تصدير

الجاحظ بصري المولد والوفاة، بالبصرة وُلد وفيها شبَّ ودرج، وفيها دوَّن غالب تآليفه.

ما بين نصفي القرن الثَّاني والثَّالث نبغ الجاحظ حينما كان «العراق عين الدنيا والبصرة عين العراق»،١ وكيف لا تكون كذلك وهي عندئذٍ باب بغداد الكبير، ومدخل دجلتها المتدفق بضروب المتاع وأنواع السلع المجلوبة من أطراف الدنيا، نظير مرسيلية اليوم بالنسبة إلى فرنسا، أو جنوى لإيطاليا، وليفربول لبلاد الإنكليز، بل امتازت البصرة على تلك المراسي بنصيب أوفر، وحظ أكبر؛ إذ كانت مقصد القوافل الواردة من كل حدب وصوب، ومحط رحال الشَّرق والغَرْب، من مجاهل الصِّين إلى مفاوز الصَّحراء الكبرى؛ ولذلك استفحل بها العُمْران، وكثرت فيها المصانع والصَّنائع، وصارت واسطة العرب والعجم، وحُقَّ لها أنْ تتلقَّب «بقبة الإسلام» كما سمَّاها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).

ناهيك ببلد جمع لحُسن الموقع أضداد الأشياء، وأشتات الأرزاق ومختلف المكاسب والمطالب.

فاخرَ خالد بن صفوان البصري ببلده لدى عبد الملك بن مروان فقال:

«يغدو ساكنها قانصًا فيجيء هذا بالشبوط والشيم، ويجيء هذا بالسبي والظليم، ونحن أكثر النَّاس عاجًا وَساجًا، وخزًّا ودِيباجًا.»٢

وباهى الجاحظ نفسه بمسقط رأسه فقال:

«ومن أَتَى وَادي القصر بالبصرة رأى أرضًا كالكافور، ورأى ضِبابًا تحترش، وغزلانًا وسمكًا وصيادًا، وسمع غناء ملَّاح في سفينته، وحِداء جَمَّالٍ خلف بعيره.»٣
وقد قال الخليل بن أحمد البصري قبله:٤
زُر وادِيَ القَصرِ نِعم القَصرُ وَالوادي
فِي مَنْزلٍ حَاضِرٍ إنْ شِئْتَ أَوْ بَادِي
تَرَ بهِ السُّفن والظُّلْمَان حَاضِرة
والضَّب والنُّون وَالْمَلَّاح والْحَادِي
اشتهر أهل البصرة من قديم بالتطوُّح في الآفاق، والترامي على الأسفار البعيدة، والضرب في مناكب الأرض طلبًا للرزق والتماسًا للثراء، مما جعل الجاحظ يُصرِّح: «بأنَّه ليس في الأرض بلدة واسطة، ولا بادية شاسعة، ولا طرف من أطراف الدنيا إلا وأنت واجد به البصري والمدني.»٥ وقد اتفقت كلمة السائحين، وأصحاب الرحلات على بُعد همة البصريين في التَّرحال، وغورهم في الاغتراب، حتَّى قال أبو بكر الهمذاني، وناهيك به من خبير: «وأبعد النَّاس نجعةً في الكسب بصري وحميري، ومَن دخل فرغانة القصوى، والسوس الأقصى، فلا بدَّ أن يرى فيهما بصريًّا أو حميريًّا.»٦

ومن البديهي أنَّ مَن كان في ذكاء الجاحظ وفطنته الغريزية وحبه استطلاع الأشياء والبحث عن الجليل منها والحقير، ويشاهد عيانًا ما يُجلب إلى العراق من أطراف البلاد، وما يُصدَّر منه إلى سائر الآفاق، لجدير أن يفيدنا بكل حذق وتدقيق عن الأحجار الكريمة، والأعلاق النفيسة، والطرائف الثمينة، والرياش الغالية، وعن ماهيتها وأثمانها في عصره، على أنَّه لم يكتفِ بِمُجرَّد ذكر المتاجر ومصادرها، بل زاد في البيان فنبَّه على المعمول من الجواهر واليواقيت، والمغشوش من العطور والعقاقير، وفرَّق بين العالي منها والمتوسط والرديء، فأضاف إلى الخبرة التفنن، وإلى المعرفة التبصُّر، وهو عين موضوع كتابه «التبصُّر بالتجارة» الذي ننشره اليوم.

فلا عجب حينئذٍ أن اشتملت هذه الرسالة على فوائد جمَّة تهم أرباب الصناعة والتِّجارة، كما تُفيد المشتغلين بعلم الاقتصاد، والباحثين عن علائق العالم الإسلامي زمن غزارة حضارته وعنفوان تمدنه مع بقية الممالك.

وهي لعمري إفادة ذات شأن، ترشدنا إلى ما وصلت إليه عواصم الإسلام الكبرى — لا سيَّما بغداد — من التبحُّر في العمران، وتوسُّع سكانها في وسائل البذخ والترف، ما جعل تجارها في حاجة إلى توريد نتائج أطراف المعمورة وإن بعدت، وركوب الأخطار والمشاق في سبيل استجلابها، وبذل النفس والنفيس في اقتنائها، إجابةً لرغبة الأغنياء، وتسديدًا لشرَه النساء، إمَّا لتأثيث القصور، أو لزينة ربات الخدور!

نعم! وضع المعتنون بتقويم البلدان من أبناء العربية تآليف عديدة هي عمدتنا الآن في معرفة العلائق التجارية قديمًا، وما اختصَّ به كل صقع من أنواع النتائج، منهم ابن الفقيه الهمذاني، وابن رسته الأصبهاني، وأبو زيد البلخي، والإصطخري، وابن حوقل، وابن البشاري المقدسي، وغيرهم من كبار الجغرافيين، وأصحاب الرحلات، غير أنَّا لا ننسى أنَّ الجاحظ هو الذي فتح لهم باب التأليف في تقويم البلدان وخصائصها، وشرع لهم هذا المنهج؛ فهم في الحقيقة عِيالٌ عليه — وإنْ توسَّعوا بعد — ومقتفو أثره ومقلدوه، الأمر الذي جعل أحدهم — وهو المقدسي — يقول: «وإذا نظرت في كتاب الفقيه فكأنَّما أنت ناظر في كتاب الجاحظ.»٧

وهي لعمري شهادة اعتراف بأسبقية الجاحظ في خوض هذا الميدان، وليس هو بأوَّل موضوع يطرقه ذلك المبدع الماهر، بل البحر الزاخر الذي لا ساحل له.

حرَّر الجاحظ هذا البحث الاقتصادي برسم أحد كبار أحبابه ممن سبقت عنايته بالتأليف والإهداء إليهم، فهو وإن لم يسمِّه أحد الأربعة: محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم، وقاضي القضاة أحمد بن أبي داود، والوزير الفتح بن خاقان، وإبراهيم ابن العباس الصولي، وأراني في غنًى عن إثبات نسبة هذه الرسالة إلى الجاحظ، وإن لم يأتِ ذكرها بين مصنفاته الواردة في فهرست ابن النديم، ومعجم الأدباء لياقوت، لكنْ أبو منصور الثعالبي٨ والعلامة النويري٩ تكفَّلا بتعريفنا بها ونقَلا جملًا منها بالحرف الواحد، ونسبتها إلى مؤلفنا حسبما نشير إليه في محله.
على أنَّ «التَّبصُّر بالتِّجارة» ليس بأوَّل كتاب للجاحظ لم يذكر بين مؤلفاته «خصائص البلدان» له — وهو غير «كتاب البلدان» — لم يرد اسمه بعد في قائمة ما نسب إليه ياقوت في معجمه، وقد نقل عنه أبو منصور الثعالبي كثيرًا.١٠
أجل! كثيرًا ما يستعمل الجاحظ ألفاظًا دخيلةً في غضون مُصنفاته، وقد وقع جانب عظيم منها في رسالته هذه في التعريف بمسميات أجنبية، وهو أمر مُتعارف جرت به عادة الكُتَّاب والمؤلفين في عصر الدولة العباسية، فلطالما استعملوا اصطلاحات ومعربات جُلها فارسي المأخذ؛ لقرب بلاد إيران من العراق، ولقد تتبع صديقنا ساكن الجنان العلامة أحمد تيمور باشا أثر بعض المعربات الواردة في كتاب «نشوار المحاضرة» للتنوخي، فعقد لشرحها فصولًا ممتعة نشرها في مجلة المجمع العلمي الدمشقية.١١

وقد حاولنا شرح ما ورد ضمن هذه الرسالة من غريب الدخيل على قدر الاستطاعة والجهد، ويا حبذا لو توفَّق من أبناء العربية مَن يضع لنا مُعجمًا لغويًّا يُوضِّح لنا به السَّبيل إلى فهْم ألفاظ الدخيل والمصطلحات التي كانت مُستعملة في القرون الوسطى الإسلامية، مثلما فعل المستعرب الهولاندي دوزي في «مستدركه على المعاجم العربية»، وهي أمنية طالما أبداها كلُّ مَن يُعاني استقراءَ تصانيف الدور العباسي.

أمَّا الأصل المنقول عنه فهو مثبت في ضمن مجموع خطي محفوظ بالمكتبة العمومية (مكتبة سوق العطارين) في حاضرة تونس، وهذا المجموع يحتوي على أذكار وأدعية، وذكر بعض الغزوات، ثمَّ رسالة حافلة في الخط وتصاريفه من تأليف الوزير العباسي الشهير أبي عبد الله علي بن مقلة، ثمَّ كتاب «التبصُّر» هذا، ثمَّ شرح قصيدة أبي الفضل ابن النحوي التوزري المعروفة بالمنفرجة من وضع الإمام علاء الدين علي بن جمال الدين البصري الشافعي نزيل دمشق ختمه خلال سنة ٨٧٣ﻫ، وفيما يظهر أنَّ كامل المجموع بخط يد هذا الشَّارح، وهو خط شامي مُعتاد تغلب عليه الصحة إلا في الأعلام والدخيل والمعربات.

وبالرغم من بحثي الشديد للوقوف على نسخة ثانية من كتاب «التبصُّر»، فإنِّي لم أظفر بها، فاقتصرت على إيراد ما هو موجود هنا.

وقد بذلت جهدي في إكساء هذا الأثر الجليل الثَّوبَ الذي يليق به إحياءً لذكرى واضعه الخالد، وهو سبحانه ولي التوفيق.

حسن حسني عبد الوهاب الصمادحي
تونس
١  ثمار القلوب للثعالبي، ص١٢٧؛ ومعجم البلدان لياقوت ٢، ١٠٤.
٢  معجم البلدان لياقوت ٢، ٢٠٤.
٣  ثمار القلوب، ص٤١٩.
٤  الكتاب المذكور، ص٣١٩.
٥  كتاب البخلاء، طبعة مصر سنة ١٣٢٣، ص١٦٠.
٦  كتاب البلدان للهمذاني، طبعة ليدن سنة ١٣٠٢، ص٥١.
٧  راجع: كتاب «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» للمقدسي، طبعة ليدن سنة ١٨٧٧، ص٢٤١.
٨  «ثمار القلوب».
٩  «نهاية الأرب».
١٠  ثمار القلوب، ص٤٣٨، وص٤١١.
١١  تفسير الألفاظ العباسية، مجلة المجمع العلمي العربي، جزء تشرين أول سنة ١٩٢٢، ص٢٨٩ وما بعده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤