قاضِي الغابَةِ

(١) الْقِطَّانِ الْأَخَوَانِ

«بِسْبِسٌ» قِطٌّ لَطِيفٌ. «مِشْمِشٌ» قِطٌّ ظَرِيفٌ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ أَخَوانِ، أَلِيفانِ، عَزِيزانِ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ كانا يَعِيشانِ قُرْبَ غابَةٍ جَمِيلَةٍ.

الْغَابَةُ كُلُّها أَشْجارٌ وَأَزْهارٌ وَجَداوِلُ ماءٍ، يَأْوِي إِلَيْها الْحَيَوانُ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ عاشا بِالْقُرْبِ مِنْ هَذِهِ الْغابَةِ، عِيشَةً هانِئَةً.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ كانا يَذْهَبانِ إِلَى الْغابَةِ كُلَّ يَوْمٍ.

كانَ ذَهابُهُما إِلَى الْغابَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، لِلرِّياضَةِ وَالنُّزْهَةِ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ يَلْعبانِ هُناكَ؛ أَرْضٌ واسِعَةٌ، وَهَواءٌ جَمِيلٌ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ كانا يَتَسابَقانِ فِي النَّطِّ والْجَرْيِ.

بِسْبِسٌ كانَ بَطِيءَ الْحَرَكَةِ، يَخْشَى أَنْ يَتَسَلَّقَ الْأَغْصانَ الْعَالِيَةَ.

بِسْبِسٌ لَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ، فِي صِغَرِهِ بِأَنْ يُمَرِّنَ أَعْضاءَهُ.

مِشْمِشٌ كانَ سَرِيعَ الْحَرَكَةِ، يَتَسَلَّقُ الْأَغْصانَ فِي خِفَّةٍ.

مِشْمِشٌ كانَ يُمَرِّنُ أَعْضاءَهُ عَلَى التَّنَقُّلِ مِنْ شَجَرَةٍ إِلَى شَجَرَةٍ.

مِشْمِشٌ كانَ أَقْدَرَ مِنْ بِسْبِسٍ عَلَى الْقَفْزِ والْوَثْبِ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ كانا يُمْضِيانِ وَقْتًا طَيِّبًا فِي اللَّعِبِ والْمَرَحِ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ كانا يَتْرُكانِ الْغابَةَ، قَبْلَ أَنْ يَهْجُمَ الظَّلامُ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ كانا يَرْجِعانِ إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي يُقِيمانِ فِيهِ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ كانا يَنامانِ نَوْمًا هادِئًا، وَيَحْلُمانِ أَحْلامًا سَعيدَةً.

(٢) قُرْصُ الْجُبْنِ

فِي ظُهْرِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ كانَ «بِسْبِسٌ» وَ«مِشْمِشٌ» جائِعَيْنِ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ ظَلَّا يَبْحَثانِ فِي الْبَيْتِ عَنْ طَعامٍ.

أَهْلُ الْبَيْتِ كانُوا قَدْ خَرَجُوا إِلَى أَعْمالِهِمْ، وَلَمْ يَعُودُوا بَعْدُ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ لَمْ يَتَمَكَّنا مِنَ الْعُثُورِ عَلَى شَيْءٍ يَأْكُلانِهِ.

بِسْبِسٌ رَأَى أَخِيرًا قُرْصَ جُبْنٍ فِي طَبَقٍ فَوْقَ رَفٍّ عالٍ.

بِسْبِسٌ قالَ فِي نَفْسِهِ: «عَلَيَّ أَنْ أَقْفِزَ إِلَى الرَّفِّ الْعالِي. لَوْ قَفَزْتُ إِلَيْهِ لَظَفِرْتُ بِقُرْصِ الْجُبْنِ الَّذِي فِي الطَّبَقِ.»

بِسْبِسٌ هَمَّ بِأَنْ يَنِطَّ، لِيَحْصُلَ عَلَى قُرْصِ الْجُبْنِ الَّذِي رَآهُ.

بِسْبِسٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَجاعَةٌ تُساعِدُهُ عَلَى النَّطِّ إِلَى الرَّفِّ الْعالِي.

بِسْبِسٌ خَشِيَ أَنْ يَنِطَّ، فَيَهْوِيَ عَلَى الْأَرْضِ، وَتَنْكَسِرَ ساقُهُ.

بِسْبِسٌ وَجَدَ نَفْسَهُ عاجِزًا عَنِ الْوُصُولِ إِلَى طَبَقِ الْجُبْنِ.

بِسْبِسٌ جَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ يَمُوءُ مُوَاءً حَزِينًا.

مِشْمِشٌ سَمِعَ مُواءَ بِسْبِسٍ، فَحَضَرَ إِلَيْهِ، وَرَأَى طَبقَ الْجُبْنِ.

مِشْمِشٌ رِياضِيٌّ، مُتَمَرِّنٌ عَلَى النَّطِّ، شُجاعٌ لا يَعْرِفُ الْيَأْسَ.

مِشْمِشٌ قالَ لِأَخِيهِ بِسْبِسٍ: «لا بُدَّ مِنَ الْحُصُولِ عَلَى طَعامٍ. نَحْنُ جائِعانِ أَشَدَّ الْجُوعِ، وَهَذا الْجُبْنُ يُشْبِعُنا.»

مِشْمِشٌ وثَبَ إِلَى الرَّفِّ الْعالِي، فِي قُوَّةٍ وَنَشاطٍ وَخِفَّةٍ.

مِشْمِشٌ اسْتَطاعَ أَنْ يُسْقِطَ الْقُرْصَ مِنْ طَبَقِ الْجُبْنِ.

(٣) اخْتِلافُ الْأَخَوَيْنِ

«بِسْبِسٌ» أَرادَ قِسْمَةَ قُرْصِ الْجُبْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ «مِشْمِشٍ».

بِسْبِسٌ أَقْبَلَ عَلَى أَخِيهِ مِشْمِشٍ يَتَوَدَّدُ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُ: «أَتَقْسِمُ الْقُرْصَ نِصْفَيْنِ: نِصْفٌ لَكَ، وَنِصْفٌ لِي؟»

مِشْمِشٌ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ قُرْصِ الْجُبْنِ.

لَمْ يَرْضَ أَنْ يَتْرُكَ النِّصْفَ الْآخَرَ لِأَخِيهِ. قالَ لَهُ: «أَنْتَ تَكاسَلْتَ عَنِ الْحُصُولِ عَلَى الْجُبْنِ، وَلَمْ تَبْذُلْ جُهْدًا. أَنْتَ لَمْ تَتَشَجَّعْ وَتَنِطَّ. أَنْتَ اكْتَفَيْتَ بِالْجُلُوسِ عَلَى الْأَرْضِ. جَلَسْتَ كَما يَجْلِسُ الْعاجِزُ الضَّعِيفُ. أَنا الَّذِي تَشَجَّعْتُ وَوَثَبْتُ. أَنا الَّذِي حَصَلْتُ عَلَى الْجُبْنِ. أَنا أَحَقُّ بِأَكْبرِ نَصِيبٍ مِنْهُ. بِأَيِّ حَقٍّ تَأْخُذُ نِصْفَ قُرْصِ الْجُبْنِ الَّذِي حَصَلْتُ أَنا عَلَيْهِ؟ كَيْفَ تَأْخُذُ نَصِيبًا لَيْسَ لَكَ فِيهِ حَقٌّ؟ هَذا لا يَكُونُ.»

اخْتَلَفَ الْأَخَوانِ؛ بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ عَلَى قِسْمَةِ الْجُبْنِ.

لَمْ يَسْتَطِعْ بِسْبِسٌ أَنْ يُقْنِعَ أَخاهُ بِأَنَّهُ عَلَى حَقٍّ.

لَمْ يَسْتَطِعْ مِشْمِشٌ أَنْ يُقْنِعَ أَخاهُ بِصَوابِ رَأْيِهِ.

وَقَفَ كُلٌّ مِنْهُما أَمامَ الْآخَرِ، يُفَكِّرُ فِي الْأَمْرِ.

كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما كانَ يَسْأَلُ نَفْسَهُ: كَيْفَ يُعالِجُ هَذِهِ الْمُشْكِلةَ؟

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ ذَهَبا إِلَى الْغابَةِ، يَرْقُبانِ أَوَّلَ مَنْ يَمُرُّ بِهِما.

قَرَّرا أَنْ يَعْرِضا عَلَيْهِ مُشْكِلَتَهُما، وَيَسْأَلاهُ الْحُكْمَ بَيْنَهُما.

(٤) حُكْمُ الْعَدْلِ

الْقِرْدُ «مَيْمُونٌ» كانَ يَمْشِي خِلالَ أَشْجارِ الْغابَةِ، يَبْحَثُ عَنْ طَعامٍ.

مَيْمُونٌ الْقِرْدُ لَمَحَ الْقِطَّيْنِ، عَلَى بُعْدٍ، سائرَيْنِ فِي الْغابَةِ.

مَيْمُونٌ الْقِرْدُ رَأَى قُرْصَ الْجُبْنِ فِي فَمِ الْقِطِّ «مِشْمِشٍ».

مَيْمُونٌ الْقِرْدُ أَسْرَعَ إِلَى الْقِطَّيْنِ يُحَيِّيهِما، وَيَتَوَدَّدُ إِلَيْهِما.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ رَدَّا لَهُ التَّحِيَّةَ، وَعَرَضا عَلَيْهِ الْخِلافَ بَيْنَهُما.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ طَلَبا إِلَيْهِ أَنَ يَحْكُمَ فِي الْقَضِيَّةِ بِالْعَدْلِ.

مَيْمُونٌ فَرِحَ بِاخْتِلافِ الْقِطَّيْنِ، وَتَحْكِيمِهِ بَيْنَهُما.

مَيْمُونٌ انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ، وَعَزَمَ عَلَى الانْتِفاعِ بِاخْتِلافِ الْأَخَوَيْنِ.

مَيْمُونٌ قَرَّرَ، فِي نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَصِيبٌ وافِرٌ مِنَ الْجُبْنِ.

مَيْمُونٌ قالَ لِلْقِطَّيْنِ الْمُتَنازِعَيْنِ، وَهُوَ يَبْتَسِمُ لَهُما: «أَنْتُما أَخَوانِ. ما يَحْصُلُ عَلَيْهِ أَحَدُكُما مِنْ طَعامٍ يَنْقَسِمُ بَيْنَكُما. أَنْتَ يا مِشْمِشُ مُتَعَلِّمٌ النَّطَّ، مُتَمَرِّنٌ عَلَى الْحَرَكَةِ. لَقَدِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَحْصُلَ عَلَى قُرْصِ الْجُبْنِ بِسُهُولَةٍ. يَحْسُنُ بِكَ أَنْ تُعْطِيَ نِصْفَهُ لِأَخِيكَ الَّذِي لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنِطَّ. وَأَنْتَ يا بِسْبِسُ، بَعْدَ قَلِيلٍ، تَتَعَلَّمُ النَّطَّ، وَتَتَمَرَّنُ عَلَى الْقَفْزِ. سَتُصْبِحُ فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ قادِرًا عَلَى الْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ الْجَرِيئَةِ. سَتَسْتَطِيعُ بِفَضْلِ التَّمَرُّنِ وَالتَّدْرِيبِ أَنْ تَحْصُلَ عَلَى ما تُرِيدُ. سَتَكُونُ قُدْرَتُكَ عَلَى النَّطِّ مِثْلَ قُدْرَةِ أَخِيكَ.»

(٥) مِيزانُ الْحَقِّ

«مَيْمُونٌ» الْقِرْدُ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْقِطِّ «بِسْبِسٍ»: «سَتَأْخُذُ نِصْفَ قُرْصِ الْجُبْنِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْه أَخُوكَ. هَذا هُوَ حُكْمُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصافِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ الْعَزِيزَيْنِ.»

بِسْبِسٌ فَرِحَ بِهَذا الْحُكْمِ الَّذِي أَصْدَرَهُ الْقاضِي «مَيْمُونٌ».

«مِشْمِشٌ» رَأَى، فَضًّا لِلنِّزاعِ، أَنْ يَرْضَى بِهَذا الْحُكْمِ.

مَيْمُونٌ الْقِرْدُ تَمَصَّصَ رِيقَهُ، وَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، وَقالَ: «بَقِيَتْ مُشْكِلَةٌ لا بُدَّ مِنْ حَلِّها أَيُّها الْأَخَوانِ الْعَزِيزانِ: مَنِ الَّذِي يَقْسِمُ بَيْنَكُما قُرْصَ الْجُبْنِ بِالسَّوِيَّةِ؟ يَجِبُ أَلَّا يَأْخُذَ أَحَدُكُما أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ الْآخَرُ. انْتَظِرانِي — أَيُّها الْأَخَوانِ الْعَزِيزانِ — هُنا، وَقْتًا قَصِيرًا. يَجِبُ أَنْ يَتَساوَى النِّصْفانِ دُونَ زِيادَةٍ أَوْ نُقْصانٍ. سَأُحْضِرُ لَكُما مِيزانًا، لِئَلَّا يَحْدُثَ ظُلْمٌ فِي الْقِسْمَةِ.»

مَيْمُونٌ انْصَرَفَ مُسْرِعًا، وَغابَ عَنْ بَصَرِ الْقِطَّيْنِ …

مَيْمُونٌ عادَ بَعْدَ وَقْتٍ قَلِيلٍ، وَفِي يَدِهِ مِيزانٌ.

مَيْمُونٌ قالَ لِلْقِطَّيْنِ الْأَخَوَيْنِ، وَهُوَ يُرِيهِما الْمِيزانَ: «سأَقْسِمُ قُرْصَ الْجُبْنِ بَيْنَكُما قِسْمَةً صَحِيحَةً. سَتَشْهَدانِ عَدْلَ قاضِي الْغابَةِ، وَتَتَعَلَّمانِ كَيْفَ يَزُولُ الْخِلافُ. وَبَعْدَ ذَلِكَ لا يَجُوزُ لَكُما أَنْ تَخْتَلِفا عَلَى شَيْءٍ بَيْنَكُما.»

(٦) الْقُرْصُ فِي الْمِيزانِ

«مَيْمُونٌ» تَناوَلَ قُرْصَ الْجُبْنِ مِنْ «مِشْمِشٍ»، فِي سُرْعَةٍ.

قَطَعَهُ قِطْعَتَيْنِ غَيْرَ مُتَساوِيَتَيْنِ، دُونَ أَنْ يَلْحَظَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ.

مَيْمُونٌ وَضَعَ إِحْدَى الْقِطْعَتَيْنِ فِي كِفَّةِ الْمِيزانِ الْيُمْنَى.

ثُمَّ وَضَعَ الْقِطْعَةَ الْأُخْرَى فِي كِفَّةِ الْمِيزانِ الْيُسْرَى.

مَيْمُونٌ أَمْسَكَ عِلاقَةَ الْمِيزانِ بِيَدِهِ، وَرَفَعَهُ عَنِ الْأَرْضِ.

كِفَّةُ الْمِيزانِ اليُمْنَى الَّتِي فِيها الْقِطْعَةُ الْكَبِيرَةُ رَجَحَتْ.

كِفَّةُ الْمِيزانِ الْيُسْرَى الَّتِي فِيها الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ شالَتْ.

مَيْمُونٌ وَضَعَ الْمِيزانَ عَلَى الْأَرْضِ، وَقالَ لِلْقِطَّيْنِ: «أَنْتُما تَرَيانِ أَنَّ أَحَدَ النِّصْفَيْنِ أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ. هَذا غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لَيْسَ هَذا مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصافِ. يَجِبُ أَنْ أَقْسِمَ بَيْنَكُما قُرْصَ الْجُبْنِ قِسْمَةَ الْحَقِّ. أَنا أُحِبُّكُما مَعًا بِدَرَجَةٍ واحِدَةٍ؛ فَيَجِبُ أَنْ أَعْدِلَ بَيْنَكُما. الْمُساواةُ أَساسُ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ، أَيُّها الْأَخَوانِ الْعَزِيزانِ. مِنْ أَجْلِ هَذا لا بُدَّ مِنْ أَنْ أَنْتَقِصَ قِطْعَةَ الْجُبْنِ الْكَبِيرَةَ. هَذا ضَرُورِيٌّ لِكَيْ تَتَساوَى الْقِطْعَتانِ فِي كِفَّتَيِ الْمِيزانِ.»

مَيْمُونٌ أَخَذَ مِنْ كِفَّةِ الْمِيزانِ النِّصْفَ الْكَبِيرَ مِنْ قُرْصِ الْجُبْنِ.

ما أَسْرَعَ أَنْ قَضَمَ مِنْ هَذا النِّصْفِ قَضْمَةً ضَخْمَةً.

مَيْمُونٌ أَعَادَ النِّصْفَ الَّذِي قَضَمَ مِنْهُ الْقَضْمَةَ الضَّخْمَةَ إِلَى الْمِيزانِ.

(٧) حَسْرَةُ الْأَخَوَيْنِ

«مَيْمُونٌ» رَفَعَ الْمِيزانَ بِيَدِهِ، فَرَجَحَتِ الْكِفَّةُ الْيُسْرَى.

يالَلْعَجَبِ! الْقِطْعَةُ الْكَبِيرَةُ أَصْبَحَتْ أَصْغَرَ مِنَ الْقِطْعَةِ الْأُخْرَى.

مَيْمُونٌ نَظَرَ إِلَى الْمِيزانِ، وقالَ لِلْقِطَّيْنِ الْأَخَوَيْنِ: «الْقِطْعَتانِ غَيْرُ مُتَساوِيَتَيْنِ، لا بُدَّ أَنْ أُساوِيَ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ.»

مَيْمُونٌ مالَ بِفَمِهِ عَلَى قِطْعَةِ الْجُبْنِ الْكَبِيرَةِ الْأُخْرَى.

أَصْبَحَتْ هَذِهِ الْقِطْعَةُ أَقَلَّ فِي الْوَزْنِ مِنْ قِطْعَةِ الْجُبْنِ الْأُولَى.

مَيْمُونٌ جَعَلَ يُكَرِّرُ ما عَمِلَهُ فِي قِطْعَتَيِ الْجُبْنِ مَرَّاتٍ.

فِي كُلِّ مَرَّةٍ كانَتْ إِحْدَى الْكِفَّتَيْنِ تَرْجَحُ الْأُخْرَى.

تَضاءَلَ قُرْصُ الْجُبْنِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا قَدْرٌ قَلِيلٌ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ انْزَعَجا، وَهُما يَرَيانِ قُرْصَ الْجُبْنِ يَتَناقَصُ.

اشْتَدَّ عَجَبُهُما مِنْ قاضِي الْغابَةِ، وَهُوَ يَلْتَهِمُ الْجُبْنَ فِي شَرَهٍ.

الْقِطَّانِ بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ كانَ يَنْظُرُ كُلٌّ مِنْهُما إِلَى صاحِبِهِ.

كانا يَشْعُرانِ بِحَسْرَةٍ وَأَسَفٍ، دُونَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُما شَيْئًا.

كانَ كُلٌّ مِنَ الْقِطَّيْنِ الْأَخَوَيْنِ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: «لَوْ صَبَرْنا عَلَى ذَلِكَ، وانْتَظَرْنا، لَما ظَفِرَ أَحَدُنا بِشَيْءٍ يَأْكُلُهُ. يَجِبُ عَلَيْنا أَنْ نَسْتَخْلِصَ الْقَلِيلَ الَّذِي بَقِيَ لَنا مِنْ قُرْصِ الْجُبْنِ. يَجِبُ عَلَيْنا أَنْ نَطْلُبَ مِنْ قاضِي الْغابَةِ أَنْ يَتْرُكَنا وَشَأْنَنا. كَفَى ما رَأَيْناهُ بِأَعْيُنِنا مِنْ قَضائِهِ الْعَجِيبِ!»

(٨) الصُّلْحُ خَيرٌ

«مِشْمِشٌ» أَقْبَلَ عَلَى «مَيْمُونٍ»، يَقُولُ لَهُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ: «شُكْرًا لَكَ أَيُّها الْقاضِي عَلَى ما بَذَلْتَ مَعَنا مِنْ جَهْدٍ وَعَناءٍ. لا حاجَةَ بِنا بَعْدَ الْآنَ إِلَى مِيزانِكَ الدَّقِيقِ. دَعْ لَنا ما بَقِيَ مِنَ الْجُبْنِ، يَأْخُذُ كُلٌّ مِنَّا نَصِيبَهُ مِنْهُ.»

«بِسْبِسٌ» ارْتاحَتْ نَفْسُهُ لِما سَمِعَهُ مِنْ كَلامِ أَخِيهِ مِشْمِشٍ.

بِسْبِسٌ أَرادَ تَأْيِيدَ أَخِيهِ مِشْمِشٍ فِي كُلِّ ما قالَهُ.

بِسْبِسٌ قالَ لِلْقِرْدِ مَيْمُونٍ: «لَقَدْ تَصالَحْتُ أَنا وَأَخِي مِشْمِشٌ يا سَيِّدَنا الْقاضِي، سَيَرْضَى كُلٌّ مِنَّا بِما يَرْضَى بِهِ الْآخَرُ. اتْرُكْ لَنا بَقِيَّةَ قُرْصِ الْجُبْنِ، وَنُكَرِّرُ لَكَ الشُّكْرَ.»

مَيْمُونٌ شَرَعَ يَتَلَوَّى أَمامَ الْقِطَّيْنِ، وَقالَ لَهُما: «عَجَبًا لَكُما أَيُّها الْأَخَوانِ الْعَزِيزانِ! ماذا تَظُنَّانِ بِي؟ أَتَظُنَّانِ أَنِّي أَتَخَلَّى عَنْ وَاجِبِي نَحْوَكُما، ولا أَفْصِلُ فِي أَمْرِكُما؟ أَنْتُما فَوَّضْتُما إِلَيَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ الَّتِي قامَتْ بَيْنَكُما. ماذا تَقُولانِ؟ كَيْفَ تَتَرَاجَعانِ الْآنَ أَيُّها الْقِطَّانِ؟ لَيْسَ مِنْ حَقِّكُما أَيُّها الْأَخَوانِ أَنْ تَمْنَعانِي مِنْ تَحْقِيقِ الْعَدالَةِ. لَقَدْ عَرَضْتُما عَلَيَّ قَضِيَّتَكُما، وَحَكَمْتُ فِيها حُكْمَ الإِنْصافِ.»

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ كانا مَدْهُوشَيْنِ مِمَّا يَسْمَعانِهِ مِنْ قاضِي الْغابَةِ.

كَيْفَ لا يَكُونُ مِنْ حَقِّ الْأَخَوَيْنِ الْمُتَخاصِمَيْنِ أَنْ يَتَصالَحا؟!

(٩) مُناقَشَةُ «مَيْمُونٍ»

«مِشْمِشٌ» قالَ صائِحًا: «لَقَدْ جِئْناكَ أَيُّها الْقاضِي مُتَخاصِمَيْنِ. لَقَدْ زالَتِ الْآنَ بَيْنَنا الْخُصُومَةُ. إِنَّنا تَصالَحْنا، والصُّلْحُ خَيْرٌ.»

«بِسْبِسٌ» جَعَلَ يَهُزُّ ذَيْلَهُ، وَيَقُولُ: «لِلْخَصْمَيْنِ أَنْ يَتَراضَيا. إِذا تَراضَيا وَجَبَ عَلَى القاضِي النَّزِيهِ أَنْ يَفْرَحَ بِهَذا التَّراضِي بَيْنَهُما. لِماذا تُصِرُّ عَلَى أَنْ تَتَدَخَّلَ فِي شَأْنِنا، وَنَحْنُ لا نُرِيدُ؟»

الْقِرْدُ «مَيْمُونٌ» ساءَهُ ما يَسْمَعُ مِنْ هَذا الْكَلامِ، وقالَ لِلْقِطَّيْنِ: «خَبِّرانِي: لِماذا لا تُرِيدانِ أَنْ أَمْضِيَ فِي فَضِّ الْمُشْكِلَةِ الَّتِي بَيْنَكُما؟ إِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُما أَنْ يَقَعَ بَيْنَكُما بَعْدَ ذَلِكَ خِلافٌ!»

مِشْمِشٌ بادَرَ إِلَى القِرْدِ مَيْمُونٍ يَرُدُّ عَلَى كَلامِهِ بِقُوَّةٍ: «لَمْ تَعُدْ بَيْنَنا مُشْكِلَةٌ نَطْلُبُ إِلَيْكَ أَنْ تَفُضَّها. الْمُشْكِلَةُ الْآنَ هِيَ مُشْكِلَتُنا مَعَكَ يا قاضِيَ الْغابَةِ! كَيْفَ نَسْتَخْلِصُ بَقِيَّةَ الْجُبْنِ، لِنَسُدَّ بِها جُوعَنا؟ اتْرُكْها لَنا نَقْتَسِمْها بَيْنَنا، ونَشْكُرْ لَكَ فَضْلَكَ الْعَظِيمَ!»

مَيْمُونٌ حاوَلَ إِقْناعَ بِسْبِسٍ وَمِشْمِشٍ بِأَنْ يَتَوَلَّى قِسْمَةَ بَقِيَّةِ الْجُبْنِ.

لَكِنَّهُ لَمْ يَنْجَحْ فِي مُحاوَلَتِهِ إِقْناعَ الْقِطَّيْنِ بِما يَطْلُبُ.

كَيْفَ يَتَدَخَّلُ الْقِرْدُ مَيْمُونٌ فِي شَأْنِهِما، بَعْدَ أَنِ انْتَهَتْ خُصُومَتُهُما؟

لَقَدْ زالَ الْخِلافُ الَّذِي كانَ بَيْنَهُما، وَأَصْبَحا مُتَراضِيَيْنِ!

كانَتْ حُجَّةُ الْقِطَّيْنِ أَقْوَى مِنْ حُجَّةِ الْقِرْدِ الْمُتَعَنِّتِ مَعَهُما.

(١٠) دِفاعُ «مَيْمُونٍ»

«مَيْمُونٌ» خابَتْ مُحاوَلَتُهُ مَعَ الْقِطَّيْنِ، وَيَئِسَ مِنْ إِقْناعِهِما.

وَجَدَ نَفْسَهُ مُضْطَرًّا إِلَى التَّخَلِّي عَنِ الْمَوْضُوعِ، تَحْقِيقًا لِرَغْبَةِ الْقِطَّيْنِ.

مَيْمُونٌ جَعَلَ يُوَجِّهُ نَظَراتِهِ إِلَى بَقِيَّةِ الْجُبْنِ، وَهُوَ يَتَلَمَّظُ.

لَمْ يُشْبِعْهُ ما أَكَلَ مِنْهُ. طَمِعَ فِي الْبَقِيَّةِ الْباقِيَةِ مِنَ الْجُبْنِ.

مَيْمُونٌ جَعَلَ يَدُورُ حَوْلَ نَفْسِهِ، وَيَحُكُّ جَبْهَتَهُ بِيَدِهِ.

أَخَذَ يُفَكِّرُ فِي حِيلَةٍ لِلْحُصُولِ عَلَى بَقِيَّةِ قُرْصِ الْجُبْنِ.

مَيْمُونٌ أَطْرَقَ بِضْعَ لَحَظاتٍ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ قائِلًا: «أَنَسِيتُما أَيُّها الْقِطَّانِ الْعَزِيزانِ، أَنَّنِي أَضَعْتُ وَقْتِي مَعَكُما؟ أَنَسِيتُما أَنَّنِي بَذَلْتُ جُهْدًا لِأَفْصِلَ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصافِ فِي قَضِيَّتِكُما؟ أَنَسِيتُما أَنَّنِي قَصَدْتُ أَنْ أُزِيلَ الْخِلافَ الْمُسْتَحْكِم بَيْنَكُما؟ أَنَسِيتُما أَنَّنِي ذَهَبْتُ لِإِحْضارِ مِيزانِ الْحَقِّ، وَرَجَعْتُ أَحْمِلُهُ؟ لَقَدْ لَقِيتُ مَشَقَّةً وَعَناءً فِي الذَّهابِ وَالْإِيابِ، وَفِي حَمْلِ الْمِيزانِ! هَلْ نَسِيتُما أَنَّنِي بَعْدَ أَنْ عُدْتُ إِلَيْكُما رَفَعْتُ الْمِيزانَ بِيَدِي؟ قُمْتُ بِذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَاحْتَمَلْتُ لِذَلِكَ جُهْدًا بَعْدَ جُهْدٍ، وَكُنْتُ أَقْضِمُ مِنْ قُرْصِ الْجُبْنِ، لِأَجْعَلَهُ قِطْعَتَيْنِ مُتَعادِلَتَيْنِ؛ أَقْضِمُ مِنَ الْقِطْعَةِ الْكَبِيرَةِ قَضْمَةً يَسِيرَةً، لِتُساوِيَ الْقِطْعَةَ الصَّغِيرَةَ. لَقَدِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، وَأَنْ أُكَرِّرَهُ، فَعَلْتُ ذَلِكَ لِغَرَضٍ واحِدٍ، هُوَ أَنْ أُحَقِّقَ الْعَدْلَ فِي الْقِسْمَةِ.»

(١١) مُكافَأَةُ الْقاضِي

«مَيْمُونٌ» خَتَمَ دِفاعَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَمامَ الْقِطَّيْنِ بِقَوْلِهِ: «قُمْتُ بِهَذا حَتَّى تَتَعادَلَ الْكِفَّتانِ فِي الْمِيزانِ، وَيَتَساوَى النَّصِيبانِ. لا تُنْكِرا ما أَصابَنِي مِنْ تَعَبٍ وَإِرْهاقٍ أَيُّها الْأَخَوانِ!»

بِسْبِسُ اغْتاظَ مِمَّا سَمِعَهُ مِنْ مَيْمُونٍ، لَكِنَّهُ كَتَمَ غَيْظَهُ فِي نَفْسِهِ.

مِشْمِشٌ صاحَ قائِلًا، وَقَدْ ضاقَ صَدْرُهُ بِمُحاوَرَةِ الْقِرْدِ: «ماذا تَطْلُبُ أَيُّها الْقاضِي الْعَجِيبُ الَّذِي لَمْ نَعْرِفْ لَهُ مَثِيلًا؟»

مَيْمُونٌ نَظَرَ نَظْرَةً ماكِرَةً، وَأَجابَ الْقِطَّ خافِتَ الصَّوْتِ: «أُرِيدُ أَنْ أَحْصُلَ مِنْكُما عَلَى مُكافَأَةٍ عَلَى عَمَلِي الشَّاقِّ.»

مِشْمِشٌ قالَ لَهُ فِي اهْتِياج: «أَيَّةَ مُكافَأَةٍ تَبْغِي؟!»

مَيْمُونٌ قالَ، وَهُوَ يُوَجِّهُ كَلامَهُ لِلْقِطَّيْنِ مَعًا: «أَنْتُما لا تَمْلِكانِ شَيْئًا تُكافِئانِ بِهِ الْآنَ أَيُّها الْقِطَّانِ. وَلا أَثِقُ بِقُدْرَتِكُما فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى أَداءِ ما أَفْرِضُهُ مِنْ غَرامَةٍ. لا أَقَلَّ مِنْ أَخْذِ الْقِطْعَةِ الَّتِي بَقِيَتْ مِنَ الْجُبْنِ، مُكَافَأَةً لِي عَلَى عَمَلِي. سَأَرْضَى بِهَذِهِ الْمُكافَأَةِ الضَّئِيلَةِ، رِفْقًا بِحالِكُما، وَإِشْفاقًا عَلَيْكُما. سَأَقْنَعُ مَعَ هَذا بِأَنْ أَقْبَلَ مِنْكُما الشُّكْرَ عَلَى ما بَذَلْتُهُ مِنْ جُهْدٍ. أَطْمَعُ أَنْ أَتَلَقَّى مِنْكُما الدُّعاءَ بِأَنْ يُطِيلَ اللهُ عُمْرِي. لَقَدْ عَرَفْتُما حَقًّا أًنِّي أَنا، قاضِي الْغابَةِ، حارِسُ الْعَدالَةِ!»

مَيْمُونٌ تَناوَلَ بَقِيَّةَ الْجُبْنِ بِيَدِهِ النَّحِيلَةِ، وَأَلْقاها فِي فَمِهِ.

(١٢) عَوْدَةُ «مَيْمُونٍ»

الْقِرْدُ «مَيْمُونٌ» لَمْ تَعُدْ بِهِ حاجَةٌ إِلَى الْقِطَّيْنِ الْمِسْكِينَيْنِ.

إِنَّهُ جارَ عَلَيْهِما؛ لَقَدِ اسْتَغَلَّ خِلافَهُما، وَأَكَلَ طَعامَهُما.

مَيْمُونٌ قالَ لِلْقِطَّيْنِ، وَهُوَ يُوَدِّعُهُما، وَيَبْتَسِمُ لَهُما: «لا شَكَّ فِي أَنَّكُما سَعِيدانِ، وَبِحُكْمِي راضِيانِ! حَكَمْتُ بَيْنَكُما بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ. إِلَى الِّلقاءِ أَيُّها الْقِطَّانِ الْعَزِيزانِ. إِنِّي خادِمُكُما دائِمًا، لِأَحْكُمَ بَيْنَكُما، عِنْدَما تَخْتَلِفانِ!»

مَيْمُونٌ مَضَى فِي الْغابَةِ، وَوَجْهُهُ مُتَهَلِّلٌ بِالْفَرَحِ وَالاغْتِباطِ.

مَيْمُونٌ جَعَلَ يُفَكِّرُ فِيما جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِطَّيْنِ الْأَخَوَيْنِ.

قالَ يُكَلِّمُ نَفْسَهُ، وَضَمِيرُهُ يُؤَنِّبُهُ: «حَقًّا خَدَعْتُ هَذَيْنِ الْقِطَّيْنِ الْمُتَنازِعَيْنِ، وَلَمْ يَنْتَبِهْ أَحَدُهُما لِحِيلَتِي. ما زِلْتُ أَخْدَعُهُما، حَتَّى ظَفِرْتُ بِقُرْصِ الْجُبْنِ كُلِّهِ. حَقًّا إِنِّي حَرَمْتُ الْقِطَّيْنِ ثَمَرَةَ جُهْدِهِما وَتَعَبِهِما. أَخَذْتُ مِنْهُما قُرْصَ الْجُبْنِ الَّلذِيذِ، ذَلِكَ الْقُرْصَ الَّذِي هُوَ حَقُّهُما.»

الْقِرْدُ وَقَفَ فِي الطَّرِيقِ بَعْضَ الْوَقْتِ، وَهُوَ مُتَأَلِّمٌ.

كانَ يُحِسُّ فِي هَذا الْوَقْتِ بِأَنَّهُ نادِمٌ عَلَى ما فَعَلَهُ الْيَوْمَ مَعَ الْقِطَّيْنِ.

لَكِنَّهُ قَفَزَ فِي الْغابَةِ فِي نَشاطٍ وَفَرَحٍ، وَهُوَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: «وَهَلْ أَنا الْمُذْنِبُ أَمْ هُما؟ هَلْ قُلْتُ لَهُما: تَنازَعا وَاخْتَلِفا؟ الذَّنْبُ عَلَيْهِما، لا عَلَيَّ، أَوَّلًا وَأَخِيرًا. هَذا جَزاؤُهُما.»

(١٣) دَرْسٌ نافِعٌ

«بِسْبِسٌ» وَ«مِشْمِشٌ» كانا يُتابِعانِ حَرَكاتِ «مَيْمُونٍ» فِي سُخْطٍ.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ كانا يُحَدِّقانِ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَأْكُلُ بَقِيَّةَ الْجُبْنِ.

الْقِطَّانِ لَمْ يَجْرُؤَا عَلَى أَنْ يَهْجُما عَلَيْهِ، وَيَمْنَعاهُ مِنَ الْأَكْلِ.

الْقِطَّانِ نَدِما أَشَدَّ النَّدَمِ عَلَى ما وَقَعَ بَيْنَهُما مِنْ خِلافٍ.

لَقَدْ أَساءَ كُلٌّ مِنْهُما إِلَى الْآخَرِ، حِينَ اخْتَلَفا عَلَى قُرْصِ الْجُبْنِ.

شَعَرَ كُلٌّ مِنَ الْقِطَّيْنِ بِخَطَئِهِ، فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَفِي حَقِّ أَخِيهِ.

بِسْبِسٌ قالَ فِيما حَدَثَ: «لَيْتَنا لَمْ نَتَنازَعْ فِي شَأْنِ الْجُبْنِ. لَيْتَ كُلًّا مِنَّا رَضِيَ بِما يَرْضَى بِهِ الْآخَرُ مِنْ نَصِيبٍ.»

مِشْمِشٌ قالَ لِأَخِيهِ بِسْبِسٍ: «لا فائِدَةَ مِنَ الْحَسْرَةِ وَالتَّأَسُّفِ. يَجِبُ أَنْ نَتَدَبَّرَ مَعًا هَذا الدَّرْسَ الَّذِي تَعَلَّمْناهُ مِنْ قاضِي الْغابَةِ. يَجِبُ أَلَّا نَنْساهُ، لِنَسْتَفِيدَ مِنْهُ، فِي مُسْتَقْبَلِنا القَرِيبِ وَالْبَعِيدِ. إِنَّهُ دَرْسٌ قاسٍ، وَلَكِنَّهُ لَنْ يَذْهَبَ هَباءً. سَنَنْتَفِعُ بِهِ. لَقَدْ ظَلَمَنا الْقِرْدُ ظُلْمًا شَدِيدًا، وَلَكِنَّهُ أَكْسَبَنا خِبْرَةً وَتَجْرِبَةً.»

بِسْبِسٌ قالَ لِأَخِيهِ مِشْمِشٍ، وَهُوَ يَهُزُّ رَأْسَهُ: «نَعَمْ، إِنَّ قاضِيَ الْغابَةِ لَقَّنَنا دَرْسًا لَنْ نَنْساهُ أَبَدًا.»

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ تَعَلَّما أَنَّ نَتِيجَةَ الْخِلافِ وَالنِّزاعِ شَرٌّ كَبِيرٌ.

الْقِطَّانِ الْأَخَوَانِ اتَّفَقا عَلَى أَنْ يَكُونا دائِمًا مُتَحابَّيْنِ مُتَوافقَيْنِ.

تَعاهَدا عَلَى أَنْ يَكُونا فِي حَياتِهِما مُتَعاوِنَيْنِ مُتَفاهِمَيْنِ.

(١٤) الْقِصَّةُ الْخالِدَةَ

الْقِطَّانِ لَمْ يَخْتَلِفا، مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، عَلَى شَيْءٍ بَيْنَهُما.

الْقِطَّانِ الْأَخَوانِ عاشا بَقِيَّةَ عُمْرِهِما، فِي وِئامٍ وَسَلامٍ…

«بِسْبِسٌ» كانَ يَطْلُبُ مِنْ أَوْلادِهِ أَنْ يَحْذَرُوا نَتِيجَةَ الْخِلافِ.

«مِشْمِشٌ» كانَ يُعَلِّمُ أَوْلادَهُ أَنْ يَتَسامَحُوا، وَأَلَّا يَتَنازَعُوا.

بِسْبِسٌ وَمِشْمِشٌ كانا يَحْكِيانِ لِأَوْلادِهِما قِصَّةَ: قاضِي الْغابَةِ.

أَصْبَحَتْ قِصَّةُ قاضِي الْغابَةِ حَدِيثَ الْقِطَطِ فِي كُلِّ مَكانٍ.

جِيرانُ بِسْبِسٍ وَمِشْمِشٍ مِنَ الْقِطَطِ كانَتْ تَتَناقَلُ هَذِهِ الْقِصَّةَ.

بَعْضُ الْقِطَطِ يَحْكِيها لِبَعْضٍ، حِينَ تَتَلاقَى لِلْمُؤَانَسَةِ وَالْمُسامَرَةِ.

الْقِطَطُ الْجِيرانُ كانَتْ تَضْحَكُ، وَهِيَ تَسْتَمِعُ إِلَى حِكايَةِ قاضِي الْغابَةِ.

لَكِنَّها كانَتْ تَسْتَفِيدُ بِكُلِّ ما فِي أَحْداثِها مِنْ عِبْرَةٍ.

ظَلَّتْ قِصَّةُ الْقِرْدِ «مَيْمُونٍ»: قاضِي الْغابَةِ، قِصَّةً خالِدَةً.

كانَتْ تُثِيرُ الضَّحِكَ وَالسُّخْرِيَةَ، وَتَحْلُو بِها الْمُسامَرَةُ.

اسْتَفادَ بِها كُلُّ مَنْ سَمِعَها مِنَ الْقِطَطِ الصِّغارِ وَالْكِبارِ.

سَمِعْتُ هَذِهِ القِصَّةَ، وَأَنا صَغِيرٌ، مِنْ أَبِي.

حِينَ سَمِعْتُها، ابْتَهَجَ بِها قَلْبِي، وَانْتَفَعَ عَقْلِي، نَقَلْتُها إِلَيْكَ يا وَلَدِي.

احْكِها أَنْتَ — بَعْدَ ذَلِكَ — لِإِخْوانِكَ فِي الْبَيْتِ وَالْمَدْرَسَةِ.

أُحِبُّ أَنْ تَبْتَهِجَ قُلُوبُكُمْ بِحِكايَتِها اللَّطِيفَةِ.

أُرِيدُ أَنْ تَنْتَفِعَ عُقُولُكُمْ بِدَرْسِها الْمُفِيدِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤