الفصل الرابع والعشرون

في بَيان أنَّ اللَّذَّات الرُّوحية التي تحصُل للنفس بعد الانحِلال أعظم من اللَّذات الجِسمانية والشهوات البدنية

نقول: كثير من الناس الجهَّال وبعض المُتشبِّهين بأهل العِلم زعموا أن اللَّذَّة الكلية هي البدَنية، وأن لا نعيم سوى الهيولاني، ولذلك لا يَطلُبون١ من البارئ تعالى إلَّا أنه لا يُعدِمهم شيئًا من هذه اللَّذات، أعني المآكل والمشارب وما يُشاكل ذلك في هذا العالَم وفي الآتي. وهذا الظنُّ بعيد عن الحقِّ جدًّا، وهو ضرب من الجنون المَحض، والأدلَّة العقلية على امتِناع ذلك كثيرة:
[٥٧] الدليل الأول: لو كانت اللَّذَّة الحقيقية هذه لكان القِرد أعظم لذَّةً من الإنسان؛ لأجل كثرة أكله، والذئب القرِم لسُرعة بَطشِه والباشِق٢ لكَثرة وِقاعه. ولمَّا كانت هذه وأمثالُها ظاهرةَ الزَّيف والمُحال استحال إليها الانتِحال٣ فعُلِم أنَّ اللَّذَّة الحقيقية ليست٤ القبائح المذكورة، فإذن هي رُوحانية.
الدليل الثاني: لو كانت هذه شرطًا في كمال الإنسان لوَجَب أنه كُلَّما أمعنَ في زيادتها زادَت في كماله، وليس، فليس؛ لأن العقل يَشهد أنَّ المُمعِن في هذه مائل إلى التَّشبُّه بالحيوان أعظم منه بالإنسان، وكثيرًا ما قد سقط عن الفكرة العقلية التي هي طراز الجِبلَّة البشرية.
الدليل الثالث: لو كانت هذه اللَّذَّات هي الحقيقية لوَجَب أن يكون الإنسان أخسَّ قدْرًا من الحيوان؛ لأن الإنسان عقله يَمنعه [٥٨] دائمًا ويزجُره عن٥ المَطامع في هذه، إِما لحياءٍ يَلحقُه أو لمَخافةٍ من قصاصٍ يَحلُّ به، أمَّا الحيوان فهو عارٍ عن جميع هذه التكاليف في أحواله وليس له مانع يُضادُّه أو قامِع يَردُّه؛ ولذلك وَجَب أن يتفضَّل الحيوان على الإنسان. ولمَّا كان الإنسان أعظمَ وأشرفَ من الحيوان لَزِم أن تكون لذَّتُه أعظمَ وأقومَ٦ من اللَّذَّات الحَيوانية.
الدليل الرابع: أنَّ هذه اللَّذَّات البدَنية ليست لذَّات بالحقيقة بل أسباب لمَيل الشهوة البدَنية فقط، ودليل ذلك أنه كلما اشتدَّ ألَم السَّغَب٧ اشتدَّت لذَّة الأكل، وكذلك الحال في ألَم البرْد مع اشتِداد لذَّة الكُسوة، وكذلك إذا اشتدَّ شَوق الجِماع من قِبَل زيادة المادَّة وحِدَّة المِزاج فيعظُم قدْر اللَّذَّة. ولما كانت هذه الفنون وأشباهُها ليسَت لذَّاتٍ حقيقيةً ولا تُوجِب [٥٩] الِالتِذاذ الذي يُزيل٨ الكآبة والأحزان فكيف تُدْعى لذَّات على التحقيق؟ فإذن لذَّة الإنسان أمرٌ آخَرُ غير هذه المذكورة الحقيرة ولا ما يُشاكِلها ويُماثلها؛ لأن هذه بدنيَّة بَهيمية وتلك عقلية رُوحانية ولا تحصل بالآلة الجُسَدانية لأنها العِلم العاقِل٩ لعظمَة المعقول وجلاله، وشتَّان بين لذَّة الجِمَال والذئاب وبين التنعُّم في مُجاورة ربِّ الأرباب.
الدليل الخامس: أنَّ العقل يَشهد بأنَّ ابتِهاج الملائكة بالأمور المعقولة أعظمُ من البهائم بالمآكل الخسيسة المرذولة. ومن البيِّن أن ليس للملائكة الْتِذاذ بالحواسِّ، ولو كان كذلك لوَجَب أن تكون لذَّة الحيوانات الصامتة أعظمَ وأقوم ممَّا للملائكة وذلك مُحال. ولمَّا كان الإنسان مُتوسِّطًا بين المَلاك والحيوان وَجَب أن تكون لذَّتُه غير مَنوطة بأحد القِسمَين المَذكورَين، بل تكون دُون الأول في الجلال والكمال وأعظم من الثاني في سائر الأحوال والخِلال.
[٦٠] الدليل السادس: لو لم يكن هناك لذَّات أُخَر غير هذه البدنية لمَا حصَل لأصحاب النَّرْد والشطرنج الصبرُ والكَظم على السَّغَب والعَطَش وغيرهما١٠ بالنسبة إلى اللَّذَّة الحاصِلة من هذه الأمور، فإذا كانت لذَّةُ اللَّعِب تَشغَل عن لذَّةِ الأكل وغيره وفيها لذَّةٌ يسيرة عقلية،١١ فكم بالحرِيِّ اللَّذَة الحاصِلة بالجَواهر المُجرَّدة والأنوار الخارِقة بمَعرفة جَلالِها وَجلال بارئها أو سرِّ الثالوث المُقدَّس والنعم الفائضة على الاستمرار والدَّوام؟! فإذَن لا نِسبةَ بين اللَّذَّات البدَنية والعقلية إلَّا كنِسبة الظُّلمة إلى النور أو العدَم إلى الوجود.
الدليل السابع: لو لم يكن هناك لذَّة عقلية لمَا كانت كِلاب الصَّيد تحفَظ ما١٢ تَصيده وَتؤدِّيه إلى أصحابها سَليمًا من الجرح والأذى مع وجود مَضضِ الجُوع لها، كذلك قد نرى أطيار الحمام تملأ حواصِلَها من الحبوب وتُلقيها لدى أفراخِها، وكثيرًا من الحيوانات تُسلِّم أنفسها إلى الهلاك فِدى [٦١] أولادِها، وأيضًا الشُّجاع يُلقي نفسه في المعركة مع عِلمه بهلاك جسدِه ابتِغاءً للشُّكر والمديح الحاصلَين له بعد موته. فهذه وأمثالها تفعلها الحيوانات وغيرها رغبةً في اللَّذة الزائلة، فكم بالحرِيِّ اللَّذَّة الدائمة العقلية التي وَصَفها بولس الرسول بقوله: «لا تراها عين ولا سَمِعتها أذن ولا خطرت على فِكر إنسان، تلك التي أُعدِّت لأُولي الفضائل الصالحين.»١٣
١  في الأصل: لا يطلبوا.
٢  في الأصل: والعصفور الباشق.
٣  كذا.
٤  سقط في الأصل: ليست.
٥  في الأصل: من.
٦  في الأصل: وأقيم.
٧  في الأصل: والشجب.
٨  في الأصل: يزيد.
٩  في الأصل: المتعقل.
١٠  في الأصل: وغيرها.
١١  قدِّم «عقلية» على «يسيرة».
١٢  سقط في الأصل: ما.
١٣  رسالة القدِّيس بولس الأولى إلى أهل كورنتس ٢: ٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤