الفصل الأول

لمحة تاريخية

أسباب سقوط الأُمَوِيِّينَ

(١) الأحزاب السياسية

عَرَفْنَا في كلامنا على صدر الإسلام أنَّ الدولة الأُمَوِيَّةَ قامت على كره من الأنصار ومن القُرَشِيِّينَ أنسبائها؛ فناوءوها جميعًا، وخصوصًا بعد أن نبذت الشورى في الخلافة، وجعلتها ملكًا عضوضًا.

ثم نشأت الأحزاب السياسية، فكانت بعض الأسباب القوية التي أودت بمُلْكِ بني أُمَيَّةَ فتركته أثرًا بعد عين؛ فإنَّ قيام الزُّبَيْرِيِّينَ في الحِجَازِ، والخَوَارِج في الجَزِيرَةِ، والشِّيعِيِّين في العِرَاقِ، فَتَّ في ساعد الأُمَوِيِّينَ، وجعل مملكتهم دريئة للثورات والدسائس، حتى إذا تبين الضعف عليها طمع فيها الخصوم، فقاموا يكيدون لها في السر والعلانية.

ولم يكن زوال الحزب الزُّبَيْرِيِّ ليرد الراحة على بني أمية، والشيعيون والخوارج أيقاظ لا تنام لهم عين، والشُّعُوبِيَّة يدسون للعرش، ويَتَحَيَّنُونَ الفرص لدكِّه من أساسه.

(٢) الشعوبية

حمل الفتح الإسلامي للعرب شعوبًا كثيرة دانت لهم فبسطوا سلطانهم عليها، وأثقلوا كواهلها جزية وخراجًا، واستاقوا منها الأسرى والسبايا؛ فاستعبدوهم وأذلوهم، ثم أطلقوا على من أُعْتِقَ منهم لقب الموالي.١

على أنَّ هذه الشعوب الموتورة لم تكن لتنام على الضيم طويلًا، وفيها أمم عريقة في حضارتها، عاديَّة في استقلالها، تأبى الخنوع لقوم غزاة خرجوا من صدر البادية حفاة عراة، فكسحوا الشرق والغرب بسنابك خيولهم، وأفادوا من فتوحاتهم مالًا وافرًا؛ فأيسروا بعد فقر، وأُترفوا بعد شظف وخشونة.

فأسلم كثير من هذه الشعوب المغلوبة رجاء أن يجدوا في إسلامهم نَصَفًا ومساواة، ولكن العرب الفاتحين أسكرتهم نشوة النصر، وأخذتهم عزة السلطان بعد أن أخضعوا مملكة فَارِس، واقتطعوا جزءًا كبيرًا من بلاد الرُّوم، فباتوا ينظرون إلى كل عجمي نظرة ازدراء واحتقار، وحُقَّ لهم أن يعتزوا ببطشهم؛ فقد كان العالم يومئذ مشطورًا بين كِسْرَى وقَيْصَر، فجمعوا إليهم شطريه؛ فزُلْزِلَ الإيوان، وتقلَّص ظل الروم.

فلذلك لم يجد الذين أسلموا من الأعاجم ما كانوا يرجون من كرامة وإنصاف، مع أنَّ فيهم من حَسُنَ إسلامُهم، وفيهم من أتقنوا اللُّغة العربية وبرعوا فيها فخرج منهم الكُتَّاب والشعراء، وتبحروا في العلوم الدينية فكان منهم الفقهاء والمحدِّثون، وتولى بعضهم الخطط العالية كالقضاء والحجابة،٢ فأمضهم أن يهونوا على العربي، فيأنف أن يزوجهم بناته، وهو لا يتورع من التسري والاستمتاع بنسائهم، وساءهم أن يروا من خلفاء بني أمية إيثارًا للعرب، وتعصبًا على العجم؛ فقد كان المولى يساق إلى الحرب ماشيًا، لا يعطى غنيمة ولا فيئًا، فلا غَرْوَ أن يتولد في نفسه كره شديد للعربي، ويتمنى زوال ملكه، ويكيد للعرش الأموي تخلصًا من جوره واستبداده.

فمن هنا نشأ حزب الشعوبية يضم إليه أبناء الأمم المقهورة، متَّحِدِين على بغض العرب والتنقص منهم، وذكر مثالبهم، وتفضيل العجم عليهم، ولكنهم كانوا ضعافًا في شباب الدولة الأموية؛ فلم يرتفع لهم صوت حتى آنسوا الضعف في جسمها، والانحلال في أعضائها؛ فعضدوا العباسيين على أمل أن يكونوا لهم خيرًا من الأمويين وأبقى.

(٣) ترف الأمويين وإهمالهم

كان العهد الأُموي عهد ثورات وحروب، فلم يبت خلفاؤه ليلة إلَّا على عصيان يتأهبون لقمعه، أو على مكيدة يحاولون ردَّها، وكان لهم في بدء أمرهم من القوة والسلطان ما مكَّنهم من نحور أعدائهم، ولكن لم يلبثوا أن تسلل الضعف إليهم؛ لتفاقم الثورات من جهة، ثم لانغماسهم في الترف من جهة أخرى؛ فإنَّهم انصرفوا إلى اللهو والخمر والمجون، وأصبحوا لا يهتمون بتأييد سلطانهم، ولا يُعْنَوْنَ بانتقاء عمَّالهم؛ فإنَّ هشام بن عبد الملك ولَّى نَصْر بن سَيَّار أعمال خُرَاسَانَ، وهو يعلم أن عصبيته فيها ضعيفة، وأنَّ خُرَاسَانَ لا يضطلع بأمرها إلا من كان قويَّ العشيرة؛ فكانت ولايته عليها شؤمًا ووبالًا، فقد اجتمعت عليه أفناء اليمن وربيعة، وحاربته لانحيازه إلى المضرية.

وربما وُلِّيَ العامل عملًا بإشارة جارية، أو مكافأةً على هدية، فِعْلَ هشام بالجُنَيْد بن عبد الرحمن، وكان الجُنَيْدُ قد أهدى لامرأة هشام قلادة من جوهر فأعجبت هشامًا؛ فأهدى إليه الجُنَيْدُ قلادة أخرى فولَّاه هشام خراسان.

ورأى العمال من الخلفاء غفلة وإهمالًا، فأصبحوا لا هَمَّ لهم إلَّا حشد الأموال، والاستكثار من الصنائع٣ والموالي، ورأى الناس الانحلال يدب في هيكل الدولة؛ فأخذوا يشقون عليها عصا الطاعة، وهم إنما كانوا خاضعين كرهًا لا رغبة.

(٤) شقاق البيت المالك

قيل لبعض الأُمَوِيِّينَ: ما كان سبب زوال ملككم؟ قال: «اختلاف فيما بيننا، واجتماع المختلفين علينا.» ومن يتتبع الحوادث التي تقدمت سقوط بني أُمَيَّةَ يتبين له صحة هذا القول؛ فإنَّ الأحزاب السياسية على اختلافها في المذاهب والعقائد كانت تسعى جميعًا لقلب العرش الأموي، فاجتمع على ذلك الخارجي والزبيري والعَلَوِي والعَبَّاسِي والشُّعُوبِي، فشَرَعَ كلُّ واحد منهم يرمي إلى هدفه من الناحية التي ينتمي إليها، فتكاثر وَقْعُ السهام على هيكل الدولة، حتى انهدَّ بناؤه فانهار انهيارًا.

وساعد أعداءَ الأمويين على نيل مأربهم انشقاقُ أُمَيَّةَ على نفسها، فإنَّ أمراءَها أخذ بعضهم يكيد لبعض، فأضعفوا شأنهم وأطمعوا الناس فيهم، ويعود سبب هذا الانشقاق إلى نظام ولاية العهد؛ فإنَّه كان يثير الضغائن بين الأخ وأخيه، فضلًا عن القريب وقريبه، وحسبنا أن نُلْقِيَ نظرة عَجْلَى على طلاب ولاية العهد في صدر الإسلام وفي العصر العباسي؛ لنعلم مبلغ ما جرَّت من الويلات على الخلفاء وأبنائهم.

وفساد النظام في ولاية العهد قائم على تعددها، فإنَّ الخليفة كان يعقد الولاية في حياته لاثنين أو ثلاثة من أولاده، أو لولده وأخيه، فإذا استُخْلِفَ وليُّ العهد الأول استبدَّ بالأمر، وحاول خلع الثاني لينقل الولاية إلى بنيه؛ فهشام بن عبد الملك لم يشنِّع على ابن أخيه الوليد بن يزيد، ويرمه بالكفر والفسوق، وينفر الناس عنه إلَّا لأنَّ ولاية العهد كانت له، وهشام يريدها لابنه من بعده.

ومات هشام ولم يستطع خلع الوليد، ولكنه استطاع أن يسيءَ إلى سمعته، فجعله في عيون الناس كافرًا زِنْدِيقًا لا يشبع من الخمر والفسق والمجون.

ولسنا نحاول أن ندفع هذه التهمة عن الوليد؛ فإنَّه لم يكن بريئًا من التهتك والشك، ولكننا نعتقد أنَّه لم يكن شرَّ بني قومه، ولولا ولاية العهد واضطهاد هشام له، ثم انتقامه من ابني هشام بضربه أحدهما وحبسه الآخر؛ لما كره الناس حُكْمَهُ وثاروا به وقتلوه، ولكن السياسة صَوَّرَتْهُ لهم جبارًا عنيدًا، يمزق القرآن، ويستهتر بالفجور، ويغتسل بالخمر، وصورت ابني هشام ضحيتين بريئتين، يطغى عليهما الفاسق بالحبس والتعذيب.

وليس من غرضنا أن نتبسط في الكلام على الوليد وقتله، وإنما نريد أن نظهر ما جرَّ نظام ولاية العهد من النكبات على بني أُمَيَّةَ؛ فإنَّه رمى بينهم الشقاق فتفرقت كلمتهم، وكان مقتل الوليد شؤمًا عليهم، وسببًا قويًّا لسقوطهم؛ لأنَّ الناس طمعوا فيهم واجترأوا عليهم، فأخذوا يثيرون بعضهم على بعض ليزيدوهم ضغينة واختلافًا، فلم يقم خليفة بعد الوليد إلَّا خرج عليه بعض أبناء عمه، وحاربوه ونازعوه الإمامة؛ فأصبحت البلاد في أواخر العصر الأموي ميدانًا للحروب والثورات.

فيتضح ممَّا تقدم أنَّ عدة أسباب تواطأت على إضعاف سلطان أمية؛ فمِنْ إمعان في اللهو والترف، إلى غفلة وإهمال في أولي الأمر، إلى شقاق واختلاف في الأسرة الأموية، إلى اتفاق الأحزاب المختلفة على إزالة هذا الملك الضخم؛ فالخوارج يرون أنَّ الحكم لله لا للناس، والشعوبية يطلبون الخلاص من بني أمية لعل في تغير السلطان راحة لهم وفرجًا، والعلويون يبثون الدعوة لأنفسهم، والعباسيون يسايرونهم في بثها ليستغلوها منهم بعد حين.

وقد رأيت أنَّ قول الأموي في زوال ملكهم — اختلاف فيما بيننا واجتماع المختلفين علينا — يكاد يختصر أسباب الضعف كلها في البيت المالك.

(٥) الدعوة العلوية

ذكرنا في الكتاب الأول أنَّ الحسن بن علي نزل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان؛ نفورًا من الحرب، وابتغاء لحقن الدماء، غير أنَّ هذا النزول لم يرق الشيعة العلوية فقابلته بالسخط، ولكن لم يكن لها قِبَل بمعاوية، فصبرت كارهة على أمل أن يعود الأمر من بعده إلى أهل البيت، وشدَّ ما كانت خيبتها لما أوصى معاوية بالمُلْكِ إلى ابنه يزيد، جاعلًا الخلافة وراثة بعد أن كانت شورى.

وما اسْتُخْلِفَ يزيدُ حتى نشط العلويون في الكوفة وبايعوا الحسين بن علي، فحاربه يزيد وقُتِلَ في كَرْبَلَاءَ، فاستفظع الناس مقتل ابن بنت الرسول، ونشأ على إثره الحزب الزبيري يريد نزع السلطان من يد الأُمويين، وازداد الشيعيون حماسة وتعصبًا لعلي وأبنائه، ونقمة على بني أُمَيَّةَ، ولكنهم انقسموا فرقًا؛ فبايعت الشيعة الكَيْسَانِيَّةُ٤ محمد بن الحَنَفِيَّة٥ وجعلته إمامها، ثم توفي محمد بن الحنفية، فانتقلت الإمامة إلى ابنه عبد الله أبي هاشم وكان عالمًا جليلًا، فوفد يومًا على سليمان بن عبد الملك وهو خليفة، فرأى منه سليمان فصاحة وقوة وعلمًا وعقلًا فخافَهُ؛ لعلمه بطمعه في الخلافة، فأرسل إليه من يدس له السم في أثناء رجوعه إلى المدينة، فلما شعر أبو هاشم بالسم وهو في بعض الطريق عَرَّجَ على الحُمَيْمَة،٦ وفيها محمد بن علي بن عبد الله بن عباس،٧ فنزل عنده وأوصى إليه بالخلافة من بعده؛ خوفًا من أن تضيع البيعة وهو بعيد عن أهله.

فلما مات أبو هاشم هَبَّ محمد بن علي ينشر دعوته، واثقًا بالنجاح لاكتسابه الشيعة الكَيْسَانِيَّةِ، ولكن المَنِيَّةَ عجلت عليه، فأوصى إلى ابنه إبراهيم الإمام، فأرسل إبراهيم دعاته إلى خُرَاسَانَ؛ لأنَّ الفرس أشد الشعوبيين نقمة على بني أمية، ولأنَّ أكثر الشيعة الكيسانية في خراسان والعراق.

وكان الحزب الأعظم من الشيعة يناصر عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي؛ فتخوف العباسيون منه وحسبوا له حسابًا، فرأوا أن يعقدوا مؤتمرًا يجمع بني هاشم علويَّهم وعباسيهم؛ للاتفاق على من يخلف الأمويين من أهل البيت، فعقد المؤتمر في مَكَّةَ، وحضره من العباسيين أخَوَا إبراهيم الإمام: أبو العباس السفاح، وأبو جعفر المنصور، وغيرهما، وحضره من العلويين عبد الله بن الحسن وولداه محمد وإبراهيم وغيرهم، فتشاوروا في الأمر فتشبث العلويون بحقهم في الإمامة، فلم يجد العباسيون بُدًّا من مسايرتهم إلى أن تتهيأ لهم الأسباب فيستقلوا بالأمر دونهم، فوافقوهم على مبايعة محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب ﺑ «النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ».

ويرجح أنَّ هذه البيعة جرت سرًّا؛ لأنَّ العباسيين أنكروها بعد أن قوي ساعدهم، وحاول محمد بن عبد الله إعلانها فلم يصدقه أحد إلا الذين عرفوا دخيلة الأمر، وعددهم قليل.

وجملة القول أنَّ الدعوة العلوية كانت ضعيفة ضئيلة بالنسبة إلى الدعوة العباسية، وتعود أسباب هذا الضعف إلى انقسام الشيعة وتعدد فرقهم، ثم إلى مبايعة أبي هاشم لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، والتفاف الشيعة الكيسانية عليه وعلى ابنه إبراهيم الإمام من بعده. ثم إلى مبايعة بعض العباسيين لمحمد بن عبد الله بن الحسن؛ فإنَّ العلويين غرَّتهم هذه الظاهرة من أبناء عمهم فركنوا إليهم، ومن أسباب الضعف أنَّ العلويين بالغوا في الخروج على بني أُمَيَّةَ، فكثر فيهم التقتيل؛ فقلُّوا فضعفوا. أمَّا العباسيون فلم يعمدوا إلى العصيان، ولم يقتل واحد منهم إلا بعد أن أظهروا دعوتهم، فكثروا وقووا.

(٦) الدعوة العباسية

ابتدأت الدعوة العباسية بالظهور سنة «١٠٠ﻫ/٧١٨م» في خلافة عمر بن عبد العزيز؛ فإنَّ محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بعد أن أخذ الوصاية من أبي هاشم أنشأ يؤلف الجماعات السرية، فاختار اثني عشر نقيبًا لِبَثِّ الدعوة، وجعل تحت أيديهم سبعين رجلًا يأتمرون أمرهم، وأوصاهم أن يولوا وجوههم شطر خراسان؛ لأنَّها أصلح من غيرها لنشر الدعوة، ومما قاله في كتابه لهم: عليكم بخراسان؛ فإنَّ هناك العدد الكثير، والجَلَد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم يتوزعها الدَّغَل، وهم جند لهم أبدان وأجسام، ومناكب وكواهل، ولحى وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة، وبعدُ فإنِّي أتفاءل إلى المشرق، وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق.٨

وقد أحسن محمد باختيار خراسان؛ لأنَّ الأمصار العربية كانت تشغلها الأحزاب، وكل حزب يسعى لنفسه. أمَّا خراسان فإنَّ الفرس فيها يكرهون العرب وبني أمية، ولكنهم لا يطمعون في الخلافة، وهم شيعيون في كثرتهم، ولكنهم لا ينفرون من بني العباس؛ لأنَّهم هاشميون من أهل البيت.

فراح دعاة العباسيين يتنقلون في الأمصار الإسلامية، ويبثون الدعوة سرًّا متظاهرين بالتجارة وطلب الرزق، وبقوا على هذه الحال حتى توفي محمد بن علي، وصار الأمر إلى ولده إبراهيم الإمام، فكاتب إبراهيم مشايخ خراسان ودهاقينها، وبعث إليهم الدعاة، ثم أرسل أبا مسلم الخراساني،٩ وكان كثير الدهاء، شجاعًا مقدامًا، شديد الإخلاص للعباسيين، فجاء خراسان سنة «١٢٩ﻫ/٧٤٦م»، وأقام في مَرْوَ يدعو الناس إلى مبايعة آل محمد من غير تعيين؛ لتكون الدعوة مبهمة مشتركة بين العباسيين والعلويين، وقد لجأ إلى هذه الحيلة ليأمن معارضة الشيعيين في بلاد فارس، فتبعه خلق كثير.

وكان على خراسان نصر بن سَيَّار من قبل الأمويين فخاف عاقبة الأمر، فأرسل إلى الخليفة مروان بن محمد يخبره بحال أبي مسلم وكثرة من معه، وفي ذلك يقول:

أَرَى خَلَلَ الرَّمَادِ وَمِيضَ نَارٍ
وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ضِرَامُ
فَإِنْ لَمْ يُطْفِهَا عُقَلَاءُ قَوْمٍ
يَكُونُ وَقُودَهَا جُثَثٌ وَهَامُ
فَإِنَّ النَّارَ بِالْعُودَيْنِ تُذْكَى
وَإِنَّ الْحَرْبَ أَوَّلُهَا كَلَامُ
فَقُلْتُ مِنَ التَّعَجُّبِ: لَيْتَ شِعْرِي!
أَأَيْقَاظٌ أُمَيَّةُ أَمْ نِيَامُ؟١٠

فتخاذل مروان عن إنجاد نصر وكتب إليه يقول: إنَّ الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم أنت هذا الداء الذي قد ظهر عندك.

واشتدت شوكة أبي مسلم فهرب نصر بن سيَّار، فقصد العراق فمات في الطريق.

وكان مروان قد تنبه في تلك الأثناء من غفلته، فأرسل إلى الحُمَيْمَةِ بعثًا واعتقل إبراهيم الإمام، فلما قبض عليه أوصى بالخلافة إلى أخيه أبي العباس السفاح، وأمر أهله وأنصاره بالمسير إلى الكُوفَةِ؛ لأنَّ فيها أنصاره من الشيعة الكيسانية.

وحُبس إبراهيم في حَرَّانَ١١ حتى مات، واختُلِفَ في سبب موته؛ فزعم بعضهم أنَّه سقي سمًّا، وقال آخرون: بل هدم عليه بيت فمات.

فلما علم أبو مسلم بموته دعا أهل خراسان إلى مبايعة أبي العباس السفاح فأجابوه، ثم سيَّر العساكر لقتال مروان، وكان السفاح قد ذهب بأهله وأنصاره إلى الكوفة، فأظهر دعوته هناك فبايعه أهلها في «١٢ ربيع الثاني سنة ١٣٢ﻫ/٢٨ تشرين الثاني سنة ٧٤٩م».

وتجهزت العساكر الخراسانية وغيرها من جهة السفاح لقتال مروان، ومقدمها عبد الله بن علي عم السفاح، وتقدم مروان بجيشه إلى الزَّابِ الْأَعْلَى؛١٢ فالتقته جيوش العباسيين وقاتلته فاندحر مكسورًا، واشتفت نفوس الفرس من العرب في ذاك اليوم بعد أن قهرها وأذلَّها يوم القادسية.

وتعقب جيش السفاح مروان في هزيمته، حتى أدركه في مصر صالح أخو عبد الله بن علي، فقتله واحتز رأسه، وأرسله إلى السفاح.

وبايع أهل مصر العباسيين فاستتب لهم الأمر، وزالت الخلافة الأموية من الشرق بعد مقتل مروان.

(٧) ميزة العصر

فقد رأيت أنَّ الفضل في بنيان العرش العباسي للفرس عمومًا، ولأبي مسلم خصوصًا؛ فلا غَرْوَ أن تصطبغ المملكة العباسية باللون الفارسي، ويكون للفرس صوت بعيد فيها، فيستأثروا بالخطط العالية، ويتولوا شئون الدولة، ويديروا سياستها، ويتمتعوا بجميع الحقوق التي كان العرب يتمتعون بها دونهم؛ فقد أعادت لهم موقعة الزاب سابق عزهم، فغلب عنصرهم على العنصر العربي، وطبعوا العصر العباسي الأول بطابعهم الخاص.

على أنَّنا لا نرى إطلاق الكلام دون احتياط؛ فإنَّ بني العباس في عصرهم الأول كانوا أصحاب حزم وقوة وتدبير، وقد علموا أنَّ الفرس أهل سيادة وبطش، ورأوا منهم إخلاصًا ومناصرة؛ فقربوهم وقلدوهم أعمال الدولة، ولكنهم لم يحجموا عن الفتك بكلّ من يُخْشَى شرُّه منهم، فأبو جعفر المنصور قتل أبا مسلم الخُرَاسَانِيَّ لما داخلته الريبة في إخلاصه، مع أنَّ أبا مسلم هو الذي حمل أعباء الدعوة العباسية على عاتقه، والرشيد نكب البرامكة١٣ على بكرة أبيهم؛ لما استفحل أمرهم وقويت شوكتهم، وأحسَّ منهم خطرًا على سلطانه.

فخلفاء هذا العصر كانوا شديدي الحرص على ملكهم، يستحلُّون كل شيء في سبيل تأييده، فقد تجدهم أعدل خلق الله وأعظمه تسامحًا، ثم تجدهم أكثره جورًا وتشددًا، وهذه الصفات — على تناقضها — تجتمع فيهم محافظة على العرش، وذودًا عن حياضه، فإذا نظرت إلى تساهلهم الديني، وإطلاقهم حرية الفكر؛ فلا ينبغي أن تغفل عمَّا كان يعانيه الأفراد والجماعات من ضغط وتنكيل، فالحرية عندهم مكفولة ما دامت بعيدة من سياسة الأحزاب، والتساهل عندهم مباح ما دام لا يؤثر في الملك.

ويجمل بنا أن نوضِّحَ هذه المسألة فنقول: إنَّ الشعب العباسي لم يكن عربيًّا خالصًا بل خليط شعوب متعددة؛ فإنَّ المنصور لما بنى بغداد١٤ سنة «١٤٥ﻫ/٧٦٢م» وجعلها مقر الخلافة، جمع بين العرب والفرس وأمم أخرى عجمية كانت تسكن العراق، وتدين بالنصرانية وغير النصرانية، ورأى الخلفاء أنَّ العناصر التي تدين بغير الإسلام لم تبرح قوية، وأنَّ عددًا غير قليل من الفرس المسلمين لم يكن لهم نصيب وافر من الإيمان؛ لحداثة عهدهم بالإسلام، ولتأثير الدين القديم في نفوسهم، فقضت عليهم مصلحة الدولة بإطلاق حرية الدين؛ فأطلقوها محافظة على الأمن، واسترضاء للعناصر الغريبة.

وكان أكثر هذه الشعوب التي اختلطت بالعرب على جانب عظيم من العلم والحضارة، فرأى الخلفاء أن يستغلوا معارفهم، ويستفيدوا منها؛ فأطلقوا لهم حرية الفكر والقلم؛ فأكبوا على النقل والتأليف، وأتحفوا العربية بكنوز ثمينة كانت العون الأكبر في نهضة العلوم والآداب.

ولئن أفادت حرية الدين والفكر من ناحية لقد أضرت من ناحية أخرى؛ فإنها نشرت الخلاعة والسكر والمجون، وولَّدت البدع في الإسلام، وأورثت الهزء بالأديان؛ فكثر الشك وكثرت الزندقة.

وأمَّا الحرية السياسية فإنَّ الخلفاء رأوا من الحزم أن يخنقوها؛ لئلَّا يعرضوا ملكهم للثورات والفتن، فأصبح لا يجرؤ امرؤ على الجهر برأيه ومذهبه إلَّا ألقى بنفسه إلى التهلكة، وكثرت الجواسيس والوشايات، وكثر الحبس والاغتيال؛ فرب وزير استمتع في يومه بعطف الخليفة وثقته فإذا هو في غده مرذول أو مقتول، ورب شاعر كانت منه فلتة فلاقى في جزائها حبسًا أو ضربًا أو قتلًا إن لم يعاقب بها جميعًا.

وحسبك أن تنظر إلى فتك الخلفاء بالوزراء والقواد والعمال وسواهم، وفتك هؤلاء بمن دونهم؛ لتتبين ما كان في هذا العصر من عسف واضطهاد ووشايات ودسائس.

وجماع القول أنَّ العصر العباسي الأول يمتاز بالنفوذ الفارسي، وحرية الفكر، والتساهل الديني، ولكن ينبغي أن نضع دون هذه الميزات مصلحة المملكة؛ فعندها يقف كل نفوذ، وكل حرية وتساهل.

هوامش

(١) الموالي: جمع «المولى»، وهو كل عجمي يسترق ثم يعتق فينسب إلى أسرة معتقه، أو إلى قبيلته، ولكن لا يحق له أن يتزوج قرشية أو عربية.
(٢) الحجابة: هي التي يتولى صاحبها الإذن للناس في الدخول على الملك أو السلطان.
(٣) الصنائع: جمع «الصنيعة»، تقول: هي صنيعتي؛ أي الذي اصطنعته لنفسي، وربيته وخرجته، واختصصته بالصنع الجميل.
(٤) الكَيْسَانِيَّةُ: نسبة إلى «كَيْسَانَ» مولى علي بن أبي طالب، وقيل إنَّه تلميذ ابنه محمد بن الحنفية، ويعتقد أتباعه أنَّه أحاط بالعلوم كلها، واقتبس من سيديه الأسرار بجملتها، وترى الكيسانية أنَّ الإمامة بعد الحسن والحسين تحولت إلى أخيهما محمد بن الحنفية، وتخالف بذلك الشيعة الإمامية التي تحصر حق الإمامة بولد فاطمة بنت النبي.
(٥) محمد بن الحنفية: هو ابن علي بن أبي طالب والحنفية أمه، وكانت أمه سوداء لبني حنيفة، فصارت إلى علي، فولدت له محمدًا؛ فنسب إليها.
(٦) الحُمَيْمَة: من أعمال البلقاء في الشام.
(٧) عباس: عم الرسول وعلي، وإليه ينسب العباسيون.
(٨) مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق: أي مطلع الشمس والقمر.
(٩) نشأ أبو مسلم في الكوفة يتيم الأب، فتعهد تربيته عيسى بن معقل، وكان أن قدم الكوفة جماعة من نقباء الإمام محمد بن علي بن عبد الله العباسي مع عدة من الشيعة الخراسانية، فصادفوا أبا مسلم فأعجبهم عقله ومعرفته، ومال هو إليهم، وعرف أنَّهم دعاة للعباسيين فخرج معهم، وجاءوا إلى إبراهيم الإمام بعد وفاة أبيه.
(١٠) ليت شعري: أي ليتني شعرت، وشعري: اسم ليت، والخبر مضمر استغني عنه بالياء مفعول شعر، وتقديره واقع.
(١١) حَرَّان: قال ياقوت: «هي مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة أقور، وهي قصبة مضر بينها وبين الرها يوم وبين الرقة يومان، وهي على طريق الموصل والشام والروم.»
(١٢) الزاب الأعلى: نهر بين الموصل وإربل، ومخرجه من بلاد مشتكهر، وهو حد ما بين أذربيجان وبابغيش، ويفيض في دجلة، ويسمى بالزاب المجنون؛ لشدة جريه.
(١٣) البرامكة: أسرة فارسية كان منها وزراء الدولة العباسية حتى نكبهم الرشيد، وبرمك: رتبة وراثية خاصة برئيس الكهان بمعبد «نوبهار» ببلخ، وكان البرامكة قبل إسلامهم يملكون الأراضي التابعة لهذا المعبد، ويتولون فيه رئاسة كهان النار.
(١٤) بنى المنصور بغداد بعد موقعة الهاشمية لما ثار به أهل خراسان على إثر مقتل أبي مسلم، وكادوا يفتكون به، وكان أهل الكوفة — وهم في كثرتهم شيعيون — يفسدون عليه جنده؛ فكره البقاء في الهاشمية وهي غير أمينة، لقربها من الكوفة، ثم لانفتاحها لبلاد الفرس، وبنى بغداد وجعلها وسطًا بين العرب والعجم، ولم يكن بوسعه أن يعيد مقر الخلافة إلى دمشق لأنَّها أموية، ولأنَّه لا يريد أن يبتعد بنظره عن بلاد فارس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤