الفصل الثاني

التوفير

(١) حقيقة التوفير

التوفير هو الحد الأوسط بين التقتير والتبذير، وشرطه أن يكون الإنفاقُ أقلَّ من الدخل، ولو زهيدًا جدًّا بحيث تُجمع ثروة من المتوفرات مع الزمان، ولا يخفى أن للثروة المجموعة من المتوفرات الزهيدة فائدتين عظيمتين؛ أولاهما: أنها تكون مالًا احتياطيًّا يُلجأ إليه عند مسيس الحاجة في حالة مرض أو عجز أو عسر؛ لوقوف دولاب العمل أو نحو ذلك إلى أن يفتح الله باب الفرج، وثانيتهما: أنها تكون قوة إضافية تثمر في تجارة أو صناعة، أو تُقْرَض بالربا، أو غير ذلك، بحيث تكون ذات ريع لتنمو وتتكاثر من نفسها مع الزمان.

وبما أن المرء يجهل أحوال الزمان، ولا يأمن صروف الأيام، ولا يدري ما إذا كانت غبطته تدوم، أو باب رزقه يبقى مفتوحًا، فعليه أن يستعد للأيام قبل وصولها، وأن يتدارك الإعسار قبل الوقوع فيه بأن يجمع في أيام إيساره ونعماه ما يتلافى به إعساره وبلواه. فلا تغتر بابتسامات الزمان؛ فقد تتحول يومًا ما إلى عبوسة، فإذا لم تدَّخر من تلك الابتسامات إلى أيام العبوسة تحولت سعادتك إلى شقاء، فالتوفير لازم لكل إنسان؛ تحاميًا لنوائب الأيام، وتفاديًا للإعسار.

وبما الإنسان يبتغي دائمًا المزيد من السعادة، فعليه أن يدَّخر قسمًا ولو زهيدًا من كسبه؛ ليجعله ثروة يثمِّرها، أي ينميها شيئًا فشيئًا من ريعها ومن متوفراته، وكلما نمت ثروته اتسع إيساره، ووفرت سعادته.

وما من ثروة وُجِدَتْ كما هي، بل كل ثروة كانت في الأصل متوفرات قليلة جدًّا، فأضيف إليها ريعها، ومتوفرات أصحابها، وعلى تمادي الأيام أصبحت ثروة طائلة، وكل أغنياء العالم كانوا أو كان آباؤهم قبلهم فقراء، وباقتصادهم في المعيشة وتوفيرهم جمعوا ثرواتهم الضخمة، فجمع الثروة ممكن لكل إنسان إذا وفر من كسبه جزءًا منه، وثمَّر المتوفر.

وما من عمل يُسْتَسْهَلُ إلا متى صار عادة، فإذا حاول المرء التوفير استصعبه في أول الأمر، ولكن إذا زاوله برهة وواظب عليه تعوَّده واستسهله، ومتى وفرت النقود بين يديه شعر بقوة جديدة له، وذاق طعم الإيسار، وإذ ذاك يستلذ التوفير بعد إذ كان يعافه، وكلما نمت ثروته قليلًا اشتد ساعده، ووفر كسبه، وبالتالي تسارعت ثروته في النمو، وهكذا لا يمر عليه وقت طويل حتى يصبح في جملة المتمولين المعدودين، وإذ ذاك يتسنى له الإنفاق في سبل هنائه أكثر مما كان ينفق يوم كان بلا ثروة، ومع ذلك تزداد توفيراته لسعة يده؛ إذ تصير فضلاته أكثر مما كانت قبلًا.

وما أشقى الرجل الذي يبسط كفه لأجل رفاهته وجاهه في أيام إقباله، وينفق كل أرباحه في سبيل ملذاته، حتى إذا أقفِل باب رزقه أو قصر عن العمل؛ لعلة أو عجز يكفهرُّ جوُّ نعماه؛ إذ لا يجد في كفه غرشًا يبتاع به ما يسد رمقه، وهيهات أن يرى صديقًا يشفق عليه في شدته كما كان يتعشقه إبَّان عزه. وأشقى منه الرجل الذي ينفق أكثر مما يكسب! فلا بد أن يكثر مدائنوه فيطالبونه، وإذ لا قِبَلَ له على الإيفاء يقاضونه أمام القضاء فينفضح أمره، وإذ ذاك تسقط مكانته، وتزول الثقة به، فيحتقره الأقران، ويصبح لا نصير له ولا مجير.

فلكي ينجو المرء من جور الزمان وصروفه، ويأمن السقوط من مقامه في الهيئة الاجتماعية، ويتفادى ذل السؤال، ويستغني عن جميل الأصحاب يجب أن يدخر من كسبه جزءًا يتكل عليه إذا مست الحاجة، ولكي يزداد سعة ورخاء وغبطة يجب أن يوفر ما استطاع مصممًا على جمع ثروة تزيد كسبه؛ لتنطلق يدُه في اقتطاف ثمار الهناء والرخاء، وليتمتع بخفض العيش.

ولكي يستطيع الإنسان التوفير يجب أن ينفق بحكمة. ومن أوجه الحكمة في التوفير ما يأتي:
  • (١)

    أن يكون الانتفاع على قدر النفقة: أي لا تبذل درهمًا إلا بقدر ما تنتفع؛ فقد يشتري رجلان كل منهما بذلة، وتكون كلتا البذلتين لائقتين ومتساويتين بالثمن، على أن إحداهما أمتن، والأخرى أجمل، فصاحب البذلة الأولى أكثر حكمة من الآخر؛ لأنه انتفع أكثر ببذلته. مثال آخر: دخل رجلان إلى أحد الملاعب في أوائل التمثيل، ولما انتهى الفصل الأول ذهب أحدهما إلى ملعب آخر فحضر فصلًا فقط، ثم ذهب إلى ملعب آخر أيضًا، فالأول حضر تمثيل رواية كاملة، ودفع ثمن «تذكرة دخول» واحدة، والآخر لم يحضر رواية كاملة، ومع ذلك دفع ثمن ثلاث «تذاكر»، فذاك من غير بد كان أوفر حكمة من هذا؛ لأنه تمتع بالتمثيل أكثر. وقس على هذين المثلين أمثلة كثيرة تبين طرق الإسراف والحكمة في الإنفاق.

  • (٢)

    اقتناء اللازم فقط: أي لا تقتنِ إلا ما أنت في حاجة إليه لا كل ما تشتهيه؛ لأن الإنسان يشتهي كثيرًا، ولكنه يحتاج قليلًا؛ فقد تبصر عصًا جميلة فتشتهي أن تقناها، ولكنك لا تحتاجها؛ لأن عندك عصًا، ومن الإسراف أن تبتاع بذلة وعندك بذلات كافية، ومن الحماقة أن يقتني الصانع مركبة، أو يسكن قصرًا فخيمًا وهو لا يكاد يكسب نفقتهما.

  • (٣)

    أن تكون درجة المعيشة مساوية للمكانة الاجتماعية: أي أن تنفق على معيشتك بحسب مقتضى منزلتك في الهيئة الاجتماعية، وكل ما تنفقه علاوة على ذلك تخسره؛ لأنه لا داعي له، ولا فائدة منه، ولا سيما إذا كان يذهب في سبيل الجاه والمظهر؛ لأن تطاول المرء إلى حالةٍ أرفع من حالِهِ قلما ينتهي بغير الهوان. وقد يكتسب بعض الناس — ولا سيما الشبان — كثيرًا، ولكن ليس كل ما يكتسبه المرء يجب أن ينفقه، بل يجب أن يكون الإنفاق بحسب الاقتضاء مهما كان الدخل وفيرًا، والفاضل عن النفقة اللازمة يوفَّر. ومن الحماقة أن ينفق الموسر كل دخله على ما هو في غنًى عنه.

  • (٤)

    أن يكون الخرج أقل من الدخل في كل حال: وإلا استحال على الإنسان أن يدخر ثروة ولو زهيدة؛ لينفقها في أيام عسره، وإذا كان دخل المرء لا يكفي نفقاته؛ فالأولى به أن يغير حال معيشته، وأفضل له أن ينزل درجة من مكانته من أن يبقى فيها وهي متداعية متقلقلة؛ لئلا يسقط منها، ويكون سقوطه هائلًا.

على أن بعض الناس يحاولون أن يتظاهروا بأوجه مما هم؛ إما ليطاولوا من هم أكثر وجاهة منهم، أو لكي يحافظوا على جاه كان لهم فكادوا يخسرونه بحكم صروف الأيام، وإنما هم يحاولون إدراك ما هو فوق طاقتهم؛ لأنهم يخجلون من مظهر الفقر، ولو أنعموا النظر في حالتهم ومصيرهم لرأوا أن تلك المحاولة تؤدي بهم إلى الفقر طبعًا؛ لأنهم وهم يظهرون أرفع من منزلتهم ينفقون أكثر مما يكسبون، ومآل هذا الأمر إلى المديونية طبعًا، والدين باب الخراب، والخراب دار الفقر لا محالة.

والحقيقة أن الفقر لا وجود حقيقي له؛ لأنه مهما كان المرء معسرًا وقليل الدخل يمكنه أن يكون غنيًّا إذا جعل نفقته أقل من دخله، وإن كان ذلك صعبًا في بعض الظروف، وهو ليس بصعب إلا على من يستحي من مظهر الفقر كما قلنا متى كان يتطلع إلى من هم أرفع منه، ولكن إذا كان ينظر دائمًا إلى من هم دونه يجد نفسه غنيًّا.

فالأسلوب الذي يتخذه هؤلاء المغرورون للهرب من الفقر هو نفسه مفض بهم إليه، ولا نجاة من الفقر الذي يتحاشونه إلا بأن يتظاهروا به لكي يتسنى لهم التوفير والتثمير؛ بغية جمع ثروة تنتشلهم من وهدة الفقر التي يحاولون الصعود منها.
  • (٥)

    النقد في الحال: أي أن تدفع ما تبتاعه أو يستحق عليك في حينه، وهذا يستلزم ألا تشتري شيئًا بالنسيئة، ولا تستدين لتشتري على أمل أن تقبض أجرتك أو تستوفي مالك بعد حين فتدفع ما عليك؛ ذلك لأنك لا تعلم ما إذا كنت تقبض ما يستحق لك، ولا تعلم ما قد يطرأ عليك من الاحتياجات التي هي ألزم لك مما تبتغي أن تقتنيه بالنسيئة.

    فاعتبر أنك لا تملك من النقود إلا ما هو في جيبك فقط: وأن الذي لك من المال أو الأجرة عند الغير ليس لك ما دام في قبضة غيرك، فإذا اعتمدت على هذه القاعدة نجوت من المديونية.

    ثم لا يخفَ عليك أن ما تبتاعه بالنسيئة من حوانيت التجارة هو أغلى مما تدفع ثمنه في الحال؛ لأن التاجر يضيف إلى ثمنه ربعه، وذلك في مقابل فائظه، وافتراض عجزك عن دفعه، فترى إذًا أن النقد في الحال ينجي من المديونية والغبن.

  • (٦)

    القيد: أي أن تقيد في دفترك الخصوصي دخلك وخرجك يوميًّا؛ لتعلم ما لك وما عليك، فلا تقع في ورطة الدين، وإذا لم تفعل ذلك بل بقيت جاهلًا ما لك وما عليك؛ لم يكن لك ما يكف يدك عن الإسراف.

  • (٧)

    التوفير اليومي: أي أن تفرز كل يوم أو أسبوع أو شهر قدرًا معينًا من دخلك، وتحبسه عنك كأنَّه دَين عليك تُوفِّيه، ولك ذلك بأن تودعه بعض المصارف الاقتصادية؛ كصندوق التوفير في البوستة أو نحوه.

وبالحقيقة: إن إيداع قيمة زهيدة يوميًّا في صندوق، أو مع قريب أو صديق ليست بالأمر الصعب على أحد؛ لأنها لا تؤثر في نفقاته اليومية تأثيرًا يشعر به، ولكن هذه القيمة الزهيدة تصير مع الزمان ثروة كبيرة، والثروة تحبب المرء بها، وتجعله يرغب في إنمائها وتكثيرها، ولهذا يصبح التوفير بعد ذلك سهلًا عليه.

(٢) التبذير

التبذير آفة الدخل والثروة، وهو التطرف في الإنفاق، ونقيضه التقتير، والتوفير وسط بينهما، وبالجملة يقال: إن كل ما يُنْتَقَضُ من وجوه الحكمة في التوفير التي مرَّ بيانها يُعَدُّ تبذيرًا، على أن هناك وجوهًا للتبذير يتعمدها المسرفون الأغبياء تعمدًا، فلا نرى بدًّا من الإلماع إليها، وبيان مغبتها السيئة تحذيرًا منها.

كل دواعي التبذير ترجع إلى اثنين: «التطاول إلى جاه أعلى»، و«إطلاق العنان للشهوات»، وكلا الأمرين ناجمان عن الغرور.

أما الغرور في الأول فهو أن المغرور يتطلع إلى جاه من هو أعظم منه، وأرفع مكانة، وأكثر سعة ويطاوله، وهذا يستلزم أن ينفق المرء كل دخله أو أكثر منه حتى يضطرَّ أن يستدين لأجل هذا الغرض، ولكن هذا الجاه الذي يستتر به رقيق جدًّا وشفاف ينفذه نور الحقيقة، فلا يلبث أن تظهر من ورائه حالته المالية، ويتضح أمره؛ فتنتفي الثقة به، وتقف حركة عمله، وبالتالي يأفل نور مجده الباطل، ويكون هبوطه بقدر ارتفاعه؛ بل أدنى، والعاقل يوفر في بادئ الأمر ويجمع ثروة، ويجتهد في إنمائها حتى يصير كسبه أكثر مما يلزمه؛ لمجاراة من هو أعظم منه فيجاريه، وحينئذ يتسنى له أن يكون عظيمًا مثله.

وبعض الأغبياء يسرفون على أمل أن يوفوا مما يقبضونه من رواتبهم الشهرية بعد أيام، أو مما يؤملون أن يكتسبوه من أبواب الكسب غير المؤكدة، فلا يندر أن يخيب أملهم. ووجه غلطهم أنهم لا يحسبون أن راتب الشهر مُعَدٌّ لنفقة الشهر التالي لا الماضي! وأنهم إذا كانوا ينفقون في الشهر الحاضر راتبي هذا الشهر والذي يليه، فليس لهم ما ينفقون في الشهر التالي، وأنهم لا يفتكرون بأن الكسب الذي ينتظرونه قد لا ينالونه؛ لطروء ما لم يكن في الحسبان. والمقتصد الحكيم لا ينفق إلا مما في يده من النقود، ولا يحسب ما له في ذمة غيره، أو ما ينتظره من الأرباح غير المقررة ملكًا له؛ لئلا يخيب ظنه. وما أجهل من يستدين لينفق على أمل أن يوفي في المستقبل، كأنه يستغني في ذلك المستقبل عن الإنفاق! وهكذا يتراكم الدين عليه فينوء به.

وأما الغرور في الثاني فهو أن المغرور مهما كثر دخله أنفقه في سبيل شهواته الدنيوية، وعلى التمادي في سبيل اللهو والبطالة، والانغماس في الرذائل، يتعود التبذير، ويتطوح فيه بحيث لا يعود دخله يكفيه فيرزح تحت ثقل الدين. وهب أنه لم يستدِنْ فلا يكفل لنفسه الاستمرار في العمل، وفي درجة كسبه، بل لا يندر أن يعرض له ما يستوقفه عن العمل، ويقفل باب رزقه: كالمرض أو الكساد أو العجز، إلى غير ذلك، فأنى له إذ ذاك أن يسرف، أو على الأقل أن ينفق على الضروريات إذا لم يكن قد وفر شيئًا إبان إيساره.

ولعمر الحق، إن الذين يسرفون في هذا السبيل إنما هم عمي البصيرة لا يفكرون في يومهم بغدهم، ولا ينظرون إلى العواقب إلا وهم فيها، فيفوتهم تلافي أخطائهم، ومهما كانت ثروة الواحد منهم عظيمةً يبددها في برهة قصيرة؛ لأن البطالة هاوية عميقة تبتلع أعظم الثروات، وأكبر المواريث. ومن غريب أمر المسرفين أنه لو كان منهم فقراء يتسولون في الشوارع إذا أعطى الواحد منهم غرشًا أنفقه في الحانة، أو اشترى به حشيشًا أو تبغًا! فتعجب!

وأهم أوجه الإسراف في سبيل الشهوات إدمان المسكر، ولعل القارئ يظن أن السكر لا يعد إسرافًا إلا للذين لا يكسبون ما يكفيهم نفقاتهم كلها، ونفقات الأشربة الروحية معها، وأما الأغنياء وذوو المكاسب الطائلة فلا تؤثر نفقات الأشربة الروحية بماليتهم! فهذا الظن وهم باطل؛ لأن إدمان المسكر آفة كل ثروة وكسب على الإطلاق. نعم، لو اقتُصر به على أثمان الخمور فقط لما عُدَّ إسرافًا عند ذوي الألوف وعشرات الألوف من الدنانير، ولكنه — كما لا يخفى على الخبير — يقود إلى جميع الرذائل التي تستهلك الثروة، وتلهي عن العمل.

وهاك بيان ذلك: من خواص الخمرة — كما لا يخفى — أنها تهيج في مدمنها عاطفة الكرم إلى حد التبذير، فَيَهَبُ ويمنح من غير حساب، حتى إذا طُلب منه أثناء سكره أن يهب ماله كله دفعة واحدة فقد يفعل! وأيضًا تُعوِّد القناعة، ومتى خمد الطمع في قلب الإنسان ترددت رجلاه في السعي، وتوانت يداه في العمل؛ فيصبح راضيًا بما يكسبه في نهاره؛ لينفقه في ليله بين الكأس والوتر.

وقد حقق الاختبار أن الذين يُدمنون المسكر يتوانون في أعمالهم جدًّا، ولا يهتمون بمستقبلهم؛ لأنهم لا يفكرون إلا بحاضرهم فقط، ولهذا يفضلون ساعة لهو لدى الكأس على ربح مبلغ وافر، فينتهزون الفرص للمنادمة وتعاطي الراح، ويتركون أعمالهم، ولو كان لهم من ورائها مال قارون؛ لهذا السبب يعد إدمان المسكر آفة الثروة على الإطلاق. ولو يمكن الإنسان أن يقتصر على تناول القليل من الأشربة الروحية إذا تعودها لما كان من حرج على الموسر أن يتعاطاها بالاعتدال بحيث لا تضر صحته.

ولكن الغريب من أمرها أن المصيبة منها في الكأس الأولى؛ لأن أعقل الناس وأقواهم وأشدهم عزمًا إذا تجرَّع الجرعة الأولى لا يقدر أن يكبح جماح هواه عن الثانية فالثالثة … إلى أن ينطرح نشوان بين حي وميت! ومتى صحا من سكره لا يلبث أن يعود إلى الكأس؛ لأن عادتها أقوى العادات سلطانًا. هذا من قبيل ضررها المالي. أما أضرارها الصحية والأدبية فأعظم، وهي لا تخفى على العاقل الحذور.

بقي الإسراف في سبيل الشهوة الحيوانية، وهو أعمق هاوية تلقى فيها الثروة فلا تملأ منها قعرها، ولو أمكن إحصاء أموال المسرفين لَوُجِدَ أن الجانب الأعظم منها متسرب إلى تلك الهاوية. والحماقة في هذا النوع من الإسراف أشد من كل حماقة؛ لأن الغرض الذي يرمي إليه المسرف الأحمق عن قوس هذا الإسراف يمكن أن يصيبه بسهم اقتصادي فيناله ملءَ أمنيته، ذلك بأن يتزوج زواجًا «موافقًا» فيعيش عيشة نظامية موافقة للطبيعة، وملأى من الهناء والغبطة والسعادة. أما المتزوجون المسرفون في ذلك السبيل فما عذرهم؟! وكيف ينتصحون؟! لا نعلم!

ومن أوجه الإسراف أيضًا المقامرة والنصيب والمضاربات ونحوها، وبما أن المقامرين والمضاربين يعدونها طرقًا من طرق التثمير؛ فنثبت ضلالهم في فصل «التثمير» الآتي.

(٣) التقتير

وبما أن الغرض من التوفير لجمع الثروة الاحتياط لأيام العسر والعجز، والتمتع بالراحة، والتنعم بالعيش الهنيء، فالتقتير يُعَدُّ رذيلة كالإسراف؛ لأنه إنفاق أقل من مقتضى الحالة، فإذا كان المرء يجمع ويدَّخر، ويعيش عيشة خشنة فلا يأكل طيبًا، ولا يلبس ناعمًا، فلماذا يجمع؟! ولمن؟!

على أن التقتير داء يصاب به بعض الناس، ويأبون الاستطباب منه، ولو اكتسوا كل يوم من العار ثوبًا قذرًا؛ لأن لذة المقتر إنما هي في جمع المال لا في إنفاقه! فسبحان مفرق العقول!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤