تلميذ الموت

إلى أعداء الإنسانية

جلس «الموت» ذات صباح في قاعة عمله، إلى مكتب ضخم يقوم على عظام فيل، ووضع إصبعه على جمجمته مفكرًا، وعيناه الغائرتان تنظران إلى مجموعة أثرية من المناجل تزين الجدران، وفمه الواسع ذو الأسنان الصفراء يلوك سيجارًا كبيرًا منطفئًا، كأنه فرع جاف يتمايل في رأس شجرة نخرة في يوم من أيام الخريف، كل شيء فيه يدل على القلق واضطراب البال، ومد يده أخيرًا إلى ملف فوق مكتبه وانتزع منه ورقة، جعل يطالع ما فيها من إحصاءات وأرقام، على مهل وفي شيء من التأمُّل العميق، ثم طرحها فجأةً نافدَ الصبر وصاح:

– هذا إفلاس. إن هذا هو الإفلاس!

ثم ضغط على زر الجرس الكهربائي وطلب أحد مندوبيه واسمه «المرض»، فلم يلبث أن ظهر بباب الحجرة بوجهه القبيح ذي التجاعيد والبثور وعينه العوراء. وتقدم في خوف وخجل بقدمه العرجاء، فبادره «الموت» قائلًا: ما هذه الأرقام والإحصاءات التي بين يدَي؟ إن أعمالنا تتناقص على نحو مخيف، وإن دائرة أشغالنا تضيق عامًا بعد عام. إن إيرادنا السنوي من الأرواح التي اعتدنا قبضها قد هبط إلى مستوًى يدعو إلى القلق الشديد!

فتنحنح «المرض» وقال: أيها الرئيس. ينبغي أن أعترف لك بالحقيقة؛ يستحيل عليَّ الآن أن أقوم بعملي كما كنت أقوم به في الماضي. إني كنت على وشك تقديم استقالتي إليك اليوم.

– استقالتك؟!

– من غير شك، إذا جال في خاطرك أني مقصر أو مسئول عمَّا وصل إليه «الإيراد» من نقص. إني ما تركت بيتًا إلا دخلته ولكني كنت أجد دائمًا في انتظاري …

– ماذا؟

– أشياء مخيفة يقشعر من هولها بدني: «حقنة ذات إبرة طويلة» مسددة إلى قلبي، و«مصل في أنبوبة زجاجية» مجهز ليفرغ في صدري، و«جهاز أشعة» يعمي بصري … كلا، إني لا أستطيع العمل مطلقًا أمام هذه الأخطار.

– لكل عمل أخطاره. على كل حال هذا ليس سببًا.

– هذا على الأقل سبب معقول لضعف إنتاجنا.

فكظم «الموت» غيظه وقال كالمخاطب لنفسه من بين أسنانه: تبًّا لهذا العلم الحديث. لكني أعرف كيف أحطم أسلحته، لا بل أعرف كيف أجعل منها أسلحة لي. اذهب أيها المندوب إلى عملك ودعني أتدبر الأمر.

– سأعمل بقدر استطاعتي لا أكثر ولا أقل.

قالها «المرض» وخرج من الحجرة. وعاد «الموت» إلى إطراقه.

ثم رفع رأسه ومد يده مرة أخرى إلى زر الجرس الكهربائي وضغط عليه. وطلب مندوبه الآخر المسمَّى «الحرب» … فجاء يدوي بصليل دروعه الحديدية وضرب الأرض بحذائه الضخم ورفع يده بالتحية العسكرية. فبادره «الموت» قائلًا: اسمع: إني في حاجة إليك. أنت كما تعلم، المعول عليه دائمًا في أزماتي، وينبغي أن أصارحك في الحال بأني واقع في أزمة شديدة؛ انظر إلى هذا التقرير وما فيه من إحصاءات وأرقام تدل على عجز وإفلاس … أنت وحدك، كما تذكر، المنوط دائمًا بموازنة ميزانيتنا وتعويض الخسائر الناتجة عن سوء الأعمال؛ ففي شهر واحد تستطيع أن ترفع الأرقام إلى ما يعادل إيراد خمسة أعوام.

فخلع «الحرب» خوذته النحاسية ومسح عرقه المتصبب وقال: أيها الرئيس. إني كنت على وشك تقديم استقالتي.

فدفع «الموت» مقعده إلى الوراء صائحًا: أنت أيضًا؟ ماذا جرى اليوم في الدنيا أيها الشياطين؟!

فأشار «المندوب» إلى النافذة وقال لرئيسه: اذهب وانظر واسمع: نشيد يتصاعد كالدخان من بطن الأرض، من كل قلب، مرتفعًا إلى السماء كأنه غاز خانق يصل إلى أنوفنا.

– أي نشيد؟

– نشيد «السلام» في كل مكان يتغنون به، وفي كل بلد يعقدون له الجلسات والمجتمعات والمؤتمرات. نعم؛ كل مكان أدنو منه أجد من يلقي في وجهي هذا الغاز الخانق. لا؛ إن عملي الآن لا يسرني ولا يلذ لي.

فأطرق «الموت»، وقد حار في أمره، لا يدري ما يفعل … وأحس الضيق، فنهض وسار إلى النافذة الواسعة في صدر حجرته. وأشرف منها على الأرض الجميلة، ورأى الأشجار وقد أورقت، والأزهار وقد تفتحت وابتسمت في ألوان زاهية، والثمار وقد أينعت ودنت منها القطوف وتدلت العناقيد، والطير يشدو بين فراخه والحيوان مطمئن إلى صغاره، والإنسان ناعم مع أولاده، ونسيم الربيع ينشر أريجه على الربوع، وأغاني الفرح تتصاعد من الحقول والمروج والمدن، والقرويون يرقصون وهم يحصدون … كل شيء ينم عن استقرار السلام والهناء والجمال. ويدل على أن الحياة تتجدد وأن الخصب يدب في كل شيء.

فلفظ «الموت» آهةً مروعة وابتعد عن النافذة وقد أحس حقًّا أنه يكاد يختنق. وسار خطوتين في حجرته ثم ارتمى في مقعده متهالكًا، وهو يردد من بين أسنانه: هذا هو الإفلاس. هذا هو الخراب، انهار مجدي وذهب سلطاني! لكن يأسه لم يدم طويلًا؛ فقد هب على قدميه فجأة وصاح: لا … يجب أن أكافح. كفاحي وحده خليق بأن يعيد إليَّ قوتي ونفوذي.

ثم التفت إلى مندوبه «الحرب» وقال له: تذكر جيدًا. هذه ليست أول مرة نقع في أزمة. لقد سبق لنا أن وقعنا في أزمات أشد من هذه هولًا. تذكر تاريخك وماضيك جيدًا أيها الحرب!

– إني متذكر تاريخي جيدًا. لم يكن في تاريخي غاز خانق يملأ الكون مثل هذا النشيد الملعون.

– كان في تاريخك دائمًا فترات سكون. ولم يمنع هذا من اشتعالك وعودتك إلى أعمالك.

– لا تطلب إلى أن أشعل نفسي بنفسي. إني لم أصنع ذلك قط منذ وُلِدت، إنما أنا «علبة كبريت» ينبغي أن …

– ينبغي أن توضع في يد مجنون!

قالها «الموت» وانفجر ضاحكا في قهقهة طويلة متصلة اهتزت لها أركان المكان. وظن «المندوب» أن رئيسه يمزح وأن النكتة قد أعجبته فلم يشاركه في الضحك. لكن الرئيس التفت إليه قائلًا: ألا تضحك وتُسَر؟ لقد وجدنا المفتاح.

– أي مفتاح؟

– أقسم إنك لا تعرف تاريخك كل المعرفة. ارجع بذاكرتك إلى الماضي تجد أن من أشعلك دائمًا كان … «رجل مجنون»!

وعاد إلى الضحك. ثم دنا من النافذة مرة أخرى ونظر إلى الأرض الجميلة في حلتها التي أسبغها عليها الربيع، وتأمل السلام المخيم على الربوع. وأنصت إلى أغاني الناس ورقصهم وهنائهم وصاح: ها ها ها … سوف أصب على كل هذا دمًا أحمر!

وترك النافذة على عجل، واتجه إلى مشجب في ركن الحجرة. قد علق عليه عباءته السوداء الواسعة. فجذبها وتدثر بها، وأشار بتحية سريعة من يده إلى مندوبه، وقال له وهو يتركه ويهبط إلى الأرض: كفاحي ونجاحي متوقفان على العثور على «مجنون»!

•••

سار «الموت» في الأرض على غير هدًى، وجعل يكظم غيظه كلما مر بناس سعداء وأشجار مورقة وطيور مغردة. إنه يكره الحياة. وهرب سريعًا من الريف ودخل المدن فهالته المباني الرائعة الفخمة ودور اللهو التي تعج بالضاحكين المرحين ثم التماثيل الجميلة القائمة في كل مكان. إنه يكره الجمال. كل شيء حوله يدل على الحضارة المستقرة والبشرية المتقدمة المستمرة. أين هو الرجل الذي يجرؤ على أن يصب فوق هذا كله الدم الأحمر؟

تجهم وجه الموت وكاد يعود إلى اليأس ويترك كفاحه، وإذا نظره يقع على جمع من الناس يصيحون في الطريق، أمام بناء ضخم جميل مزين بالتماثيل، هو فيما يبدو متحف عظيم، فاتجه نحوهم فأبصر رجلًا نقاشًا في رأس سلم خشبي مسند إلى هذا البناء. في يده ريشة يغمسها في وعاء به طلاء أحمر، يلطخ به وجه البناء في غير ذوق ولا رشاقة، حتى سال من رءوس التماثيل وأفواهها وأنوفها ذلك اللون القاني.

وهاج به المارة: كُف أيها النقاش! … إنك تفسد رونق المتحف.

وسمع موظفو الدار الصباح فخرجوا يهرعون. ورأوا ما حدث.

فصاحوا: قف أيها العامل! انزل أيها العامل!

فالتفت إليهم النقاش من أعلى السلم:

– ألا يروقكم هذا اللون؟ إن متحفكم في حاجة إلى لون حار صارخ.

فصاح موظفو المتحف بالناس المجتمعين:

– أنزلوا هذا المغرور المجنون!

هنا لفظ «الموت» صيحة فرح دوت داخل هيكله العظمى وقال مخاطبًا نفسه:

– عثرت عليه! عثرت عليه!

ثم تقدم إلى السلم ونادي الرجل: أيها النقاش! انزل فعندي لك عمل أعظم من هذا!

•••

مشى «الموت» إلى حانة من حانات «البيرة» ومعه النقاش يحمل ريشته ووعاء صبغته الحمراء، وهو يقول «للموت»: هذا العمل في أي بناء؟

فابتسم «الموت» عن أسنانه الصفراء: في بناء هائل ينبغي أن تُريق عليه كل هذا اللون الأرجواني.

فقال النقاش: أرأيت هؤلاء الذين لا يعجبهم عملي.

– إنهم حمقى. هذه المتاحف بألوانها الهادئة المطمئنة لَمِمَّا يؤذي النظر. ألا ترى مثلي ذلك؟ كل هذا الذي يسمونه «الجمال» وكل هذا الذي يسمونه «المدنية» يجب أن يُصَب عليه لون الثورة.

فقال النقاش في نبرة تنم عن غباء: أي جمال وأي مدنية؟

فاستطرد «الموت» دون أن يصغي إليه: ذلك اللون الذي تثور لمرآه أعصاب الوحوش في الغابة!

– الغابة؟!

– نعم؛ ما أجمل هذا اللون الذي يعبد في الغابة!

لفظها «الموت» وكأنه يرتل شعرًا (لو أن الشعر يرضى أن يدنو من فم الموت) ثم التفت فجأةً إلى النقاش قائلًا: وأنت الرجل الذي يستطيع أن يلطخ كل شيء بذلك اللون!

– اللون الأحمر، نعم أستطيع أن أصبغ به.

– أعرف هذا.

قالها «الموت» وهو يشير بإصبعه إلى «جارسون» الحانة يطلب إليه كأسين من بيرة «مونيخ».

وجاء الشراب فرفع «الموت» كأسه قائلًا: في نخب نجاحنا!

•••

عاد الموت إلى مكتبه وهو يفرك يديه سرورًا. فتلقاه مندوبه «الحرب» قائلًا:

– ماذا صنعت أيها الرئيس؟

فأجاب «الموت» باسمًا:

– عثرت لك على الرجل الذي ينبغي أن تلقي بين يديه علبة الكبريت!

لا تنسَ أنه يجب أن يكون «مجنونًا».

لم أنسَ.

– أين هو؟

– بيني وبينه موعد بعد قليل.

ودخل الليل. ودقت الساعة الثانية عشرة. فأومأ الرئيس بيده إلى «مندوبه» آمرًا إياه أن يختفي في الحجرة المجاورة، وأقبل «النقاش»، فاستقبله «الرئيس» بالترحاب وقدم له كرسيًّا قُرب المكتب. ونظر النقاش حوله يفحص المكان. ثم التفت إلى «الموت» قائلًا: إني في خدمتك؟

– بل أنا الذي في خدمتك.

–عفوا … إني …

– لا تتواضع، إنك لا تعرف قدر نفسك. إنك خُلقت لتغير وجه العالم. إن القدر قد اختارك لتصبغ الوجود كله باللون الذي يروقك. إنك مهيأ لتسيطر على قطعان البشر. إن آلهة الغاب الوثنيين قد ندبوك لتعيد حكمهم وحكم شريعة الغابة على هذه الأرض!

– أنا؟!

– نعم أنت.

– وكيف أستطيع ذلك؟

الخطة بسيطة، فلنسطرها على الورق أولًا حتى تتحدد معالمها ويسهل السير بمقتضاها. خذ هذا القلم واكتب.

وقدم «الموت» قلمًا وورقًا إلى النقاش وقال له: سأملي عليك كتابًا هو دستور العمل. اكتب: «كفاحي»!

فرفع النقاش رأسه نحو «الموت» مستفهمًا: كفاحك؟

– بل كفاحك أنت.

– كفاحي أنا؟

«كفاحنا» نحن الاثنين إذا شئت.

قالها «الموت» في ابتسامة وهو ينظر إلى باب الحجرة المجاورة وقد أطل منه مندوبه «الحرب» برأسه وغمز لمولاه غمزةً ذات معنًى، وجعل «الموت» يملي النقاش الكتاب، والنقاش يكتب وهو صامت وكأنه في غيبوبة، وقد تصبب من وجهه العرق، وجعل يقول كالحالم: أنا سأقوم بكل هذا؟ أنا سأصنع كل هذا؟

أنت إنسان عظيم.

– أنا إنسان عظيم؟

– وصاحب رسالة هيأك لها القدر والآلهة الأقدمون. لا ينبغي أن تشك في ذلك لحظة.

قال له «الموت» ذلك في نبرات قوية، تستر ابتسامة خفية، وعلم، المندوب الآخر «المرض» بقرب انفراج الأزمة فجاء هو أيضًا يطل برأسه من خلف الباب، وكتفه تزاحم كتف «الحرب» ومال على أذن زميله هامسًا: أهذا هو المجنون الذي كان يبحث عنه الرئيس؟

– نعم لقد عثرنا عليه أخيرًا.

– ينبغي أن يُكافَأ هذا الرجل. يجب أن يمنح هدية ثمينة. ترى ماذا سيعطيه «الرئيس»؟

فقال «الحرب» باسمًا: ما أعطى أمثاله من قبل.

– ماذا؟

– علبة كبريت.

– إنه حتمًا يُحدِث بها حريقًا.

– هذا هو المطلوب.

لكنه هو أيضًا سيحترق.

– ولهذا هو مجنون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤