أحمد شوقي

ودلالة شعره على نفسيته١ «محمود جاسر»

ليس بنا من حاجة لأن نستوحي آلهة الشعر، وأن نقدم لها القرابين والتضحيات لتتدلى من سماء الأولمب الأعلى، وتهبط إلى حضيض هذا العالم تاركة جو ذلك الخيال الشعري إلى مادية هذه الدنيا المعكوسة الصور المنحوسة في المبتدأ والخبر، والتي لا يمكن أن يميز فيها بين المؤثر والأثر إلا بكد الأفهام والعقول، لتهمس في آذاننا همسة جافة إذا ما أردنا أن نستدرَّ علمها بشاعرية شوقي قائلة فيه من رقة ابن هانئ، ومن حكمة زهير، ومن خلاعة أبي نواس أقدار متخالطة وحلقات متشابكة، فبأية من هذه الصفات رميت أصبت ناحية من نواحي شوقي، فإذا رميت بها جملة أصبته في مجموع كيانه.

ولأية حاجة نستوحي آلهة الشعر، أو أن نجهد النفس في الاستعلاء في سماء ذلك الأولمب، أو أن نبتهل ضارعين إلى الآلهة ليهبطوا إلى عالمنا الأرضي لنستجدي منهم العلم، وشاعرنا شوقي من أعرق أهل هذه الدنيا بها صلة، وأقربهم لها نسبًا وأشدهم بها لحمة، شاعر هو أكبر شعراء العالم العربي في هذا العصر، تفرد بإمارة الشعر فهو أميرها غير الموروث حتى الآن في إمارته، وسيد دولة البيان الحاكم فيها بأمره، المنزه عن الشبائه أن يكون له فيها شبيه، غير أنه على الرغم من كل هذا شاعر أرضي الشاعرية دنيوي الخيال، لم ينزع إلى المثاليات إلا لحاجة يقضيها في السياسة أو مأرب يناله في الدولة، فمدح من غير حاجة به إلى المديح، واستجدى به من غير حاجة إلى الاستجداء، وأية شاعرية لم تفسدها السياسة؟ وأي خيال طمت عليه مآرب الدولات المتراوحة حظوظها بين هبات القدر ولم ينزل إلى حضيض الشهوات؟ ومن ذا من الشعراء من عالج في شعره السياسة وسلم من سقطات الوهم؟ ومن ذا منهم من أخذت بأطوافه مآرب الحكم وأفلت من كبوات الهمِّ والضجر؟

على مقربة من شوقي وبين جنبات الشرق شاعر آخر، نبت في تلك البلاد الفسيحة التي كانت عندما غزاها الآريون لأول مرة في تاريخ الدنيا رحابًا متسعة مترامية الأطراف تكسوها غابات، لم يلبث الغزاة أن انتفعوا بها وجنوا ثمراتها، فاتخذوا منها ملجأ يتقون به حرارة الشمس المحرقة وهجمات الرياح الاستوائية القاتلة، كما وجدوا فيها مرتعًا خصيبًا لماشيتهم، ونارًا يوقدونها للتوسل وتقديم التضحيات، ومواد يبتنون بها القرى والأكواخ؛ لهذا كانت المدنية التي غرس بذورها الفاتحون وليدة تلك الغابات القديمة وبين جنباتها الرحيبة أينعت وآتت أكلها. وفي صميم هذه البيئة وذلك الوسط الطبيعي تلونت المدنية بلون خاص وطبعت بطابع وحده، ولقد حوطت تلك المدنية بحياة الطبيعة الرحبة وتغذت بلبانها واتشحت بردائها، فكان لها بمختلف مظاهرها وتباين نواحيها أكبر علاقة وأمتن آصرة، وفي هذه البيئة نشأ الشاعر السماوي، شاعر الوجدان والخلود، شاعر الفناء في اللانهاية، شاعر النسك والزهادة، هنالك نشأ طاغور.

ولو أنك حاولت أن تقارن بين الشاعرين أو أن تقف موقف الوساطة بينهما لأعوزتك الحيلة للتوفيق، ولأعيتك الحيل أن تجد بينهما وجهًا من المشابهة في أية ناحية من نواحي شاعريتهما. وكيف يكون موقف من يريد التوفيق بين شاعرية تفيض بوحي الآلهة، وأخرى تفيض بوحي الملوك والأمراء؟ وكيف يستطاع التوسط بين خيال يَستمد موحياته من اللانهاية، وآخر يستمدها من نهايات كلها زائلة، بل كلها أحلام؟ إنما الفرق بين الحالتين كالفرق بين شعاع من نور وقبس من نار.

وبعد فهل أنت تعرف طاغور؟ أما إذا كنت لا تعرفه فاقرأ له وصف نفسه إذ يتمثلها في ثوب ناسك جالس على باب كهف منعزل عن الحياة المدنية، فيقول:
إن تقسيم الليالي والأيام وكذلك الشهور والأعوام لم يصبح من شأني. لقد تعطل عندي مجرى الزمان الذي ترقص فوق أمواجه الدنيا وكأنه الهشيم أو الأغصان اليابسة. في هذا الكهف٢ المظلم أعيش وحدي غارقًا في طيات نفسي، والليل الأبدي هادئ لا يتحرك كبحيرة في جبل تفرق من ذات أعماقها القصية. الماء٣ تنضح به الصدوع٤ ومنها يتساقط. وفي بركة الماء الراكد٥ تسبح الضفادع القديمة،٦ إني أجلس أرتل تعويذة اللاشيء. إن أطراف الدنيا تنكش أمامي خطًّا وراء خط، والنجوم المنحوتة من قطع الزمان المضيئة كأقباس النار تنقرض وتفنى.

أما الافتتان فلي، ذلك الذي يزودني به الإله شيفا، إذ يستيقظ بعد فترات يقضيها في الأحلام ليجد نفسه وحيدًا منفردًا في فناء اللانهاية.

أنا حر: أنا الواحد العظيم المنفرد بذاتي.

عندما كنت لكِ عبدًا أيتها الطبيعة أثرتِ بعض أجزاء قلبي ضد بعض وبعثتها في حرب دموية انتحارًا في سبيل الدنيا، وسلطتِ علي الشهوات التي ليس لها من غاية إلا أن يأكل بعضها بعضًا، وإنها تلتقم كل ما يسعه فمها، فأَمَضَّتْني ألمًا وفرقًا. لقد عدوت تائهًا مجنونًا أتبع ظلي! لقد قذفتني بما بعثت علي من وميض لذائذك الخلب إلى خلاء الشهوات. أما ميولي القاسرة — وهي حبائلكِ وأشراككِ — فقد أسلمت بي إلى قحط بغير نهاية، حيث استحال الغذاء ترابًا والماء بخارًا.

حتى إذا ما صبغت دموع دنياي وأصبحت عندي رمادًا؛ أقسمت قسمي لأنتقمن منكِ ولأصبن عليكِ غضبي. أنت يا جماع الظواهر الكاذبة المسئمة، يا مبعث الخداع الدائم. لقد احتميت بالظلام سكن اللانهاية، وحاربت أشعة الضوء٧ الخداعة يومًا بعد يوم حتى أفقدتها سلاحها، وتركتها هامدة خائرة القوى تحت قدمي.

والآن بعد أن تحررت من المخاوف والشهوات، وبعد أن انكشف عن بصري الضباب، وبعد أن أشعت قوى عقلي بريئة وضاءة، فلأخرجن إلى عالم الكذب والبهتان مرة ثانية، ولأجلسن على ذات قلبه، غير ملموس ولا بمزحزح عن مكاني.

هذا هو طاغور، أما شوقي فلا أظن أنه يغيب عن ذهنك قوله:

صوني جمالك عنا إننا بشر
من التراب وهذا الحسن روحاني

وهل يغيب عنك وصفه لحادثة في ليلة ساهرة كانت بطلتها غادة ذات مقام رفيع إذ يقول:

قالت لأترابها
مومئة بالعنم
من ذلكن الفـ
ـتى العربي العلم
يبيت ليلته
ساكرًا لم ينم
قلن تجاهلته؟
ذلك رب القلم
شاعر مصر الذي
إنْ خفي النجم لم

فهل يمكننا بعد هذا أن نتورط في وساطة بين شاعرين عقد لأحدهما لواء الزعامة في عالم التوحيد، وللآخر لواء الزعامة في عالم الوثنية؟ نربأ بأنفسنا أن نضعها في هذا الموضع، وأن نسومها طلب المحال فتطمع في غير مطمع.

أما المفاضلة فلا نتلكأ فيها، نعقد لشوقي لواء الإمارة في العالم العربي، ونرفع لطاغور لواء الزعامة على كل البقاع التي تكسوها الشمس من كرتنا الأرضية، وكفى الشرق فخرًا أن تكون له في بداية القرن العشرين دولة للشعر، يقودها في العالم العربي شوقي، وفي العالم كله طاغور.

قد يعز على الكثيرين من النقاد ألا نجعل شوقي أنبغ من هوميروس في الوصف، وأمتع من دانتي في الرواية، وأعرف من شكسبير بحقائق الحياة الإنسانية، وأمتن من ملن في اللغة، وأعرق من جوتة صلة بالفلسفة، بل قد يعز عليهم ألا نضع شوقي في صف وحده أو ألا نغرسه على قمة هرم نجعل لبناته شعراء الدنيا كلها، ولقد أصبح هذا الزعم عند البعض إيمانًا ومعتقدًا ثابتًا، ولست أدري لماذا؟! ألأن شوقي نسج على منوال القدماء فحاذاهم ولم ينزع إلى غير ما نزعوا إليه من الطرائق؟ أم لأنه أحيا موات الأساليب القديمة، ثم مزجها بقليل من مميزات العصور الحديثة فخرجت أشعاره مزيجًا من القديم والحديث، وخليطًا من سليقة البداوة وطراوة الحضارة، قد تجد لها أمثالًا كثيرة في شعراء الدولة العباسية، وعلى الأخص من خالط منهم الأمراء والمترفين؟ اللهم إنا لا نستطيع أن نجاري المغالين من مغالاتهم، ولا أن نفرط مع المفرطين في المدح فنخرج من شوقي صورة غير موجودة، ونتكلم في شخصية لا حقيقة لها في الخارج.

يقولون: إنَّ شوقي قد أفرغ الشعر في قالب جديد، ويقولون: إنه مجدد في الأساليب تجديده في القوالب الشعرية، ولو إنَّ القائلين بالحقيقة الأولى لم يشوهوها بالزعم الثاني لكان في قولهم كثير من الحق والصواب، على أنه حق ينطبق على كل شاعر من شعراء العصور القديمة والحديثة، فلكل شاعر نزعة تفرغ الشعر في قالب ما، وهذه النزعة راجعة إلى الاستعداد الفطري الذي يُكَوِّنُ من الشاعر شاعرًا، ومن الكاتب كاتبًا، ومن العالم عالمًا، وإذا كان من المتعذر أن تتماثل النزعات والميول الفطرية، استتبع هذا أن يكون لكل شاعر من الشعراء قدرة خاصة على إفراغ الشعر في قالب قد يقال: إنه جديد، وشوقي لم يَعْدُ هذه القاعدة.

أما التجديد في الأساليب فزعم لم يستطع أحد من النقاد إثباته لشوقي حتى الآن، وليس أدل على هذا من أنَّ أفخم قصائده وهي الأندلسية، ونهج البردة، وقصيدة كارنارفون قد نسج فيها على قصائد قديمة؛ نالت في الأدب القديم مكانة جعلت لقصائد شوقي وقعًا في النفوس جديدًا، وحلاوة تمازجت فيها الذكريات، فمن حنين إلى عظمة القديم، مصبوبة في قالب لا تخرجه إلا شاعرية شوقي وحده، إلى شغف في الإيقاع على أوتار الحديث على صورةٍ ما يصل إليها إلا من هام بِرِقَّةِ ابن هانئ واستوقفته روعة زهير.

لقد أجدبت اللغة العربية جدبًا نسبيًّا في ذلك العصر الذي تقدم عصر النهضة الحديثة التي ندعوها غالبًا بنهضة محمد على، فإن عصر المماليك لم يكن ذلك العصر الأدبي الذي يصح أن يقال فيه: إنَّ اللغة أو الصناعات الأدبية قد كسبت فيه جديدًا مبتكرًا، على الرغم من كثرة المؤلفات التي ظهرت خلال ذلك العهد المظلم، فإنها مؤلفات غالب ما عُنِيَتْ بالفقه وكثر ما أكبَّت على تدوين التراجم، فإن كتاب صبح الأعشى، وكتاب مسالك الأبصار، وقاموس لسان العرب، وهي من مفاخر ذلك العصر، لا يمكن أن تعد كتب تجديد بالمعنى الصحيح، على الرغم من قيمتها الأدبية كمراجع أو معاجم عظمى، وفي حدسي أنَّ قيمة هذه الكتب وأمثالها مما خرج في عصر المماليك لا تزيد قيمته الآن عن موسوعات إرش وجروبر العظمى، أو معلمة لينيوس في التاريخ الطبيعي، وقيمتها في اللغة العربية كقيمة الموسوعة في الألمانية، أو المعلمة في اللاتينية، إذن فعصر المماليك كان عصر إنتاج، ولكنه لم يكن عصر تجديد أبدًا.

على أني أخشى أن يكون حكمي على الحركة الأدبية في عصر النهضة العلوية شبيهًا بحكمي عليها في عصر المماليك من حيث الشعر، فإنه كان ولا شبهة عصر إنتاج؛ ولكنه ليس بعصر تجديد، إذا أردنا أن ننظر في النهضة من ناحية الشعر وحده، وأغضينا الطرف عن حركة التجديد التي قامت حول الترجمة في ذلك العصر، وهي حركة نعتقد أنها من أثمن ما أخرج محمد علي من الآثار العظمى، كان لنا حكم قد يراه البعض قاسيًا، والبعض معتدلًا، ففي طوال القرن الماضي لم يظهر في مصر سوى شعراء أربعة البارودي وصبري وشوقي وحافظ، قد يمكن أن نعتبر بحق أنهم الذين يمثلون دولة الشعر فيه، وهم في مجموعهم صور مختلفة ونماذج متباينة من شعراء العصور القديمة، وأكثر ما فيهم من الصفات آثار مستمدة في غالب الأمر من شعراء العصر العباسي، لهذا كان ظهور شوقي في هذا العصر حادثًا جديدًا لا باعتبار الآثار الابتكارية الخالدة التي بثها في تضاعيف الشعر العربي، بل باعتبار أنه أخصب إخصابًا كبيرًا بعد عصر طويل كادت تجدب فيه ملكة الشعر في العالم العربي، وفي مصر على الأخص. على أنَّ إخصاب شوقي له نواحيه المتعددة، غير أن أظهر تلك النواحي، وأبين ما فيها من الآثار قدرته الكاملة على الوصف، فهو وصاف ماهر، ومصور يَبُزُّ الكثيرين من أهل صناعته قديمًا وحديثًا، ففي الشعراء المعاصرين من يَبُزُّهُ في المديح، وليس بقليل منهم من شبب بما لم يبلغ إليه شوقي، ولكن ليس منهم من يستطيع أن يجاريه في مضمار الوصف والتصوير.

•••

كنا نود ألا يجري القلم سريعًا، وكنا نود أن نبحث شوقي في هوادة وتؤدة، وأن نبحث على الأخص ما يدعيه له الكثير من النقاد إذ يقولون: إنه مبتكر في المعاني والأساليب، والحقيقة أنه لم يبتكر شيئًا جديدًا، ولم يغن دولة الشعر العربي بطريقة جديدة تضع بين القدماء والمحدثين فاصلًا كما فعل هوغو في الشعر الفرنسوي أو بيرون وتنيسون في الشعر الإنجليزي، في حين أنه أقدر شعراء هذا العصر على مثل هذا الابتكار، فإن إلمامه باللغة الفرنسوية وبآداب الفرنسويين كبير حتى إننا نعجب كيف أنَّ قليلًا من المعاني التي نظن أنها من ابتكاراته، كقوله في توت عنخ آمون وهو يخاطب الشمس:

تعينين الموالد والمنايا
وتبنين الحياة وتهدمينا

إنما هي مستمدة من الشعر الإنجليزي، ومن خيال شيلي الشاعر المعروف. على أنَّ الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى نقص آخر قد نراه أنكى من النقص الأول، فإن أكثر قصائد شوقي المشهورة بين الناس عبارة عن أبيات لا يجمع بينها من شيء إلا أنَّ شوقي نظمها، فالقصيدة عند شوقي عبارة عن حلقات منفصلة غير متصلة، وليست كلًّا واحدًا متلائم النواحي مترابط الأجزاء، وفي استطاعة كل أديب أن يرتب أكثر قصائده ترتيبًا جديدًا بحيث يمكنك بعده أن تقرأ القصيدة عكسًا وطردًا من غير أن يلتبس عليك معنى واحد من المعاني التي رمى إليها الشاعر، ومن غير أن يستبهم عليك أنها من صناعة شوقي بل ومن روحه، فالفكرة عند شوقي غير متصلة، بل إن شئت فقل: إنَّ في كل بيت من أبياته فكرة وفي كل منها معنى، غير إنَّ أعجب العجب أنَّ هذه الفكرات وتلك المعاني في مجموعها لا تكون كُلًّا متلائم النواحي متصل الأجزاء، ولست أدري بأي شيء نسمي هذه الظاهرة: أهي نبوغ وعبقرية، أم لازمة من لوازمه، إن لم تكن ضرورية لرفعه فوق مستوى الشعراء، فلا أقل من أن نعتبرها من خاصياته الغريبة.

وأغرب ما في شوقي ضعف الكثير من مطالع قصائده، وأنت إذا أردت أن تحلل مطالع الكثير من نظمه ما استطعت أن تمضي في حكمك عليه كنابغة الشعراء في هذا العصر من غير أن يستوقف نظرك مطالع آية أخرى في الروعة والجلال، على أنَّ الفارق بين ما يروعك جماله وبين ما يروعك قبحه كبير، لهذا نمضي في هذه المقارنة قليلًا لنظهر هذه الصفة إظهارًا جليًّا.

قارن مثلًا بين قوله:

قفي يا أخت يوشع خبرينا
أحاديث القرون الغابرينا

وقس ما في هذا المطلع من روعة على قوله:

أبا الهول طال عليك العُصُر
وبُلِّغْتَ في الأرض أقصى العُمُر
فيا لذة الدهر لا الدهر شب
ولا أنتِ جاوزتِ حدَّ الصِّغَر

فإن ضعف المطلع هنا لا يقاس بجانب ما في هذين البيتين من تناقض غريب لا سبب فيه إلا العجز عن مسايرة مقتضى الحال، فكيف أنَّ أبا الهول قد بلغ في الأرض أقصى العمر، وكيف أنه لم يتجاوز بعد حد الصغر؟

ثم أذكر قوله:

قم ناد أنقرة وقل يهنيك
ملك بنيت على سيوف بنيك

بجانب قوله:

الله أعلم والقبور
النفس تخلد أم تبور

وانظر كيف أنه نسب العلم إلى القبور؟ بل كيف جعل علم القبور مساويًا لعلم الله بخلود الأنفس أو بوارها؟

أو قارن قوله:

صداح يا ملك الكنار
ويا أمير البلبل
قد فزت منك بمعبد
ورزقت قرب الموصلِ

بقوله:

يا ناشر العلم بهذي البلاد
وفقت، نشر العلم مثل الجهاد

أو قوله:

ريم على القاع بين البان والعلم
أفتى بسفك دمي في الأشهر الحرم

بقوله:

سل يلدزا ذات القصور
هل جاءها علم البدور

أو قوله:

يا راكب الريح حيي النيل والهرما
وعظم السفح من سيناء والحرما

بقوله:

الدهر جاءك باسط الأعذار
فأقبل فأمر الدهر للأقدار

أو قوله:

الله أكبر كم في الفتح من عجب
يا خالد الترك جدد خالد العرب

بقوله:

يا بارك الله في عباس من ملك
وبارك الله في عمات عباس

أو قوله:

في الموت ما أعيا وفي أسبابه
كل امرئ رهن بطي كتابه

بقوله:

لكل زمان مضى آية
وآية هذا الزمان الصحف

على أنك لا تستطيع أن تمضي في هذه المقارنة بعيدًا من غير أن تجد أنَّ عدد مطالعه الضعيفة قد أربى كثيرًا على عدد ما يستهويك جماله وتستوقفك روعته.

على أنَّ لدينا هنة أخرى لا يجب أن نغض الطرف عنها أو أن نسدل عليها من التفريط سترًا، فالحق أنَّ قليلًا من قصائد شوقي ما يتسق فيها النفس اتساقًا كاملًا، وليس لهذه الظاهرة في شعر شوقي من سبب إلا تموج المعاني في مخيلته تموج الأثير في الفضاء، وعدم استقرار مشاعره على صورة واحدة زمنًا طويلًا، لهذا تجد أنَّ المعنى قد يتسق ويقوى في موضع، ثم لا تلبث أن تجد ذلك البناء، وقد انهار فأصبح حضيضًا، فلو أنَّ مشاعر نابغتنا كانت قد أعطيت من قوة الاستمرار ما يتساوى مع قوة اللغة، والقدرة على صبها في تلك القوالب الغريبة، لأخرج لنا شوقي في هذا العصر خير ما خرج من الشعر العربي في كل العصور.

ومن أجل هذا تجد أنَّ لشوقي مقطوعات قصيرة تتخلل قصائده لا يشق له فيها غبار أسلوبًا ومعنى، وعندي أنَّ هذه أخص مميزاته، وإني أفضل مقطوعاته هذه على قصائد برمتها من غيره، وإن اتصل فيها النفس ورُوعِيَ الاتساق أشد مراعاة.

يدلك هذا على أنَّ بين جنبي شوقي روحًا ثائرةً ونفسًا متأججةً، ولكنها ثورة أشبه بثورة الرياح إذ تهب فتية هوجاء، ثم لا تلبث أن تمر عليك ناعمة، أو نار الهشيم إذ تتأجج مندلعة الألسن في لحظة، وتصبح رمادًا في أخرى، والصناعة بين يدي شوقي إنما تخضع لجماع هذه الصفات الفطرية الطبيعية، فحيث تشتد ثورة نفسه تسمو معانيه وتقوى شاعريته، فإذا خبت نارها هبطت المعاني والشاعرية معًا إلى منزلة لم ينزل إليها الكثيرون من شعراء هذا العصر، وحيث تتأجج نفسه بحادث يمس مشاعره تلمس النار سارية بين أبياته بل بين كلماته، فإذا هدأت العاصفة ونامت، طوى عليها وعلى الشعر سترًا من ميوعة الفطرة ولين الطبع، ينزل بشعره إلى المستوى الذي لا يحسده عليه الكثيرون من أهل صناعته.

إليك مثلًا واحدًا تقيس عليه في كثير من قصائد شوقي، بل انظر كيف يكون تأجج العاطفة تفيض بالسحر إذ هي مندلعة الألسن بنيران الأمل الوثاب إلى الغايات والمثل، ثم انظر كيف تنطفئ شعلتها فتموت ويموت معها الشعر.

قال في مطلع قصيدة مشروع ملنر:

اثنِ عنان القلب واسلم به
من ربرب الرمل ومن سِربه
ومن تثني الغيد عن بانه
مرتجة الأرداف عن كثبه
ظباؤه المنكسرات الظبا
يغلبن ذا اللب على لبه
بيض رقاق الحسن في لمحة
من ناعم الدر ومن رطبه
ذوابل النرجس من أصله
يوانع الورد على قضبه
زِنَّ على الأرض سماء الدجى
وزدن في الحسن على شهبه
يمشين أسرابًا على هينة
مشي القطا الآمن في سربه
من كل وَسْنانٍ بغير الكرى
تَنْتَبِهُ الآجال من هدبه
جفن تلقى ملكا بابل
غرائب السحر على غربه

على هذا يكون شعر شوقي إذ تلتهب نفسه بالعاطفة، فإذا ما انطفأت ولما ينته من نظم قصيدته، ينزل من هذه السماء العليا إلى قوله:

أمر عليكم أو لكم في غد
ما ساء أو ما سر من غضبه
لا تستقِلُّوه فما دهركم
بحاتم جود ولا كعبه
نسمع الحق ولم نطلع
على قنا الحق ولا قضبه
ينال باللين الفتى بعض ما
يعجز بالشدة عن غَصْبه
فإن أنستم فليكن أنسكم
في الصبر للدهر وفي عتبه

إلى قوله:

يا رب قيد لا تحبونه
زمانكم لم يتقيد به
ومطلب في الظن مستبعد
كالصبح للناظر في قربه
اليأس لا يجمل من مؤمن
ما دام هذا الغيب في حجبه

شوقي شاعر كثير الألوان متعدد الصور، فله في القومية جولات نُكْبِرُها، وفي الدين خطرات يقف الأديب عندها وقفة طويلة، وله في الخلاعة مرقصات كاد يبز فيها أبا نواس، شاعر الخمريات في عصر العباسيين، وله في غير هذه المواقف أشياء لا نعرض لشيء منها الآن حرصًا منا على فراغ هذه الصحيفة أن نملأ منه أكثر مما نستحق في هذا الموطن، على أني لست من الذين يقولون: إنَّ لشوقي شخصياته المتعددة، فهل هو في قومياته أبين أثرًا منه في خمرياته؟ وهل هو في دينياته أبرز شخصية منه في الوصف؟ أما إذا كانت الطبيعة قد خصت شوقي بشيء من هذا فإنها قد خصته بالقدرة على النواح على المجد الزائل من المدنية الشرقية بعد أن اندك قائمها وغاصت في ثرى الزمان قوائمها، فإنه إن بكى مجد المصريين، أو ناح على مدنية العباسيين، أو رثى دمشق الشام أو طليطلة الأندلس، فإنه إنما يبكي الشرق ممثلًا فيما كان له من مجد زال، ومدنية جاءت عليها الأزمان فدالت ودرست آثارها، فهو شاعر الشرق الباكي عليه النائح على مجده القديم في أي لون تكون ذلك الشرق وفي أية ناحية كان، وبأية صبغة اصطبغ.

والحق أنَّ لشوقي في ذلك مواقف كانت قدرته الفطرية على الوصف أكبر عون له على تصوير مشاعره فيها تصويرًا كاد يخرج به عن تلك الدائرة التي لم تتسع إلا لغير ما خلق له شوقي، دائرة السياسة مصروفة إلى تلك الفكرة القديمة، فكرة الجلاد بين الشرق والغرب، لا ليكونا متكافئين، بل ليسود أحدهما على الآخر، ولتكون السيادة في الدنيا للأول دون الثاني.

ولم يكن لشوقي من بد وهو مغمور في بحر السياسة اللُجِّيِّ منذ نظم الشعر وهو في صباه، من أن يشيد بذكر الخلافة، وأن يشبب بالاستقلال، تلك أشياء كان مقسورًا على أن يجعلها المحور الذي تدور من حوله أشعاره، وهو في هذا إلى ناحية الدعاية السياسية أدنى منه إلى وصف المشاعر التي كانت تنطوي عليها نفسه، وما ظنك بشاعر يشب في بيت محمد علي وتحت كنفه وهذا البيت تابع لدولة الخلافة؟ لم يكن له من بد أن يشيد بذكر الخلافة، وأن ينصرها على أوروبا كلها، حتى إذا هدم ركنها وزالت دولتها أصبحت وأحلام الشاعر القديمة في غلاف واحد من النسيان مطوية مع ذكريات الماضي، لا تستحق رثاء ولا نواحًا، وما ظنك بشاعر يشب في كنف عباس الثاني فيجد أميره في صراع دائم مع المحتلين لبلاده وعلى رأسهم سياسي شديد المراس يقود الحكومة، وآخر جندي عنيد يقود الجيش؟ لم يكن له من بد أن يتغنى بالاستقلال والجلاء، خدمة لأغراض السياسة لا خدمة للشعر، ولا إرضاء للشاعرية.

إنما أرضى شوقي شاعريته في تشبيبه بالشرق والشرقيين، وهو في هذه الناحية أصح نزعة منه في كل منازعه الأخرى، فهو بحق شاعر الشرق العربي لغة، وشاعر الشرق كله عاطفة ووجدانًا.

أما إذا أردنا أن نستطرد في بحث شوقي بحثًا يرضي نزعة العصر الحديث في النقد فإنا لا شك ننبو عما قصدت إليه السياسة الأسبوعية من هذه الأبحاث، لهذا نجمل القول، وجملته أننا أرضينا في هذه الأسطر نزعة العصر الجديد، ولعلنا نكون قد أرضينا شاعرنا الكبير بأن صورناه كما نراه صورة حقة لا خيالًا بعيدًا عن الحقيقة التي نقدسها ويقدسها هو من قبلنا، والسلام.

١  نشرت في السياسة الأسبوعية بعددها الخاص بتكريم شوقي بك.
٢  أي نفسه.
٣  الشهوات.
٤  الميول.
٥  طيات نفسه.
٦  الأحقاد الدنيوية.
٧  مولدات الشهوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤