رابعًا: الجانب النظري في الظاهريات الدينية١

تتكون ظاهريات الدين من مجموعة من الدراسات حول الظاهرة الدينية نفسها؛ أي ظاهريات الظاهرة الدينية، تطغى عليها إما فلسفة الدين أو نظرية المعرفة أو تنقسم إلى مجموعة من الظواهر المحددة مثل المقدس والنبوة.

(١) ظاهريات الدين؛ ماهيته وتجلياته

  • أولًا: لم يتم تأسيس ظاهريات الدين على الإطلاق بطريقة جذرية،٢ بل قامت كفلسفة جديدة للدين أو كلاهوت جديد أو كتاريخ جديد، لم تستعمل الظاهريات أولًا كمعالجة جذرية للظاهرة الدينية، وهي ملحقة كتفكير إضافي على الظاهرة الدينية.٣ ودون أن تصاغ في منهج محكم، استطاعت الظاهريات مع ذلك أن تكتشف المراحل الثلاث للظواهر التي تبدو للشعور؛ الحجاب، الوحي المتدرج، والشفافية. وقد أدت هذه المراحل الثلاث إلى اكتشاف مراحل أخرى ثلاث تقابل تجربة الحياة؛ التجربة الحية، الفهم، الشهادة. وهكذا مرت الظاهريات مرور الكرام على المشكلات الثلاث للتأويل؛ النقد التاريخي الذي يبحث عن الصحة التاريخية، والتحليل اللغوي شرط الفهم، والتحقق العملي ابتداءً من القصد والعمل، فقط مع عكس الترتيب.٤ وقد انتهى التفكير في الدين إلى جدل الإنساني والإلهي، الطريق النازل والطريق الصاعد، الطريق الرأسي والطريق الأفقي. ودون أي اعتماد على الظاهريات، انفصل الإشكال الثالث في التأويل، إشكال السلوك، عن المشكلتين الأوليين، مشكلة التاريخ ومشكلة النظر.٥ صحيح أن ظاهريات الدين ليست اللاهوت، ولا تاريخ الأديان، ولا فلسفة الدين من الناحية النفسية أو الاجتماعية وشعر الدين، ما هي إذن هذه الفلسفة للدين؟ هي ظاهريات للدين تمر بست مراحل:
    • (١) اللغة من أجل إعطاء الأسماء.
    • (٢) التجربة الحية من أجل إدخال الكلمات فيها.
    • (٣) رد مضمون التجربة من أجل رؤية ما يظهر منها وينكشف عنها.
    • (٤) إيضاح الرؤية.
    • (٥) فهم ما يتجلى وما ينكشف.
    • (٦) الشهادة مجابهة مع الواقع.٦
    وتلامس هذه الظاهريات للدين بمراحلها ظاهريات التأويل؛ إذ تنتمي المراحل الخمس الأولى إلى الوعي النظري، والمرحلة السادسة إلى الوعي التاريخي، ويغيب الوعي العملي، وتبدأ ظاهريات التأويل بالوعي التاريخي ثم الوعي النظري، وأخيرًا الوعي العملي، تبدو ظاهريات الدين شاملة لكل تاريخ العلم في عصر التنوير، والعصر الرومانسي والنحو الرومانسي، والوضعية الرومانسية، وعلم النفس، والفهم.٧ صحيح أن تحليل البواعث يساعد على اكتشاف ظاهريات الدين كقصدية مشتركة، ويقدم كل عصر مساهمته؛ الإنسان، والوجدان، واللغة، والعيان، والفهم. ومع ذلك تظل هذه الظاهريات الحركية النشوئية للتجربة المشتركة على عتبة ظاهريات الدين في مرحلتها الأخيرة في ظاهريات التأويل.
    وإذا لم تعلن عن الظاهريات إلا في الخاتمة فإنه من الصحيح أيضًا أن العمل كله، على الأقل بمخططه، مقاربة تبعد أو تقترب من ظاهريات الدين. وبالرغم من أن المخطط غير متسق فله بعض الأهمية في موضوع الدين، وبالذات في الدين، كيف يتفاعل الذات والموضوع بعضهما مع بعض، وتذكر هذه العناصر الثلاثة؛ مضمون الشعور، وصورة الشعور، والبنية الصورية المادية. وتقبع الذات نفسها داخل ثلاث دوائر متداخلة؛ النفس، والإنسان، والجماعة. وهو ما يذكر بالأنا الخالص، وبالذات، وبالآخر. ويتم التفاعل المتبادل بين الذات والموضوع مرة بالعمل الداخلي، ومرة أخرى بالعمل الخارجي. هذا بالإضافة إلى أن هذا المخطط الثلاثي كلٌّ واحد، هو وحدة الشعور. ويؤخذ الشعور بهذه البنية كمركز لدائرة ثانية دائرة العالم، ولدائرة ثالثة، دائرة الأشكال؛ أي الأنواع المختلفة للدين.٨ فإذا عبَّر المخطط الأول، الموضوع، الذات، الموضوع-الذات عن ماهية الدين، فإن المخطط الثاني، المخطط السابق في العالم بالشخص، يعبر عن تجليات الدين. وقد تم اكتشاف العالم طبقًا للوجود في العالم والشخصيات، والأديان ومؤسسوها، طبقًا للصور المختلفة للحقيقة عندما تتحقق في الحضارة.

    وهو مخطط قوي وصلب، ولكن مضمونه خليط من دين الوحي ودين التاريخ؛ فالواقع أن دين الوحي ليس من نوع دين التاريخ؛ فالدين اليهودي المسيحي ليس على نفس مستوى ما يُسمى بالدين البدائي في أجزاء مختلفة من العالم، ويرجع هذا الخليط إلى الخلط في البحوث الدينية بين الوحي والتاريخ، ويتردد مضمون المخطط بين فهم الماهية والتجربة النشوئية؛ لذلك فإن الإدراك المباشر للماهيات مختلط بالوقائع التاريخية والأنثروبولوجية والتجريبية، يسود الفهم كثيرًا التوثيق، وأصبحت ظاهريات الدين رسالة عامة لفلسفة الدين وربما دائرة معارف للعلوم الدينية، فلا يوجد عمل واحد لم يتم ذكره، بل إن عناوين المحاولات هي نفسها عناوين الفقرات، ولا غرابة في ذلك إذا كانت، كما قيل في الخاتمة في تاريخ العلم، تتضمن كل النظريات حول الدين منذ العصور الحديثة.

  • ثانيًا: ولا تعود فقط مساهمة الظاهريات في حل أزمة الفلسفة الدينية إلى تطبيق الحركة الصاعدة ﻟ «بحوث منطقية» لتفنيد النزعة النفسية، بل بتطبيق كل حركة الأعمال المنطقية.٩ لا يكفي فقط بمساعدة الحركة الصاعدة انتشال الفلسفة الدينية من سقوطها في علم نفس الدين، وسقوط علم نفس الدين في النزعة النفسية، بل من الضروري أيضًا استعمال الحركة النازلة في «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» لتجنب كل نزعة صورية، وكل تنظير للظواهر الدينية خارج إطارها الرئيسي وهو النص المقدس،١٠ ويمكن أيضًا استخدام النص المقدس كقبلي من أجل توسيع نظرية الإدراك المثالية للواقعة إلى كل الوقائع المشابهة؛ فالواقع أن النص المقدس يحتوي على ماهية النمط المثالية لحالة يمكن أن تتكرر، ويفترض التشابه في الوجود، ويمكن من جديد إدراكُ الماهية التي أدركت من قبل في النمط المثالي بفضل نظرية الإدراك في نمط واقعي مشابه أيضًا بفضل نظرية الإدراك مرة أخرى؛ وبالتالي يظل القبلي الديني عنصرًا محركًا لمنهجية الوحي؛ مرة في نظرية الإدراك لنمط مثالي، ومرة أخرى في مد ماهية النمط المثالي على أنماط واقعية مشابهة، يمكن استعمال معطى الوحي على نحو رائع في نظرية الإدراك؛ إذ تقدم الظاهريات نظريات في المعرفة تقوم على شعاع مزدوج من الذات إلى الموضوع، من صورة الشعور إلى مضمونه، ومن الموضوع إلى الذات، من مضمون الشعور إلى صورته. الشعاع من الذات إلى الموضوع هو القبلي، والشعاع من الموضوع إلى الذات هو البعدي، والعلاقة بين الشعاعين علاقة شارط بمشروط. ويستطيع معطي الوحي، وفي حالة ظاهريات التأويل هو نص الوحي، أن يقوم بدور القبلي؛ أي الشعاع من الذات إلى الموضوع، وتظل الخبرة اليومية دائمًا الشعاع من الموضوع إلى الذات؛ ومن ثَم يمكن تجنب القبلي الفارغ الصوري في نظرية المعرفة؛ ولذلك أيضًا في ظاهريات الدين يمكن إكمال نقص الظاهريات النظرية الحالي فيما يتعلق بمصدرها القبلي.١١ ويساعد الوعي المستمر بنص الوحي على إدراك الواقع الخارجي الذي يبدو في الخبرة اليومية. القبلي الديني هو إذن شرط إدراك قوانين ماهية الأنطولوجيا العيانية.١٢
    والمعرفة الدينية معرفة قائمة بذاتها، وموضوعها مثالي ومستقل،١٣ وليست المعرفة الفلسفية أو العلمية إلا تحولًا للمعرفة الدينية.١٤ المعرفة الدينية قائمة بذاتها في مواجهة التاريخ، وليس في علاقتها بالإيمان، فقد تم «رد» لا التاريخ من قبل. الإيمان هو النص المقدس باعتباره قبليًّا دينيًّا في نظرية الإدراك، لا يعني قيام المعرفة الدينية بذاتها أولوية «الغنوصية» لا على الإيمان وأولوية الإيمان على «الغنوصية»، وهو ما أمكن حله عن طريق نظرية المعرفة، ولكن استقلال المعرفة الدينية المستنبطة من النص المقدس فيما يتعلق بتجلياته في التاريخ. التجربة الدينية إذَن تجربةٌ أولية ومصدر سواء للتجربة الفلسفية أو للتجربة العلمية، ويمكن تجنب ماهية الذاتية بالقبلي الديني، وهو يقين مثالي للتجربة. وبسبب غياب تناول المشكلة الأولى، وهو نص الوحي، فإن مصير كل فلسفة دينية هو مد المناهج والنظريات والمذاهب والأنساق الفلسفية عليها؛ فالواقع أنه لو ندت الفلسفة الدينية عن الوقوع في النزعة النفسية، فإنها تقع من جديد في النزعات التاريخية والاجتماعية والبرجماتية والنقدية.١٥ وترجع هذه الأخطاء في الفلسفة الدينية إلى مد الأنساق الفلسفية عليها، وإهمال إشكالها الخاص وطريقة حله، وإذا ما أُخذ منطق النص كمشكلة أولية فإنه يمكن تصحيح كل هذه الأخطاء، بالإضافة إلى إدراجها داخل تكوين معنى النص ابتداءً من التحليل الوجودي للواقعة الإنسانية؛ علم النفس الوضعي والخبرة الحية في الحياة اليومية، ويمكن تصحيح النزعة التاريخية بالرد ثم استرجاعها في «التاريخانية»، ويمكن تجنب النزعة السوسيولوجية وتصحيحها بحضور الآخر كطرف متضايف للشعور في الخبرة المشتركة، ويمكن استعادة البرجماتية في إشكال التحقق العملي، الإشكال الثالث في التأويل بعد النقد التاريخي والتحليل اللغوي، وتُستعمل النزعة النقدية في القضاء على اللاهوت الرسمي بالعودة من جديد إلى نواة معنى النص. وبمجرد ما تترك ظاهريات التأويل، كمنطق للنص، مكانها إلى الظاهرات الدينية، فإنه لا يضيع فقط طابع المنطق العملي التطبيقي، بل تنقص أيضًا ماهية معطى الوحي؛ فالواقع أن التأويل كمنطق للنص يضع الشعور في اتصال مباشر وحالي مع الإشكالات الرئيسية، فهو الأرضية الأولى التي منها تبدأ كل صياغة عقلية ونسقية ممكنة؛ فمثلًا في البحث عن الماهيات وفلسفة التاريخ الديني، فإن «الرد» المتوقع للتاريخ لم يتم، وكان المكسب تفكيرًا جديدًا على السؤال دون تصحيح ودون تصويب.١٦ ويرجع الفشل النسبي لكل المحاولات السابقة في ظاهريات الدين إلى سببين؛ الأول غياب صياغة مسبقة للمنهج الظاهرياتي،١٧ والثاني غياب المشكلة الأولى للتأويل كمنطق للنص؛ وبالتالي منهجية دينية تصبح بعدها ظاهريات الدين ممكنة.١٨
  • ثالثًا: لم تتناول كل ظاهريات للدين إلا مشكلة خاصة لإشكال واحد دون أخذ الموضوع كله في الظاهرة الدينية في شمولها، ليست ظاهرة المقدس ظاهرة الطبيعة الفيزيقية، حادثة أو مؤسسة أو شخصًا، بل ظاهرة النص المقدس. وليست تجربة صوفية للسر، بل لسانيات تهدف إلى الفهم الدقيق لمعنى النص. ليس سرًّا يخيف، بل بداهة تعطي اليقين.

(٢) ظاهريات المقدس

الظاهريات الترنسندنتالية هي وحدها التي استطاعت أن تعطي منهجًا دقيقًا، كما استطاعت الظاهريات النقدية من جانبها المساهمة في الفلسفة الدينية دون أن تكون بذلك ظاهريات دينية.١٩ صحيح أنه في ظاهرة المقدس ينتمي البحث عن العنصر اللاعقلي في فكرة «الإلهي» وفي علاقتها بالعقلي إلى الموضوع الرئيسي للظاهريات الترنسندنتالية؛ أي البنية الذاتية الموضوعية للشعور.٢٠ وبسبب غياب منهج محكم في الظاهريات النقدية، ظلت كل مساهمتها في الظاهريات الدينية على مستوى الفلسفة الدينية؛ أي على مستوى نقل مد الأنساق الفلسفية على الظاهرة الدينية بعد أن نقلت إلى أنساق فلسفية منفصلة، لم يتم تطبيق المنهج الظاهرياتي بالمعنى الدقيق، بل إن دراسة المقدس ليست تيارًا في الفلسفة الترنسندنتالية أو ظاهريات مستقلة، بل مجرد تفكير في الظاهرة الدينية في فلسفة الدين.٢١
وتبدو ظاهريات الدين أحيانًا كدراسة لمشكلة واحدة بالتوجه العام للظاهريات، كما درست ظاهرة النبوة من أجل إدراك ماهيتها، وكذلك ظاهرة «المقدس»،٢٢ ومع ذلك لم توضع الوقائع التاريخية بين قوسين، وما زالت تسيطر وكأنها ماهيات. وبتعبير آخر، لم يمنع توجيه الدراسة بالظاهريات نحو الماهية من الحضور الطاغي للواقعة التاريخية.

(٣) ظاهريات النبوة

لم تدرس ظاهرة النبوة كظاهرة، بل كظاهرة محددة، وهي النبوة العبرانية مع التمييز بين النبوة في الكتاب المقدس والنبوة خارجه. صحيح أن تصنيفًا لأنماط النبوة ممكن، ولكن لأنماط الماهية وليس لأنماط الواقعة، بل إنه حتى في النبوة الحية حيث تتجلى ماهية الظاهرة ساد كذلك تحليل الوقائع التاريخية؛ ومن ثَم فقد «التقويس» وظيفته، ولا يوجد من الظاهريات إلا لفظ «ماهية» في العنوان، ولم يتم استكشاف أي لفظ أو مفهوم أو منطقة في الظاهريات.٢٣ واستُعمل مرة واحدة تعبيرُ «ظاهريات النبوة في الكتاب المقدس»؛ مما لا يشير إلى أي ظاهريات.٢٤
صحيح أن النبوة مقولة للوحي، ولكنها مشكلة خارج النقد التاريخي؛ إذ إن مهمته مباشرةً بعد استقبال النبوة، النبوة علاقة بين المبلَّغ ومصدر الوحي، مشكلة الوعي الفردي للمبلَّغ، ويهتم النقد التاريخي فقط بنقل الكلام المنطوق من المبلَّغ إلى المستمع، والنبوة مشكلة في علم النفس أو التصوف دون أن تكون مشكلة نقد تاريخ، والبرهان على صدق النبوة كصلة بين المبلغ ومصدر الوحي، بين النبي والله، لا تتعلق بنظام التجربة، وتستطيع الخبرة اليومية للإلهام إثبات إمكانية النبوة دون الوقوع في النظريات العقائدية حول وظائفها ومصادرها، يتدخل النقد التاريخي إذَن في دراسة النبوة فقط من أجل البحث عن الصحة التاريخية لكلام الوحي في نقله الشفاهي أو الكتابي دون إثبات أو نفي الوجود الحقيقي أو الخيالي للنبوة كاتصال بين الله والنبي.٢٥
وينتمي التمييز بين النبوات خارج الكتاب المقدس والنبوات داخله إلى تاريخ الأديان المقارن، وله مميزاته وعيوبه. مميزاته: التعرف على الآثار والمؤثرات التاريخية من الديانات المجاورة على الوحي. وعيوبه: وضع دين الوحي على نفس مستوى دين التاريخ، دون الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في الطبيعة بين الاثنين،٢٦ ويبين التوزيع الجغرافي بيئة النبوة.٢٧ وتساعد الأنماط على التمييز بين نمط الوحي ونمط غير الوحي، مثلًا ينتمي الطابع السحري أساسًا إلى دين غير الوحي،٢٨ في حين يبين النمط الأخروي تطور معطى الوحي في التاريخ،٢٩ ويشير النمط الصوفي إلى مرحلة حاسمة في تطور الوحي،٣٠ ويشير النمط الاجتماعي بالفعل إلى اكتمال الوحي كنظرية في الحقيقة يمكن أن تصبح بنية مثالية للعالم.٣١ ولم يتم إحصاء نبوات الكتاب المقدس إحصاءً شاملًا، بل تم تحليل نبوات التوراة فحسب. ولم تؤخذ في الحسبان نبوة الإنجيل ونبوة القرآن بالرغم من انتمائهما إلى نبوة الكتاب المقدس، وكان يمكن استخدام النبوة الحية، وهي في الحقيقة دراسة في تطور النبوة في إسرائيل؛ لاكتشاف المراحل المختلفة لتطور الوحي حتى اكتماله، وتبين النبوة في التاريخ بوضوحٍ مراحل تبدأ بإبراهيم وتنتهي بموسى؛٣٢ الأول أبو الأنبياء، فارس الإيمان، ومؤسس الدين الطبيعي، والمبلِّغ عن الوحي؛ والثاني المبلِّغ للشريعة التي تنهل منها كل نبوات إسرائيل. ويكشف التمييز بين «المختار» و«المرسل»؛ الأول نبي بالإلهام، والثاني بوحي خاص عن يقظة الشعور عند الأول، واتجاه الوحي نحو الاكتمال عند الآخر. وكان يمكن اكتشاف قانون تطور الوحي من الشريعة إلى المحبة إلى العمل، ويمكن استخدام منظور العصر للتمييز بين الدين التاريخي ودين الوحي وبين المراحل المختلفة لتطور معطى الوحي ذاته. مثلًا يميز الزمان الدائري بوضوحٍ الدين التاريخي، وأحيانًا تطور الوحي في إسرائيل، ويظهر الزمان الدائري في الوحي التاريخي أساسًا في مفهوم العود الأبدي، في حين أن الزمان الدائري في إسرائيل يحتوي على تقدم في كل دورة لاحقة بالنسبة للدورة السابقة، كل نبوة دورة تبدأ بعد التقدم الحاصل من الدورة السابقة. وأخيرًا يميز الزمان الشعائري بوضوحٍ زمن الفعل في اكتمال الوحي في آخر مرحلة، الفعل زماني بل أيضًا لحظي.٣٣
ويُستعمل تعبير «نبوة حية» للإشارة إلى النبوة لدى بني إسرائيل. النبوة حية بطبيعة الحال سواء عند النبي أو عند جماعته، وكان يمكن استخدام النبوة كظاهرة حية من أجل الحصول على الكلام المنطوق من النبي وتخليصه من الآثار التاريخية، كان يمكن استخدام «الحي» كنواة أولى لو طُبق النقد بعد إثبات المؤثرات التاريخية في نبوات الكتاب المقدس.٣٤ والوجود النبوي هو وجود النبوة وليس وجود الشخص، ليس النبي إلا كائنًا بشريًّا مثل غيره من البشر، مهمته إيصال الوحي، ليس ملكًا ولا قسيسًا ولا حكيمًا. رسالته ليست فضيحة، بل رسالة إلى الفرد والجماعة.٣٥ صحيح أنه في حاجة إلى إعداد، وتغيره هو تقدمه نحو الكمال، والثقل هو ثقل الرسالة، والسير في الليل عمق الروح.٣٦ ومن بين المفاهيم الظاهراتية المستعملة مفهوم الدلالة، ودلالة الوجود النبوي أكثر من نظرية في الرؤية والتنبؤ، الأخلاقية أو الصوفية،٣٧ بل تدل على المعرفة المعطاة من خلال الوعي المتميز بانفتاحه على عديد من العوالم الممكنة من أجل تركيز الجهد الإنساني كله نحو الوجود أكثر من المعرفة، ويكفي لمعرفته الجهد في فهم هذا المعطى.
ويوجد الجدل بين الإلهي والإنساني في الزمان في العهد، وهو مشروط بالطاعة، ويلاحظ التداخل بين العهد والشريعة في روايات الكتاب المقدس.٣٨ فإذا ما غابت الطاعة، وكما يشهد بذلك أنبياء الكتاب المقدس، نُقض العهد. وكان يمكن لهذا الإثبات أن يؤدي إلى تحليل العمل، ويصبح العمل شرط العلاقة بين الإنساني والإلهي في الحوار، وكان يمكن استخدامه في التمييز بين ما كان وما كان ينبغي أن يكون، بين المبدأ والواقع، وكما سيأتي فيما بعدُ بين الوجود والصيرورة.٣٩ وطبقًا لتحليل الحوار في الكتاب المقدس بين الإلهي والإنساني، يتميز الروح عن الكلام.٤٠ يتعامل النقد التاريخي مع الكلام باعتباره كلامًا وليس باعتباره روحًا. ليس الطرفان هما النبي والله، بل النبي والسامع، يوجدان في علاقة أفقية وليس في علاقة رأسية، الكلام هو بلوغ الروح، هو الحقيقة الإلهية بعد أن أصبحت حقيقة إنسانية. وفي تحليل النبوة باعتبارها كلامًا، كان بالإمكان الوصول إلى قواعد الاشتباه في اللغة. ولو قام الشعور النظري بدوره في فهم معنى نص الوحي لأمكن إبرازه بوضوح، ولأمكن العثور على المحكم والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والظاهر والمئول، والمجمل والمبين، لبيان الفرق بين الروح والكلام، بين الرؤية والسماع.٤١ وكان يمكن لتحليل اللغة الوصول إلى التحقيق العملي لمعطى الوحي كبناء مثالي للعالم، وهو دور الشعور العملي؛ لأن «الكلام» لا يشير فقط إلى «الكلام» ولكن أيضًا إلى «العمل».٤٢
١  Ex. Phéno., pp. 571–82.
٢  «ظاهريات الدين» عنوان فرعي لكتاب فان درليو؛ الدين في ماهيته وتجلياته Van der Leeuw: La Religion dans son essence et ses manifestations, 1933. والكتاب يقوم على مشروع أولي بعنوان «مقدمة في ظاهريات الدين»، ١٩٢٥.
٣  توجد ظاهريات الدين فقط في الخاتمة Van der Leeuw: op. cit., pp. 654–79.
٤  Ibid., pp. 654–62.
٥  Ibid., pp. 662–5.
٦  Ibid., pp. 670.
٧  Ibid., pp. 671–9.
٨  أشكال Figures.
٩  انظر الباب الثاني: المنهج الظاهرياتي، محاولات في الفهم والتكوين والتأويل.
١٠  Hering: op. cit., pp. 8–15. التشابه Analogie.
١١  انظر سابقًا الباب الثاني: المنهج الظاهرياتي، محاولات في الفهم والتكوين والتأويل.
١٢  بالنسبة للأنطولوجيا العيانية، انظر من قبلُ الباب الأول، الفصل الثاني: الظاهريات النظرية والظاهريات التطبيقية.
١٣  Hering: op. cit., pp. 118–21. أولية Source.
١٤  انظر الملاحق.
١٥  Hering: op. cit., pp. 15–31.
١٦  Ibid., pp. 117–9. التاريخانية Historicité، القائم Etabli.
١٧  ويُستبعد هيرنج من هذا النقد؛ لأنه حاول أن يعطي أولًا عناصر تميز حركة الظاهريات دون تكوينها في منهج محكم. انظر سابقًا الباب الثاني: المنهج الظاهرياتي، محاولات في الفهم والتكوين والتأويل.
١٨  الأزمة كما يشخصها هيرنج هي أزمة الفلسفة الدينية وليست أزمة التأويل، أزمة الفلسفة الدينية تابعة لأزمة التأويل وراجعة إليها.
١٩  الظاهريات النقدية هي التي خرجت من مدرسة ماربورج. دقيق Structuré.
٢٠  R. Otto: Le Sacré. الذاتية الموضوعية Noético-noêmatique.
٢١  تيار الفلسفة الترنسندنتالية هو تيار ماكس شيلر، والفلسفة المستقلة هي فلسفة هارتمان Hartmann. وكانت فلسفة الدين من ضمن اهتمامات الكانطيين الجدد؛ هرمان كوهين H. Cohen، بول ناتورب P. Natorp.
٢٢  N. Neher: L’Essence du Prophétisme.
٢٣  في ثبت الموضوعات يوجد خليط من المصطلحات الدينية وأسماء الأعلام وليس مصطلحات الظاهريات أو حتى المصطلحات الفلسفية أو أسماء فلاسفة الظاهرات بمن في ذلك مؤسسها!
٢٤  Ibid., p. 90.
٢٥  A. Neher: op. cit., pp. 1–13.
٢٦  دين الوحي هو الدين الوضعي في حين أن دين غير الوحي هو الدين التاريخي.
٢٧  A. Neher: op. cit., pp. 17–42.
٢٨  وذلك مثل الديانات في إيران.
٢٩  وذلك مثل النبوات في إسرائيل.
٣٠  وذلك مثل عبادة الإنجيل.
٣١  وذلك مثل مرحلة الإسلام A. Neher: op. cit., pp. 43–57.
٣٢  Ibid., pp. 179–86.
٣٣  وهذا هو مفهوم زمن الفعل في الإسلام Ibid., pp. 58–81.
٣٤  فيما يتعلق بالمصادر الإيرانية (p. 35) Ibid., p. 29، وللفلسفة اليونانية (p. 35)، ولأثر السحر (p. 100).
٣٥  A. Neher: op. cit., pp. 282–307.
٣٦  Ibid., pp. 308–35.
٣٧  Ibid., pp. 336–50.
٣٨  Ibid., pp. 116–78.
٣٩  التمييز الأخير لكيركجارد: الوجود المسيحي والصيرورة المسيحية.
٤٠  الروح Rouah، الكلام Davor، Ibid., pp. 85–115، الاشتباه Amphibologie.
٤١  A. Neher: op. cit., pp. 105–15. مثلًا استُعملت ألفاظ «أب» و«ابن» للإشارة إلى النبي وتلميذه Ibid., pp. 180. ووصف العالم باعتباره صورة Ibid., pp. 242–56..
٤٢  Ibid., p. 114.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤