خامسًا: الظاهريات من خلال الأقنعة١

وقد خُصص جزء لا بأس به من الدراسات الثانوية لرؤية الظاهريات من خلال الأقنعة، ولا تبرر على الإطلاق العلاقة بين الظاهريات والفلسفة المدرسية لرؤية الظاهريات من خلال قناعها؛ فقد كانت المفاهيم الفلسفية المدرسية، مثل القصد والماهية، وسائل عقلية لخدمة غرض ديني، في حين أن القصدية في الظاهريات ونظرية المعنى في الأنطولوجيا الظاهراتية مفاهيم فلسفية مستقلة تبحث عن الحقيقة المجردة، ورؤية الظاهريات من خلال قناع الفلسفة المدرسية في حد ذاته ضد الظاهريات التي ترى نفسها اكتمالًا للفلسفة في الوعي الأوروبي،٢ ومن خلال هذا القناع تعود الظاهريات إلى الفلسفة المدرسية تبريرًا للدين، واستبعاد العقلي، وترك المجال مفتوحًا للسر وليس للوضوح، ولما يفوق الطبيعة وليس للطبيعة، وللمفارقة وليس للحلول، وللأحكام المسبقة وليس للتوقف عن الحكم والرمز وللشكل، مع أن الظاهريات هي طريقة في فك الرموز.٣ ومن الغريب أن الظاهريات حدس ديني أصيل؛ فالمثالية دين عقلي، والعقلانية دين مثالي، ولكنها ليست تبريرًا خارجيًّا للعقائد التاريخية كما كان الحال في الفلسفة المدرسية. الظاهريات حدس ديني عميق بقصدها، وبحثها عن المطلق، وكان لكل الفلسفة منذ عصر النهضة نفس المشروع الذي حقَّقته الظاهريات في النهاية وعلى الوجه الأكمل، ولا تمثل الظاهريات أي خطر في أن تصبح الفلسفة بديلًا عن الدين، بل تطهِّر معطى الوحي عن أغلفته العقائدية والتاريخية.٤
وبالإضافة إلى العقائدية اللاهوتية هناك المادية الجدلية كقناع ثانٍ لرؤية الظاهريات من خلاله، وتأويلها من ورائه،٥ ومن البداية تعلن المادية الجدلية عن نفسها أنها هي الفلسفة الوحيدة الصحيحة في مواجهة الفلسفات الأخرى بما في تلك الظاهريات المليئة بالتناقضات الداخلية. وعلى نقيض المثالية الظاهراتية تقف الواقعية المادية الجدلية. وفي مقابل النظرية «اللوجوس» يقف العمل «البراكسيس».٦ تستطيع الظاهريات أن تطور نفسها بنفسها دونما حاجة إلى تطعيم خارجي من نظريات أخرى، وإن لم يدخل الفعل في إطار الفلسفة المثالية فإن المادية الجدلية تقوم على افتراضات مناهِضة،٧ و«الرد» ليس افتراضًا مسبقًا، بل الوضع الطبيعي للشعور في العالم، ولا يكون البحث عن «البراكسيس» بقول خطابي بل بتحليل أنماط السلوك.٨
وأحيانًا تعرض الدراسات الثانوية الظاهريات من خلال وجهات نظر خارجية عنها، وتدرس بمناهج غريبة عليها، دون استعمال المنهج الظاهرياتي نفسه أو على الأقل استعمال منهج مقارب. مثلًا تم تحليل العلاقة بين الفكرة والواقع لاستخدامها في تحليل العلاقة بين صورة الفكرة ومضمونها، ولفظ «جدل» غريب على الظاهريات لأنها ليست فكرًا أو منهجًا جدليًّا، واستعمال لفظ غريب على الظاهريات، وقريب من نظرية فلسفية أخرى سابقة تحيل الظاهريات إلى إشكالات غريبة عنها، ورؤيتها من منظور مذاهب فلسفية أخرى تريد الظاهريات تجاوزها.٩
والدراسات الثانوية تجعل الظاهريات المعروضة فيها تقول ما لا تريد أن تقوله، وتنتقي لحظة من تطور الظاهريات وتخرجها من ديمومتها، مثلًا أن الظاهريات لا تضمن منطقًا صوريًّا، بل إنها، بعد اكتمالها كمنهج، أخذت المنطق الصوري كنقطة تطبيق لتحويله إلى منطق ترنسندنتالي، مرادف للظاهريات.١٠ وهكذا تم «رد» الظاهريات مرات عديدة إلى شيء آخر غيرها، وردت إلى مشاكل خارجية تركتها الظاهريات وراءها، مشاكل أرادت الظاهريات تجاوزها، وموضوعات جزئية لا تعبر عن الظاهريات في شمولها واكتمالها، ومراحل ولحظات سابقة تجاوزتها الظاهريات مع تطورها، وتيارات وتوجهات فيها جوانب منها وليس كلها. صحيح أن الظاهريات هي كل هذا، ولكن تتجاوزها إلى وحدة شاملة متكاملة.

وتبدو الدراسات الثانوية أحيانًا أكثر صعوبة في قراءتها من مؤلفات الظاهريات نفسها، تسودها النعرة العلمية عند الباحث من أجل بيان قدراته على احتواء الموضوع، الظاهريات هي مجرد وسيلة لإثبات موقفه الخاص، ودليل على مهارته، ووسيلة للدفاع عن الذات. ويُنظر إلى القارئ من عل، فيخاف من الظاهريات باعتبارها معرفة رفيعة تتجاوزه، وترهب الباحث الذي استطاع أن يرتفع بمستواه للوصول إلى فهمها.

انتقلت الظاهريات النظرية، بواسطة الدراسات الثانوية، إلى مستوًى آخر غير مستوى الظاهريات، فإذا استطاعت الظاهريات تجاوز مشكلة المثالية والواقعية عن طريق القصدية تحاول الظاهريات النظرية تأطير الظاهريات، باعتبارها فلسفة متشابهة، في هذا أو ذلك الاتجاه المعرفي،١١ أصبحت مجرد مناسبة لكل ظاهراتي كي يتفلسف، ويعني التفلسف إيجاد الصعوبات أو الإشارة إلى أوجه النقص فيها حتى يكون له شرف التوضيح والإكمال، كيف يوضع السؤال من جديد وبشكل مخالف من أجل تجاوز الثنائية التقليدية التي لم يلاحظها أحد؟ كيف كانت طريقة وضع السؤال تحتوي على الإجابة من قبل؟ كيف أن إلغاء المشكلة هو أحد طرق حلها وهو ما لم يوضحه أحد؟١٢ تبتعد الظاهريات النظرية تدريجيًّا، بمساعدة الدراسات الثانوية، عن حدسها الرئيسي، مقتربة شيئًا فشيئًا من الجهاز المفاهيمي واستعماله كوسائل للتعبير. ففي إحدى عروض الظاهريات النظرية اختلط الحدس الرئيسي بعديد من الأفكار الفرعية التي كانت تُستخدم في الأصل فقط كوسائل مساعدة للوصول إلى الحدس الرئيسي، وحتى إذا كانت هذه المفاهيم المساعدة صحيحة نسبيًّا وأقل إسهابًا، تتبعها انتقادات وحوادث عديدة، فإنها تزيح الحدس الرئيسي جانبًا، ويوضع في المرتبة الثانية. وباختصار تستبدل الظاهريات النظرية، في الدراسات الثانوية، العرَضي بالجوهري، والشكل بالمضمون، والوسيلة بالغاية، وتستبدل بالفكر اللغة، وبقوة بالحدس ضعف البرهان.
١  Ex. Phéno., pp. 219–22.
٢  «نحن إذَن لدينا الحق، بشرط ألا تكون المذاهب الفلسفية على النقيض تمامًا، أن نتبنى المنظور التوماوي للحكم على الظاهريات» La Phénoménologie, Journées d’études de la société Thomiste, Rappart de R. Kremer, p. 60.
٣  فك الرموز Déchiffrage.
٤  Ibid., pp. 63.
٥  Tran-Duc-Thao: Phénoménologie et Matérialisme Dialectique.
٦  Ibid., pp. 5–19.
٧  J. T. Desanti: Phénoménologie et Praxis.
٨  F. Jeanson: La Phénoménologie.
٩  بعد استعمال لفظ «جدل» أحيلت الظاهريات إلى أفلاطون: Muralt: L’Idée de la Phénoménologie, 3ème partie, La logique formelle Husserlienne, pp. 38–45.
١٠  Muralt: L’Idée de la Phénoménologie, 3ème partie, La logique formelle Husserlienne.
١١  A. De Waelhens: L’Idée Phénoménologique de L’Intentionalité, Phanomenologica 2, Husserl et la pensée moderne, pp. 115–29. R. Ingarden: De L’Idéalisme Transcendentale chez E. Husserl, Ibid., pp. 204–15.
١٢  هناك أوجه تشابه منهجية عديدة بين هوسرل وبرجسون Bergson: Introduction à La Métaphysique, pp. 177-8، خاصة فيما يتعلق بالطريقتين، الداخل والخارج، لمعرفة الأشياء بالحدس أو بالعقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤