الفصل التاسع

قال الراوي: لم يكن في منزل الأستاذ الجليل غرفة خاصة للطعام، فأحضر إليه طعامه وهو في القاعة على طبق من قش، وضع الخادم الطبق على أرض القاعة وفي وسطها، ثم نظر إلى الأستاذ نظرة المتسائل عما يأمره به بعد، فأومأ إليه بالانصراف بعد أنْ تحقق بنظرة ألقاها على الطبق، بأن كل ما يحتاج إليه لعشائه حاضر أمامه، انصرف الخادم بعد أنْ رد الباب وأحكم إقفاله؛ إنَّ الأستاذ يتأذى من أنْ يراه أحد حين يأكل، فهو شَرِهٌ نَهِمٌ يتناول الأكل بعينيه وبفمه ويديه، ويكاد يأكل بحواسه جميعًا وبكل جسمه، ليتك كنت تراه يمضغ الطعام ويتلمَّظه ساهبًا، يوشك أنْ يغفو على الطبق، لولا أن يوقظه فراغ فمه … أطنب الراوي في وصف إفراطه في شهواته وملذاته، في أكله وشربه، وفي أطماعه واستشراف نفسه لدرجة تجعلني أذكره كلما ذُكر راسبوتين، وكلما فكرت في أمر الكثيرين من ذوي الأطماع المتكالبين، أولئك هم الذين لا يحللون ولا يحرمون في محاولات سعيهم لتحقيق موضوع الطمع في نفوسهم، إنهم لا يأبهون لما يلحق الآخرين بجريرتهم من أذى، ولا يكترثون لما تُمنى به الأمة من نكبات بسبب ما يعملون على تحقيقه من مآرب ذاتية وأطماع، ومن أهداف شخصية وشهوات، إنهم أشرار مجرمون، يتمثلهم عامة الناس عندنا، وقد ابتلاهم بهم الزمن، بمن لا يتورع عن أن يُلهب البلد ليشعل سيكارته، والشَّرَه في الجاه كالشَّرَّه في الأكل والشراب، بل هو أشد فتكًا في الأمم، ونَهَمُ المال والمناصب أدعى إلى النكبات في المجتمع من نهم البطن وشهواته.

وكأني بالحياة في نقمتها على المجتمع الغافل عن ذاته، وعلى الأمة الغائبة عن حقيقتها، وعلى الإنسان الهازئ بإنسانيته وبمُثُلها تنتقم، فتسلِّط على الغافلين والغائبين والهازئين شرورًا، تتمثل بالشَّرَه والنَّهَم على أنواعها وفي مختلف الأشكال، ولعلها اجتمعت كلها في هذا الأستاذ الجليل.

بهذه المعاني وبما يشابهها كان التلميذ يناجي نفسه وهو في انتظار أستاذه، بعد أنْ تناول طعام العشاء مع خادم المنزل، إنه شاب متوثب، ديمقراطي الروح، وعميق التأمل، يؤمن بآراء ذلك الرجل الحكيم وأقواله، وقد تغذت بها نفسه، حتى أصبحت في صميم فاعليته تفكيرًا وشعورًا وسلوكًا، وهو إذا ما دارى الأستاذ الساحر وواربه؛ فلأنه صمم على أن يرد كيده إلى نحره، آمن بدهاء أستاذه وبسعة اطلاعه وذكائه، كما آمن بخبثه وفساد طويته ونواياه؛ فأصبح يخشى على الأمة من مناوراته الخائنة، ومداوراته الماكرة، ومؤامراته الدنيئة، وما علم بعزمه على الاتصال بالملك في عاصمة ملكه، حتى أدرك كل شيء، فتوسل إليه أنْ يصطحبه، آملًا أن يرد عن الأمة تلك النكبات، وقد يبيتها لها ذلك المشعوذ إشباعًا لشَرَهِه وتحقيقًا لمأربه وجشعه. وللشباب وثبات، كثيرًا ما أنقذت المجتمع من ويلات، ونجَّت الأمم من مهالك، وكم كان لهذه الوثبات من فضل في إنقاذ الأمم من مزالق الانهيار، وفي إعادتها إلى ميادين التقدم، لتستمر في ارتقاء سلم الحياة، ناهضة مستبشرة، لا تخشى الدجل، ولا تخاف الشعوذة، فهنيئًا لأمة تتحقق فيها وثبات شبابها، وتعسًا لمجتمع تُكبت فيه تلك الوثبات الخيِّرة.

غاب الشاب في تأملاته عمَّا حوله حتى أيقظه دفع الأستاذ لباب القاعة، وخروجه خروج الظافر، يتلمَّظ بقية طعام في فمه، ويسرع إلى غسل يديه، عاد الساحر بعد ذلك كله إلى مقعده الأول، ونادى تلميذه، وابتسم ابتسامة مَن يتذكر استخفافًا يريد أنْ يدفعه فقال: سألتني عن أبوابٍ استخدمتُها اليوم، ولم أكن لأستخدمها في استمالة أفراد أتملقهم، وهل التملق سوى باب من أبواب السحر، يُستخدم في استمالة السذَّج؟ وهم ليسوا جديرين بتلك الأبواب القوية لأنهم سخفاء. إنَّ استحضار الجن والأرواح والشياطين وإلقاء ما اشتد وقَوِيَ من الأبواب، إنما يكون في هذه الأحوال المعقدة والأطماع الكبيرة، وإلا فتجارة الساحر خاسرة، وليس من السهل أن يجمع الساحر كل قواه في جميع الأوقات.

هنا تنهَّد الشاب، وقال: ومتى تفي بوعدك، فأرى تلك الأرواح والعفاريت وأكلمها؟ فأجابه الأستاذ: لم يكتمل إيمانك بعد، ومتى اكتمل ترى العجائب، وتخضع لك القوى. ولِيتخلصَ الأستاذ من إلحاح تلميذه وإحراجه حوَّل حديثه إلى موضوع آخر، فسأله عما لديه من أخبار ذلك الفيلسوف وأحاديثه وأحواله؟

– إنني ما زلت أواظب على حضور دروس هذا الأستاذ كما أمرتني، وهو لا يزال يتوسع في مباحث المساواة بين البشر مفضِّلًا مناقشة الشباب بإثارة المواضيع لينمِّي فيهم أصالة التفكير.

الأستاذ : ألا يزال ينشر فكرة مساواة السوقة بالأكابر وبالملوك؟ يا له من وقح يجب تأديبه! ويريد فوق ذلك أن يجعل للغوغاء تفكيرًا أصيلًا، وشعورًا ينبثق عن الذات، وسلوكًا يختاره عامة الناس، فلا يوجَّهون ولا يقيَّدون بتقاليد وعادات، فرضها علينا التاريخ، وأوجبها ما بين طبقات الناس من فروق وامتيازات، إنه لمجرم خطر، يستحق أقسى أنواع العقاب، وسيكون لي معه شأن وأي شأن. قل لي، أيَكثر مريدوه أم يقلُّون؟
التلميذ : إنهم يزدادون باطراد.
س : هل هم من الجيل الطالع الجديد؟ أم من الجيل السابق القديم؟
ت : ليس بينهم شيوخ، وقِلَّتهم من الكهول، وكثرتهم من الشباب، شابات وشبانًا.
س : وهل لا يزال يجمع بين الجنسين؟ يا ويله من عذاب أليم! إنه يفسد على الأمة شبابها، وسيناله جزاء المفسدين، الآن وجدت نقطة الضعف في دعوته، وسأضرب فيه موضع الضعف، ولن تقوم له قائمة. قل لي، أترى أنَّ للشابينِ الوقحينِ صلة به وبتعاليمه؟
ت : إن يكونا مَن انصرف إليهما ذهني في أثناء البحث في شأنهما في جلسة من عبَّرتم عنهم بالشمامين، فهما من ألمع شباب حلقة الفيلسوف ولا شك.
س : تفاقم الشر إذن، واستفحل الفساد، وسينالهما أقسى العقاب.

وهنا أخذ التلميذ يداور أستاذه؛ لينقذ الشابين، وهما من أعز أصدقائه، ينسجم معهم ومع رفاق لهما في التفكير والأهداف، فقال:

ت : أمِن الحكمة يا مولاي أنْ تعرض أهدافك لخطر الإيقاع بهما، وهما من ينتصر لهما عدد كبير من شباب يؤمنون بما يؤمنان؟
س : كأني بك قد انحرفت يا أهبل!
ت : كلَّا، بل مصلحتك أريد، أليس من الخير أن نربح هذين الشابين، فنربح بذلك الكثيرين، ممن يعجب بهما من الناس؟ لم لا يكونان عتيقَيْ فضلك؟
س : أدركت ما تريد، وسأتأمل مليًّا في الأمر، إنك — ولا شك — من أخلص التلاميذ، فمرحى لتفكيرك المستقيم.

امتلأت نفس التلميذ سرورًا، وقد نجح في محاولة إنقاذ رفيقيه، فاتسع أمله في إمكان إنقاذ الأمة من شرور الدجل والشعوذة، وأراد أنْ يختبر أستاذه أو أنْ يُعجزه، فوجَّه إليه بهيئة المؤمن المعجَب هذا السؤال: ولِمَ لا تخلصنا من دجل ذلك الفيلسوف ومن شعوذته بإلقاء بعض أبواب سحرك العظيم؟ أرسل جندك من الجن والشياطين، أرسل هامان ومامان، وجهبورا وسنهار، وسلِّط عليهم شمشريخا وهيدرون ومَن لفَّ لفَّهم من المَرَدَة والعفاريت، فينقذوننا منه ومن أتباعه وتُنجي من شروره الناس أجمعين.

س : آهٍ آه! إنَّ هؤلاء المفكرين إذا أخلصوا في تفكيرهم، يُبطلون أفاعيل السحر، وتهابهم الجن والشياطين، وقد جربت فرأيتهم يفرون منه حتى خفت على نفسي من أن ينقلبوا علي، ويفتكوا بي لما أصابهم من رعب وذعر، سألقاه بذاتي رجلًا لرجل، وسأعتمد عليك كل الاعتماد.
ت : حسنًا تفعل، وأنا على استعداد تامٍّ للعمل، ولكني ما كنت أظن أن يكون للعلم كل هذا التأثير.
س : ليس التأثير للعلم في ذاته، فإنه بذاته قد يكون وسيلة من وسائل السحر، وعبدًا لشياطين الجان، ولكنه الفكر، لا قوة فوقه، إذا ما غذاه العلم والتأمل.

وهنا وقف الأستاذ وقال لتلميذه: أرى أنْ نكتفي الآن، وأنْ نريح الجسم من عناء اليوم بالنوم، وانتبهْ صباح الغد لموعد مجيء وزير الميمنة، ذلك الشمام الكبير.

ت : ولكنك لم توضح لي صفات هؤلاء الشمامين.
س : إلى سهرة الغد تصبحون على خير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤