضطراب والبذاءة، رؤيا عن العجز الذي تجلى لي في أفظع صورة ممكنة. ولكن على غرار النوع الآخر من الرؤى، لم تستمر تلك الرؤيا إلا للحظة أو اثنتين، ثم انهارت من شدتها، ولم أتمكن من إعادة بنائها أو حتى تصديقها، فور أن انتهت. وعندما شرعوا في إنشاد الترنيمة الأخيرة في الجنازة كنت قد استعدت نفسي، ولم يكن بي سوى الضعف الطبيعي الذي يشعر به أي شخص بعد قيامه بعضِّ ذراع آدمية، واستعاد الآباء المؤسسون للاتحاد الكونفدرالي الموجودون أمامي ثيابَهم ووقارهم، وانتهيت من احتساء كوب الشاي وأنا أستكشف طعمه غير المألوف شديد الأهمية في عالم الكبار.

نهضت وفتحت الباب ببطء، وكان بابا الغرفة الأمامية مفتوحين، والناس يتحركون ببطء، وظهورهم المحنية التي توحي بالقلق تبتعد عني.

يا يسوع نادِ علينا فوق اضطراب
بحر حياتنا الهائج.

دخلت الغرفة دون أن يلاحظني أحد وأقحمت نفسي في الصف أمام سيدة طيبة لا تعرفني تفوح منها رائحة العرق، وانحنت هامسة لي بأسلوب مشجع: «لقد أتيت في اللحظة المناسبة لإلقاء نظرة الوداع.»

كانت جميع الستائر مسدلة لإبعاد شمس ما بعد الظهيرة، وكانت الغرفة حارة كئيبة، تخترقها أسهم متفرقة من الضوء وكأنها مخزن للتبن في ظهيرة يوم شديد الحرارة. كانت رائحة المكان تعبق بالزنابق البيضاء اللينة، وكانت رائحته كالقبو كذلك. تقدمت للأمام بفعل دفع الآخرين حتى وصلت إلى جانب النعش الذي كان موضوعًا أمام المدفأة، تلك المدفأة الجميلة التي لا تستخدم أبدًا ذات الأحجار المغطاة بالشمع كالزمرُّد. وكان داخل النعش مغطى بالساتان الأبيض المطوي كأفخم الثياب، وكان النصف السفلي من جسد العم كريج مغطى بغطاء لامع، أما النصف العلوي من الأكتاف وحتى الخصر فكان مختبئًا تحت الزنابق. وبالمقارنة بكل هذا البياض الذي يحيط به، بدا وجهه نحاسي اللون تعلوه نظرة ازدرائية. لم يبدُ نائمًا، ولم يبدُ على الإطلاق كما وجدته عندما دخلت إلى مكتبه ذات مرة كي أوقظه بعد ظهيرة أحد أيام الأحد. فقد استقرَّت جفونه برفق على عينيه، وأصبحت التجاعيد في وجهه شديدة السطحية، وهو نفسه بدا ممحوًّا، فهذا الوجه كان بمثابة قناع رقيق من الجلد مطلي وملقى فوق الوجه الحقيقي، أو فوق خواء مستعد لأن ينهار إذا وخزته بإصبعك. انتابتني تلك الرغبة، ولكن على مستوى أبعد ما يكون عن إمكانية التنفيذ، كما قد تنتابك الرغبة في الإمساك بسلك كهربائي. وهكذا كان العم كريج — الراقد تحت الزنابق على وسادته المصنوعة من الساتان — بمثابة الناقل الرهيب الصامت، غير المبالي لقُوًى قد تشتعل في لحظة وتحرق الواقع بأكمله في أرجاء تلك الغرفة، تاركة إيانا في ظلام دامس. استدرت بعيدًا وفي أذني طنين، ولكنني شعرت بالراحة والسعادة؛ لأنني أقدمت على تلك الخطوة في نهاية المطاف ونجوت منها، وأخذت أشق طريقي عبر الغرفة المزدحمة التي ينبعث منها الغناء متجهة نحو أمي التي كانت تجلس وحدها بجوار النافذة، فقد كان أبي مع حاملي النعش الآخرين، ولم تكن تغني بل كانت تعض شفتيها وتبدو متفائلة بصورة سخيفة.

•••

وبعد ذلك قامت العمة إلسبيث والعمة جريس ببيع المنزل في جنكينز بيند والأرض والأبقار، وانتقلتا للعيش في جوبيلي. وقالتا إنهما اختارتا جوبيلي — وليس بلو ريفر حيث تعرفان أناسًا أكثر أو بورترفيلد حيث تعيش العمة مويرا — لأنهما ترغبان في تقديم العون قدر استطاعتهما لأبي وعائلته، وبالفعل كانتا تجلسان في منزلهما الذي يقع أعلى تل في الطرف الشمالي من المدينة كحارستين مشدوهتين جريحتين، ولكن تشعران بالواجب تجاهنا وتسهران على راحتنا، وإن كانت حياتنا بالنسبة لهم مثيرة للشكوك. كانتا ترتِّقان جوارب أبي الذي اعتاد أن يأخذها إليهما، وكانت لديهما حديقة أيضًا وتصنعان لنا المخللات، وكانتا تقومان بأعمال الإصلاحات والحياكة والخبز لنا. كنت أزورهما مرة أو اثنتين في الأسبوع، وفي بادئ الأمر كان ذلك عن طيب خاطر مني، وهو ما يرجع جزئيًّا إلى الطعام، ولكن مع التحاقي بالمدرسة الثانوية بدأت أزورهما على مضض، وفي كل مرة أزورهما، تقولان: «ما الذي أخرك هكذا؟ إنك الغريبة هنا!» وكانتا تجلسان بانتظاري كما لو كانتا قد انتظرتا طوال الأسبوع في الشرفة الصغيرة المعتمة المغطاة بالستائر إذا كان الجو لطيفًا، فقد كان بإمكانهما أن تريا من بالخارج، ولكن لا أحد يمكنه رؤية ما بالداخل.

ماذا كان بوسعي أن أقول؟ أصبح منزلهما أشبه بدولة صغيرة محكمة الإغلاق بغطاء من العادات المنمقة واللغة المعقدة بصورة أنيقة وسخيفة في الوقت نفسه، عالم كانت فيه الأخبار الحقيقية للعالم الخارجي ليست ممنوعة تمامًا، ولكن أصبح توصيلها إليهما مهمة أكثر صعوبة.

وفي الحمام أعلى المرحاض، وضعتا ملاحظتهما التوبيخية القديمة المكتوبة بالتطريز:
عطر الهواء قبل أن تغادر
هذا صنيع سيقدره الآخرون

وتحت اللافتة ثمة حاوية معلقة بها أعواد ثقاب جديدة. كنت أشعر دائمًا بالخجل وأنا أقرأ هذه الملحوظة وكأنني ضبطت متلبسة، ولكنني كنت دائمًا ما أشعل عود ثقاب.

ظلتا تقصَّان القصص نفسها وتلعبان الحيل نفسها التي أصبحت الآن مستهلكة تمامًا وفقدت معناها من كثرة الاستخدام، فبمرور الزمن أصبحت كل كلمة وكل تعبير وجه وكل حركة باليد تبدو شيئًا قديمًا أتذكره جيدًا، وكانت كل منهما نفسًا مركبة بعناية فائقة، فكلما تقدمت في السن بدت هذه التركيبة أكثر ضعفًا وإثارة للإعجاب وغير إنسانية. كان ذلك ما انتهى إليه حالهما بعد أن فقدا الرجل الذي يهتمان بأمره ويعجبان به، وبعدما رحلتا عن المكان الذي ازدهر فيه تكلفهما بصورة طبيعية. كانت العمة إلسبيث تصاب بالصمم تدريجيًّا، وعانت العمة جريس من التهاب المفاصل في يديها، وهكذا اضطرت في نهاية الأمر لأن تتخلى عن كل ما تفعل ما عدا النوع الرديء من الحياكة. لكنهما في النهاية، لم تتغيَّرا ولم تتضرَّرا ولم يظهر عليهما المرض، فقد احتفظتا — بمزيد من الجهد والشعور بالالتزام — بهيئتهما الخارجية كما هي.

وعندما انتقلتا، اصطحبتا معهما مخطوطة العم كريج، ومن حين لآخر كانتا تتحدثان عن إبرازها لشخص ما؛ مثل السيد بيوكانان معلم التاريخ في المدرسة الثانوية، أو السيد فوكس من جريدة «هيرالد أدفانس»، ولكنهما لم ترغبا في أن يبدو الأمر كما لو أنهما تطلبان خدمة. وبمن يمكنهما الوثوق؟ فبعض الناس قد يستحوذون عليها ويعرضونها كما لو أنها عملهم من صنع أيديهم.

وذات مساء أحضرتا العلبة المصنوعة من القصدير ذات اللونين الأحمر والذهبي، والتي تحمل صورة الملكة ألكساندرا ممتلئة بكعك الشوفان الدائري الملصق ببعضه بالتمر المطهو، بالإضافة إلى صندوق كبير آخر من القصدير أسود اللون مضاد للحريق وموصد بقفل.

«إنه تاريخ العم كريج.»

«ما يقرب من ألف صفحة.»

«أكبر من عدد صفحات رواية «ذهب مع الريح»!»

«وقد كتبها بشكل جميل بلا أخطاء.»

«لقد كتب الصفحة الأخيرة بعد ظهر اليوم الذي توفي فيه.»

وألحتا عليَّ قائلتين: «خذيه، اطلعي عليه.» بنفس الطريقة التي يقدمان لي بها الكعك.

قلبت الصفحات سريعًا حتى الصفحة الأخيرة.

«اقرئي فيه قليلًا، وسوف يثير اهتمامك. ألم تحصلي دائمًا على علامات جيدة في مادة التاريخ؟»

أثناء الربيع والصيف وبداية الخريف من ذلك العام، أقيمت العديد من المباني في بلدات فيرمايل وموريس وجرانتلي، وفي زاوية طريقَيْ كونسيشن فايف وريفر سايدروود في فيرمايل، أنشئت كنيسة ميثودية كي تخدم طائفة كبيرة متزايدة في تلك المنطقة، وعرفت باسم كنيسة الطوب الأبيض، ولكن لسوء الحظ فإنها لم تبق إلا حتى عام ١٩٢٤، عندما دمَّرها حريق مجهول السبب، ولكن مخزن العربات التي تجرها الخيول نجا من الحريق رغم أنه مصنوع من الخشب. وعلى الجانب المقابل، بنى السيد أليكس هيدلي متجرًا عامًّا كبيرًا وافتتحه، ولكنه تُوُفِّي بعد شهرين من الافتتاح من جراء الإصابة بسكتة دماغية، واستأنف ولداه إدوارد وتوماس العمل. وثمة ورشة حدادة تعمل على مسافة في طريق فيفث كونسيشن، واسم العائلة التي تملكها أودونيل. وكانت هذه الزاوية من الطريق تُعرَف إما باسم زاوية هيدلي أو زاوية الكنيسة. ولا يوجد شيء في هذا الموقع في الوقت الحالي سوى مبنى المتجر الذي استأجرته عائلة وتعيش فيه.

وبينما كنت أقرأ ذلك الجزء، قالتا بتردد لطيف بسبب المفاجأة إن تلك المخطوطة ملكي.

«وكذلك كل ملفاته وصحفه القديمة سوف تصبح ملكًا لك عند وفاتنا، أو قبلها، فلا حاجة للانتظار! إذا كنت مستعدة لذلك.»

«لأننا نأمل؛ نأمل أنك يومًا ما ستتمكنين من استكمالها.»

«كنا نفكر في إعطائها لأوين لأنه الصبي …»

«ولكنك أنت من تملكين موهبة كتابة موضوعات الإنشاء.»

أكدتا لي أنها مهمة شاقة، وأنها تتطلب مني الكثير، ولكنهما اعتقدتا أنها ستصبح أكثر يسرًا؛ إذا أخذتُ المخطوطة معي للمنزل، واحتفظت بها، وظللت أقرؤها من حين لآخر؛ كي أعتاد على كتابة العم كريج.

«كان لديه الموهبة. كان بإمكانه أن يضم كافة التفاصيل ويحافظ على السلاسة في القراءة.»

«ربما تتعلمين محاكاة طريقته.»

ولكنهما كانتا تتحدثان إلى شخص يعتقد أن المهمة الوحيدة للكاتب هي إنتاج تحفة أدبية.

وعندما رحلت حملت الصندوق معي بصعوبة تحت ذراعي. وقفت العمة إلسبيث والعمة جريس في مدخل المنزل تودعانني بطريقة احتفالية، وشعرت كما لو أنني سفينة تحمل على متنها آمالهما وتشد الرحال وتختفي في الأفق. وضعت الصندوق أسفل فراشي في المنزل، ولم أستطع مناقشة ذلك الأمر مع أمي. وبعد مرور بضعة أيام خطر لي أنه مكان مناسب أحتفظ فيه بالقصائد القليلة وأجزاء الرواية غير المكتملة التي كتبتها؛ فقد كنت أرغب في إخفائها بعيدًا بأمان، حيث لا يجدها أحد، وحيث تظل آمنة في حالة اندلاع حريق. فرفعت حشية الفراش وأخرجتها، حيث كنت أحتفظ بها حتى ذلك الوقت في هذا المكان مطوية داخل نسخة كبيرة مسطحة من رواية «مرتفعات ويذرينج».

لم أرغب في وضع مخطوطة العم كريج مع مؤلفاتي الخاصة، فقد بدت لي فاقدة للحياة، ثقيلة ومملَّة وعديمة الفائدة، حتى إنني ظننت أنها سوف تُفْقِد مؤلفاتي الخاصة الروح وتجلب لي الحظ السيئ، فأخذتها إلى القبو وتركتها في صندوق من الورق المقوى.

وفي الربيع الأخير الذي قضيته في جوبيلي عندما كنت أذاكر لخوض الاختبارات النهائية، انغمر القبو بالماء حتى ارتفاع ثلاث أو أربع بوصات، ونادتني أمي كي أساعدها، فهبطنا وفتحنا الباب الخلفي، ونزحنا المياه الباردة ذات الرائحة الكريهة التي تشبه رائحة المستنقعات نحو مصرف خارجي، فوجدت الصندوق والمخطوطة وكنت قد نسيت أمرهما تمامًا، وتحولت المخطوطة إلى مجرد رزمة كبيرة من الأوراق المبللة.

لم أتفقدها كي أرى التلف الذي لحق بها أو ما إذا كانت قابلة للإنقاذ، بل بدا الأمر لي خطأً منذ بدايته إلى نهايته.

بالطبع فكرت في العمة إلسبيث والعمة جريس (كانت العمة جريس في ذلك الوقت في مستشفى جوبيلي تتعافى — كما ظن الجميع — من كسر في مفصل الفخذ، وكانت العمة إلسبيث تزورها يوميًّا وتجلس بجوارها وتقول للممرضات — اللاتي كنَّ يحببنهما — «أتصدقن ما قد يفعله البعض كي يرقدوا في الفراش ويستمتعن بخدمة ورعاية الآخرين لهم؟») ظللت أفكر فيهما وهما تريان المخطوطة وهي تغادر منزلهما في صندوقها المغلق وشعرت بالندم؛ ذلك النوع من الندم الرقيق الذي يحمل على الجانب الآخر منه شعورًا قاسيًا بالرضا لا تشوبه شائبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤