تمهيد

(١) تأملات حول مصير الإنسانية

هذه الصفحات ليست سوى صيحات، لا أملك غير إطلاقها في هذه الساعات التي لا يستطيع أحدٌ بعد أن يتنبَّأ فيها بمصير الإنسان الحر.

•••

إن الظلام الزاحف على الإنسانية يخيفني. إني لم أزل أتأمل تلك الكلمة التي قالها وكيل خارجية أمريكا «سمنر ويلز» منذ نحو عام: «ليس في مقدورنا أن نتكهَّن بشيء عن احتمال العودة مرةً أخرى إلى ظلام القرون الوسطى، على الأقل فيما يتعلق بشئون الفكر والروح … إلخ.» إني لم أزل أطرح على نفسي هذا السؤال: هل في الإمكان حقًّا أن يمحق الإنسانيةَ ظلامٌ بعد هذا الشوط الذي قطعَتْه في سبيل النور؟

•••

هل أصدق قول المفكر الألماني «كيسرلنج»: «ما الإنسان إلا مخلوق تتركز فيه قوًى روحية وقوًى أرضية. جوهره العميق، ذلك الذي قد يُعَد خالدًا هو روح خالص. ولكن هنالك حقيقة تسترعي النظر، هي أنه منذ ليل الأزمانِ والأديانُ ما برحت تحض على اتباع تعاليم الروح فهل صادفت في ذلك غير نجاح قليل، بينما كانت نوازع الأرض والدم لا تفرض فقط سلطانها فرضًا بل تقبل أيسر القبول في شيء من الخضوع الطبيعي. هذه الحقيقة وحدها تثبت لنا أن ثمانين في المائة من المخلوق البشري تتألف من العناصر الأرضية التي تدخل في نطاق العالم الحيواني والنباتي.»

•••

ما أقسى هذا الكلام على من يؤمن بالتقدم الإنساني. ينبغي مع الأسف أن نتوقع إذن في كل حين ثورة هذه الثمانين في المائة على العشرين الباقية.

•••

تتمثل لذهني صورة رسمها «جيمس روبنسون»، المفكر الأمريكي، لتطور البشرية ومدى انتقالها من عهد إلى عهد؛ فقد افترض أن: «حياة الإنسانية منذ عصورها الأولى إلى اليوم (وهي التي تقدر أحيانًا بخمسمائة ألف سنة) تبلغ خمسين عامًا فقط رغبة في التبسيط. فماذا وجد؟ وجد أن تسعًا وأربعين سنة من هذه الخمسين قضتها البشرية في حياة الصيد الأولى، ولم تبلغ في نهايتها من حيث المعرفة والإدراك إلا درجة تمكنها من استئناس بعض الحيوان ونسيج بعض الخشن من الثياب. أما في السنة الأخيرة الباقية من عمر الإنسانية، فقد كان ينبغي أن يمضي منها أيضًا ستةُ أشهر قبل أن تُخترع الكتابة التي تم باختراعها وضعُ أساس من أسس الحضارة، ثم ثلاثةُ أشهر أخرى للوصول بالأدب والفن والفلسفة إلى تلك القمم التي بلغناها، ثم شهران للحياة في ظل المسيحية، ولم يتطلب ظهور الطباعة غير ليلة واحدة، وآلة البخار غير أسبوع، ويومَين أو ثلاثة لتخوض البواخر عرض البحار وتقطع القطر شاسع البقاع، ولم يبقَ بعد ذلك غير يوم واحد استكشفت في ليلته البارحة أعاجيب الكهرباء، وأخيرًا لم تبق غير ساعات معدودات كانت كافية لحذق الملاحة في الجو وتحت الماء واستخدام أحدث المخترعات لإثارة حروب عظمى تتكافأ مع تلك الوسائل الجديدة الهائلة.»

ولأتم قول هذا العالم الأمريكي قائلًا: «حروب عظمى قديرة أن تدمر الإنسانية وتعيدها من جديد إلى حيث كانت منذ عام.»

•••

هذا التقدير العجيب لعمر المدَنية الحقيقية في حياة الإنسانية ينبغي أن يملأنا قلقًا على مصير الحضارة. إنها إذن ليست تراثًا أصيلًا كما نظن. إنها ليست مَلَكة متأصلة فينا كما نحب أن نتصور. إنما هي حدث جديد لم يقع في حياتنا البالغة الخمسين إلا منذ ستة أشهر. أفيُستغرب إذن إذا عصف القدر بهذا الحدث وأرجعَنا إلى حيث كنا منذ عام على الأقل؟

•••

نعم. حتى حياتنا اللامعة خلال هذه الشهور الستة الأخيرة ليست في مأمن من طغيان ذلك الخضم الهائل من عشرات الأعوام السابقة. إن ريح تلك الأعوام المظلمة ما تفتأ في كل لحظة تهب على هذه الشمعة الضئيلة التي تنمو في ضوئها المرتجف حضارتنا الناشئة. آه، إن قوة الأرض والدم لمخيفة حقًّا. إنها لتستطيع أن تجذبنا إليها في كل حين كلما أردنا ارتفاعًا!

•••

يحلم العلم الحديث أحيانًا بذلك الاختراع الذي يخرجنا عن جاذبية الأرض، لنحلق بالكواكب الأخرى. أما ينبغي له أن يفكر قبل ذلك في اختراع آخر أعظم وأجدى على الإنسان، ذلك الذي يخرجنا عن جاذبية الأرض والدم في عالم تركيبنا الحيواني، لنلحق بالإنسانية العليا التي يتصورها الفكر المجرد ويحسها الروح الطليق؟

•••

ما دمنا نعيش هكذا تحت سلطان جاذبية الماضي الهائل: جاذبية تسع وأربعين سنة أو (٥٤٩٠٠٠ سنة بالحساب شبه الحقيقي) حياة حيوانية تعيش على الفتك والصيد وشريعة الغابة، فكيف نأمل بهذه السرعة في حياة أرقى تسودها شريعة غير شريعة الغابة؟

•••

يقول «ألدس هكسلي»: لا أحد يطلب إليك أن تكون شيئًا آخر غير مجرد إنسان، أي لا ملاك ولا شيطان؛ إنسان، أي ذلك المخلوق الذي يمشي بمهارة على حبل مشدود، عن يمينه العقل والفكر والضمير وكل ما دخل في نطاق العالم الروحي، وعن يساره الجسد والغريزة والدم وكل ما دخل في نطاق العالم الحيواني. التوازن هو كل المطلوب. وهو أمر عسير المنال.

•••

حقًّا هذا التوازن عسير المنال. كم من الملايين وكم من الأجيال تسقط في الهاوية اليسرى! أما الهاوية اليمنى فلم يقع فيها غير قليل من الأنبياء والقديسين والفلاسفة والشعراء.

•••

في تاريخ الإنسانية عهد صغير مزدهر هو حقًّا من مفاخر الإنسان، ذلك هو عهد الإغريق. أترى الإغريق هم الذين استطاعوا أن يمشوا في توازن عجيب فوق الحبل المشدود؟

•••

ربما كانت فكرة التوازن لا يتميز بها العهد الإغريقي وحده؛ فالحضارة الإسلامية في عصورها الزاهرة هي خير مثال يُقدَّم للتوازن العجيب فوق هذا الصراط المستقيم.

•••

إن معجزة الإغريق في الواقع هي أنهم لأول مرة في تاريخ البشرية حاولوا التخلص من جاذبية الماضي. إذا ذُكِر الإغريق ذُكِر عهد ظهور التفكير الحر والتأمل المجرد. أي ذلك التفكير الذي لا تحده تقاليد ولا سلطات ولا أديان ولا حتى لغات قديمة. كان «بيرون» يقول عن الإغريق: لم تكن لديهم عصور قديمة للمعرفة ولا معرفة للعصور القديمة.

•••

إن النوع البشري محافظ بطبعه كما يرى روبنسون: «فهو لا يفتأ يضع لنفسه قيودًا، هي التي أقعدته في طور البربرية كل هذه الأجيال الساحقة التي عاشها على الأرض، بل هي التي ما تزال تعمل على استمرار بعض مظاهر البربرية حتى في مجتمعنا الحديث؛ فالرجل المحافظ هو على وجه عام رجل أدنى من غيره إلى الحالة البربرية الأولى.» إذا كان في التاريخ إذن شعب «غير محافظ» فهم الإغريق؛ إنهم شعب «الحرية» المختار!

•••

إن العقل البشري بلغ في عهد الإغريق اكتمال تألقه، لأنه تفتح لهواء «الشك». إن «الشك» هو هواء العقل الذي يتنفس به. لأول مرة استطاع الإنسان حقًّا أن يدع هذا الهواء يعبث قليلًا برفات تقاليده المقدسة، ولأول مرة استطاع الإنسان حقًّا أن يخرج بتفكيره قليلًا عن نطاق جاذبية الماضي، ليتأمل ويحلق بعيدًا عن سيطرة الإيمان بالماضي.

•••

على أن العجيب في الأمر هو أن البشرية التي عرفت هذا التألق الفكري استطاعت أن ترجع بعد ذلك إلى ظلام القرون الوسطى، وتركت فضاء «الشك» لتدخل من جديد حظيرة «الإيمان». أترى حياة الإنسانية كحياة الإنسان؟ أتراها مثله تخرج من النهار إلى الليل، ثم تعود إلى النهار من جديد، ثم تدخل في الليل مرة أخرى، وهكذا إلى نهاية الدهور؟

•••

نعم، بعد نهار الإغريق جاء ليل القرون الوسطى، لكن … ليس كل ليل ظلامًا؛ فقد يخيم الظلام على أول الليل ثم يطلع القمر وتتصاعد الأحلام من جوف القلب فتملأ الوجود جمالًا ونورًا من نوع آخر. كذلك القرون الوسطى، لم تعرف الظلام الحالك إلا في أول عهودها. ثم تأججت العقيدة الدينية في النفوس واستيقظ القلب فأبدع جمالًا وشعرًا له مكانه إلى جانب الجمال الذي أبدعه العقل في نهار الإغريق.

•••

وقبل نهار الإغريق ماذا كان؟ كان ليل مصر القديمة المقمر الجميل. كانت حضارة كأنها أحلام العمالقة، خرجت هي الأخرى من وحي القلب وحرارة العقيدة والإيمان.

•••

وبعد ليل القرون الوسطى، ماذا حدث؟ ظهر من جديد فجر عصر النهضة وأخذ يتألَّق بضوء العقل. إنها شمس الإغريق طلعت مرة أخرى في عصر النهضة، فما عهد إحياء العلوم وبعث التفكير الإغريقي إلا نهار جديد طلع بعد انصرام الهزيع الأخير المقمر من ليلة القرون الوسطى.

•••

أهي أستار تتعاقب على مسرح الوجود الدائر تلك القوى الخفية التي نسميها الغريزة والقلب والعقل؟ أتراها تلعب في حياة الإنسانية الدور الذي يلعبه الظلام والقمر والشمس في حياة الإنسان اليومية؟

•••

هؤلاء هم بالضبط أبطال مسرحيتِي «شهرزاد»؛ فالظلام هو «العبد»، والقلب هو «قمر»، والعقل هو «شهريار»، وإن حركتهم حول «شهرزاد» لهي حركة الإنسانية كلها حول الطبيعة.

•••

هل الإنسانية إذن تدور دوران الفصول؟ لقد أجاب شهريار: «كل شيء يدور، تلك هي الأبدية، يا لها من خدعة! نسأل الطبيعة عن سرها فتجيبنا باللف والدوران!» نعم إنها تدور دوران اليوم الكامل: ظلام وقمر ونهار ثم ظلام وقمر ونهار … وهكذا دواليك إلى نهاية الدهور.

•••

إن فكرة التقدم العقلي المطَّرِد هي من أوهام العقل. إنها سراب شمس العقل في صحراء آمالنا الواسعة، إن الخط المستقيم لا يعرفه غير العقل. أما الطبيعة فلا تعرف غير محيط الدائرة.

•••

لو عرف الإنسان نهارًا لا ليل له يمتد بضعة أعوام، لعرفت الإنسانية مثل هذا النهار في صورة حضارة فكرية ممتدة إلى آلاف الأعوام لا يعترضها ظلام الغرائز ولا أحلام الإيمان.

•••

هذا النهار الطويل للإنسانية لو وُجد لكان مُحرِقًا لكثير من فضائل الإنسان.

•••

حضارة اليوم الحديثة هي من غير شك نهار للإنسانية. نهار بزغ في عصر النهضة وإحياء العلوم، واستمرار متألق بكل أشعة العقل الإنساني. إنه النهار الثاني بعد نهار الإغريق الأول.

•••

من العجيب أنه في كِلا النهارَين بدا مظهران من مظاهر التحرر لا للفكر وحده بل للمجتمع؛ ففي نهار الإغريق عرفت الإنسانية الديمقراطية، وفي نهار العصور الحديثة عرفت الإنسانية حقوق الإنسان.

•••

في ليل الإنسانية المظلم أو المقمر لم يُعرف قط مثل هذا التحرر الذاتي والتيقُّظ الاجتماعي. أليس الليل مقترنًا بالنوم والأحلام والاستسلام، والنهار مقترنًا باليقظة والشعور بحقوق الذات؟

•••

ما بعد حضارة اليوم الحديثة؟ ما مصير هذا النهار؟ أترى مصيره مصير كل نهار؟

•••

هل نستطيع أن نتبين في الأفق جحافل الظلام المغِيرة على هذا النهار؟

•••

أولئك الشعراء الذين قرنوا الظلام بالجحافل لا شك مصيبون. لا شيء يستطيع إطفاء مصباح الفكر غير يد القوة المادية. هكذا بدأ النور في الفتور منذ اقتربت من مصباح أثينا كفُّ «فيليب».

•••

يقول الباحث الفرنسي جان روستان: «إذا قُدِّر لهذه الحضارة أن تتحطم غدًا عن آخرها لكان على الإنسان أن يعيد بناء كل شيء من جديد مبتدئًا بما بدأ به منذ نيف ومائة أو مائتي ألف من الأعوام، فكل ما قام به على مر الدهور من أعمال وما عاناه من جهود وما قاساه من آلام لا نفع فيه ولا غنى. وهنا الفرق الهائل بين حضارة الإنسان وحضارة الحيوان. إن شرذمة من النمل المنعزل عن العشيرة في إمكانها أن تنشئ عشيرة أخرى تامة التكوين، لكن شرذمة من الآدميين انعزلوا عن البشرية لا يستطيعون أن ينشئوا مجتمعًا بشريًّا إلا في صورته البربرية الأولى. إن حضارة النمل منطبعة في صميم خواص الحشرة، أما حضارة الإنسان فهي ليست مستقرة في صميم طبيعة الإنسان. بل هي مستقرة في خزائن المكتبات العامة وقاعات المتاحف ونصوص الشرائع …»

•••

من المحتمل إذن أن تدك القنابل هذه المتاحف والمكتبات وأن تعبث يد القوة المادية بالشرائع، وأن تضع كفها على أفواه الناطقين بالعلم، وعلى أبصار الباحثين عن الحقيقة، فإذا حضارة الإنسان قد تلاشت، وإذا البشرية تعود سيرتها البربرية الأولى. أوَلم يحدث بالفعل منذ قليل أن حُرِقت الكتب والمؤلفات وطُرِد العلماء والمفكرون (أينشتين وفرويد ومان … إلخ)؟

مهما تكن الأسباب والظروف، فإن في مجرد إمكان حدوث ذلك في هذا العصر لنذيرًا وإشعارًا بإمكان عودة الظلام.

•••

الإنسان مخلوق مؤمن بالطبع. في كل مراحله نرى حب التقديس؛ فالوثنية تقديس القوى الأرضية، والأديان السماوية تقديس القوى الروحية، والعلم الحديث تقديس القوى الفكرية.

•••

والإسراف في الإيمان يؤدي إلى الطغيان، والطغيان إلى الانهيار. لقد زلزل العهدَ الوثني طغيانُ الكهنة والتيجان، والعهدَ المسيحي طغيانُ الكنيسة. والعهدَ العلمي الحديث طغيانُ الصناعة الكبرى.

•••

إن «الصناعة الكبرى» هي «كنيسة» العلم الحديث.

•••

لقد أرانا التاريخ كيف أن طغيان الكهنة والتيجان في الأرض جعل الإنسانية تلتمس الخلاص والحرية في السماء، وكيف أن طغيان الكنيسة باسم السماء قد جعل الإنسانية تلجأ إلى الخلاص والحرية في نور العقل والعلم البشري، بقي أن نعرف أين الخلاص من طغيان كنيسة العلم الحديث؛ الصناعة الكبرى؟

•••

إن كنيسة العلم الحديث بكرادلتها الرأسماليين لتتفتح أبوابها على جهنم الغرائز الأولى. نعم، نحن في نهاية الدائرة. أسوف ندور دورةً أخرى من جديد؟

•••

يقول العالم الاقتصادي «ر. ﻫ. توني»: «إن كارثة حضارتنا اليوم ليس مرجعها كما يظن الكثيرون سوء توزيع الإنتاج الصناعي، بل مرجعها الصناعة نفسها؛ الصناعة التي تبوأت مركزًا يطغى على كل شأن من شئون البشر. إن هذه الحمى الاقتصادية سوف تبدو للأجيال القادمة خليقة بالرثاء كما تبدو لنا اليوم حمى المعارك الدينية في القرن السابع عشر.»

•••

إنه لمن المخجل كما يقول «جيمس روبنسون»: «أن نُخضع اليوم الحياة كلها لمقاصدها المادية على النحو الذي كان عليه أجدادنا المتوحشون يوم عاشوا في طور التكالب على ثمار الأشجار وجذور النبات وجلود الحيوان.»

•••

حقًّا، لم يعد المكان الأولى في حياة البشرية للقيم الروحية، بل لم تعد للقيم الفكرية ذاتها ذلك المكان. إنما القيم الاقتصادية هي اليوم كل شيء. القيم الاقتصادية كانت هي أيضًا كل شيء في حياة القبيلة الأولى المتوحشة.

•••

فلنستمع كذلك إلى قول «كيسرلنج»: «الخط البارز والمظهر الغالب للعصر الحاضر هو «الاقتصاد» أي «الغذاء»، أي مطالب الأرض والدم والجنس والبيئة.»

أي أن كل شيء اليوم خاضع للشطر «غير الروحي» للكائن البشري … هذه الحضارة ما كانت تستطيع أن تنتهي إلا إلى هذه النهاية «غير الإنسانية» ما دامت تؤدى على هذه الصورة المخيفة إلى سيادة الآلة على الحياة، وإلى طغيان الحساب والأرقام، وإلى تقويض كل سلطان إلا سلطان الكم والعدد … إن روح هذا العصر «الصناعي الاقتصادي» هي روح الكتل من الدهماء والسواد. وعصر السواد والدهماء هو في الحقيقة عصر الزعماء؛ فالكتل لا تعمل أبدًا بذاتها. إذن كلما كثر العدد احتاج الأمر إلى تنظيم ومنظمي وأصبح المنظم أو الزعيم هو القابض على زمام القطيع وهكذا تُمنح السلطات شبه المطلقة لمن ينظم الملايين. هؤلاء الزعماء المنظمون هم دائمًا من طراز «المروضين» لا من طراز «القادة الروحيين»، والمروض هو مَن يؤثر في تابعه عن طريق «الإيحاء» مجبرًا إياه على طاعته دون أن يشعره أنه قد سلب إرادته.

•••

نحن إذن في طريق العودة إلى المجتمع البشري الأول الوثني، حيث كانت الجموع تخضع لسلطان الرجل القوي الذي يستطيع تخدير أحلامها والتأثير في أعصابها.

•••

ما دمنا في عصر الزعماء «المروضين» فلن يكون هناك محل للكلام في الحرية؛ لأن المروِّض سجان قبل كل شيء.

•••

هنا السر في أن الزعماء المروضين يضطهدون «الأديان السماوية» لأنهم يريدون حبس جموعهم داخل تلك الحظيرة التي يسهل فيها التأثير في أعصاب القطعان؛ حظيرة الغرائز بسياجها المفتول من «الوطنية والجنس والدم»، ولما كانت الأديان تحارب الغرائز وتسعى إلى إطلاق الناس من هذه الحظيرة إلى فضاء الإنسانية والإخاء الآدمي، فقد عدها المروضون أخطر خصم لمآربهم.

•••

هنالك سبب آخر لرغبة الزعماء المروضين في صد جموعهم عن الأديان: إنهم لا يريدون لجموعهم أن تقدس شيئًا آخر غير الزعيم. إن شخص الزعيم هو الذي حل وينبغي أن يحل محل الدين في قلوب التابعين، وتلك هي العودة إلى الوثنية.

•••

كذلك يمقت الزعماء المروضون العلماء والأساتذة والفلاسفة وأصحاب التأمل الطليق والفكر الحر ممن يدينون بمبدأ «العلم للعلم» أو «العلم للإنسانية»، ويرونهم غير جديرين بالبقاء إلا إذا خضعوا لمبدأ «العلم للوطن»، أي العلم في خدمة الجيش والعسكرية والاستعباد وسيادة الجنس والدم.

•••

لقد سألني سائل ذات مرة عن مبدأ «العلم للوطن» فقلت: لا يمكن أن يكون العلم للوطن ولا لشيء آخر في هذا الوجود. إنما العلم لنفسه، فهو المعرفة الخالصة والرغبة المحرقة في استجلاء كنه الأشياء، وإن العلم إذا اتخذ له غرضًا غير نفسه تغيرت في الحال صفته ولم يعد يسمى علمًا، مهما يكن الغرض الذي يتجه إليه نبيلًا؛ فالعلم قبس من نور الله، وليس لله غرض إلا ذاته المطلقة.

ولكن تطبيق العلم أو العلم التطبيقي شيء آخر؛ فإن للوطن وللصناعة والتجارة … إلخ أن تستفيد من نتائج العلم وتستخرج منها المنفعة التي تريدها؛ فالعلماء الحقيقيون لا يطبقون العلم. إنما يعيشون حياتهم للمعرفة المجردة لا يبتغون من ورائها غير مجرد الدنو منها، تلك لذتهم الكبرى. أما رجال الأعمال الذين يأتون بعد ذلك لاستغلال نتائج هذا العلم فليسوا من العلماء وإن درسوا العلم دراسة عميقة. وإن للعلم، ككل شيء في هذا الوجود، أوقات علو وأوقات انحطاط، ولا ينحط العلم إلا في وقت ترغمه فيه قوة غاشمة على السير في طريق مرسوم لمصلحة وطنية أو مالية؛ فالعلم طائر حر كالشعر، ومن قرأ تعريف «أينشتين» للعالم الحقيقي أدرك تمام الإدراك أن حياة العلم لا تكون إلا بإطلاقه في جو الحرية المطلقة، والعلم والوطنية لا يمكن أن يتفقا؛ لأن الوطنية هي الأنانية في المجموع، والأنانية عمياء، والعلم هو البصر المنزه بحقيقية الأشياء، فمن أراد من العلم أن يعيش بنصف عين كي لا يرى غير مصلحة دولة واحدة وجنس واحد فهو من غير شك قد مسخ «العلم» «قردًا» يمشي ويرقص تحت عصا مروضه.

•••

كل فكرة متصلة بفكرة «الدولية» متجهة إلى «الإنسانية» مبشرة بالسلام، حاضة على «اللاعسكرية»، هي خطيئة الخطايا في أعين الزعماء المروضين.

•••

تلك هي أعنف صدمة هزت نفسي في السنوات القلائل التي تلت الحرب الكبرى الأخرى. لقد كنت ممن يؤمنون باطراد التقدم الإنساني. لقد كنت أتابع وقتذاك آمال الساسة والكتاب في جمعية الأمم والسلام، وأطالع آراء ماركس وتلاميذه في «الدولية» و«اللاعسكرية». لقد كنت غارقًا أنا أيضًا في تلك الأحلام التي نسجها لنا هداة البشر وقادته الروحيون من الرسل والشعراء والمفكرين، لقد كنت موقنا بأن الأوان قد آن عقب تلك الحرب لزوال الحواجز بين الأمم والأمم، وانقضاء عهد القبائل الوحشية المتنافرة التي يسمونها اليوم «دولًا» تُغير إحداها على الأخرى، مدفوعة بمطالب الأرض والدم والجنس، واتجاه البشرية أخيرًا إلى تحقيق ذلك المجتمع الإنساني الأعلى الذي يجعل من سكان هذا الكوكب إخوة أحرارًا. لقد ظننت أن تلك الحرب العظمى بفظائعها ومخازيها قد ردعت البشر، لكن … وا أسفاه! فوجئت بما هالني: لقد ارتدَّت البشرية بغتة إلى الوراء، وإذا من كنا نحسبه إنسانًا متحضرًا آخذًا بأسباب السمو قد عاد يصيح صيحات الغابة، معلنًا العودة إلى غرائز الدم والجنس. وخفت صوت القائلين «بالدولية» و«اللاعسكرية»، وارتفع صوت الناعقين بشريعة القوى المادية وحق الأقوى في سحق الآخرين وسيادة العالمين.

•••

عجبا! أترى الإنسانية لا تتقدم في حقيقة الأمر ولا تتأخر. أتراها حقًّا تدور في تلك الحلقة المفرغة؛ غريزة وقلب وعقل ثم غريزة وقلب وعقل … إلخ وهكذا في حركة دائمة كحركة الكواكب في مجموعاتها الشمسية؟ في ذلك الوقت تيقظت في نفسي فكرة قصتِي «شهرزاد». «شهرزاد» هي مأساة الشك في اطِّراد التقدم الإنساني في خط مستقيم.

•••

إذا كنت أشك بالتقدم الإنساني، وأرى أن دورة الإنسانية تسير بمقتضى قانون شبه فلكي لا ينحرف قيد شعرة كقانون الشمس والقمر والظلام، فأي جدوى في نشر هذه الصفحات وفي إطلاق الصيحات؟

•••

الحقيقة أن عقلي يشك ولكن قلبي يؤمن. إن قوة العقل الشك، وقوة القلب الإيمان، والإنسان هو الفريسة التي تتصارع فوق جسدها هاتان القوتان. إن روح «المأساة» هي الصراع، ولقد أدرك شعراء المآسي الإغريقية أن أروع صراع هو ذلك الصراع القائم دائمًا بين الإنسان وتلك القوى العليا الخارجية التي يسمونها «القدر» و«الآلهة». أما أنا فقد رأيت مأساة الإنسان والإنسانية في ذلك الصراع الدائم بين تلك القوى الداخلية؛ العقل والقلب. لذلك كتبت قصتِي «أهل الكهف»؛ «أهل الكهف» هي مأساة الصراع بين العقل الذي يشك والقلب الذي يؤمن.

•••

نعم؛ إن عقلي يشك ولكن قلبي يؤمن. ما من رجل أحب الإنسانية استطاع لحظة أن يشك في إمكان تقدمها وسموها. إني أعتقد أنها تتقدم، ولكن مثل تقدم المجموعة الشمسية في الفضاء. كل كوكب فيها يدور حول نفسه وحول الشمس، ولكن المجموعة كلها تسير ذلك في فضاء اللانهاية.

•••

نعم؛ لقد لبثنا حقيقة في حياة الصيد ٤٤٩٠٠٠ سنة، ولكن أي خطوات هرقلية خطوناها بعد ذلك في القرون القليلة الأخيرة؟! إن سلطان الظلام يهددنا من آن لآن ولكن القيم التي كسبناها قد كسبناها. إن الحرية والجمال الروحي والفني والفكر الطليق وحقوق الإنسان، كل أولئك أشياء لا يمكن للإنسانية أن تنزل عنها أو تنساها. قد تعصف بها حينًا بعد حين عواصف القوى الأرضية ولكنها لن تستأصل جذورها التي تنمو وتمتد في أعماق النفس البشرية.

•••

علينا إذن نحن جنود القوى الروحية والفكرية أن ننشر الصفحات وأن نطلق الصيحات، كلما شُنت علينا الغارات جيوش القوى الأرضية والحيوانية.

(٢) دفاع القوى الروحية والفكرية

منذ أدركت أن الحرب حرب القوى الأرضية وأن السلطان سلطان الظلام، وأن الأمر للزعماء المروضين، رأيت الدفاع منوطًا بالقوى الروحية والفكرية، وسلطان النور، والقادة الروحيين.

•••

على أن الذي هالني حقًّا هو هذا الأثر الذي أحدثه طغيان القوى الأرضية في بعض رجال الروح والفكر أنفسهم. عند ذاك بادرت بنشر تلك الكلمة التي عنوانها «فيران السفينة»١ موجهة إلى أولئك الذين كانوا البارحة يتشدقون بذكر النور والحرية والفكرة والمدنية … إلخ، فلما هزت يد القوة البربرية هذه الهياكل، هرعوا مذعورين إلى الجانب الآخر يمجدون القوة الغاشمة ويعبدون الطغيان. هؤلاء الذين خدعونا وخدعوا أنفسهم يوم لبسوا مسوح المؤمنين بالقيم العليا للإنسانية، فإذا هم فيران في سفينة الحضارة والحرية يمرحون في أرجائها وهي بخير. فلما شموا ريح الخطر انسلوا يبغون الفرار منها ولو على ظهر حطامها. ثم ها هم أولاء يقفزون إلى سفينة القرصان، يتخذونهم آلهة ومُثُلًا عليا، ويضعون تحت أقدامهم عين الأزهار التي جعلوها من قبل على هام تماثيل الحرية المجيدة. إلى أولئك الخارجين على قوى الروح والفكر أؤكد عقيدتي الدائمة في هذه الكلمات: إني أزدري وسأزدري دائمًا القوة الوحشية في ذاتها. وإني لأدعو وسأدعو دائمًا إلى القوة الفكرية والمعنوية التي تنتج القوة المادية الخصبة الخيرة الكفيلة بتنمية مواهب الإنسان وفضائله وضمان حرياته وحقوقه وتمكين النوع البشري من الاستمرار في الرقي! في سبيل هذا وحده أعيش وأعمل كما يعيش جنود الفكر والروح ويعملون، وإني أعلن هذه العقيدة ولى الشرف العظيم أن أموت يوما من أجلها. وأن أغرق معها إذا غرقت، فلا خير في صاحب فكرة أو عقيدة لا يموت بموتها.

•••

لقد تمنيت في نفسي لو أن في المقدور توحيد صفوف رجال الفكر والروح في كل شعب وأمة، فأمام كتل الظلام يجب أن تقف كتل النور. من أجل ذلك نشرت نداء إلى رجال الفكر٢ أقول فيه: لا ريب أن رجال الفكر في مصر قد تأملوا مليًّا تلك الخطبة التي ألقاها «سمنر ويلز» عند انتهاء المؤتمر العلمي للأمم الأمريكية مشيرًا فيها إلى ليل العصور الوسطى وفجر عصر النهضة وما تبعه من حركة إحياء العلوم، إلى أن قال: ليس في مقدورنا أن نتكهن بشيء عن احتمال العودة مرة أخرى إلى ظلام القرون الوسطى، على الأقل فيما يتعلق بشئون الفكر والروح، في بلاد أصبح البحث الحر فيها مستحيلًا … إلخ، ثم تمنى أن يزول شبح هذا الخطر الداهم على الحضارة، ودعا الولايات المتحدة إلى واجب الذود عن مدنية تدين لها بخير ما عندها. هذه الصيحة القلقة على مصير الفكر المطلق لابد أن يكون لها صدًى عميق في نفوس مفكرينا ومفكري الشرق الباعث لحضارة البحر الأبيض. ولئن كان صوت أقدام القوة الوحشية وهي تسحق الأمم الحرة لم يزعج بعد رجالنا السياسيين المتنابذين، فإن نذير الدمار المسلط على شئون الفكر والروح كفيل بأن يوحد جهود رجال الفكر وأن ينهضهم متساندين للدفاع بأقلامهم وقلوبهم عن حضارة ساهم أسلافهم في وضع أحجارها الأولى: فإلى إخواني المفكرين والأدباء أوجه هذا النداء، وإن العبرة التي تستخلص من قيامهم الآن قومة رجل واحد، وارتفاع أصواتهم في صيحة واحدة قد يكون لها أعظم الأثر في توحيد صفوف أخرى طالما انتظرَتها البلاد.

•••

في اليوم التالي نشرت إحدى الصحف اليومية٣ مقالًا طويلًا جاء فيه: «ونحسب دعوة الكاتب جماعة المفكرين إلى الدفاع عن الحرية الفكرية ضد الدكتاتورية … قد جاءت ممن كان آخر الذين ينتظر منهم الحماسة للديمقراطية والحريات المقررة في الدساتير؛ لأنه سبق أن طعن فيها وتحامل عليها … إلخ.»

•••

وهذا صحيح، على أني بعثت إلى هذه الجريدة أقول:٤ إني يوم انتقدت الديمقراطية، لم أفعل أكثر من أولئك الكتاب الديمقراطيين الذين هبوا في فرنسا وإنجلترا يحملون على بعض مثالب هذا النظام مشبعين بروح الرغبة في علاج الداء وتقوية الضعف. على أن كل طعن وكل نقد لأي مقصد من المقاصد ينبغي أن يزول في الحال، وقد زال فعلًا عندما بدا للجميع أن الديمقراطية باعتبارها مبدأً إنسانيًّا مهدَّدة في صميمها بالزوال، وأن شبح الطغيان القائم بدا في الأفق ينذر الناس بأن أفواههم ستكتم وأن حق تفكيرهم سيلغى اليوم، وأنهم محكوم عليهم أن يعيشوا طول الحياة آلات وأدوات تتحرك بمشيئة طاغية. هنا تتلاشى الخلافات والانتقادات. ولا يبقى لكل رجل حر أو صاحب قلم وفكر إلا أن ينهض ذائدًا عن الديمقراطية ناسيًا إلى حينٍ مآخذَها؛ فهي النظام الوحيد الذي يستطيع في ظله أن يعيش فرد ذو كرامة، وإذا ذهبت الحرية فأجدر بالحر أن يموت.

•••

هل أنا كاتب ديمقراطي؟ الحقيقة أني لست ديمقراطيًّا بالمعنى السياسي لهذه الكلمة. إني لا أستطيع أن أنتمي إلى الديمقراطية باعتبارها نظاما سياسيًّا أو حزبيًّا؛ لأن الحرية الفكرية والروحية التي هي كل مسوح المفكر الحر الحقيقي تمنع من الانخراط في سلك حزب أو نظام قد يضطر إلى الدفاع عنه بالحق وبالباطل. إني لا أستطيع أن أدافع قط عمَّا أعتقد أنه الباطل، ولا أستطيع أن أخدم شيئًا قط غير ما أعتقد أنه الحق، وهو لن يكون إلا في المبادئ العليا الخالدة البعيدة عن الأشخاص الزائلين، إن الذي أومن به وأدافع عنه دائمًا هو الديمقراطية باعتبارها مبدأً إنسانيًّا لا نظامًا سياسيًّا. الديمقراطية الموجودة في قلب كل إنسان يقدر معنى «حقوق الإنسان» ومعنى «الحرية» و«الكرامة الآدمية».

•••

الكاتب الحر الحق هو الذي يبقى بعيدًا عن الحركات الحزبية والسياسية كي يستطيع أن يدافع بمطلق الحرية عن المثل العليا الإنسانية، ولا يؤازر المذاهب والأشخاص إلا على قدر احتفاظها بروح هذه المثل.

•••

لذلك لم أستطع أن أغمض عيني عن بعض النظم السياسية المنتمية إلى الديمقراطية يوم تطرَّق إليها الفساد وعبث بها الساسة المحترفون.

•••

في قصتِي «براكسا أو مشكلة الحكم» سخرية ببعض مظاهر الحكم الديمقراطي، وسخرية ببعض مظاهر الحكم الدكتاتوري، وليس فيها حل لمشكلة الحكم. لماذا؟ لأن هذا ليس من مهمة الكاتب الحر.

•••

إن الكاتب الذي ينشئ مذهبًا سياسيًّا يتمسك به ويكبل فكره بنصوصه، مثله مثل الكاتب الذي ينضم إلى مذهب سياسي قائم، كلاهما قد فقد النظر الحر إلى بقية المذاهب والأشياء، وقص أجنحته التي يحلق بها فوق الكائنات ليقع محصورًا في حظيرة فصيلة من الفصائل أو نوع من الأنواع.

•••

الكاتب الحر في نظري هو الحكم النزيه في حلبة اللاعبين، إنه هو الذي يُحصي الأخطاء بغير تمييز ولا تحامل، وهو الذي يفضح ستر الخارجين على أصول اللعب القويم، وهو الذي ينبه الغافلين إلى كل خطر يدنو من قواعد المثل العليا.

•••

الكاتب الحر هو الحارس الأمين لجواهر الفضائل الإنسانية.

•••

للكاتب الحر مهمة إيجابية أيضًا؛ فهو قد يستطيع أن ينشئ للإنسانية نُظُمًا وعوالم مثالية، وأن يرسل في الأجيال أفكارًا ومبادئ تصلح أساسا لمذاهب عملية في السياسة والاجتماع، ولكنه لن يكون مسئولًا عن كيفية استخدام أفكاره ولا عن الأشخاص الذين وضعوها موضع التنفيذ.

•••

التفكير الحر هو التحرر من كل القيود، إذ بمجرد التقيد تتعطل في الحال آلة التفكير الحر.

•••

التفكير الحر قد يستطيع أن يتحرر من كل مبدأ إلا من مبدأ حرية التفكير.

•••

لذلك كان النضال بين أحرار المفكرين وبين الزعماء المروضين هو نضال حياة أو موت.

(٣) في طريق التحرر من سلطان الظلام

أول خطوة في طريق التحرر من سلطان الظلام هي القضاء النهائي على رغبة القوي في الوثوب على الضعيف.

•••

قانون الغابة لم يزل يُسيطر على المجتمع الدولي، يجب أن تحل محله القوانين الخلقية والوضعية التي تنظم كل مجتمع متحضر لأمة متحضرة.

•••

ترتفع اليوم أصوات جميلة كأنها أهازيج الطير قُبيل الفجر الجميل. لقد سرني قول «روزفلت» في إحدى خطبه: لم يكن في العالم ولن يكون فيه عنصر يصلح أن يسود غيره من العناصر الأخرى، وليس في العالم مكان لأمة تزعم لنفسها حق السيطرة على بقية الأمم والأجناس لا لشيء إلا لضخامة حجمها وقوة جيوشها. إن لكل شعب مهما يكن صغيرًا حقًّا موروثًا في التمتع باستقلاله كما يشتهي ويريد.

•••

سرتني أيضًا آراء «ويلز» في حقوق الإنسان كما عددها وتمناها، ونظراته في مستقبل الإنسانية، وتصوراته فيما ينبغي أن يكون عليه عالم الغد.

•••

على أن الذي سرني أكثر من كل هذا هو أن قادة الفكر والروح قد أدركوا أن عدوهم الحقيقي ليس فقط هؤلاء المهرجين من الزعماء المروضين. أمر هؤلاء هيِّن ميسور، والقضاء عليهم مرهون بوقت يسير. إنما العدو الأكبر هو «دين العصر» الرابض وراء الجميع: «الاقتصاد الحديث».

•••

لا أمل في إصلاح العالم إلا إذا عولج شقاء الملايين في كل أمة من الأمم، من أجل ذلك لم يستطع حتى الزعماء المروضين أنفسهم أن يعتمدوا على كلمة «الوطنية» وحدها في التأثير على الجموع، فقرنوها بكلمة «الاشتراكية».

•••

إن الصائغ الذي يريد أن «يلحم» ذهبًا بنحاس ليس أقل تزييفًا من أولئك الذين أرادوا أن يلحموا «الاشتراكية» «بالوطنية».

•••

إن جوهر «الاشتراكية» السليم لا يمكن أن يقترن إلا بفكرة «الدولية».

•••

إن العالم يتجه الآن من غير شك إلى الاشتراكية. بل إنه قد خطا إليها بالفعل خطوة واسعة منذ قام في بريطانيا ذلك الانقلاب الحديث في نظام العمل، هذا الانقلاب الذي بمقتضاه يصبح العمال «خدام الدولة» فلا يستطيع صاحب العمل فصلهم بمحض إرادته ولا يستطيعون هم أن يتركوا أعمالهم بدون إذن السلطات، كما أنه يُستطاع نقلهم من مصنع إلى آخر، وتحدد الحكومة الأجور وساعات العمل، وتشرف على أرباح رأس المال … إلخ، بل لقد قيدت الحكومة أرباح رأس المال إلى حد المصادرة إذا تعدى الربح رقمًا مقدرًا.

•••

إني لست أرى رأي القائلين إن تلك أنظمة استثنائية تزول بزوال الحرب، بل إني أرى رأي القائلين إن كل ذلك نواة لعالم جديد يتكون منذ الآن ليولد صحيح البنيان بعد الحرب.

•••

يقول «مستر أتلي» زعيم العمال وأحد وزراء بريطانيا اليوم: «انطوى العالم الذي كان قبل الحرب، وسوف تكون الانقلابات التي تجلبها هذه الحرب مثل الانقلابات التي جلبتها الحرب الماضية في عظم شأنها وسعة نطاقها. أما الخطط التي يراد بها إنشاء عالم جديد أقرب إلى الإنصاف من العالم الذي انقضى فلا يصح تركها إلى زمان السلم بل يجب الشروع في رسمها منذ الآن. إني لأرجو بعد الحرب أن يكون تقديم الطعام الملائم لجميع أفراد الأمة جزءًا ثابتًا من برنامج السياسة «القومية»، وإني لأرجو ألَّا يُسمح بعد اليوم ببقاء صنف «الأغنياء المتعطلين» ولا أن يُنكر حق العمل على الذين يريدون العمل ويَقدرون عليه، وأن يُقضَى على البطالة القضاء الأخير.»

•••

لا ريب إذن أن الاشتراكية هي جوهر لابد أن يدخل في تركيب كل نظام سياسي حديث، وكما استطاعت الدكتاتورية اختراع «الوطنية الاشتراكية» فما أيسر على الديمقراطيات إنشاء «الديمقراطية الاشتراكية».

•••

ما أسميه هنا «الديمقراطية الاشتراكية» إن هو إلا هذه النظم الاشتراكية التي قامت اليوم داخل إطار الديمقراطية، كما ظهرت من قبل بعض مظاهر تلك النظم داخل إطار الوطنية الدكتاتورية.

•••

نحن اليوم إذن أمام حرب «الوطنية الاشتراكية» و«الديمقراطية الاشتراكية».

•••

«الديمقراطية الاشتراكية» هي من غير شك صياغة مقبولة لجوهرَين متلائمَين، لكن «الديمقراطية شيء والدولية شيء آخر».

•••

إذا كانت كل ثمرات العالم الجديد بعد إبادة الدكتاتوريات هي تعميم «الديمقراطيات الاشتراكية» لكان هذا جميلًا … لكنه ليس كل ما يصبو إليه التقدم الإنساني، ذلك أن الديمقراطية الاشتراكية هي أيضًا ليست أكثر من «نظام داخلي» لكل دولة من الدول، وأن كل دولة «ديمقراطية اشتراكية» تستطيع أن تنشئ لنفسها مطامع استعمارية وسياسة قومية تقوم على السيادة الخارجية وبهذا تستأنف الحروب الاقتصادية والدموية بين الدول «الديمقراطية الاشتراكية» بعضها ضد البعض.

•••

كانت فكرتي منذ أعوام أن «الاشتراكية» ينبغي أن تأتي من الخارج إلى الداخل، أي أن تسود بين الدول قبل أن تقرَّ بين الأفراد.

•••

الاشتراكية بين الدول في الإنتاج والتوزيع والقانون والنظام، إذا تم ذلك فقد تم كل شيء تبعًا لذلك.

•••

أهذا حلم بعيد التحقيق، لا يراه غير خيال «ويلز» و«برنارد شو»؟ كنت أظن ذلك قبل أن أقرأ خطبة رجل رسمي مسئول من أقطاب الحكومة البريطانية الحاضرة هو «هربرت موريسون»، فقد تحدث عن عالم الغد قائلًا: «إن الهدف الذي نرمي إليه هو نظام تعاوني دولي يدعمه بوليس وطيران دوليان تعيش الدول في رحابه، مضحية عن طيب خاطر ببعض حقوق استقلالها، لتتضافر جميعها في إخلاص على خلق حياة أرقى وأصلح. ينبغي أن نعيش في ذلك النظام الذي يمنح فيه كل إنسان لا فقط حرية القول والفعل بل حرية العمل لإبداع كل ما هو خصب منتج، ينبغي أن نسير نحو ذلك المجتمع الذي بَرِئ من ذلك الطاعون المزدوج: الغنى المتطرف والفقر المتطرف، نريد مجتمعًا يقبل فيه عن طيب خاطر مبدأ المحافظة على مستوًى معقول للصحة والراحة والطمأنينة والأمن والتهذيب لكل إنسان».

•••

وبعد … أترى الإنسانية قد فهمت أخيرًا وتعلمت؟ هل آن الأوان للإنسانية، التي عرفت كيف تنفق ملايين الملايين في التدمير والاستعباد، أن تعرف بعد الآن كيف تنفقها في التعمير والإسعاد؟ هل آن لأعيننا أن ترى الطائرات في أحدث أنواعها الضخمة كالقلاع، تنقل بدل أثقال المفرقعات والمهلكات، أحمال الخيرات والمنتجات ليعم خيرُها البشرَ والكائنات، دون أن تعترضها جمارك أو حدود؟ أترى أساطيل الهواء اليوم ذات المظلات البيضاء هي ملائكة السلام غدًا، تهبط كي تمحو الفواصل التي وضعتها يد البربرية على الأرض منذ القدم لتحول بين الإنسان وأخيه الإنسان؟

•••

إلى كل من يحمل قلبًا نابضًا بالأمل في سمو البشرية، فياضا بالحب للإنسان والإنسانية أوجه هذه الصيحات، وأهدى هذه الصفحات.

(ت. ا)
١  جريدة الأهرام ١٩٤٠م.
٢  جريدة الأهرام ٢٠ مايو ١٩٤٠م.
٣  جريدة المصري ۲۱ مايو ١٩٤٠م.
٤  جريدة المصري ۲۲ مايو ١٩٤٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤