الفصل الثاني

المستقبل

درج لفظ «المستقبل» على ألسنة أهل هذا العصر بقدر ما درجوا هم في سبيل المدنية الحاضرة، وذلك أمر طبيعي؛ لأن مطالب هذه المدنية حملتهم على الجهاد العنيف؛ بغية الوصول إليها، ودفعتهم إلى السباق في مضمار العمل للحصول عليها، حتى إذا لم يسعوا إليها قبل أوانها فاتتهم في حينها، لذلك ترى الناس يهتمون في يومهم لغدهم، وفي شتائهم لصيفهم، وفي شبيبتهم لشيخوختهم، ألا ترى أن فتى اليوم يقضي مقتبل العمر في المدارس، وبين المكاتب والمحابر؛ يبذل الدنانير ليكنز العلم، ويجهد الفكر في ادِّخار المعرفة وهو يقول: «أتأهب للمستقبل، أزرع في شتاء الصبوة والشبيبة لأحصد في صيف الرجولية والكهولة والشيخوخة»؟ لذلك يستعد في حياة والديه، وتحت ظل إيسارهما؛ لكي يستقبل حياة العمل وهو كفء لها، فلا تفوته فرص التكسب، وثمَّت يتنعم في القسم الثاني من عمره بالثمار التي يستغلها من غرس شبابه.

ولا يخفى عليك أن المستقبل هو صفوة الحياة، وقد علمت فيما سبق أن الحياة لا تقوم إلا بالحركة، فإذًا لا يقوم المستقبل إلا بالحركة أيضًا، وهذه الحركة تنحصر في السعي والعمل والتدبر وحسن السلوك كما ستعلم.

وكان معنى المستقبل هذا نسيًا منسيًّا عند أسلافنا؛ لأن بساطة العيشة الشرقية لم تقتضِ أن يهتم الناس بمستقبلهم كثيرًا؛ إذ كانت حاجياتهم قليلة جدًّا، وكان ريع عقارهم يكفيهم هذه الحاجيات، ولم يكونوا ليعلموا شيئًا من كماليات هذا العصر. أما الآن، وقد كثرت الحاجيات، وصارت كماليات أسلافنا حاجيات لنا، واستجدت لنا كماليات أخرى بدلها هي أكثر وقرًا علينا من تلك؛ فصار الشاب يهتم بجمع الأموال لأغراض متعددة، يجمع أولًا ثروة لينفقها في حفلة زواجه، وفي تأثيث منزل يقيم فيه مع زوجته، ويدَّخر ثروة ثانية إلى يوم يكثر لفيفه؛ لينفقها في إعالة أولاده وتعليمهم وتربيتهم، ويحرز ثروة ثالثة بائنة «دوطة» لبناته كعادة أهل هذا الزمان.

وأخيرًا لا بد له من ثروة رابعة يحتفظ بها احتياطًا لئلا ينتابه الدهر بفاقة. فكل ذلك يضطره إلى الاهتمام في يومه لأكثر من غده، وفي شتائه لأكثر من صيفه، بل إلى الاهتمام في صبوته لشبابه، وفي شبابه لكهولته، وفي كهولته لشيخوخته، وإلا عضَّه نابُ الفقر، ودرَسته ريح الفناء. من ذلك تدرك قدر الجهاد في هذه الحياة!

ومع أن الشرقيين قد كثرت حاجياتهم، ووفرت كمالياتهم حتى كادت تكون ضرورية كالحاجيات بمقتضى التمدن الذي اقتبسوه من الغرب؛ لم يهتموا بأمر «المستقبل» الاهتمامَ الواجبَ لتلك المطالب، والسواد الأعظم منهم لا ينظرون إليه إلا متى مَسَّتْهُمُ الحاجَةُ، فالشاب يبقى غافلًا عن لوازم زواجه إلى أن يدنوَ يوم قرانه، فيستدين على أمل أن يُوفي مما يدخره بعد الزواج، حتى إذا حاول ذلك بعد زواجه كانت حياته مُرة؛ لأنه وهو زوج أعجز منه وهو فرد، فكيف «يسد عجز» العزوبة في عهد الزواج؟! وكذلك لا يستعد لمطالب العائلة إلى أن يحيط به رهط من الأولاد، وكلهم يحتاجون إلى طعام وكسوة وتعليم وغير ذلك، فكيف يلبي كل هذه المطالب المقبلة وهو لم يزل يوفي ديون الماضي؟! من ذلك تدرك أهمية «المستقبل».

فعلى الوالدين أن يغرسوا معنى المستقبل في أذهان أبنائهم من حداثتهم؛ ذلك بأن يكلفوهم القيام بواجبات تحت طاقتهم، ويجعلوا نيلهم لحاجتهم جزاءً لإتمام تلك الواجبات؛ كَأَنْ تُكَلِّف الأمُّ ولدَها عملًا في البيت يستطيعه، وتعده بشيء من النقود أو بأن تمنحه رغائبه من ملابسَ أو حلوياتٍ أو ألاعيبَ إلى غير ذلك جزاءً لعمله؛ لأنه متى ترتب نيل أمنيته على إنجاز عمل ما تَعَوَّدَ العملَ، ونشط إليه، ورسخ في ذهنه أن حاجات الإنسان لا تنال إلا بإتمام عمل في مقابلها، وأن الدراهم التي ينفقها الأب على مطالب العائلة لم يحصلها إلا بعد الجهد في العمل؛ وبذلك يعرف الأحداث قيمة الدراهم فيحرصون عليها، ويعلمون أن للعمل نفعًا فيقبلون عليه عن طيب خاطر، وينجون من داء الكسل، وهكذا يفهمون معنى «المستقبل»، وينمو فيهم مبدأ الاعتماد على النفس.

وعلى الوالدين، وهم يريدون الخير لأولادهم، أن يذكروا لهم تكرارًا ما سيمرُّ عليهم من أطوار المستقبل، وما يطلب منهم له، بحيث يفهمون أن الأبوين لا يدومان متكلًا للأبناء، بل لا بد أنهما يعجزان في طور الشيخوخة، وأخيرًا يذهبان من هذه الدنيا فيضطرون هم إلى إعالة أهل بيتهم، ويحتمل أن يشتمل البيت على أبوين عاجزين، وإخوة وأخوات، وزوجات، وبنين وبنات، أو بعض هؤلاء.

وما أفظع غلط الوالدين الذين يطلقون الحبل على الغارب لأولادهم فيتركونهم متطوحين في اللهو والبطالة، مُتَّكلين على ميراثهم؛ فإن هؤلاء الأبناء إذا ورثوا فلا يلبثون أن يبذرقوا ثروتهم؛ لأنهم لم يتعبوا في جمعها ليعلموا قيمتها، ولا يدركون ما يُكنُّه لهم المستقبل من الشقاء متى فرغت أيديهم من المال يوم لا ينفع الجاه؛ إذ يكون العقل ضعيفًا، والاختبار قليلًا. وإذا لم يرث الأبناء إلا التدلل من والديهم فهناك الطامة الكبرى؛ لأنهم بعد والديهم يرتبكون في أمر المعيشة، إذ يرون أنهم في مواقفَ حرجةٍ لم يكونوا ينتظرونها في حياة والديهم.

فخليق بالآباء مهما كانوا في غنى وفير، وجاه عريض، أن يُفهموا أولادهم معنى المستقبل، ويربوا فيهم مبدأ الاعتماد على النفس، وإلا انحط الأبناء بذنب الآباء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤