الفصل الخامس عشر

قال الراوي: دار الزمن دورته، وها هو بعد مرور ثلاثين سنة على اعتلائه عرش أبيه يسمع من وزير ميسرته تلك الكلمة المشئومة، وقد سبق وسمعها من أستاذه: «إن العرش في خطر»، فهل يقدَّر له أن ينقذ العرش ثانية إذا صح قول الوزير؟! أم ينهار العرش عليه وعلى ابنه، وهو لم يتجاوز العاشرة بعد، وعلى ابن أخيه المسرف الفاسق؟ أحان لشدَّاد وهو في شيخوخته أنْ ينتقم مني، وأنا لا أزال في سن الكهولة، تهز قلبي فاعلية القوة فيها؟! أين لي بمثل ذلك الشيخ الحكيم الوقور؟!

وهنا تذكر الأستاذ الجليل الساحر، فاطمأن نوعًا، وقال في نفسه: لعل الله القدير قد بعث بروح ذلك الشيخ الحكيم في ناسوت هذا الأستاذ الجليل، رحمتك اللهم، وما خطر له هذا الخاطر حتى استفاق لواقعه فوجد نفسه في الهزيع الأخير من الليل، ساعات مرت به وهو غافل عن واقعه، غارق في تأملات الماضي بفعل شدة وطأة الواقع في حاضره المرتبك المضطرب، صفق بيديه فدخل الحاجب مسرعًا، وعلى وجهه أمارات الاهتمام والاضطراب، ابتسم الملك وخاطبه متلطفًا: ليلتك ساهرة! إنها ليلة بيضاء، لك عليها إجازة ثلاثة أيام ومكافأة، فأجابه الحاجب بتذلل واستحياء مرتبك: إن توفيقي في خدمة مولاي صاحب الجلالة هو أكبر مكافأة، وليس من واجب أحب إلى نفس العبد من سهره على راحة سيده، ولكننا كنا في بَلْبَال، زاده شدةً أمرُ مولاي بألَّا أفتح الباب ولا أستأذن لأحد، فلم يكن باستطاعتنا أن نروِّح نفس جلالة الملك، أو أنْ نقوم بخدمته لدفع القلق، وهنا التفت الملك إلى الحاجب باهتمام وقال: تتكلم بصيغة الجمع، فهل معك أحد؟ نعم يا مولاي، إن المشير الأول وبعض أعوانه ينتظرون منذ أمرتني بإغلاق الباب، فتذكر الملك أنه كان على موعد مع مشيره الأول ليطلعه على ما يكتشفه بواسطة عيونه وجواسيسه من الأدلة الجرمية التي تدين ابن أخيه، ومن يغرر به من أبناء الحرام، فأمر بإدخاله حالًا ناسيًا أنَّ الجوع أخذ يحرق معدته، وأنَّ الظمأ يلهبها، «إنَّ العرش في خطر» كلمة أضاعت صوابه، وشغلته عن ذاته، فصُرف عن كل شيء.

دخل المشير وكان رجلًا مهيبًا، تدل ملامحه على أنه يودع الكهولة، ويستقبل شيخوخة رغدة نضرة، محتفظًا بنشاط شبابه، فحيَّا بالتحية الملكية، وظلَّ واقفًا ينتظر أنْ يفيق الملك من ذهوله.

انتبه الملك بعد لحظات، فأمر المشير بالجلوس على مقعد أمامه، وساد القاعة صمت مهيب، لم يجرؤ المشير على الرغم من اضطرابه الظاهر أن يخرق حرمته؛ لأن المراسم الملكية تقضي بألَّا يُفاتح أصحاب الجلالة بالحديث، وأخيرًا وبعد دقائق صمت وتأمل التفت الملك إلى مشيره وقال: أتعبتك اليوم، فهل من جديد؟

المشير : لا يتعب العبد في خدمة مولاه يا صاحب الجلالة، وإنما يقلقني ما أغمض عليَّ من أسباب تأملات الملك وتفكيره بعد عزلته الليلة، والثقة لا يتحمل الإبهام، وهل على هذا العارض المفاجئ من جديد؟
الملك : كنت أتأمل في مغازي أسطورةٍ كثيرًا ما سمعتها من أستاذي الحكيم — رحمه الله ووسع عليه في سمائه — وكأني أسمعها منه الآن، ولا أدري لمَ نسيتها كل هذا الزمن.
المشير (وقد رأى في معرفة هذه الأسطورة مفتاحًا علَّه يساعده على فتح أبواب ما أُغْلِق عليه من أسباب ذهول الملك وهمِّه) : وهل يتفضل مولاي الملك، فيجيز لي التأمل في مغازي أسطورة ذلك الحكيم؟
الملك : إنها الحكمة، لبست لباس الأسطورة والخرافة، إنها من الحكم الخالدة، فاستمع لما رواه أستاذنا الشيخ عن الأقدمين:
كان في بلاد الهند قديمًا ساحر عظيم، اشتُهِر بالعلم والحكمة وسمو المدارك، وبلغ في مقدرة نفسه أنه كان يفهم لغات الحيوان، ويستطيع قلب الأعيان، فينقل الإنسان لصورة الحيوان والحيوان لصورة الإنسان، وما كان يعجزه أن يجعل النبات أو الحجر حيوانًا أو إنسانًا، ولا أن يعكس، ولا أدري لم اختص القدم بهؤلاء السحرة الأفذاذ.

رأى ذلك الساحر يومًا فأرة، أهزلها حزن شديد دائم، وفي استجوابها علم أنها تخاف من الهرة، فأشفق عليها، وحولها إلى هرة عظيمة تهابها الهرر والهررة.

مر الساحر بتلك الهرة — الفأرة — واستغرب أنْ يجدها في حزنها وهلعها؛ لأنها أصبحت تخاف من الكلب، فعزم عليها، وحولها إلى كلب كبير كاسر تخشاه سائر الكلاب.

ولكنه عاد في اليوم الثاني فوجد ذلك الكلب — الفأرة — في حزن وجزع ورعب، إنها أصبحت تخاف من الضبع، فأقسم عليها فانقلبت ضبعًا مفترسًا تفر من هيبتها السباع.

ولكن أخذته الدهشة في اليوم التالي إذ رأى تلك الضبع — الفأرة — في حزنها وجزعها ورعبها؛ لأنها أصبحت تخاف من الصياد، فسخط، ثم التفت إلى تلك الضبع، وعزم وأقسم، ثم قال: ارجعي إلى أصلك، فإنني لا أستطيع أن أعمل شيئًا في إبادة الخوف من نفسك ما دمت لا تحملين إلا قلب فأرة.

هنا تنتهي الأسطورة، وإنني لأتأمل في اللئيم تُحسن إليه ويظل اللؤم مسيطرًا على نفسه وكيانه، وأفكر في أبناء الحرام لا يمكن أن تصدر عنهم أعمال أبناء الحلال مهما تعلموا ومهما رفعت من مقامهم.
المشير (وقد تملَّكه الخوف) : وهل يشك صاحب الجلالة في إخلاص عبده هذا؟ وأشار إلى نفسه.
الملك : لم أُرِدْك في قولي هذا، ولم أقصد أي شخص بعينه، ما دمت في سحب الغموض، لا أستطيع أن أتثبت من الجرم فأتهم، إن الجرم واقع والعرش أصبح في خطر، ولا أدري من المجرم لأنقذ المملكة والعرش من إجرامه، من هم أولئك الانتهازيون الذين لا يهمهم إلا الوصول ليشبعوا جوع أطماعهم؟ من هم أولئك الخونة؟ وهم لا يتورعون عن الاتصال بعدو المملكة، يتآمرون على العرش؛ ليرووا ظمأ تعلقهم بالمناصب والمظاهر، من هم أولئك المنافقون الذين يظهرون الإخلاص لملكهم، وهم لا يعملون إلا للإثراء والترف على حساب إفقار الشعب، وتعريض العرش للخطر؟ إنهم أبناء الحرام، ليسوا من هذه الأمة وإن حُشروا بين أبنائها، وليسوا من أصلاب آبائهم وإن نُسبوا إلى أولئك الآباء؛ لأنهم لا يفكرون بصالح الأمة ولا بكرامة الآباء والأجداد، تغريهم الأوهام، وينفخهم ما هم عليه من ادعاء وغرور، إلى متى نُخدع بهم ولا نجد وسيلة الاهتداء إليهم لننقذ الأمة من شرورهم؟ قل لي: ماذا فعلتم أنت وأعوانك؟ وما هي الأدلة التي تثبت الجريمة؟ قل لي قبل أنْ يسبقنا الزمن، فأضطر في تصرفي لأن أنقم من أبرياء، وأقرب مجرمين يحسنون الخداع والتدليس والشعوذة، فننهار جميعًا، ونصبح في قبضة شدَّاد، يذلنا ويستعبدنا وهو لا يرحم.
المشير : مولاي، ليس اكتشاف هؤلاء بالأمر السهل، ما دام الشر كل الشر يكمن في حاشية صاحب الجلالة وفي أَخِصَّائه وموضع ثقته، وأكاد أصل، فليتكرم صاحب الجلالة بإمهالي بعض الوقت، أو فليصرفني من عملي إذا أمر.
الملك : أراك مللت العمل، وما تعودت أنْ أسمع منك ما أسمع.
المشير : مولاي، أفتسمحون لي أن أكون صريحًا وعليَّ الأمان؟
الملك : قل ما بدا لك.
المشير : إننا مكبَّلون، لا نستطيع حراكًا ما دمنا نتلقى الأوامر من الوزراء والكبراء، فمن نفوس بعض هؤلاء تنتشر السموم، فيختلط علينا الأمر، نعم، إنَّ العرش أصبح في خطر، والعرش لمليكه، وللملك أن يحفظه ويحميه، فإن كنا نستحق ثقته فليتفضل بمنحنا سعة تامة في صلاحيات العمل، على ألَّا نتلقى أمرًا إلا من صاحب العرش المفدى؛ لأنه بحكم وضعه يمثل مصلحة المملكة وصالح الرعية، ولا بد في هذه الحالة من أنْ نأمن الشغب والدس والنميمة، فنكون في جوٍّ من الصراحة لا تحجب أنوار الحقائق فيه سحب الشعوذة والتدجيل.
الملك : ليكن لك ولمعاونيك ما أردت، وإنني أمنحك سلطة تامة تشمل جميع الناس، حتى وحيدي الصغير ولي العهد.
المشير : ويكون ذلك سرًّا لا يعرف به أحد.
الملك : نعم، فاذهب ونم بهناء.
المشير : والله لن أنام في فراش بعد اليوم، حتى أكتشف مكمن الفساد والشغب، وأمكن مليكي من أن يضع الأمور في نصابها، سأطلق هررتي لتصطاد تلك الفئران، فتسلم الأمور لأربابها، ويرتاح الشعب، فلا يظل بقرة لا يصل صغارها للبن أمهم الحنون.
عاش الملك، يكلأ الشعب بعناية الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤