الفصل السادس والعشرون

في بَيان المُكاشَفات والأوحِيَة

فنقول: منها ما هي كاذِبة، وأسبابها هي الأربعة التي ذُكرَت في الأحلام الكاذبة: فالأول: إذا كان الإنسان كثيرَ الإمعان في المآكِل والمَشارب والملابس والمَشمومات والمَحسوسات الكثيرة بالحواسِّ الظاهرة كان مُغرَمًا بها، فإذا زالت المَحسوسات بقِيَت صُورها في الخيال [٦٥] تلُوح في الحسِّ المُشترَك فنراها ظاهرة كأنها موجودة بالفعل، وقد عرض هذا الحال للَّذين يُنعِمون١ النظر في القمر كثيرًا فيُشاهِدون أقمارًا كثيرة، وكذلك أُولو٢ الإدمان في الملاهي والألحان المُطرِبة قد يَسمعون أصواتًا لذيذة. والسبب الثاني: قد حصل ذلك للساكِنين في الأماكن الوَعرَة الدَّعِرَة٣ فيَعرِض لأفكارهم التجسُّم بالحسِّ المُشترَك. والسبب الثالث: أُولو الأمراض المعروفة بالماليخولية والسرسام والبرسام فإنهم يُشاهدون صُورًا لا وجود لها البتَّة. والسبب الرابع: عرْض٤ هذه الأمور المذكورة قد يتوافَر٥ لأرباب الوِحدة والانفراد، خصوصًا لضَعف المِزاج.
وأمَّا المُكاشَفة الصادِقة وأشباهُها فنقول: إنَّ النفس الناطقة إذا كانت بحيث لا يُمكِن الأمورُ العالمية صدَّها عن نظر الأمور الرُّوحانية يسهُل عليها الِالتِفات٦ عن المَحسوسات والخُروج عن العالم [٦٦] ببدَنها أيضًا، فيحصُل هَهُنا في اليَقَظة لأرباب الأنفس القوية أن تَنال عِلمَ الغَيب من فَيْض العقول المُجرَّدة كما ذكرناه آنِفًا،٧ وإذا ارتَسمَت هذه المعاني في لَوح الحسِّ المُشترَك أُدرِكت مُتجسِّمة، وإذا كان الأمر المُناسِب بين الصور والمعاني كاملًا فلا يفتقِر البتَّة إلى التأويل مثل ما جرى لمُوسى من المناسبة بين المعاني والأسامي إذ قِيل له: «اذهَب إلى فرعون.»٨ فهذا قيل له بمُناسبة الحَرْف للمعنى اذهَب وقُل كيت وكيت، ولم يكن فيه خَيال وأمثال. وكما جاءَ أنه قِيل لفيلبوس: «قُم امضِ إلى الجنوب في الطريق الفلاني.»٩ وأشياء كثيرة مثل هذه، فإن لم يكن ذلك كاملًا افتقَر بالضرورة للتأويل مِثل ما شاهد حِزقيال ودانيال وغيرهما.
أمَّا المكاشفة في النفوس الكاملة كالأنبياء والحواريِّين والأولياء المُؤيَّدين فهي على مقاصِد ثلاثة: المقصد الأول في كيفية حاجة الناس إلى هؤلاء المذكورين، فنقول: كمال الإنسان أن١٠ يعلَمَ الحقَّ لأنه حقٌّ١١ [٦٧] لذاته، ويعلم الخَير لأجل العمل به. والفنُّ الأول يكمُل بالقوة النظرية، أعني أنه يَقدِر على قَبُول صُور الوجود بأسرِها بل الموجود١٢ بالوجه الذي هو عليه لا أزْيَدَ١٣ ولا أنقَصَ، ويَردَّ الموجود موجودًا والمَعدوم معدومًا. وأما الفنُّ الثاني أعني القوة العملية فتُكلِّف الإنسانَ الِابتعاد عن هذا العالَم وشهواته الزائلة الفانية، وأن يعيش عيشًا رُوحانيًّا بقدْر طاقته ويَصرِف هِمَّته إلى اللَّذَّات العقلية الثابتة الأبدية التي لا تَحول ولا تزول. ولمَّا كان الإنسان عاجزًا عن إتمام١٤ هذه الأمور المذكورة بذاته، أُحضِر إلى هادٍ يَهديه، وهذا المذكور لا بُدَّ أن يكون إنسانًا مِثله من نَوعه ليستطيع قَبُول أوامره وأقواله؛ فيَجِب أن يكون إِما نبيًّا أو حواريًّا أو عارفًا أو مُعلِّمًا ماهرًا قِدِّسيًّا أبويًّا. المقصد الثاني أنَّ من الناس من هو ناقِصٌ في القوة النظرية والعملية ومنهم من هو كامل في القوَّتَين ومنهم مُتوسِّطون،١٥ والناقِص والمُتوسِّط يفتقِران إلى الهادِين المَذكورين، ولا يُمكن أن يخلوَ العالم من [٦٨] أحد هؤلاء؛ لأننا نرى العالَم سابحًا في بحْر الخِلاف والغِيار في علمِه وعمَلِه حتى يَلقى بعضهم حدًّا يُجانس البهائم في غَلَبة الشهوة وقِلَّة العِلم وعدَم المعرفة، فهو بالاسم إنسان وبالرَّسم شَيطان وآخَرون مُتوسِّطون وآخرون فاضِلون وآخرون راجِحون، ولا بُدَّ أن ينتهيَ الأمر إلى شخصٍ مُؤيَّدٍ فاضل بالعِلم والعمل مَعصوم من الخطأ والزَّلَل، هو أحد المذكورين المَندوبين إلى الهِداية وبِشُعاع نوره يستضيء البشر وبوجوده فيهم تكمُل علومهم وأعمالهم. المَقصد الثالث أنَّنا نعلَم أن الجسم جِنس تحتَه أنواع ثلاثة؛ الحيوان والنبات والمعدِن، ونعلَم أن أفضل هذه الثلاثة هو الحيوان، وأفضل من الحيوان١٦ نوع الإنسان، وكذلك تحت نوع الإنسان أصناف وألوان مثل الزِّنجي والهِندي والرُّومي وغيره. وأهل الإقليم الرابع أشدُّ فضيلةً من باقي الأقاليم، وأهلُ هذا الإقليم لا بُدَّ أن يَتميَّزوا بالفضائل بعضهم عن بعض، والذين هم بهذه الصفة فلا [٦٩] بُدَّ أن يُوجَد فيهم شخص أعظم فضيلةً من الكلِّ وبواسطته يَكمُلون، وهو الهادي الحقيقي وإليه الإشارة في التأديب وبه يَحصُل الأرَبُ للأريب.
فإن قِيل: بماذا تحصُل الفوائد من هؤلاء الأئمة المذكورين؟ قُلنا: يحصُل بأمرَين١٧ لأنَّ طُغيان الأنفس الإنسانية على ضَربَين: أحدُهما البُعد من الله تعالى ومن الفضائل الإلهية، والأمر الثاني في المَيل للدَّواعي الطبيعية البدَنية. وهؤلاء المُتقدِّم ذكرُهم بمنزلة الأطبَّاء الماهِرين لأنفُس الطاغين، وهذا الأمر مُمكن في حقِّ المذكورين، أعني أنهم قادِرُون١٨ على إِحالة نفوس البشر من بحْرِ التِّيهِ والطُّغيان إلى ساحل الهُدى والإيمان، وذلك بقُوى نفوسهم القِدِّسية وتكرير المَواعِظ الإلهية، وإذا كان هذا الأمر فيهم ومألوفَهم فلا حاجة بهم إلى معرفة العلوم الرياضية والطبيعية والطبية والفلسفية؛ فإن مُعجِزَهم الظاهر أغناهم عن جميع ما عداهم سوى مولاهم.
فأمَّا خواصُّ هذه الأنفس القِدِّسية فأربع:١٩ الأولى [٧٠] أنَّها إذا استنارَت بالبَوارق الإلهية والأنوار السماوية٢٠ قَوِيَت وتمكنَت ممَّا تختار فِعله في عالم الكون والفساد من الخَوارق والباهِرات٢١ وأطاعَتْها الأطيار والسباع والطباع، وتلك المُعجِزات تُعطَى مِنحةً من الله تعالى. الخاصة الثانية أن تكون هذه الأنفس مُتميِّزة عن باقي الأنفس بالقوة النظرية والعملية، أمَّا الأول فبِعِظَم إدراكها من الأمور الإلهية ما يزيد عن حدِّ غيرها، وأما الثاني فهو صِدْق ما تنطِق به من المعلومات التي يعجِز الغير عن أمثالها. الخاصَّة الثالثة الأنوار الساطِعة على أنفس هؤلاء القوم يُمكن انعِكاسها من أنفسهم إلى أنفس الطائعين لهم والمُستفيدين من تعاليمهم، وذلك أن٢٢ الشمس إذا أشرقَت على جُرمٍ صَقيل مثل المرآة المصقولة المَجلوَّة والبلُّور الشفَّاف فإن ذلك [٧١] الشُّعاع يُشرِق بانعكاسه عن جُرمٍ يقابِل ذلك الجُرمَ الأول، كذلك البارئ تعالى أو مَلاك من العقول المُجرَّدة إذا أشرَقَ بأنواره على أنفسِ قِدِّيسيه استنارَت وأنارت. الخاصَّة الرابعة أنَّ الرُّتبة التي٢٣ يُمكن حصولها لهؤلاء المذكورين من لَدُن البارئ تعالى يُمكن أن تَحصُل بواسطتهم لمن حذا حذوَهُم ودخل تحت حَوطَتِهم.
١  في الأصل: يمعنون.
٢  في الأصل: أُولي.
٣  كذا.
٤  في الأصل: عروض.
٥  في الأصل: تتوفر.
٦  يريد «الإعراض».
٧  في الفصل الخامس والعشرين.
٨  سفر الخروج ٣: ١٠.
٩  أعمال الرسل ٨: ٢٦.
١٠  سقط في الأصل: أن.
١١  في الأصل: حقًّا.
١٢  في الأصل: موجود.
١٣  في الأصل: أزود.
١٤  في الأصل: تمام.
١٥  في الأصل: متوسطين.
١٦  سقط في الأصل: وأفضل من الحيوان.
١٧  سقط في الأصل: بأمرين.
١٨  في الأصل: قادرين.
١٩  في الأصل: فأربعة.
٢٠  في الأصل: السمائية.
٢١  في الأصل: والمبهرات.
٢٢  في الأصل: فإن.
٢٣  سقط في الأصل: التي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤