خامسًا: من ظاهريات الدين إلى ظاهريات التأويل١

بفضل التحليل الوجودي للواقع الإنساني، يقترب التأويل الوجودي إلى حد كبير من ظاهريات التأويل، ويتقدم الوعي التاريخي الذي طالما كان في محط النسيان، خاصةً منهج «تاريخ الأشكال الأدبية»، ويتبع الشعور النظري بالتأويل الوجودي مع تفكيك الأساطير، ثم يجد الشعور العملي مكانه، بعد أن كان أيضًا محط النسيان، في ظاهريات التأويل.٢
ولأول مرة يُترك «شخص الله» جانبًا مع إصرار شديد. الكلام وحده هو موضوع التحليل؛ ومن ثَم يتحول كل اللاهوت العقائدي، وكل فلسفة الدين، وكل ظاهريات الدين، إلى ظاهريات التأويل. كلام الله قصدية متجهة نحو الإنسان، والله نفسه كهُوية وحضور أو شخص بين قوسين. تأسيس لاهوت «علم الله» مستحيل، ولكن تأسيس علم ﺑ «مناسبة الله» ممكن.٣ ولأول مرة يتم تحليل كلام الله وليس شخصه، اللاهوت تأويل، وظاهريات الموضوع ظاهريات التأويل، ولتفكيك الأسطورة والتأويل الوجودي ميزة تحويل العقائد التاريخية إلى حقائق إنسانية،٤ وتجد العقائد مصادرها في التجربة الإنسانية، لا تتطلب الأسطورة تأويلًا كونيًّا، كما هو الحال في اللاهوت العقائدي، بل تأويلًا إنسانيًّا، أنثروبولوجيًّا بل أيضًا وجوديًّا.٥ «لو أراد أحدٌ الكلام عن الله فإنه يلزم عليه الحديث عن نفسه»،٦ الإحالة إلى الوجود الإنساني إذَن شرطُ كل لغة إنسانية، وهذه تنتمي إلى الوجود وليس إلى الأسطورة أو إلى العلم. ودون أي افتراض أنثروبولوجي مسبق أو أي تطبيق مباشر لمناهج العلوم الإنسانية، التأويل الوجودي هو المنهج الوحيد الملائم للنص المقدس.٧ ودون إنكار قيمة التاريخ، يضع التأويل الوجودي تاريخانية الوجود الإنساني؛ وبالتالي النجاح في التخلص من العقائد (الدوجماطيقية) التاريخية للاهوت العقائدي، ودون «رد» الظاهرة الإنسانية إلى ظاهرة طبيعية، يميز التأويل الوجودي، القائم على المنهج الظاهرياتي، بوضوح بين علوم الروح (العلوم الإنسانية) وعلوم الطبيعة.٨ ويظل تفكيك الأسطورة والتأويل الوجودي كنظرية في التأويل، أي كهرمنيطيقا، أكثر منها كمنطق تطبيقي للنص، ويضمَّان مجموعًا من التاريخ والعقائد، والفلسفة والأدب. صحيح أن التأويل كمنطق للتفسير يمتد إلى عدة علوم دينية. يمكن اعتبار التأويل كنظرية في تصنيف العلوم الدينية، يعطي التاريخ مادته للعقائد من أجل تفكيك الأسطورة، وتعطي اللغة مبادئها إلى علم النفس الوصفي من أجل وضع منهج التفسير، ويقوم التفسير الوجودي كليةً على تفكيك الأسطورة دون اعتبار البحوث اللغوية، ومن أجل فهم معنى النصوص. تطبق مبادئ الاشتباه اللغوي على النصوص المقدسة، ثم يخلص تفكيك الأسطورة الموجه أساسًا ضد اللاهوت العقائدي النصوص من ميراثها التاريخي لرؤيتها كمعطًى مستقل وقائم بذاته، وقد أثبت التأويل الأسطوري من قبل خلق العقائد بواسطة الجماعة الأولى، ثم يأتي التأويل الوجودي ليحيل النص إلى التجربة الإنسانية، والتحليل الوصفي للوجود الإنساني ممكن عن طريق التحليل النظري للخبرات اليومية.

وفي نهاية المطاف لو أمكن حل أزمة المنهج الظاهرياتي بصياغة تأويله، تحل أيضًا أزمة التأويل بصياغة ظاهرياته.

١  Ex. Phéno., pp. 282–4. الوجود الإنساني Réalité Humaine, Dasein.
٢  ظهر الشعور العملي بوضوح تام عند بوندل M. Blondel في إطار الدفاع عن الدين المسيحي، وليس كبعد ثالث للشعور الديني بعد الشعور التاريخي والشعور العملي. تاريخ الأشكال الأدبية Formegeschichte.
٣  M. Marlé: Bultmann … p. 75. تفكيك الأساطير Démythologisation.
٤  هناك فرق بين تفكيك الأسطورة Démythologisation وإرجاع الأسطورة إلى مصادرها التاريخية، ووصفها كيف تكوَّنت وتكلَّست، وتأويل الأسطورة Démythisation؛ أي إيجاد دلالتها في التجربة الإنسانية، وهو التأويل الوجودي أو الأسطوري؛ الأول وظيفة الوعي التاريخي، والثاني الوعي النظري؛ ثم يأتي تحقيقها بالشعور العملي بصرف النظر عن صحتها التاريخية وتأويلها النظري.
٥  A. Marlé: op. cit., p. 73. التفسير Interprétation.
٦  هذه عبارة لولتمان عن Ibid., p. 75. التأويل Exégèse.
٧  Ibid., pp. 92–97.
٨  Ibid., p. 99.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤