الفصل الثاني

النفسية الدينية والنفسية اليعقوبية

(١) تقسيم النفسيات التي تسود الثورة

تؤدي التقسيمات — التي يستحيل البحث العلمي بغيرها — إلى قطع ما هو متصل، ولا مفر من ذلك، فالمتصل لا يدرك إلا بعد تحويله إلى أجزاء.

ولم يكن التفريق بين مختلف النفسيات التي تسود الثورة سوى فصل عناصر متداخلة، ويجب ترك قليل من الضبط والصحة لنيل ما يقابل ذلك من الوضوح، فالعناصر الأساسية التي أشرنا إليها في آخر الفصل السابق لا يمكن تفصيلها عند البحث فيها مشتبكةَ الأجزاء.

بينَّا أن الإنسان تسيره أنواع المنطق الكثيرة المتقاربة التي لا يؤثر بعضها في بعض في الأوقات العادية، وتتنازع هذه الأنواع بتأثير الحوادث، فيبدو الفرق بينها للعيان فيؤدي ذلك إلى اضطرابات فردية وانقلابات اجتماعية عظيمة.

(٢) النفسية الدينية

توصف روح التدين بإسنادها قدرة عظيمة إلى قوى عُلْوية تتمثل على شكل أصنام وأنصاب وألفاظ وصيغ، وهذه الروح هي أساس المعتقدات الدينية كلها وكثير من المعتقدات السياسية.

والمنطق الدينيُّ مُشبعٌ من المشاعر وسائر العواطف، والفتن الشعبية الكبيرة تنال قوتها منه، وإذا كان الناس لا يبذُلون من حياتهم في سبيل المعقولات إلَّا شيئًا قليلًا فإنهم يبذُلونها كلها طوعًا في سبيل خيال دينيٍّ يعبدونه.

لم تلبث مبادئُ الثورة الفرنسية أن ألقت في قلوب الناس حمية دينية كالتي ألقتها المعتقدات الدينية السابقة، ولم تفعل بذلك غير تحويلها وجهة النفس الموروثة المتكاثفة مع الزمن.

إذًا لا تعجب من حمية رجال العهد الشديدة، وهم يشابهون — بنفسيتهم الدينية — البروتستان في دور الإصلاح الديني، وقد كان أبطال دور الهول كروبسپير وكوتون وسان جوست وغيرهم رسلًا يشبهون بوليوكت الذي ظنَّ أنه بهدمه تماثيل الآلهة الباطلة في سبيل إيمانه يجعل العالم نصرانيًّا، فلما اعتقدوا أن صيغهم السحرية تكفي لدك العروش لم يترددوا في شهر الحرب على الملوك، وقد غلبوا أوربة بفضل إيمانهم القويِّ الذي يغلب الإيمان الضعيف.

وكان تديُّن زعماء الثورة الفرنسة يظهر في أدق أعمالهم، فقد قال روبسپير في إحدى خطبه، وهو يعتقد أنه محفوف بعون الله: «إن الله تعالى أمر بالحكم الجمهوري منذ البُداءة»، وجعل — وهو الحبر الأعظم لدين الحكومة — مجلس العهد يضع مرسومًا جاء فيه: «أن الأمة الفرنسية تؤمن بالله تعالى وبخلود النفس»، وألقى، وهو جالس على العرش يوم عيد الربِّ، موعظة طويلة.

واعتقد مكسمليان (روبسپير) «وجود إله قادر عظيم يحافظ على البريء المظلوم ويعاقب المجرم الظافر»، وكان الخوارج الذين كانوا يطعنون في المذهب اليعقوبي يُرسَلون إلى المحكمة الثورية التي كان لا يخرج منها المتهم إلَّا إلى المقصلة.

ولم تمتِ النفسية الدينية بموت روبسپير الذي هو عُنوانها، فبين رجال السياسة نرى أناسًا ذوي نفسية تشبه نفسيته، فهؤلاء — وإن لم يكن للمعتقدات الدينية القديمة سلطان عليهم — يخضعون لتعاليم سياسية لا يتأخرون ساعة — عند المقدرة — عن حمل الناس عليها، فطريقة الإرشاد في كل جيل، عند المتدينين الذين يضحُّون بأنفسهم في سبيل نشر معتقدهم، واحدة حينما يصيرون سادة.

إذن، من الطبيعي أن يكثر عدد المعجبين بروبسپير والناسجين على منواله، وهو وإن قُطع رأسه بالمقصلة لم تقطع مداركه، ولا تزول المدارك التي نشأت مع الإنسان إلا بزوال آخر المعتقدين.

لم ينتبه أكثر المؤرخين إلى وجه الثورات الدينيِّ، وسوف يستمرون على عزوهم كثيرًا من الحوادث إلى المنطق العقلي البعيدة منه، وقد ذكرت في فصل سابق عبارة لمسيو لاڤبس ولمسيو رانبو قالا فيها إن ثورة الإصلاح الديني «نتيجة تأملات فردية أورثها قلوب البسطاء عقل مقدام».

فلا يمكن إدراك هذه الثورات إذا ظن أن مصدرها العقل، فللمعتقدات التي أقامت العالم وأقعدته، سواء أدينية كانت أم سياسية، مصدر واحد، وكلها سار على سنة واحدة، أي أنها لم تتمَّ بالعقل، وكثيرًا ما تمت خلافًا لكل عقل، نعم يظهر أن البُدهية (البوذية) والنصرانية والإسلام والإصلاح الديني والسحر واليعقوبية والاشتراكية والمذهب الروحاني معتقدات متباينة، ولكنني أقول مؤكدًا: إن لها دعائم عاطفية ودينية واحدة، وتتبع منطقًا لا علاقة بينه وبين المنطق العقلي، وقوتها ناشئة عما للعقل من التأثير الضئيل في تكوينها وتحويلها.

وقد فصلت نفسية رسلنا السياسيين الدينية في الوقت الحاضر في مقالة نشرت في إحدى الجرائد الكبيرة، جاء في هذه المقالة التي تمسُّ أحد وزرائنا السابقين: «يسألون عن الفرقة التي ينتسب إليها مسيو فلان، هل هو من فرقة الملحدين؟ فيا للسخرية! … نسمع، مع عدم اختياره أي إيمان وضعي ولعنِه رومة وجنيڤ أنه يجحد بالعقائد التقليدية، ويكفُر بالكنائس المعروفة، فهو إن جعل الصفيحة هكذا ملساء فذلك ليقيم عليها كنيسته الخاصة التي هي ذات بدعٍ أكثر من كل كنيسة، ولن تقل محكمته التفتيشية في شدة تعصبها وعدم تسامحها عن أشهر محاكم توركمادة».

«وصرح بأنه لا يرضى عن حرية التعليم، وبأنه يطلب أن يكون التعليم زمنيًّا من كل وجه، وهو إن لم يقل بالإحراق فذلك لاضطراره إلى مداراة نشوء العادات والطبائع، وهو لعجزه عن قتل الناس يستعين بالقوة الزمنية للحكم على المذاهب كلها بالموت، وقد بلغت حرية الفكر فيه مبلغًا جعله يقول إن كل فلسفة لا يرضى عنها مجرمة أثيمة موجبة للهزء والسخرية، وهو يزعم أنه اطَّلع على الحقيقة المطلقة، وأوجب اعتقاده هذا أن يعتبر كل من يخالفه غولًا شنيعًا وعدوًّا فظيعًا. فمسيو فلان — كما يظهر — من أشياع آلهة العقل التي تُشبِه الإله مُولَك الظالم في تعطشها إلى القرابين البشرية».

«ألا إن الأماني خلابة، وكم من أصنام حطمت منذ بضعة قرون تمهيدًا للسجود أمام صنم حديث».

وبما أن سلطان العقل على المعتقدات الدينية قليل فقد أصبح من اللغو أن تجادل — كما يفعل بعض الناس — فيما للمبادئ الثورية والسياسية من القيمة العقلية، وتأثيرها وحده هو الذي يهمنا، وسواءٌ علينا أكذَّبت التجربة نظرية المساواة ونظرية الصلاح الفطريِّ ونظرية تجديد المجتمع بالقوانين أم لم تكذبها.

(٣) النفسية اليعقوبية

اصطلحتُ على تعبير «النفسية اليعقوبية»، مع أنه لم يسبقني أحد إليه في أي تقسيم كان؛ لدلالته على نوع نفسيٍّ خاص.

فقد سادت هذه النفسية رجال الثورة الفرنسية، ولا تزال مؤثرةً في سياستنا الحاضرة.

زعم اليعاقبة أنهم عاطلون من خُلُق التدين وأن العقل يسيرهم، وقد كانوا يستشهدون بالعقل أيام الثورة الفرنسية ويتخذونه هاديًا مرشدًا.

وقد رأي أكثر المؤرخين أن الروح اليعقوبية تنزع إلى المعقول، وذهب تاين إلى هذا الرأي الفاسد فعزا كثيرًا من أعمال اليعاقبة إلى مغالاتهم في المعقولات، غير أنه جاء في بحثه عنهم بعض الحقائق التي تستحقُّ النظر، فإليك بعضها:

لم تكن عزة النفس والعقل النظريُّ بالشيء النادر عند البشر، ففي أيِّ بلد نراهما، وهما مصدر الروح اليعقوبية، لا يفنيان، ومتى بلغ عمر المرء عشرين سنة فدخل معترك الحياة استحوذ الغمُّ على عقله وزهوه فاعتبر المجتمع الذي نبت فيه حاجزًا يحول دون تقدم عقله النظريِّ، والمجتمع قد أوجدته الأجيال المتعاقبة على حسب احتياجاتها الكثيرة المتحولة، أي أنه لم يكن من صنع المنطق، بل من صُنع التاريخ كما هو معلوم، ثم يهزُّ ذلك المبتدئ كتفيه هازئًا بهذا البناء الاجتماعي الهرِم الذي لم يقم على نظام والذي يبدو عليه الرتق والترقيع.

انظروا إلى أحسن ما أنتجته قرائح أولئك الرجال، أي إلى خطب روبسپير وسان جوست وإلى مناقشات المجلس الاشتراعي الأول ومجلس العهد وإلى أقوال الجيرونديين والمونتانيار وإلى مناشيرهم وتقاريرهم تروا أنهم أتوا فيها بأكثر الكلام للتعبير عما يتطلب أقله، وأن تعقلهم كان يغرق في بحر طام من الألفاظ المفخمة، فاليعقوبي يسير وراء ما يدور في دماغه المتعقل من الأوهام والخيالات التي هي عنده أكثر من غيرها ولا يعبأ إلَّا بما توحيه إليه فيصرخ بين الناس كما يهتف في موكب النصر.

وإني، وإن كنت أعجب ببيان تاين، لا أعتقد أنه فهم نفسية اليعقوبي تمامًا.

فروح اليعقوبي الحقيقي — سواء أفي أيام الثورة الفرنسية أم في أيامنا — تتألف من عناصر يجب تحليلها لإدراك شأنها.

يدلنا هذا التحليل على أن اليعقوبي معتقد غير متعقل، وأنه لا يؤسس معتقده على العقل، بل يسكب العقل في قالَب معتقده، وأن خطبه، وإن كانت مشبعة من العقليات، لا يسير عليها إلا قليلًا، ولو كان اليعقوبيُّ يتعقل بنسبة ما يلام عليه من التعقل لأجاب نداء العقل في بعض الأحيان، وقد دلتنا المشاهدة، منذ عهد الثورة الفرنسية، على أن العقل مهما كان سديدًا لم يؤثر فيه قط، وهذا هو سر منعته، والسبب في عدم تأثير العقل فيه هو أن ما فيه من قصر النظر لا يسمح له بمقاومة اندفاعاته العاطفية المسيِّرة له.

ولا تتألف النفسية اليعقوبية من هذين العنصرين — أي العقل الضعيف والعواطف القوية — وحدهما، بل تتألف من عنصر آخر أيضًا، فاليعقوبيُّ الحقيقيُّ ذو معتقد راسخ، والعاطفة تدعم المعتقد ولا تنشئه، فما ركن هذا المعتقد؟ هنا يبدو لنا عنصر التدين الذي بحثنا فيه سابقًا، فاليعقوبي متدين أقام مقام آلهته القديمة آلهةً جديدة، أي بما أنه كان للألفاظ والصيغ سلطان قوي على نفسه فإنه يعزو إليها قوة إلهية، ولا يتأخر في سبيل خدمة هذه الآلهة الكثيرة الطلب عن اقتراف أقسى الأعمال، والدليل على ذلك ما سنَّه اليعاقبة في الوقت الحاضر من القوانين.

وتظهر النفسية اليعقوبية عند ذوي الخلق الضيق الحمس على الخصوص، وتتضمن هذه النفسية فكرًا قاصرًا عنيدًا لا يؤثر النقد فيه، وما تغلَّب على الروح اليعقوبية من التدين والعاطفة يجعل اليعقوبي كثير السذاجة، وهو لعدم إدراكه من الأمور غير علاقاتها الظاهرة يظن أن ما يساوره من الصور الوهمية حقائق ويفوته ارتباط الحوادث فلا يتحول عن خياله أبدًا.

إذن، لا يقترف اليعقوبي الآثام لرقي منطقه العقليِّ، وإنما يسير لضعف عقله معتقدًا مندفعًا إلى حيث يتردد الرجل ذو المدارك السامية فيقف، وهو — كسائر المعتقدين — عاجز عن الخروج من دائرة المعتقد.

ويشبه اليعقوبي — بصفته اللاهوتية المكافحة المناجزة — أنصار كالڤن الذين قلنا في فصل سابق إنهم لم يثنهم شيءٌ عن إيمانهم الذي نوَّمهم، وإنهم رأوا كل من يخالفهم في معتقدهم جديرًا بالموت، فقد كان أولئك الأنصار المتعقلون كاليعاقبة جاهلين ما يسيِّرهم من القُوى الخفية ظانِّين أن العقل رائدهم مع أن الذي قادهم هو خلقُ التدين وعنصر الحماسة.

يتعذر علينا اكتناه اليعقوبيِّ بقولنا إنه متعقل، ولا ينفعنا ذلك إلا في القنوط من العقل، وأما إذا قلنا إنه حَمِسٌ متدينٌ تيسرت لنا معرفة أمره.

وهذه الأمور الثلاثة — أي العقل الضعيف والحماسة الشديدة والتدين القويٌّ — هي عناصر الروح اليعقوبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤