المسرح الحي

١

لم أكن كتبتُ المسرح بالمعنى المفهومِ حتى تلك اللحظة. كانت محاولاتُ المدرسة الثانوية لا تَزيد عن كونها «محاولات» مُبتدئ، ولم تكن، على ترحيبِ الجميع، ذاتَ قيمة تُذكَر؛ فالمسرحية التي نشرتُها في مجلة المدرسة بالإنجليزية تندرجُ تحت باب «الاسكتش» أو الصورة الفَكِهة، وكانت مسرحية «الشبح» التي أخرجَها عبد المنعم مدبولي في المدرسة «تدريبًا» في فنِّ كتابة الحوار بالفُصحى، وأما تمثيليات الإذاعة التي كنتُ أكتبها بعد التخرُّج فكانت «حكايات» مُحكَمةَ الصنع، مادتها مستقاةٌ من تمثيليات الإذاعة التي كنا نسمعها ونتابعُها في شغفٍ صغارًا، ولا تتضمَّن أي «تجرِبة» فنية أو موضوعية بالمعنى المفهوم. وكانت صِلتي بالفنانين مقصورةً على أعضاء المسرح الحر التي كانت قد قدَّمَت مسرحيات نعمان عاشور ورشاد رشدي، ومسرحية زقاق المدق التي أعدَّتها أمينة الصاوي عن رواية نجيب محفوظ، وكان أهم هؤلاء الفنانين: مدبولي وفؤاد المهندس الذي كان يُشرف على فريق الجامعة من خلال فريق كلية التجارة، وكان يحبُّه زملاءُ المدرسة الذين التحَقوا بكلية التجارة وعلى رأسهم نبيل مجدي. وكنتُ مقتنعًا كلَّ الاقتناع بنصيحة مدبولي لي ألَّا أعتليَ خشبة ممثلًا، بل أن أركِّز على الكتابة. فأقرأ «شيكسبير والكلام ده» ثم أكتب بعد التخرُّج.

كان اللون الوحيد من العروض المسرحية التي شاهدتُها في طفولتي يندرج في باب «التسالي» أو ما يسمى بالمنوَّعات حاليًّا، وكان الأقدمون يُسمونها فنون «الفرجة» بمعنى التفريج عن النفس، ثم أصبحَت الكلمة تصف كلَّ عرض مسرحي أو غنائي أو راقص، بل أصبح الفعلُ «يتفرج» بالعامية يعني «يُشاهد»! كانت إحدى فِرَق الغوازي تأتي من رشيد في المواسم والأعياد لتقديم العروض التي يُطلَق عليها «التمثيل» فقط. وكنتُ وإخوتي نحبُّ «الفرجة» عليها، وكانت أسعار التذاكر زهيدة، وكان إقبالُ الريفيِّين كبيرًا، وقد قصصتُ ما حدث ذاتَ يوم في مُقدمتي للترجمة الإنجليزية لمسرحيات «السجين والسجان»، و«البحيرة»، و«الصديقان»، وهما ثلاثُ مسرحيات في مجلَّدٍ واحد — صدَر بالعربية مع مسرحية رابعة هي «الصديقتان» عام ١٩٨٠م وبالإنجليزية دونها عام ١٩٨٧م — ولذلك سوف أتغاضى عن التفاصيل هنا، وأركِّز على بائع «شربة الحاج محمود» الذي يقف في السوق المركزية برشيد بعد صلاة الجمعة، ويتجمَّع حوله العشراتُ بل والمئات؛ فمِنهم من يشتري، ومنهم من «يتفرج».

كان هذا البائع يُقدم عرضًا مسرحيًّا كاملًا؛ مما يمكن أن نُطلق عليه حاليًّا المونودراما، فإذا أخذنا في اعتبارنا مشاركةَ الحاضرين في الحوار والأداء، كان «العرض» يندرج في باب المسرح المرتجَل، وهو من الصورة الأصلية لبعض البِدَع الحديثة في أوروبا وأمريكا مثل «مسرح الحدَث المرتجل» (The happening-The event) أو حتى الصورة المتطورة له، وهي صورة المسرح الحي (The Living Theatre) وإن كانت للحاج محمود نصوصٌ أساسية لا يكاد يخرج عنها، وكان يُغير «النص» في كل مرة، وأنا أذكرُ له ثلاثةَ نصوص على الأقل يُدخِل فيها من التعديلات والتبديلات ما يقتضيه الموقف؛ فأوَّلُها قصته مع «أم أحمد» (أي زوجته) وكيف انقَلبَت عليه عندما خطَّ الشيبُ رأسه، وتهدَّل الشعرُ الأبيض على جانبَي رأسه، بعد أن كان كثيفًا صُلبًا، وكنتُ أرقب الرجال وهم يضحكون ضحكاتٍ خافتة، كلما وصَف «الشيب»، ولم أدركْ إلَّا بعدَ أن تركتُ رشيد ما يَعنيه «الشيب»، وعلى أي حال، كان البائع يُنشئ حوارًا ساخنًا بينه وبين «أم أحمد» ينتهي ﺑ «لحظةِ تنوير» عند اكتشافِ الخلطة السرية. وعندما تتهلَّلُ أساريرُ الرجال يقول في أسف، ولكنها غاليةُ الثمن، وصانِعُها طاعنٌ في السن لا يدفعه إلى صناعتها إلا ابتغاءُ مرضاة الله، «صلُّوا ع النبي» (فيُغمغم الحاضرون بالصلاة على النبي) ولا يدفعه على بيعها إلا رغبتُه في أن يتمتع كلُّ رجل ﺑ «الستر» مع أهله، وبين الضحكات والهمهَمات يُخرج زجاجةً صغيرة ويقول: معي أربعُ عينات فقط، وأنا لا أتقاضى عنها ثمنًا، بل أهَبُها مجَّانًا وَفقًا لوصية الشيخ الصالح، لكلِّ مَن يشتري هذا الدواءَ الذي يشفي جميع الأمراض!

كانت أجمل لحظات المونودراما هي فترات الحوار مع المصلِّين، فكان يعرف الكثيرين منهم، ويُخاطبهم بأسمائهم وبطرقٍ بالغةِ الذكاء: «لا يا إبراهيم! لن أعطيك شيئًا! لا تضَعْ يدَك في جيبك! أين أنت مِن الشيب الذي نُعاني منه؟!» أو يصرخ فجأةً قائلًا: «زجاجة واحدة فقط! والباقي على الله! قولوا لا إله إلا الله!» فيُغمغم الواقفون مُهلِّلين، ولا يلبث حتى يبيعَ ما لديه وينصرف!

ويبدأ ثاني هذه النصوصِ بإنكار أيِّ قوة سحرية فيما يبيعُ من أدوية، مؤكدًا أن الشافيَ هو الله، وينطلق بعد ذلك في روايةِ قصةٍ حدَثَت له أو لأحدِ أصدقائه مع أطباء المستشفى، مؤكدًا أن الطبيب لا يمكنه معرفةُ «ما يجري» داخل البطن، وأن «السماعة» أُكذوبة، «قولوا لي بالله عليكم .. ماذا يسمع؟ إنه يتظاهرُ بسَماع ما لا نسمعُه! وما عساه يكون؟ إنه يرجُم بالغيب! ورسولنا يقول كَذب المنجمون ولو صدَقوا! لكنه يتقاضى منك خمسين قرشًا! وماذا يصفُ لك بعد ذلك؟ إنه لا يَزيد عن الحِمْية — فالمعِدَةُ بيتُ الداء، والحِمْية رأسُ الدواء! ولكنني أعطيك هنا القوةَ التي تتغلَّب بها على المرض! وهي رخيصة لأنه لا يوجد وراءها تاجرُ جملة ولا تاجر قطَّاعي .. فهي من الحكيم إلى ابن الحلال!» وهكذا يوزِّع الزجاجات الصغيرةَ بعد أن ينصح شاريَها بأن يأخذ منها قطرةً واحدة في كوبٍ من الماء بعد الحمَّام، وأن يستريحَ بعدها ولا يأكل ولا يتكلَّم حتى يشفيَه الله!

والغريب أن معظم مَن جرَّبوا أدويةَ هذا الممثل (المؤلف) يشهدون لها بالامتياز وبالقدرة على صُنع المعجزات، وكان أغلى سعرٍ يتقاضاه هو عشَرة قروش، وبعد أن ينفَد ما لديه يُخرج «الروائح» (التي كان يُسميها الأسانس، وكنتُ أتصور أنها تعني الجوهر، ولكن اتَّضَح أنها تعني الزيت؛ مِن الفرنسية)، وكان سعر الزجاجة الصغيرة يتراوح بين قرشٍ ونصفِ قرش.

أما «السيناريو» الثالث فكان أمتعَ هذه السيناريوهات؛ لأنه كان يتضمن حكاية شعبية، تختلف في كل مرة، ولكنها كانت تبدأ دائمًا بمرَض بنتِ السلطان وحَيرة الأطباء في شفائها، وكيف استطاع الشاطر حسن أو «مطاوع أمِّه» أو غيره من الأبطال الشعبيِّين أن يجد الدواء الذي يَشفيها اللهُ به؛ فالله هو الشافي، وأذكر جيدًا قصةَ الدأراوي (الدقراوي؟) البطل الرشيدي الذي كان طوله لا يَزيد على متر ونصف متر، ولكنه كان «كله عصَب»؛ لأن الله كان يُلهِمه أسرارَ الدواء الصحيح! وقصته مع بطل الصعيد لا يزال يَذكُرها المُعمَّرون من أبناء رشيد؛ إذ كان اللقاء بين عملاق الصعيد الأسمر وبين الدأراوي على التلال المواجهة لغيط «البيه» (أي علي بك بدر الدين) وكان حُكَّام مباراة المصارعة قد حذَّروا بطَل الصعيد من ارتكاب خطأٍ معيَّن أثناء المباراة يمكن أن يؤدِّيَ إلى ما لا تُحمد عُقْباه، وهو رفع الدأراوي عن الأرض! وكان الدأراوي قد تناول شَراب القوة الجبَّارة، وكاد يهزم بطلَ الصعيد، مما اضطرَّ الأخير إلى رفعِه في الهواء، وهنا فعل الشرابُ فِعلَه، فهاج الدأراوي «ونفر عِرْق الغضب في قفاه»، وأمسكَ بساق بطل الصعيد فكسرَها بين يدَيه، مثلما يكسر الصبيُّ عصًا صغيرة! وانتهت المباراةُ طبعًا بإعلان تفوُّق الوجه البحري على الصعيد! ويختتم البائعُ كلامه قائلًا: «ولكن ليس معي اليوم من هذا الشرابِ إلا زجاجةٌ واحدة .. مَن المسعود؟»

كانت هذه المونودرامات عُروضًا مجَّانية، وكنتُ أواظب على مشاهدتها، وإذا شكَكتُ فيما يقول البائعُ قيل لي: اذهَب إلى قهوة بلبع عند مسجد سيدي العرابي، فسوف تجد منضدةً لها سطحٌ رخامي فيه آثارُ أصابع الدأراوي! إذ كان من عادته أن يضربَ أصابعه في الرخام صائحًا «قهوة يا بلبع» .. أو «شاي يا بلبع»، فينغرس إصبعُه في الرخام. وكثيرًا ما قصَّ عليَّ القُصَّاص مغامرات الدأراوي مع الخديوي عباس حلمي الثاني (أفندينا) وكيف رآه الخديوي وهو يرفع أعمدةَ المسجد بيدٍ واحدة، وعرض عليه العملَ معه في القاهرة فرفض الدأراوي. كانت هذه القصص تُحدِّد زمانًا معينًا لحياة الدأراوي، وكنتُ أطمع في التحقُّق من شخصيته رغم الصعوبات؛ فالواقع أن تاريخ المسجد الذي قيل إنه شارك في بنائه معروف؛ لأنه مُسجَّل في بيتٍ من النظم التأريخي (أي الذي تخرج منه بالعام الهجري إذا جمعت الحروف):

شاد الخديوي مسجدًا لأبي النظَرْ
يا بختَ مَن بمقامه لاذَا
سَعِدوا بمَقْدَمِه فقلتُ مؤرخًا
«عبَّاسُ شيَّدَ مَسْجدي هذا»

وهذا ما يُسمَّى بحسابِ الجُمَّل، فإذا أضفتَ القِيَم الرقْميةَ لحروفِ الشطر الأخير بعضَها إلى بعض خرجتَ بالتاريخ ١٢٦٩ هجرية! أي إن بِناءه كان منذ ١٤٩ سنةً هجرية، أو نحو ١٤٥ سنة ميلادية؛ أي بعد وفاة محمد علي وإبراهيم باشا بقليل .. مما يوحي بأن «عباس» الذي شيَّد المسجد كان عباس الأول لا عباس حلمي الثاني! ولكن عباس باشا الأول لم يكن قد حصَل على لقب الخديوي، وأول مَن حصل عليه هو الخديوي إسماعيل!

كانت الأساطيرُ الرشيدية كثيرة، وكان معظمُها يتَّخذ صورةَ الحوار، وبناء المشهد، تمامًا مثلما يحدثُ في روايات السلَف بالفُصحى (أو بالعامية) وقد أدَّى بُعدي المكاني والزماني عن رشيد إلى استرجاع بعضِ هذه الأساطير وإعادة بنائها في خيالي؛ مثل أسطورة الحرب بين قِبْلي وبحري؛ أي الصراع على زعامة البلد بين رجال «الحي الجنوبي» ورجال «الحي الشمالي»، ولا شكَّ عندي في أن هذه الحرب لم تقع، وأن ما حدث فعلًا لم يتجاوَزِ الصراعاتِ المعتادةَ بين أهل الصناعة في الجنوب وأهل الزراعة في الشمال، وكان يرمز لتصالحهم بموكب «الأشاير» الذي يطوف البلدَ في يوم رؤية هلال رمضان؛ إذ يخرج من حي قبلي موكبٌ يضمُّ رموزًا للحِرَفِ والصناعات، إما على عرباتٍ مخصوصة أو على ظهور الإبل والبغال والخيل، ثم ينضمُّ إليهم في شارع السوق رجالٌ يُمثلون الزراعةَ والمنتجات الزراعية، ثم يقفون عند مبنى المحكمة حيث ينزل شخصٌ يمثل «الخليفة» يتقدَّمه المنشدون، وكان الخليفة دائمًا مُلثَّمًا، مما كان يُخيفني طفلًا، ووراءه بعضُ المحنَّكين (أي الذين يُخفون أفواههم بمناديلَ كبيرة)، ثم عددٌ من المرابطين، وقد فسَّرتُ ذلك كلَّه فيما بعدُ بأنه من تراث الفاطميِّين في مصر، فتلك عاداتٌ من شمال أفريقيا في الغرب، وكان الكثيرون من أهل رشيد يحملون لقبَ المغربي (إلى جانب الشامي والحجازي والعكاوي والتونسي … إلخ) إلى جانب لقبٍ مهم؛ هو لقبُ القاضي الذي قيل لي إنه يرجع إلى كلِّ أسرة تولى ربُّها مهمةَ القضاء.

وسواءٌ كانت «الأشاير» تعني الإشارةَ إلى بدء شهر الصوم، أو كانت تحريفًا لكلمة «البشاير» (البشائر)، أو كانت كلمةً دخيلة؛ فإن الموكب كان ينتهي في الشمال (في حي بحري) عند مسجد «سيدي النور» حيث يُعقَد مشهدٌ تمثيلي يسأل فيه الخليفةُ القاضيَ هل رأيت الهلال؟ فيُجيب بالإيجاب، وهل يسودُ السلام والوئام؟ وهل يُؤذَن منذ هذه اللحظة بحبسِ الشياطين؟ ومن ثَم تُوقَد المشاعل، ويُصلي الناسُ المغرب، و«يسهرون» في انتظارِ صلاة العشاء، ثم ينامون ليستيقظوا في السحَر لتناوُل السَّحور وانتظار الفجر! ألم يكن ذلك كلُّه يتضمن عناصرَ مسرحيةٍ من لونٍ ما؟

ومن السِّمات التي اختفَت من رشيد الآن، بسبب التوسُّع العمراني، واختلاف نمط أو أنماط الحياة القديمة، الإحساسُ بكل غريبٍ عن البلد. فكلُّ قادمٍ من خارج رشيد يُنظَر إليه كأنما هو «أجنبي» ولكنْ دون رِيبةٍ أو حذر. وكان من طقوس تدشين «الأجانب» زيارتُهم لنادي الموظَّفين على شاطئ النيل، ثم جلوسُهم على المقاهي مع أهل البلد، ولا تكتمل «مراسيم» التدشين إلا بارتداء الجلباب الرسمي «الجلابية المصرية» والصلاة في جامع المحلي (إذا كان «الأجنبي» مسلمًا طبعًا) مع سائر أبناء البلد! وكنتُ في تلك الأيام أسترجعُ صورًا لبعض «الأجانب» الذين استوطَنوا البلد ورفَضوا الرحيل، على عكس ما كان الجميعُ من الناشئة يفعلون أو يتمنَّون لو فعلوا.

وكنتُ في عام ١٩٦٠م كثيرَ التردد على عبد اللطيف الجمَّال الذي كان قد انتهى تقريبًا من رسالة الماجستير، وبدأ يَنشُد الرزق في الترجمة، فصحبَني ذاتَ يوم إلى مبنى قيادة الثورة، حيث كان الدكتور رشاد رشدي يعمل رئيسًا لتحرير مجلةٍ عربية اسمها بناءُ الوطن، ومجلة إنجليزية اسمها «ذا أراب ريفيو»، وكنَّا آنذاك لا نتحدثُ إلا عن القومية العربية وعن أمجاد الوحدة، ولا نكاد نعرف ما يدور في سوريا، بل كنا نلتقي مع أبناء الشام في كل مكان، وكنا نعشق اللهجة السورية (وما نزال)، وأذكر يومًا كنتُ في زيارة الجمَّال وكان ريفيًّا من إحدى قُرى المنوفية، بينما كانت سميَّة أحمد مختار الجمال من دمياط، فقابلت تاجرًا سوريًّا يُقيم في الشقة المجاورة، وكان يبحث عن طبيب لوالدته المريضة، فاصطحبته إلى أحد الأطباء، وأنا أشعر كأنَّ أقاصيصَ كتاب «الأغاني» قد بُعثَت من جديد!

كانت غُربته في القاهرة مثلَ غربة أيِّ قاهري أو سَكَندري في رشيد، وسرعان ما توطَّدَت بيننا الصداقةُ فكان يأتي إلى زيارة عبد اللطيف الجمَّال، وكان يحكي لنا عن الحياة في دير الزور (حيث تُقيم أسرته الكبيرة) فأحسَّ بالتناقض الشديد بين الحياة الريفية البدوية فيها وحياة العاصمة، وسرعان ما اكتسب بيننا لقبَ الدِّيري (لا الشامي)، وكانت قصصُه ممتعة، وإن كانت تتميزُ بخشونة الطبع والجِدِّ الشديد، وربما كان ذلك سببَ إعجابه بمَيلي أنا والجمَّال إلى الضحِك وإطلاق النِّكات، ووجدتُ نفسي ذاتَ يوم أكتب تمثيليةً للإذاعة عن «الزيارة» (هكذا كان عُنوانها)، وفرح بها مصطفى أبو حطب (الذي كان تخرَّج في قسم اللغة الإنجليزية وحصَل أيضًا على دبلوم معهد التمثيل)، وكانت المشكلة عند إخراج المسرحية هي مُحاكاةَ لهجته «الديرية»، فصحبتُه إلى دار الإذاعة، حيث تحدَّث طويلًا مع المخرج، وانصرفنا بعد أمسيةٍ ممتعة!

وبدأتُ أُترجم إلى الإنجليزية في مجلد رشاد رشدي، وكان سخيًّا، يدفع عشرين جنيهًا في القصة المترجَمة، أو في الموضوع المترجَم، ووجدتُ أن العمل بالترجمة أَجْدى عليَّ من قَرْض الشعر، فذهبتُ إلى الدكتور شكري عياد في منزله القديم في العجوزة، وأعطيتُه مجموعةً كبيرة من شعري، ووعدَني بقراءتها وحدَّد لي موعدًا بعد أيام. وعندما زُرته في الموعد المحدد كان يرتدي جلبابَ المنزل ويقرأ قصصًا رومانية مترجَمة إلى الفرنسية، فوضعَها جانبًا وقال لي: «أنا لا أنصحك بترك الشعر، ولماذا تخاف من صلاح عبد الصبور أو من حجازي؟ لكل شاعر مذهبُه وقرَّاؤه! وأنا لم أتوقَّف عن كتابة القصة القصيرة، دون اعتبارٍ للمكسب المادي، وبالأمس أرسَل لي رشاد رشدي شيكًا بعشَرة جنيهات؛ ثمنًا لقصةٍ تُرجِمَت إلى الإنجليزية ونُشِرَت لديه في المجلة!» وتذكرتُ أسئلة عبد اللطيف الجمَّال لي في بعض الكلمات العربية في قصة شكري عياد وعُنوانها «الكوالنجي» — أذكر منها «ملامح حادَّة» إذ كان يريد ترجمتَها بعبارةِ angular وكنتُ أُفضِّل sharp (صفةً ﻟ features) وما زلت حائرًا أيُّهما أدقُّ وأيُّهما أقربُ إلى مقصدِ الكاتب، وكان شكري عياد قد وضع علامةَ «ع» أمام كل خروج عن البحر؛ إذ كان لا يرضى لي أن أمزج البحور في تلك المرحلة المبكِّرة من كتابة الشعر، ونبَّهَني إلى ضرورةِ الوعي بالقارئ؛ فمُعظم قُرائي ممن يعرفون أصول النَّظْم، ولا داعيَ لاستِعْدائهم بأيِّ خروج عن الأصول في هذه القصائد الأولى.

كان نجاحي في الكتابة الإذاعية، وإحساسي «بالمواقف»؛ أي بحالات التشابك فيما بين الناس مِن حولي يدفعُني دفعًا إلى المسرح؛ فهو الفن المُركَّب الذي يُتيح تعدُّدَ الأصوات حقًّا، وكنتُ أزداد وعيًا يومًا بعد يوم بأن الأحداث التي تحدثُ من حولي مشاهدُ ذاتُ قدرة جبَّارة على التعبير الفني، وهي أقدرُ من الشعر الغنائي قطعًا على تحقيق غاياتي الفنية! وذاتَ يوم كنتُ مع عز الدين فهمي في معهد الموسيقى حين دخل رجلٌ يبدو عليه الثراء، وبصُحبته بسيوني عازف القانون في فرقتنا القديمة، فطلبنا له الشايَ في البوفيه، وحكى لنا عن ليالٍ موسيقية في المنصورة قرَّر إحياءها بفرقةٍ من القاهرة، وأن المبلغ الذي رصَده كبيرٌ وكفيلٌ بإغراء الكبار، ولكنه يريد تشجيعَ الصغار، فقرَّر الاستعانةَ بالفرقة على أن يتقاضى كلٌّ منا خمسين قرشًا في الليلة الواحدة إلى جانب تذاكر السفر والمبيت والطعام! وكان بسيوني سَعيدًا بذلك، وقال إن اللياليَ قد تمتدُّ أسبوعًا على الأقل، وقد تمتدُّ في حالة النجاح الجماهيريِّ أسابيعَ متوالية!

لا أدري لماذا قبلتُ أن أتولى عزْفَ العود في تلك الفرقة، خلَفًا لكمال العواد العبقري (لا أعرف أين هو الآن) ولكننا أمضَينا الاتفاق، وفهمتُ من الحوار أنَّ لدى «المتعهد» مطرباتٍ وراقصات من المنصورة نفسِها، وأن كل ما يحتاج إليه هو «الآلاتية». ورحلنا مساءَ الخميس التالي في القطار، كلٌّ منا يحمل آلتَه، وكان منظرُنا غريبًا؛ إذ كان المسافرون يتطلَّعون إلينا في دهشة، ولما كنتُ آنَذاك «خالي شغل» رسميًّا، لم أكترِثْ لنظَراتهم، وشغَلتُ نفسي بالتطلع من نافذة القطار حتى وصلنا.

كان المساء قد حلَّ، ووجَدْنا «المتعهِّد» في استقبالنا، ثم اصطحبَنا جميعًا سيرًا على الأقدام في شوارع البلد، وكان بسيوني يتقدَّمُنا حاملًا «القانون» ومِن ورائه الطبَّال (حمدي) باعتباره رئيسَ الفرقة وروحَها النابضة، ثم باقي الأعضاء. وانحرَفْنا فجأةً في شارع يُطلُّ على النيل العظيم، فإذا بنُزلٍ فخم تغمرُه الأضواء الباهرة، وقال لنا في ثقةٍ اتفضَّلوا يا أساتذة! وسمعتُ بعض الأطفال يَصيحون: «العوالم! العوالم وصَلوا!» وسألتُ عز الدين في خوفٍ عما يعني الأطفالُ فقال في أسًى: «خازوق!» ودون أن ندري، كأنما كنا مُخدَّرين، وجدنا أنفُسَنا نجلس في بهوٍ رحيب، حيث «المعازيم» وأهلُ الفرح! كان الواضح أن «المتعهد» قد أتى بفرقة موسيقية للعزف في حفل زفاف؛ إذ أتى بعد ذلك والدُ العروس فرحَّب بنا، ووعدَنا بأفخر الأطعِمة هامسًا: «فيه صواني بطاطس باللحم!» ولم يكن أمامَنا مجالٌ للتراجع، خصوصًا بعد أن دخلَت أُولى الراقصات ومعها طبَّال خاصٌّ بها، فاعترض حمدي وبدأ جدالٌ حسمه بسيوني بأنْ قال إنه سوف يقود الفرقةَ ويمنع الدَّخيلَ من إفساد الإيقاع! ثم دخل أحد الدخلاء يحمل أكورديون، فهاج بسيوني وماج وقال: كيف نضمُّه إلينا دون بروفات؟ ولكن جو الفرح كان غامرًا، ووجدتُني أتأمَّل الحاضرات من الجميلات، كانت العيون زرقاواتٍ والجباهُ بيضاءَ والشَّعرُ سيالًا كموج البحر! كان الجوُّ كلُّه يُوحي بالحلم الغريب! وقالت الراقصة في ثقة: عزيزة! (تقصد قطعة موسيقية لعبد الوهاب) ودون انتظارٍ حتى لضبطِ الأوتار بدأَت تتمايلُ على إيقاع الطبال! وسألتُ عز الدين هامسًا: من «ري» برضه؟ فقال طبعًا! وأعطى بسيوني الإشارةَ فإذا بالنَّشَاز لا حدَّ له! واتضح أن الأكورديون يعزفُ القطعة من «مي» لا مِن «ري»! وعندما توقَّفتُ مُحرَجًا أشار علينا بسيوني بأن نعزفَها من «مي» وأمرنا إلى الله!

كانت الراقصة سَمينة وقبيحة، وحمدنا اللهَ على أن الرقصة انتهَت، ولكنها أشارت إلى الطبَّال قائلةً: «ما قال لي وقُلت له!» وهنا هاج بسيوني وقام يُساعده حمدي باصطحاب عازف الأكورديون إلى الخارج، وأثناء ذلك كانت الراقصةُ قد بدأت الغناء! ولكنها كانت غيرَ متمكنة من اللحن، وكانت تُضيف جُملًا موسيقيةً من باب التنويع تُحيِّر العازفين، والأدهى من ذلك أنها تُغير من طبقاتِ صوتها أثناء الأغنية نفسِها! وعندما خرَجَت تنفَّسْنا الصُّعَداء، ودخلَت مُغنيةٌ أخرى في مقتبل العمر، ويبدو أنها كانت تطمحُ في احتراف الغناء فكانت تُطيع ما يقوله لها بسيوني، وبدأَت تُحاكي أم كلثوم، فانقضى الوقتُ سريعًا، وبدأَت الفرقة تُحس بالإجهاد، وتتساءل عن الطعام، خصوصًا بعد أن وصلَت إلى الخياشيم روائحُ المطبخ!

ولم يأت الطعام مطلقًا، فأشار علينا بسيوني بالنهوض، ويبدو أنه كان يتفاوضُ مع «المتعهد» على الأجر؛ إذ كان يُكثِر الخروجَ والدخول، ثم انطلقنا إلى محطة القطار، وركبناه في الواحدة، وفي طنطا نزَلْنا وانتظرنا القطارَ القادم من الإسكندرية، ونحن في حالٍ من الإعياء يصعب وصفُه، بينما كانت أمُّ كلثوم الحقيقية تصدحُ في راديو المحطة! وبعد ساعتين، وكان معظمنا قد أغفى وانتبهَ عدة مرات، وصل القطار، وعُدنا إلى محطة مصر (باب الحديد) مع أذان الفجر! وعندما عدتُ إلى المنزل لم أُشعِرْ أحدًا بعودتي، وقرَّرتُ أنا وعز ألا نُخبر أحدًا بتفاصيل تلك الخدعة، ولكن الزملاء ملَأوا الدنيا صخبًا وضجيجًا، وكان من المعتاد آنَذاك أن يُعاتب بعضُنا بعضًا بالإشارة إلى تلك الرحلة، وما يزال بعضُ أصدقائي يقول لي عندما يراني بعد غيبة: إنت رجعت من المنصورة إمتى؟

٢

وقطعتُ على نفسي عهدًا بألا أظهَر بالعُود في أي مكانٍ عام بعد ذلك، وأن أُقصِيَ تلك «المغامرة» إلى عالم المسرح الذي يلتحمُ الخيالُ فيه بالواقع، وإن كانت أحداثُ السنوات التالية قد تضمَّنَت عناصرَ مسرحية «طبيعية»؛ أي من الحياة نفسِها، فكانت صورةً عجيبة للمسرح الحي!

وتفرغت عام ١٩٦٠-١٩٦١م للدراسة والترجمة، وكان من مصادر الرزق المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، الذي تولَّاه ضابطٌ من السنبلاوين (التابعة للمنصورة) اسمه محمد توفيق عويضة، وكان كريمًا هو الآخر في دفع أجور المترجِمين. وكان يعمل لديه زميلٌ لي في الدفعة نفسِها اسمه جلال الفار، فكنا نُترجم مقالات مجلة مِنبر الإسلام — المقابل بعشرين جنيهًا. وحدَث في شتاء ذلك العام قُبيل رمضان أنِ اجتمع أصدقاءُ شارع الدري (الفردوس الآن)؛ وهم علي أبو العيد (الذي كان يُقيم في أول شقة في العمارة) وعلي سليم (الذي كان يقيم في الشقة المجاورة) وفتحي رضوان (أخو عباس رضوان الذي أصبح وزيرًا وكان مِن شلَّة عبد الحكيم عامر) وعبد الحميد (لا أذكر اسمه الآخر، ولكنه كان ابنَ خالة طالبٍ في كلية الفنون التطبيقية اسمه فيصل، وكنا نتعاون في الرسم معًا). اجتمعت الشلة مع طالب يَصغرُنا بعامين، ويَمُتُّ بصِلة قرابةٍ حميمية لأحد الوزراء، وقرَّر الجميع استئجارَ عوامةٍ في النيل (منزل نهري houseboat) بثمانية جنيهات في الشهر، يدفع كلٌّ منا جانبًا من إيجارها، وقال فتحي: يستطيع عناني أن يُترجم فيها على شاطئ النيل! ولم أفهم النكتةَ إلا بعد فترة؛ إذ كان الهدفُ منها هو اللهو، وكنت أنا أُعتبَر نغمًا ناشزًا عن ذلك اللهو!

وكانت العوامة صغيرة، ولكن شُرْفتها العلوية كانت رحيبة، وأذكر أنني قضيتُ أول ليلة أترجم حتى الصباح، وعندما أشرقَت الشمس كتبتُ أبياتًا رغم أنفي وهي:

غادةٌ من الذهَب
تستحِمُّ في اللهَب
أشرقَتْ بين الغصون
يَستخِفُّها الطرَب
حولها على الضفاف
مِهْرجانٌ مِن صخَب
من طيورٍ سابحات
شاكراتٍ مَنْ وهَب

ويبدو أنني تركتُ الأبياتَ سهوًا على المنضدة التي كنتُ أعمل عندها؛ لأنني عندما قابلتُ الشلة في اليوم التالي، قال لي فتحي: غادةٌ من الذهب؟ لأ .. إحنا عايزين غادة بحق وحقيق! وعلَّق أبو العيد قائلًا: عبد الحميد مش عايز! عنده خالته! وكان عبد الحميد يتظاهر بالنوم في سرير خالته فتُشفِق عليه ولا توقظه، وتنامُ إلى جواره، مما دفع الشلة إلى قولِ ذلك، وكان هو لا يخجل من روايةِ ما يحدث، وكانت لديهم خادمةٌ جميلة، يزورونه من أجلها، أما فيصل فكان دائمَ البكاء على زوجته اليوغوسلافية التي تركَها في ألمانيا؛ إذ كان قد عمل بعضَ الوقت أثناء العطلة الصيفية في مصنعٍ للخزف في إحدى المدن الألمانية، وتعرَّف على تلك الفاتنة (كان يحمل صورتها دائمًا) وتزوَّجَها، وكانت تريد الذَّهابَ إلى مصر، ولكنه رفض خوفًا عليها، وكنا نُلِحُّ عليه في إحضارها ونُعطيه الأمان فيرفض قائلًا: أنتم لا أمانَ لكم! وأما علي سليم فلم يكن متفوقًا في الدراسة، وكان أخوه «عنتر» في «جروبي»، ويأتي إلينا أحيانًا بالمارون جلاسيه (أي بالقسطل المكسوِّ بالسكر)، وكان علي أبو العيد طيبَ القلب، يحسد أخاه الكبيرَ محمد الذي كان يعمل مفتشًا للضرائب في الملاهي، ويحسد أخاه الدكتور عبدالفتاح الأستاذ في كلية الهندسة صاحب السيارة الأوبل، ويتمنَّى أن يدخل كلية الطب (وكان في كلية الزراعة)، وقد لاحت له الفرصة، إذ أُعلن عن إمكانية التحويل بشرطِ إعادة الثانوية العامة (التي حلَّت محلَّ التوجيهية) والحصول على المجموع المؤهِّل للطب، وقد فعل ذلك والتحقَ بالسنة الإعدادية، ولكنَّ أخاه الأكبر اشترط عليه النجاحَ في السنة الإعدادية وإلا أعاده إلى الزراعة، ولكنه لم ينجح، وعاد إلى الزراعة. وكان أخوه الثالث هو أحمد أبو العيد عازف الفيولنسيل (الشلُّو) والمستشار الموسيقي بالإذاعة. وكان علي طيبَ القلب رقيقَ الحاشية، ذكيًّا مجتهدًا، ولكن الله ابتلاه أولًا بنزيفٍ في المعدة شُفِي منه بجراحةٍ في آخِر لحظة، ثم بالتهابِ العصَب السابع في الوجه الذي يُجمِّد حركةَ النصف الأيسر، ثم شُفي منه وعاد له. ولكنه كان آنَذاك ما يزال يُكافح في دروس الزراعة.

وذاتَ يوم ذهبتُ إلى العوامة فوجدتُ جوًّا من الغموض، نصحَني فتحي على أثره بالعودة إلى المنزل، وتصوَّرتُ أنهم يريدون التدخينَ «الممنوع» ولا يريدون إطلاعي عليه، وتكرَّر المشهد في اليوم التالي، واشتكيتُ لعلي أبو العيد مِن منعي من استخدام مكاني في العوامة بعد أن شاركتُ بنصيبي في الإيجار، بل دفعتُ أكثرَ من الآخرين! وقال لي «علي»: انتظر! يبدو أن معهم «واحدة»! وذهبتُ في الليلة التالية فوجدتُ عجبًا: رجل ريفي يتكلَّم بلهجة أهل الصعيد، ومعه امرأةٌ حَدَسْتُ أنها زوجتُه تتكلم باللهجةِ نفسِها، ومعها علي سليم وفتحي رضوان وقريب الوزير المشهور! وعندما ألقيتُ تحية المساء، قال لي فتحي: لأ .. روَّح انت يا عناني .. دي مشكلة بسيطة! وشاهدتُ في الركن فتاةً صغيرة تجلس دون حَراك، ولم أتبيَّن ملامحها جيدًا.

واتضح في اليوم التالي أن قريب الوزير كان قد عثر على تلك الفتاة في شارع كلوت بك، وهو الشارع الذي كانت له شُهرته أيامَ البِغاء الرسمي، وبعد إلغاء البِغاء اختفَت الصورة طبعًا، وإن كانت الفنادق الرخيصةُ ما تزال قائمة، وكان بعضُ الذين كانوا يعملون في ذلك المجال البَغيض، من رجالٍ ونساء، ما يزالون في قيد الحياة، ولم يكن الإلغاءُ قد مَرَّ عليه أكثرُ من ١٢ سنة، ومن المُحال في تلك السنوات أن يتغيَّر وجهُ الحياة تغيُّرًا جذريًّا. وهكذا صاحبَها الفتى، أو اصطحَبها، بعد أن أخبرَتْه أنها هاربةٌ من أهلها في الصعيد، وتبحثُ عن مأوًى في القاهرة، وجاء بها إلى العوامة حيث أعلنَ للجميع أنه يُحبُّها ولن يسمحَ لأحدٍ بالاقتراب منها، ويبدو أنها كانت كاذبةً لأنها خرَجَت واتصلَت تليفونيًّا بأهلها (إمَّا في القاهرة أو في الصعيد)، وعندما حضَر الوالدان قالت لهما إنَّ علي سليم هو الذي «تزوَّجها» وهو حبيبُها، ولم أعرف لماذا اختارته دون سِواه، ومن ثَم كان النقاشُ الذي شهدتُه ذلك المساءَ يدور حول اختيارِ أحد الحلَّين المتاحَين: إما القتل (بسكِّينٍ حامية أحضرَها الوالدُ خِصيصًا)، وإما الزواج رسميًّا. وكان الاختيارُ الثاني أهونَ الشرَّين، وهو حلٌّ على مَرارته لعلي سليم أقلُّ إيلامًا من حدِّ السكين. ومن ثَم تمت مراسمُ الزواج، في الليلة نفسِها، وبات علي مُعْرِسًا بعَروسه الصغيرة. وكنَّا على أبواب رمضان، وعندما دخل شهر الصوم، التزمَ الجميع بالصمت، وكان مِن المشاهد المألوفة رؤيةُ العريس يحمل طبقًا من الفول وبعضَ حُزَم الجرجير والطورشي (كلمة فارسية مَحْضة) عائدًا في ساعة الإفطار إلى العوامة.

ولم أتابع أخبارَ الزواج بعد ذلك، وتوقَّفتُ عن دفع اشتراكي في إيجار العوامة، وانهمكتُ في الانتهاء من ترجماتي بعد أن قنَعتُ بالعودة إلى كازينور على شاطئ النيل في الجيزة، بل كنتُ أتحاشى المرورَ أمام العوامة؛ خوفًا وخجَلًا، ولم يلبث علي سليم أنِ اختفى وانقطعَت أخباره.

ولكنَّ الدافع على الاستقلال بمكانٍ أعمل فيه وحيدًا كان ما يزال مُلِحًّا، فكنتُ أتطلَّع إلى الشُّقق الخالية وبي حسرة؛ فأقلُّ إيجار ستة جنيهات، وتجهيز الشقة يتكلَّف الكثير، ومع انقضاء الشتاء وحلولِ الربيع، برَزَت بوادرُ تغيير كُتِب لها أن تظلَّ معي إلى الأبد.

ظهر في أبريل ١٩٦١م كتاب «الرجل الأبيض في مفترق الطرق» وهو أول كتابٍ يحمل اسمي باعتباري المترجِمَ وإلى جانبه اسم عثمان نُويَّة (رحمه الله) باعتباره المُراجِع، وكان يعمل في مكتب أمين شاكر، وهو ضابطٌ قيل إنه مديرُ مكتب جمال عبد الناصر، أو أحدُ مديري مَكاتبه، وكان يُشرف على إصدار المجلَّات التي يُحرِّرها رشاد رشدي، وكان قد كوَّن جمعيةً وهمية اسمها جمعية الوعي القومي لا تضمُّ أحدًا من أعضائها، ولكنها تحصل على مُخصَّصات سخيَّة لنشر الكُتب (من رئاسة الجمهورية طبعًا). أما عثمان نويَّة فكان مترجمًا فحلًا، جَزْلَ العبارة ناصعَ البيان، وكان مكتبه مُلتقًى لكثيرٍ من أساتذة العربية الذين ارتادوا دراسةَ علم اللغة الحديث، مثل الدكتور تمَّام حسَّان، وكثير من المترجمين المبتدئين الذين قضَوا فترة التجنيد في ذلك المكتب، واستطاع أحدُهم وهو من خرِّيجي قسم اللغة الإنجليزية (واسمه عبد العزيز عليوة) أن يلتحقَ فيما بعدُ بالسلك الدبلوماسي.

وغداةَ ظهور الكتاب ذهبتُ إلى مكتب عثمان نويَّة لأحصلَ على بعض النُّسَخ وعلى الأجر أيضًا، وقابلَني بالبِشْر والترحاب وقال لي لقد أعددتُ الاستمارة الخاصة بالدفع، وسوف تحصل على النقود من الخزينة في الطابَق الأرضي. ودخل بالاستمارة التي كانت تُقدِّر الأجر بأربعين جنيهًا (١٦٠ صفحة) وهو تقديرٌ مجحِف، فإذا كانت الكلمة بمِلِّيمَين، كان ينبغي أن أتقاضى ٦٦ قرشًا لا ٢٥ قرشًا، وعندما هممتُ بالاعتراض همسَ قائلًا: «احمد ربنا!» ولكنه عندما عاد بالاستمارة بعد توقيعها وجدتُ أن أمين شاكر قد خفَّض المبلغ الكليَّ إلى ٢٥ جنيهًا! ومعنى هذا أن الكلمة قد حُسِبَت بنصفِ مليم تقريبًا، ولم أعترض هذه المرةَ وهبطتُ إلى الطابق الأرضي وحصلتُ على المال وانصرفت.

وفي غِمار فرحتي بالنقود نسيتُ الظلم، وانطلقتُ في طول القاهرة وعرضها أُنفق ذاتَ اليمين وذات الشمال، وانتهى اليومُ والأيام التالية وأنا أحلم بتكوينِ ثروة، وساعدَني على ذلك إعجابُ الأساتذة ممَّن قرَءوا الكتابَ بأسلوبه السلس، وسرعان ما جاءتني العُروض بترجمةِ المزيد من الكتب، فعرَض عليَّ الدكتور عز الدين فريد، وكان مستشارًا ثقافيًّا لمؤسسة فرانكلين ودار الجمهورية للطبع والنشر، ترجمةَ رواية «حد الموسى» لسومرست موم، وقرأتُها فوجدتُها بالغةَ الطول حافلةً بالمغامرات الجنسية؛ مما يجعل ترجمتَها عسيرةً بل وشِبْه مستحيلة، ورأيتُ أن الجهد المبذول في تلافي العباراتِ الصريحة لا يُقابله أجرٌ مادِّي واضح، ثم عرَض عليَّ رياض أباظة مسئولُ الترجمة في مؤسسة فرانكلين، بِناءً على توصيةٍ من عثمان نويَّة، ترجمةَ أشياءَ أخرى، وكنتُ ما أزال أعملُ في ترجمة «درايدن» التي كلَّفَني بها مجدي وهبة، فكان عملي بالترجمة لا يكاد يتوقَّف.

وكان من بينِ مَن تخرَّجوا آنَذاك عبد العزيز حمودة في عام ١٩٦٠م (الدكتور) وعايدة الشعراوي ١٩٦١م (الدكتورة) اللذان عَمِلا مدرِّسَين للُّغة الإنجليزية بالقسم، مع الذين سبَق ذِكرهم من خرِّيجي عامَي ١٩٥٧م و١٩٥٨م. وكان عبد العزيز مُجدًّا ومجتهدًا، وكان أمين الشريف الأستاذ الذي انتُدب لتدريس الترجمة في العام التالي لتخريجي مُعجبًا به وبغيره من النبهاء مثل أحمد عبد الوهاب الغمراوي (الدكتور) رحمه الله، وجانيت وهبة سوريال عطية (الدكتورة) التي أصبحَت من خِيرة المترجمين إلى الإنجليزية هذه الأيام، وهي تعملُ أستاذًا في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس. كما تخرج شابٌّ نابهٌ عام ١٩٦٠م اسمه أحمد كمال الدين عبد الحميد، عمل في الإذاعة هو الآخَر ثم عُيِّنَ مدرسًا للُّغة الإنجليزية بالقسم. وباختصارٍ كان عام ١٩٦١م يشهد تَغَيُّرًا هائلًا في عدةِ مجالات؛ فعلى مستوى العمل الأكاديمي كان القسم يزخرُ بالشباب، وعلى مستوى الدولة كانت بعضُ الصِّعاب قد بدأَت تلوحُ في الأفق؛ إذ برزَت خلافاتٌ بين القيادة المصرية للجمهورية الموحَّدة التي تضُمُّ مِصر وسوريا، وكان اسمها الجمهورية العربية المتَّحدة، وبين القيادات المحلية السوريَّة، وبدأَت بعضُ الأحلام في اكتساب ثوبٍ واقعي، مثل بناء الجيش القويِّ وبناء القاعدة الصناعية، وبدا أنَّ اهتمامات الناس بدأَت تختلف؛ فكان نبضُ «الشارع المصري»، كما يقولون، ساخنًا دفَّاقًا ووضعَت القيادةُ السياسية كتابًا اسمه ميثاق العمل الوطني، ودعَت إلى تشكيل مؤتمرٍ شعبي يكون بديلًا في دولة «الكفاية والعدل» عن أشكال التمثيل البرلماني الغربية؛ أي صورة الديمقراطية الغربية، وكانت الفكرة أن يكون مبنيًّا على أساس تمثيل «القاعدة الشعبيَّة» أي مشاركة الجميع في الحزب الوحيد آنَذاك، وهو الاتحاد الاشتراكيُّ لقُوى الشعب العاملة، كما كان يُسمى، وقال جمال عبد الناصر في إحدى خُطبه في صيف ١٩٦١م «دقَّت ساعة العمل الثوري»، فتحوَّلتْ إلى نشيدٍ جميل يُنشده عبد الوهاب، وأصبحَت الإذاعة منبرًا لأعذب الأحاديث عن الكفاية والعدل والتصوُّر الجديد للمجتمَع، وهو تصورٌ بديع مثالي، لخَّصتْه أغاني العبقري الراحل صلاح جاهين، مثل «صورة» و«بالأحضان»، وأغاني أم كلثوم مثل «ثوار»، وغير ذلك من إبداعات كبار الموسيقيين، وعلى رأسهم عبد الوهاب والسنباطي.

لم يكن من الممكن الانعزالُ عن الإحساس بأن مصر تشهد تحوُّلًا تاريخيًّا، وإن كنا نسمع في الدهاليز شائعاتٍ كثيرة، كان الشعب يتناقلُها دون أن تصلَ إلى أجهزة الإعلام أبدًا، وبحلول يوليو ١٩٦١م وقع حدثٌ بالغ الأهمية، وهو صدور قوانينِ يوليو الاشتراكيَّة، التي حدَّدَت مسارَ العمل الوطنيِّ في طريقٍ جديد يُعطي للدولة حقَّ امتلاك «أدوات الإنتاج» مما استدعى الاستيلاءَ على مصانع ومتاجر الرأسماليِّين جميعًا، ووضع أموال جميع مَن يملكون أسهمًا أو سنداتٍ أو نقودًا سائلةً في البنوك «تحت الحراسة»؛ أي إِيكَال إدارتها للدولة ومَنْح أصحابها مرتَّباتٍ تكفي لبقائهم في قيد الحياة، ونشرَت صحيفةُ الأهرام صفحاتٍ كاملةً بأسماء مَن يملكون مثلَ هذه «الأصول الاقتصادية»، وكان ردُّ الفعل بين الفقراء مضمونًا، وهو الحسد والغيظ و«الحقد»، بينما كان ردُّ الفعل بين الآخرين غيرَ معروف، خصوصًا أساتذة الاقتصاد ورجال الفكر السياسي، فكان الشكُّ ينتاب هؤلاء إزاءَ سلامة استيلاء «الحكومة» على أموال الشعب بحُجة إعادتها للشعب.

ولمَّا كنت أنتمي إلى أسرة من التجار والصنَّاع، فقد أُضير بعضُ أفراد أسرتي ممَّن «سُلِبَتْ» أصولهم الاقتصادية مثل مضارب الأرز والمطاحن والمخابز (مطحن زوج عمتي، ومضرب زوج خالتي)، أو مثل المتجر الذي كان يملكه خالي عبد الحليم بدر الدين، وفي الجامعة كانت الصدمة الحقيقية هي تلك التي تلقَّاها الدكتور مجدي وهبة؛ إذ أصبح لا يملك التصرف في أمواله، وبطبيعة الحال لم أعُد آمُل أن أحصل على باقي أتعابي من ترجمة درايدن، ولكنني واصلتُ العمل في الترجمة حتى اكتملَت، وتخرَّج في ذلك الصيف سمير سرحان (الدكتور)، وفاز بالمركز الأول على دفعته، وسرعان ما قَبِل العمل مُدرسًا في مدرسةٍ زراعية في بنها، كانت تقتضي منه أن يستيقظَ في السادسة صباحًا لإدراك القطار، ثم العودةَ في الظهيرة إلينا — أي إلى الشلة القديمة — لكي نُخطط آمالَنا وأحلامنا.

كان سمير سرحان «دينامو» بمعنى الكلمة، طاقة جبارة مبدعة، يلتقط الأفكار بسرعةٍ ويُحيلُها إلى مشروعات بسرعةٍ أكبر، وكان إلى جانب موهبته الفنية شعلةً من الذكاء، ولكنه لم يكن يتردَّد في مخاطَبة مَن هم أكبر منه سنًّا بأسمائهم المجرَّدة، ومخاطبة (الدكتور) دون ذِكر اللقَب، مما كنتُ أدهش له ولا أقدرُ عليه! وتحوَّلَت لقاءاتُنا بسرعةٍ إلى خُططٍ عملية للكتابة في الإذاعة، وكان خريف ١٩٦١م هو خريفَ ازدهار إبداعِنا الإذاعي — الذي كان يضمُّ التمثيليات والأحاديثَ وملخَّصات الكتب — وكان يطمحُ في بداية ذلك الخريف في التعيين في القسم، ولا غَرْو؛ فهو أولُ الدفعة، ولكن ذلك كان يقتضي إقناعَ رشاد رشدي، فذهبتُ إلى رشاد رشدي ذات مساء وطرحتُ عليه القضية العامة، فأدركَ مَرْماي وقال لي «مَن تعني؟» فذكرتُ له سمير، فقال: أخشى أن يكون شيوعيًّا، فأكَّدتُ له أنه ترجم كتاب «سبعة أفواه» (وهو مجموعة قصص لمكسيم جوركي وآخَرين) من باب كَسْب الرزق فحَسْب، دون إيمانٍ بذلك المذهب السياسي، فبدأ سمير العمل معنا في قسم اللغة الإنجليزية، وتوثَّقَت صداقتنا فكنَّا لا نفترق، إلا في الصباح أثناء وجوده في بنها؛ إذ لم تكن إجراءاتُ تعيينه قد تمت بعد. أما في المساء فقد كانت لنا جلساتنا العِلمية والأدبية، فكان يدرس السنة التمهيدية للماجستير، وكنتُ أنا أقرأ شعر وردزورث بِنهَمٍ، وبعد الانتهاء ربما خرَجنا للسير مسافاتٍ طويلةً نناقش فيها المستقبل.

وفي أواخر سبتمبر ١٩٦١م كنتُ على موعد مع الروائي العظيم بهاء طاهر في الإذاعة، إذ كان يعمل في البَرنامَج الثاني (البرنامج الثقافي حاليًّا) وكان الموعد في الثامنة والنصف صباحًا لتسجيل حديثٍ لي عن مذهب تحليل النصوص الذي أشاعه النقدُ الجديد في أمريكا، وكنا نقفُ في الشارع الموصِّل بين شارع الشريفين حيث مقرُّ عملي القديم في الأخبار وشارع علوي حيث استوديو التسجيل، أمام المبنى الذي يضمُّ مكاتبَ البرنامج الثاني، وكان يتصفَّح الحديث الذي كتبتُه حين شاهدنا سيارة كاديلاك سوداءَ تقف فجأةً وأمامها سيارةٌ أخرى، أمام المبنى الرئيسي، وعَجِبنا من الزائر المهم، وقال بهاء طاهر: لن يكون جمال عبد الناصر! وضحك. ولكن السيارة فُتح بابها، وخرج منها جمال عبد الناصر!

ووسط ذهول الواقفين دخَل الزعيم بقامته الفارعة ووجهِه الأسمر إلى المبنى ومعه رجلٌ أو رجلان، وحدَسْنا أنَّ في الأمر شيئًا، وسرعان ما سمعنا في التاسعة كلمتَه التي لا أنسى بدايتها أبدًا: «أيها المواطنون. في الفجر، قامت قواتٌ من معسكر قَطَنة بالقرب من دمشق، بمحاصرة مقرِّ القيادة واحتجازِ المشير عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة …» وكان ذلك هو البيانَ الذي أعلَن فيه للشعب نبأَ انفصال سوريا عن مصر.

وفي مساء أحد الأيام التالية وقَفْنا أنا وسمير في ميدان الجيزة، نرقُب في جهازٍ للتليفزيون بأحد المقاهي، الرئيسَ عبد الناصر وهو يتحدَّث عن الانفصال، ثم عن ضرورة التكاتُف لمواجهة الأزمة، والاهتمام بأحوال البلدِ الداخلية. كان المقهى يقعُ أسفل عمارةٍ سكَنية تضمُّ بعض المكاتب، ويقيم فيها صديق سوري لنا اسمه نعيم اليافي، يقوم بالتحضير لدرجة الدكتوراه في قسم اللغة العربية، كان الانفصالُ ذا وقْعٍ أليمٍ على الجميع، ولكنه كان شرارةً انطلقَت فألهبَت إبداعًا من نوع جديد، فالجميع يُفكر ويتساءل، والجميع يتكلم ويُناقش، ولم يلبث التليفزيون الوليد، الذي لم يكن عمره قد تجاوزَ عامًا وبعضَ عامٍ، أن أصبح الجهازَ الإعلاميَّ الذي يُعمَل له ألف حساب، ورأى عبد القادر حاتم الذي أصبح وزيرًا للثقافة والإعلام إعدادَ المادة الدرامية اللازمة للشاشة الصغيرة، فأمرَ بتشكيل لجنةٍ عُليا من أساتذة الدراما وكبار الفنانين، برئاسة السيد بدير، وعضويَّة رشاد رشدي والمرحوم الدكتور محمد صفر خفاجة (باعتباره متخصصًا في المسرح اليوناني) الذي كان قد أصبح عميدًا لكلية الآداب، وإحسان عبد القدُّوس ومحمد عبد الحليم عبد الله (من القصَّاصين) وغيرهم؛ لإنشاء مسرح خاصٍّ للتليفزيون، تُقدَّم فيه المسرحيات أسبوعًا أو أسبوعين، ثم تُصوَّر وتُذاع في سهرات تليفزيونية.

وكنت آنذاك معروفًا، أنا وسمير سرحان، بالكتابة الإذاعية، ومعناها على الأقلِّ الإلمامُ بصَنعة البِناء الدرامي ووضع الحوار، كما كنتُ معروفًا بمهارتي في الترجمة، فاقترح رشاد رشدي في إحدى جلسات اللجنة إعداد ترجمات عن المسرحيات العالمية، وتحويل بعض الروايات إلى مسرحيات، مما لاقى قَبولًا من أعضاء اللجنة، واقترحَ أن أشارك أنا وسمير في هذا العمل. وأبلغَني سعد أردش (المخرج العظيم) الذي كان قد عاد لتوِّه من بعثته الدراسية في إيطاليا بأن رشاد رشدي يُرشحني لترجمة مسرحية «الخال فانيا» لتشيكوف؛ حتى يُقدمها مسرح الجيب الذي كان قد أُنشئ حديثًا واتُّخذ مقرًّا له في نادي السيارات بشارع قصر النيل، وفرحتُ وذهبت أسأل رشدي إن كان ذلك صحيحًا فقال لي «استنى شوية!» وبعد أيام استدعانا أنا وسمير وكلَّفَنا بترجمتها معًا، كما كلفَنا بإعداد مسرحية عن روايةٍ لمحمد عبد الحليم عبد الله عُنوانها «من أجل ولدي». ولم تكن فرحتي أقلَّ بهذه الأنباء؛ فأنا أحبُّ العمل مع سمير وأعمل معه في الواقع، ودون تكليفٍ من أحد، ولكنني عجبتُ من أمر الترجمة! وأوضح رشاد رشدي الأمرَ قائلًا: إنني أخشى لغتك العربية الجزلة؛ فالمسرح لا يحتمل الفصحى المتقعِّرة! ولم أردَّ على هذه الملاحظة.

وبدأنا نعمل أنا وسمير في كازينور — المقهى المطلِّ على النيل — وكنا نلتقي في الظهيرة، بعد أن أنتهيَ أنا من التدريس (وكنتُ قد عُينت أخيرًا مدرسًا للُّغة الإنجليزية في كلية الآداب) وبعد أن ينتهيَ هو من أشغاله الأخرى، ونستمر في العمل حتى المساء أو عندما تخفتُ أضواء المقهى فلا تسمح بمواصلةِ العمل، ثم نخرج معًا لمواصلة حوارنا حول ما نكتبُ وما نُعِدُّ. وسرعان ما انتهينا من الترجمة ثم من الإعداد، وسلَّمنا النصَّ للمؤلف فرحَّبَ به ترحيبًا شديدًا، وتولى المرحوم نور الدمرداش إخراجَ المسرحية وأسنَد بطولتها إلى حسين الشربيني زميلي القديم في فرقة التمثيل، وعلوية جميل، وممثلة ناشئة هي مديحة حمدي، وعبد المحسن سليم وعددٍ من أعضاء الفرقة التي عيَّنَها السيد بدير.

وكانت هذه هي ثانيَ مسرحية يُقدِّمها مسرح التليفزيون، وكانت الفرقة التي قدَّمتُها تُسمى فرقةَ المسرح الحديث، وكانت ليلةُ الافتتاح مشهودة. كنا أنا وسمير قد ضغطنا زمنَ الرواية الذي يمتدُّ من طفولة البطل حتى أواخير شبابه، إلى نحوِ أسبوع أو أقل؛ عملًا بمبدأ «وحدة الزمن» التي نصَّ عليها أرسطو، وكنا قد ضغَطْنا أماكنَ الحدث كذلك، والحدث نفسَه! أي إننا كنا نُقدم مسرحيةً كلاسيكية يَرضى عنها النقَّاد، وكان معهد التمثيل ما يزال خاضعًا للفكر الكلاسيكيِّ قبل أن يتطور ويُصبح معهدَ الفنون المسرحيَّة الحالي؛ ولذلك فقد كان كل شيء محسوبًا في النص، وكان الحوار «مقطَّرًا»؛ أي لا يتضمَّن أية شوائب أو أيَّ شيء ينمُّ على وجودي أو وجود سمير؛ فكلُّه من روح المؤلف وفكره، وأكاد أقول — لغته! وحضر الجميعُ الافتتاح، ولقينا التشجيعَ من الجميع، فكنتُ ما أزال في الثالثة والعشرين بينما لم يكن سمير قد تخطَّى العشرين إلا بشهورٍ قلائل! وقالت لنا الدكتورة لطيفة الزيات وهي تلمحُ آثارَ القلق على وجهَيْنا: «حملتوا الهَم بَدْري يا ولاد!» ولم أنسَ عبارتها أبدًا.

أما ترجمة «الخال فانيا» فقد راجعَها سعد أردش على النص الإيطالي، وأبدى بعضَ الملاحظات هنا وهناك، وكانت تلعب دورَ البطولة فنانةٌ موهوبة لم تستمرَّ في المهنة هي نهاد سالم، وكل ما أذكره أنها كانت تؤدي الدور بأسلوبٍ غربي منضبط؛ فقد سبَقَت لها مشاهدةُ المسرحية بالفرنسية التي تُجيدها، وبالإنجليزية التي تُتقنها وتُترجم إليها شعرًا! ولكن سعد أردش كان يُصِرُّ على أن تؤدِّيَ الحوار بأسلوبه هو، فكان يستعيدها مراتٍ ومرات، ويُطالبها بأسلوبٍ في الأداء يصعب فهمُه؛ كأنْ يقول: «أنا عايز الجملة تخبط في الحيطة وترد!» وتوقفَت التجارِب المسرحية، ووُضع النصُّ على الرف، وتوجَّه مسرحُ الجيب إلى تقديم الأعمال التجريبية، وكان ذلك هو الهدفَ الحقيقي من إنشائه.

في ربيع ١٩٦٢م، وأذكر اليوم جيدًا لأنه كان جوًّا خَماسينيًّا حارًّا، قال لي الدكتور مجدي وهبة إن «دار المعرفة» — وهي دار نشر كان يشترك في ملكيتها محمود عبد المنعم مراد والدكتور عبد الحميد يونس — على استعدادٍ لطبع ترجمتي لدرايدن، وأنني يمكن أن أتقاضى بقيةَ أجري من الأستاذ مراد «من حصيلة بيع الكتاب». وتواعَدْنا على اللقاء (مجدي وأنا) في مقهى ريش بشارع سليمان باشا حيث قرأتُ عليه الأجزاءَ الأخيرة من الترجمة ووافق عليها، ثم التقيتُ معه ثانيًا في اليوم التالي في مقرِّ دار المعرفة بشارع صبري أبو علم، وسلَّمتُ النصَّ للأستاذ مراد، ثم سمعتُ حوارًا لم أشارك فيه عن انتواء الدار نشْرَ مجموعةِ أشعار صلاح جاهين بعنوان «عن القمر والطين»، ولا أذكر إن كان الذي سيكتبُ المقدمة هو رجاء النقاش أم بدر الديب (زوج الدكتورة صفية ربيع المدرِّس لدينا في القسم)، ولكنني أذكر اعتراضَ الموجودين على عبارةٍ ورَدَت في آخر القصيدة الأولى في الديوان وهي «شوفي قد إيه» — إذ يختمها صلاح جاهين هكذا:

دخل النبي بَرْدان خديجة غطِّتُه،
حطِّت عليه غُطْيان لحد ما دفِّتُه،
دخل النبي بَرْدانْ وقال هاتوا الغَطا،
شِفِّتها غطِّت شفِّتُه.

وكان سبب الاعتراض هو أنه لا يليق ذِكْر العلاقة الزوجية للرسول في قصيدةٍ حديثة، وبالعامِّية المصرية، وفي سياق الوحي الشِّعري الذي يجعل صلاح جاهين يضع نفسَه في موقفٍ رمزي «يوحي» بوحي النبوءة! ولم أجد شخصيًّا ما يمنع من ذلك آنذاك، ولا أعتقدُ أن «الرقيب» الرسميَّ كان يمكن أن يعترض، ولكنَّ الإحساس بالخوف دفَع الجميع إلى طلب السلامة؛ ومِن ثَم تغيَّر البيت الأخير إلى «البسمة غطِّت شِفِّته.»

وفي الصباح عندما دخلتُ حجرة الأساتذة في القسم وجدتُ الدكتور محمد أنيس أستاذ التاريخ الحديث يجلس إلى المكتب الذي اعتدتُ الجلوس إليه، وفرحتُ فرحًا شديدًا وأُهرِعتُ إليه أرحِّب به، وأشكو إليه نظامَ البطاقات الذي أعمل به في الماجستير؛ فقد زاد عددها على الآلاف ولم أعُد أرى الطريق واضحًا في تلك الغابة المدلهمَّة، وسألني عن موضوع البحث فذكرتُ له أنني أبحث في تطور الصورة الشعرية عند وردزورث، وأنني حائرٌ في تقسيم الصورة وَفْقًا للشكل أو للمضمون، وقال على الفور: إنك لن تستطيعَ تقسيم أيِّ شيء إلى شكلٍ ومضمون، ولكنك تستطيعُ متابعة خيطِ فكرةٍ معينة أثناء تلوُّنه بلون الشكل الفنِّي، واستزَدتُه فأفاض، ولأول مرةٍ أحسستُ أنني بدأتُ أرى الطريق واضحًا؛ فخيطُ الذِّكرى مثلًا يتلوَّن من صورة الاستدعاء المباشر للمَشاهد والمسامع التي تُقيم في وجدان الشاعر إلى صورٍ معقَّدة تُصبح فيها هذه الرؤى والأصواتُ رموزًا للزمن، ومعنى ذلك أنَّ تطوُّر الإحساس قد أتى معه بتطورٍ في الشكل الفنِّي، أو أن الشكل الفنيَّ قد نبع من تطورِ خيط الفكرة! وفجأةً قال الدكتور أنيس: هل قرأتَ قصة نجيب محفوظ بعنوان «الخوف»؟ وأجبتُ بالنفي، فشرَع يُلخِّصُها، على نحوِ ما نُشرت في «الأهرام»، بينما تجمَّع حول المكتب عبد المحسن طه بدر (الذي كان على وشك الانتهاء من رسالة الدكتوراه في قسم اللغة العربية عن تطور الرواية الحديثة) وسيد حنفي الذي كان يُعدُّ الدكتوراه في ديوان حسان بن ثابت، وغيرهم.

القصة بإيجاز هي أن أحدَ ضباط الشرطة الصغار عُيِّنَ في قسمٍ بأحد الأحياء الشعبية في القاهرة، حيث يُسيطر الفتوَّات فيه على أحوال الأسواق بل وعلى مَصائر الجميع. ولم يجد الضابطُ وسيلةً لإعادة النظام واستتبابِ الأمن سوى اللجوءِ إلى القوة العسكرية. فكان يأمر بإلقاء القبض على كلِّ مَن يُخالف القوانين ويرميه في الحبس. وذات يوم جاءه أحدُ الفتوات وقال له إنك تحكمنا بقوةٍ «خارجية» غريبةٍ عنا، ولن تستطيعَ أبدًا بسْطَ نفوذ القانون إلا إذا استخدمتَ سلاحنا نفْسَه؛ فهو السلاح الوحيد الذي نفهمه، أي سلاح الفَتْوَنة (أي قوَّة الفتوة). واستجاب الضابطُ على الفور، فخلع زيَّه الرسمي وارتدى زيَّ أولاد البلد، وصارعَ الفتوات الواحدَ بعد الآخر حتى هزمَهم جميعًا، وأذلَّهم في الحي. وسرعان ما دَان له الجميعُ بالطاعة، فأقلعَ الجميعُ عن خرق القانون، وتوقفَت الجرائمُ أو كادت، وشُغل الناس بأمور دُنياهم، ولم يعد ضباطُ القسم يجدون ما يفعلونه سوى رصدِ المخالفات الصغيرة، أما الضابط فقد وجد أن زيَّ ابنِ البلد يُلائمه، فلم يَعُد إلى ارتداء الزيِّ الرسمي، وصار يقضي صباحَ أيام الشتاء جالسًا في الشمس على باب أو على سُلَّم القسم. لقد عاد النظامُ واستتبَّ الأمن، ولكنَّ إحساسًا جديدًا ساد الحيَّ — وهو الإحساس بالخوف.

وقال الدكتور أنيس: هذا رمزٌ واضح للثورة المصرية التي خلَعَت الزيَّ العسكري، وهزمَت الأحزاب السياسية (الفتوات) وأعادت الانضباطَ بثمنٍ واضح هو الخوف! وقال له عبد المحسن بدر إن القصة رمزٌ للتحول بصفة عامة، ولا تعني بالضرورة جمال عبد الناصر أو سِواه، وذكرتُ أنا في هذا الصدد «قصةَ المسخ» (أو مَسْخ الكائنات) لفرانز كافكا، وكنتُ قرأتها بالإنجليزية، والتي تحكي عن تحولِ جريجور إلى حشَرة، ومعناها في كافكا استعاريٌّ محض؛ فحياةُ البطل كانت في الواقع أقربَ إلى حياة الحشرة، وكان الكاتب يرمزُ بالتحول إلى تجسيد الواقع النفسي في صورة مادِّية، كما ذكرتُ مسرحية «الخرتيت» ليوجين يونسكو؛ حيث يتحول الناسُ إلى خراتيت «استجابةً لنداء الطبيعة» فيما عدا البطل «بيرانجيه» الذي يتمسَّكُ بآدميته حتى النهاية، ولم أجد في هذا ولا في ذاك دعمًا لتفسير قصةِ نجيب محفوظ، حسَبما رواها محمد أنيس، ولكنني وجدتُ في الرقابة على شعر صلاح جاهين دليلًا على الخوف!

الغريب أننا لم نكن نُحس الخوفَ أبدًا، بل على العكس، كنا نشعر بالقوة المتمثِّلة في روح التحدِّي التي يبثُّها الزعيم فينا، وكنا نرى في جمال عبد الناصر رمزًا لعودة الروح التي تحدَّث عنها توفيق الحكيم. ولم تكن الأحداثُ السياسية توحي بوجود الخوف مطلقًا؛ فأجهزة الإعلام تُركز على امتلاك الشعب ناصيةَ أمرِه، وأحيانًا كانت الدبابات والمدافع تمرُّ من ميدان الجيزة قاصدةً أحد معسكرات منطقة الهرم، أو قادمةً منها، فتُشعرنا بالقوة؛ فهي أسلحة مصرية، وكانت كتب التاريخ تؤكد لنا عظمةَ الجنديِّ المصري وقوتِه، وكان الدكتور لويس عوض الذي كان قد خرج من المعتقل يؤكد لنا على عبقرية إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا الكبير، باعتباره عقلًا عسكريًّا نادرًا، وكان يُظهر حماسًا للثورة لا يبدو منه أيُّ غضب أو حزن بسبب اعتقالِه تلك المدة. كان كلُّ ما يعترض عليه هو «فرض» الاشتراكية باعتبارها بديلًا للدين؛ إذ كان يُفضل أن تنموَ الأفكار الاشتراكية على أيدي المثقفين في إطار الديمقراطية، لا أن تُفرَض باعتبارها أمرًا عسكريًّا. وكان كثيرًا ما يقول إنه يختلف مع الدكتور محمد مندور بسبب تفضيل الأخير للديمقراطية على الاشتراكية، أو كما كان لويس عوض يقول: إن مندور ديمقراطي اشتراكي، أما أنا فاشتراكي ديمقراطي!

قلتُ إننا لم نُحسَّ الخوف أبدًا، وكنتُ أنا بصفةٍ خاصة أشعر بالبُعد عن هذه الأفكار المجرَّدة؛ فتطبيقُ الإصلاح الزراعي في بلدنا (رشيد) كان يجري في إطار مجتمعٍ لم تتغيَّر فيه الأنماطُ التي كانت سائدةً قبل الثورة، مثل احترام المكانة التي تتمتَّع بها الأُسَر الكبيرة، وتقديم الرِّشوة علنًا لمندوب الحكومة، وممارسة الخداع والكذب إزاءَ السلطة باعتبارها العدوَّ التقليدي للشعب، وكانت أراضي الإصلاح الزراعي الجديدة، وهي الأراضي التي قام مصطفى النحاس باشا بتجفيفها من بحيرة إدكو أثناء حكومة الوفد قبل الأخيرة، أكبرَ دليل على سيادة هذه الأنماط. وكان مقرُّ الإصلاح الزراعي في بلدة أو قرية «البصيلي» شاهدًا يوميًّا على ذلك؛ فعندما يصل «المندوب» من الإسكندرية (أو من القاهرة) وهو مندوبُ هيئة الإصلاح الزراعي الذي يتولى التفتيشَ على سير العمل بأراضي الإصلاح تكون أقفاصُ الدواجن في انتظاره (الهدايا الريفية التقليدية)، إلى جانب ما تسمح به الأحوال من «شقاقي» (أي صفائح) السمن والزبد، وباقي الخيرات المعتادة، وبعد أن يتناولَ غَداءه الذي كان لا بد أن يتضمَّن الحمَامَ المحشي، يرحل بهداياه سالمًا غانمًا، وبعد توقيع الكشوف التي أعدَّها المديرون المحليُّون. وكان صديقي وزميلي السيد بلال (الذي تخرَّج الآن من كلية الزراعة وبدأ عمله في رشيد) يقصُّ عليَّ القصص بانتظامٍ عمَّا يحدث هنا وهناك — وكان الجميع يعرف ذلك، ولا يَزيد عن الابتسام له.

٣

وفي ربيع ١٩٦٢م أيضًا التقيتُ مصادفةً بالأستاذ أمين الشريف الذي كان ما يزال يُدرِّس الترجمة لدينا، منتدبًا من وزارة الثقافة، وأريتُه أولَ كتاب ترجمته وهو «الرجل الأبيض في مفترق الطرق» فدُهش وقال إنه لم يكن يعلم أنَّ لدينا في جامعة القاهرة مترجِمين محترفين، وعلى الفور طلب مني أن أحضر إلى مقرِّ وزارة الثقافة (أحد مقارِّها في وسط البلد)؛ للعمل معه في ترجمة دائرة المعارف البريطانية! فقلت له إن لي صديقًا ممتازًا في الترجمة اسمه سمير سرحان، فقال لي: أحضِرْه معك. وفعلًا ذهَبْنا إلى المكان فوجَدْنا له رئيسًا اسمه أبو الحجاج، ومعه مترجمٌ سوداني لا يتحدث إلا الإنجليزية، وشخص آخر اسمه سليمان، وفهمنا المطلوبَ وكان كالتالي: كان علينا تفريغُ أسماء جميع البابوات (بابوات روما) على بطاقات، وكانت قيمة المكافأة على كلِّ بطاقة ثلاثةَ قروش!

والذي حدث هو أن الدكتور ثروت عكاشة، عندما كان وزيرًا للثقافة، كان قد رصَد مبلغ مليون جنيه مصري لترجمة دائرة المعارف المذكورة، ووضعها بالكامل تحت تصرُّف الدكتور لويس عوض الذي عُيِّن آنذاك وكيلًا للوزارة، وكان له وحده الحقُّ في الإنفاق منها، وكان منهج لويس يتلخَّص في تمشيط الموسوعة ورصد الأسماء أولًا، وتحديد ما يحتاج منها إلى الترجمة؛ أي إلى إفراد أبوابٍ له، ثم تحديد الموضوعات إلى عِلمية وتاريخية وأدبية وما إلى ذلك، وكانت للبداية بالأسماء أهميتُها؛ فربما احتاج صاحبُ الموسوعة إلى إضافة أسماءٍ أخرى، أو الاستغناءِ عن البعض، وهكذا كان العمل يجري على قدَمٍ وساق في عامَي ١٩٦٠ و١٩٦١م في رصد الأسماء، وكان جميع مَن في المكتب الذي زُرناه يكسبون أموالًا لا بأسَ بها من هذا العمل، ولم نكن نعرف منهم غير عبد العزيز حمودة وعايدة شعراوي، وكان يسمح للبعض أن يصطحبَ أحدَ مجلَّدات الموسوعة إلى المنزل لرصد الأسماء منها، وكان سليمان (لا أذكر اسمَه الآخر) يفتخر بأنه يوظِّف الأسرة كلَّها في هذا العمل، زوجته وأبناءه جميعًا؛ فهو موردُ رزقٍ للجميع، ورغم تعيين عبد القادر حاتم وزيرًا للثقافة مكان ثروت عكاشة فقد كان المشروع لا يزال قائمًا!

وسَعِدنا أنا وسمير سرحان بهذا العمل الذي سرعان ما انطوَت صفحته، وإن كنا قد كسبنا منه بعض النقود، ومررنا فيه بتجرِبة لا بد من ذِكرها؛ لأنها أصبحت فُكاهة نتندَّر بها أنا وسمير حتى الآن! كان يعمل في مكتب الموظَّف السوداني الذي يُدخن الغليون فتاتان تكتبان الآلة الإنجليزية، الأولى اسمها محاسن وهي سوداءُ من السنغال، والثانية اسمها سميراميس، وهي سمراءُ من الحبشة. ولم نُضِع الوقت أنا وسمير، فخرَجْنا معهما إلى السينما، وكانت تلك أولَ وآخر مرة أُصادق حبشية، وكانت ميزتُها الوحيدة هي الحديثَ بالإنجليزية، وقد ظَلِلنا على صداقتنا حتى وضع الدكتور حاتم حدًّا للمشروع، وانطوى حلم الموسوعة، وتوقَّف مورد الدخل المنتظم!

وعندما حلَّت بشائر الصيف رأيتُ إعدادًا لمسرحية اسمها «استشارة محامٍ» قام بها أنور عبد الله عن ترجمةٍ لمسرحيةٍ إنجليزية بنفس العنوان وهو Counsel’s Opinion، وكانت المترجِمة ما تزال طالبةً لدينا في القسم، واسمها ساني عبد الحميد، وشاءت الظروف أن تتحول فيما بعدُ إلى «أنا وهو وهي» على يدَي سمير خفاجى الذي أضاف إليها «البهارات المصرية» اللاذعة، وقدَّمها إلى عبد المنعم مدبولي الذي أخرجها للمسرح الكوميدي بعد مسرحيتَي «السكرتير الفني» المقتبسة عن فيلم «توباز» الذي قام ببطولته بيتر سيلرز ومسرحية «جلفدان هانم» من تأليف علي أحمد باكثير. كنتُ قد شغفت بأداء فؤاد المهندس ومديحة حمدي ومدبولي في «السكرتير الفني» وكتبتُ مسرحيةً على غِرار هذه وتلك، اسمها «الدرجة السادسة»، وهي لم تُنشر حتى الآن ولا أجرؤ على نشرها بسبب طولها الشديد وعيوبها الفنية الواضحة — وأهم تلك العيوب «تصوري» فؤاد المهندس نفسه في دول البطل، وشويكار التي لمعت في «أنا وهو وهي» في دور البطلة، بحيث أصبح أداؤها بالصورة المطلوبة رهنًا بوجود أمثال هذين العبقريَّين!

ولكنني كنت اكتسبتُ جُرأة من تقديم «من أجل ولدي» وأصبحتُ معروفًا في «الوسط الفني» فاتَّجهت إلى أستاذي القديم مدبولي في صيف ١٩٦٢م في المسرح العائم حيث كان يعمل، وأعطيته نسخة من المسرحية ووعَدني بقراءتها والردِّ عليَّ في اليوم التالي. وفي اليوم التالي ذهبتُ في الموعد فقابلني بمفاجأة! إذ إنه انقضَّ عليَّ معانقًا مُقبِّلًا وقال لي: «مبروك .. بقيت مؤلف يا عناني!» وذُهلتُ من إعجابه بهذه المسرحية وسألتُه عن «الخطوات» الرسمية الواجبِ اتباعُها في هذه الحالة فقال لي أن أذهب إلى سمير خفاجى حيث يُقيم في عمارة التأمين بميدان رمسيس (باب الحديد) وهو الذي سيتولى كل شيء.

وذهبتُ في مساء اليوم التالي إلى سمير خفاجى فوجدتُه مشغولًا بترجمة مسرحية عن الفرنسية هو وأحد الضيوف، فطلب مني النظرَ فيها معهما، وسرعان ما بدأتُ أنا الترجمةَ وانشغل الاثنان بكتابةِ ترجمتي وإضافة «البهارات» حتى حلَّ منتصف الليل، فقال لي: «إنت اتأخرت .. نكمِّل بكره!» وانتهينا من النَّص بعد أيام، ثم سألتُه عن «الدرجة السادسة» فقال: «طويلة جدًّا .. عايزة قصقصة.» ولم أفهم وخرجتُ كسيفًا حزينًا مهمومًا. وأُهرِعت إلى سمير سرحان أقصُّ عليه ما حدث. فقال لي: ولا يهمك .. خلينا احنا في عندما نحب!

كانت «عندما نحبُّ» قصةً قصيرة كتبها محمد التابعي، الصحفي المشهور، وعندما ذهبنا إليه في منزله بالزمالك اندهشنا للجوِّ الأسطوري الذي يعيش فيه، ولقدرته الخارقةِ على تبسيط الأمور! وكان قد قرأ «الإعداد» (أي النصَّ المسرحي الذي كتَبناه)، واعترض على كلمة «ألعب» لأن البطل عدَّاء، وينبغي أن تكون الكلمة «أجري»! وتحدث طويلًا عن فنِّ كتابة القصة وقال إنه يكتب القصة مثلما «يلعب عشرة طاولة»؛ أي إنه يكتبها حيثما اتفق وحيثما يقول له النَّرْد! ونصحَنا بمقابلة صلاح منصور المخرج؛ للاتفاق على بعض التعديلات. ولكننا عندما قابلتنا صلاح منصور في «جروبي» (فرع شارع سليمان باشا من ذلك المقهى) وجدناه يتكلم لغةً غير متوقَّعة؛ فهو يؤكد ضرورة إحساس المُتفرج بالكيان المادي للبطل؛ أي بجِسمه، وضرورة إلغاء النبرة «القدَريَّة» التي أضفيناها على النصِّ استحياءً للمسرح اليوناني الذي كان هو «الموضة» تلك الأيام، وقال لنا: «عندما أخرجتُ «بين القصرين» .. خلِّيت البطل يدخل المسرح بملابسه الداخلية وقد ظهرَت (…) حتى يشعر المتفرج بحقيقة عالم سي السيد!» ولم نعرف المطلوبَ تمامًا، فافترقنا على خلاف.

وبعد أسبوعَين عُرِضت المسرحية المقتبسة عن الفرنسية (le Roi 23) في المسرح العائم، وكانت تحمل اسم المؤلف هكذا: تأليف سمير خفاجى وعبد المنعم مدبولي! ولم أُعلق على ذلك رغم دهشتي. وبعد العرض قابلت سمير خفاجى فقال لي: «اسمع! انت أجرك في التليفزيون ٢٠٠ جنيه .. صح؟ (وأومأتُ بالموافقة) وأجري أنا ٤٠٠، فإذا كتبنا تأليف سمير خفاجى ومحمد عناني تقاضينا الأجرَ الأعلى، وهكذا تحصل أنت على اﻟ ٢٠٠ وأحصل أنا على ٢٠٠.»

ولم أنطق. لم أعرف ماذا أقول. هذه مسرحيةٌ من تأليفي. تحتاج إلى تعديل. هل يعتبر التعديل مشاركةً في التأليف؟ كان نظامي في الكتابة مع سمير سرحان هو وضع التخطيط المشترك ثم كتابة المشاهد، كل مشهد على حِدَة، حسَب الاتفاق، ثم مراجعة ما كتبناه بعد ذلك .. وربما كان ذلك أيضًا من قَبيل المراجعة؟ وانصرفتُ مُشتَّت الخاطر .. ولم أخبر أحدًا بما دار بيننا من حوار.

وفي أغسطس ذهبَت الأسرة إلى رشيد، وقررتُ الذَّهاب في ذلك العام، وكُنا قد ترَكنا منزلنا القديمَ الذي امتدَّت إليه يدُ الهدم، واستأجرنا شقة (حسَبما سبق لي أن ذكرت) وانهمكتُ في تلك الأيام في تأمُّل المستقبل الأدبي، خصوصًا بعد أنْ لاحت فرصةُ الكتابة للسينما، وكان أجر السيناريو الواحد ٥٠٠ جنيه! وسرعان ما أعددتُ قصةً تصلح للسيناريو اسمها «جوازة صيف»، وما زلت أحتفظ بها وأعتزُّ بالجو الذي أصوِّره فيها، وذاتَ يوم قرأتُ في «الأهرام» خبرًا يقول: رفع درجة ٣ كتَّاب «إذاعيين» إلى كُتَّابٍ من الدرجة الثانية وهم سمير سرحان ومحمد عناني وعبد الجواد الضاني! وكان معنى ذلك رفع أجر التمثيلية التي طولها نصفُ ساعة من ٨ إلى ١٠ جنيهات، والمسرحية من ٢٠٠ إلى ٣٠٠! ومع بدايات سبتمبر وانتهاء فصل الصيف عُدنا إلى القاهرة وبدأ فصلٌ جديد في الدراسة والكتابة!

كانت مجلة «المجلة» التي يرأس تحريرَها يحيى حقِّي قد خصصتُ بابَين في آخرها لعرض الكتب المحلية والأجنبية، وكانت الدكتورة فاطمة موسى، الأستاذة في القسم لدينا، تُشرف على باب الكتب الأجنبية؛ ومن ثَم طلبَت من جميع الأساتذة والمعيدين المساهمةَ في هذا الباب، وكان أجر «عرض الكتاب» الواحدِ ثلاثة جنيهات فانقضَضْنا جميعًا على المكتبة نقرأ ونُلخص، كلٌّ في تخصصه، وقد شاء القدَر أن أجمع هذه العروضَ فيما بعدُ في كتابٍ أصدرتُه عام ١٩٩٥م هو «من قضايا الأدب الحديث»! وكان رشاد رشدي قد بدأ هو الآخرُ «حملةً» لإشاعة الأفكار النقدية الجديدة من خلال سلسلةٍ من الكتب يُصدرها أعضاءُ القسم عن «أعلام النقَّاد الغربيين»، فأعددتُ في الخريف كتابًا صغيرًا اسمه «النقد التحليلي» قُدِّرَ له أن يُطبَع عدةَ طبعات كان آخِرُها في التسعينيَّات! وفي غضونِ كتابة هذا الكتاب توثقَت علاقتي بزملائي في قسم اللغة العربية وعلى رأسهم عزت عبد الموجود (الدكتور) الذي كان يُعد رسالة ماجستير عن «الظواهر اللُّغوية في شعر المتنبي» وكانت مناقشاتنا لا تنتهي؛ إذ جمعَنا حُب العربية وحُب الشعر بصفةٍ خاصة، كما كان نعيم اليافي (الدكتور) الذي يُعد رسالةً عن القصة القصيرة في قسم اللغة العربية من أصدقائنا الثابتين؛ أولًا بسبب الموقع الاستراتيجيِّ للشقة التي كان يُقيم بها وحده في ميدان الجيزة؛ فهي مكانٌ مغلق يختلف عن المقاهي على شاطئ النيل أو على غير شاطئ النيل (مثل صان صوصي)، وثانيًا بسبب اهتمامه بحُكم التخصُّص باللغة العربية!

وبلَغني في ديسمبر، أثناء انشغالي بتصحيح تجارِب كتابي «النقد التحليلي»، أن بروفات المسرحية قد بدأت! إذن سوف تجد «الدرجة السادسة» طريقَها إلى المسرح! وعندما استفسرتُ عن «الوضع المالي» لم أجد إجابةً شافية. وعندها كان لا بد من الإفصاح لسمير سرحان عن موقف سمير خفاجى. وكان ردُّه قاطعًا: لا! ودُهشت أولَ الأمر وأبديتُ له تشكُّكي وتردُّدي ولكنه كان حاسمًا وقادرًا على الإقناع؛ إذ كانت حُجته تقول ببساطةٍ ما يلي: «إذا بدأتَ حياتك المسرحية بالارتباط «كمؤلف» بسمير خفاجى فسوف ينتهي بك الأمرُ إلى أن تصبح تابعًا له!» وذهبنا ذاتَ مساء إلى المقهى الملحَق بفندق سميراميس القديم، وكان يفتح أبوابَه للجمهور ٢٤ ساعة (ولذلك كان اسمه «نايت آند داي» أي الليل والنهار) واستمرَّت المناقشة حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، وبعد ساعاتِ نوم قلقة ذهبت إلى المسرح لأحضر البروفات التي كانت تبدأ في الحادية عشرة صباحًا. وانتظرتُ عبد المنعم مدبولي كي أبلغه بقرار رفضي وضْعَ اسم سمير خفاجى مع اسمي، ولكنه لم يحضر.

وحضرت «البروفة» دون تركيز — كان حسن يوسف، وكان إذ ذاك ممثلًا ناشئًا، هو الذي يلعب دورَ البطولة، وأمامه مديحة حمدي، وميمي جمال، والسيد راضي، ومنى سراج، وعددٌ آخر من فرقة المسرح الكوميدي. وبعد انتهاء البروفة ذهبتُ إلى الجامعة حيث كانت في انتظاري مفاجأة. كانت لدينا طالبةٌ اسمها آمال عبد الحكيم عامر، وكانت لها بعضُ الصديقات المعجبات بسمير سرحان، ولم أكن قد علمتُ أن سمير قد أبلغ آمال أو صديقاتها بموضوع مسرحيتي، وعلى أي حال، فإن مواعيد الامتحان كانت قد اقتربَت وكان همُّنا الأول الانتهاءَ من ذلك الفصل الدراسي «على خير»! ولكن المفاجأة كانت كما يلي: جاءتني آمال وقالت لي: «أنا قلت لبابا على موضوع المسرحية وطلب مني قال لي أسألك إن كنت تحب يعمل تحقيق، والَّا تخاف على علاقتك بالوسط الفني؟»

«بابا؟» كان بابا هو المشير عبد الحكيم عامر النائب الأول لرئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة! وبعد ثوانٍ من الذهول قلت لها: «مافيش داعي! ربنا يسهِّل وتتحل المشكلة لوحدها!» وقالت في مرح «بابا تصوَّر كده برضه .. لكن تحت أمرك!» وانصرفَت هي وصاحباتها ضاحكات! وظلَّت كلمة «تحت أمرك» ترنُّ في أذني! هل يمكنه حقًّا أن يساعدني في موضوعٍ كهذا؟ وماذا يقول عني الزملاءُ والفنانون والكُتَّاب؟ لا .. فلنترك المسرحية حتى ترى النورَ ثم نبحث موضوع التعاقد واسم المؤلِّف في مرحلةٍ لاحقة؛ فنحن على مشارف عام ١٩٦٣م؛ أي إن الزمن يجري بسرعةٍ دون أن أنتهيَ من الماجستير، ودون أن أفوزَ بإحدى البعثات، ودون حدوثِ شيء يُنبئ بالتقدُّم في الجامعة! كان الذين فازوا بالبعثاتِ الدراسية قد سافروا فعلًا إلى إنجلترا وأمريكا، وكان أولهم عمرو برادة الذي تمكَّن من الحصول على منحةٍ دراسية شخصية، وسافر فعلًا، ثم تلاه عبد اللطيف الجمَّال (بعد حصوله على الماجستير)، وعفاف المنوفي، وسلمى غانم (وكلاهما من زملاء دفعتي)، وهدى حبيشة (التي تخرَّجَت قبلي بأربع سنوات)، وأمين العيوطي (بعد حصوله على الماجستير).

كان الشيء الوحيد الذي يحدث هو تصحيح بروفات كُتَّاب «النقد التحليلي» (مكتبة الأنجلو)، وبروفات «درايدن والشعر المسرحي» (دار المعرفة)، وكتابة عروض الكتب في مجلة المجلة، وهي التي وثَّقَت الصلةَ بين ثلاثتنا — سمير سرحان وعبد العزيز حمودة وأنا — من ناحيةٍ وبين أسرة الدكتورة فاطمة موسى — وزوجها الدكتور مصطفى سويف وأبنائها أهداف (الدكتورة حاليًّا) والتي أصبحَت روائيةً تنشر إبداعاتها من القصة القصيرة والطويلة بالإنجليزية في بريطانيا، وليلى (الدكتورة) وعلاء (المهندس) من ناحية أخرى. كنا نتردد بانتظامٍ على منزل الدكتورة فاطمة، وكان يحضر جلساتِنا عبد المحسن طه بدر (الذي كان لا يتحدث إلا عن رسالة الدكتوراه التي كان منهمكًا في كتابتها) والدكتور أبو شادي الروبي (أستاذ الطب الباطني) والدكتورة ليلى موسى (أخت الدكتورة فاطمة) المتخصصة في علاج الأورام بالأشعة (النظائر المشعَّة). وكانت اللقاءات أدبيةً في المقام الأول، فكنتُ أحيانًا أقرأ بعضًا من شعري (الذي كنتُ أكتبه لنفسي ولا أنشره أبدًا) وكنا كثيرًا ما نستمع إلى أحاديث الدكتور سويف التي كانت تُشبه المحاضرات العلمية في دقتها وعمقها، وكانت الدكتورة فاطمة كريمة غايةَ الكرم، فكانت لا تبخل علينا بشيء أبدًا، لا بالنصح والإرشاد، ولا بالطعام أو الشراب.

وعندما جاءت عطلة نصف العام (في مطلع ١٩٦٣م) نظَّمَت الكلية رحلةً إلى الأقصر وأسوان، برئاسة الدكتور عبد المنعم أبو بكر، أستاذ الآثار المصرية وعميد الكلية، وبمشاركتنا جميعًا، إلى جانب بعض أساتذة الكلية الأخرين. كان معنا رشاد رشدي وزوجته لطيفة الزيات، والدكتور أنور عمر (أستاذ علم المكتبات) وجيهان رشتى (الدكتورة) من قسم الصحافة، وغيرهم. وكانت الرحلة بالقطار، ولن أنسى لحظةَ وصولنا إلى الأقصر، إذ التفت إليَّ رشاد رشدي وقال: «قُل لنا بمَ تشعر يا عناني.» وانبرى بسرعةٍ أحد أفراد الشلة للإجابة، ولكن رشدي تجاهلَه وأصرَّ على سماع رأيي، فقلت له: «أحس أنني رحلتُ رحلةً إلى الماضي كأنَّ رحلة القطار في المكان كانت رحلةً في الزمان!» وقال إن هذه هي الإجابة التي كان يريد أن يسمَعَها. كانت الأقصر بلدًا فرعونيًّا حقًّا. وربما كان الأرقُ الذي لازمني طول الليل سببًا في ذلك الإحساسِ الغريب بالانفصال عن الواقع مِن حولي، فتركتُ الجميع بعد أن وضعنا الأمتعةَ في الفندق، وظللتُ أضرب على غير هُدًى في شوارع الأقصر، ولم تكن الشمس قد علَت في السماء، وكان جوُّ الشتاء يُشجع على المسير، وكنت — في ذلك الصباح المشرق — لا أتوقف أبدًا ولا أنظر حولي بل أسيرُ وحسب.

كانت الرُّؤى تنثالُ فيَّاضةً في ذهني، وربما اختلطَ ما كنتُ أراه بما قرأتُه عن وردزورث، فكان الوجود نفسُه يبدو قلقًا؛ أي إن كِيانه الماديَّ لم يكن ثابتًا في عيني، ولم أكن على استعدادٍ للتيقُّن من وجوده الثابت؛ فقد غمرَني الإحساس «بالوهم» أي بزوال الحاجز بين ما يوجد في الذهن وما يوجد خارِجَه، لم أكن أفكرُ في الكتب التي في المطبعة ولا في المسرحية وتجاربها، ولا فيما عدا ذلك من شئون الحياة، بل كان ذهني مِرآةً تنعكس فيها رُؤًى مخلخَلة، يصفها الناس بحالة «انعدام الوزن»، أما أَصْدقُ وصفٍ يمكن إطلاقه عليها فهو التأرجُح بين الحقيقة الماديَّة والحقيقة الروحية. وعندما عدتُ إلى الفندق كان الجميع قد خلَدوا للراحة أو للنوم، فجلستُ وحدي في قاعة الاستقبال وأغفيتُ ساعةً أو بعضَ ساعة، ثم أفقتُ على أصوات القادمين وطلبات القهوة.

عندما أفقتُ عادت الحياة إلى طبيعتها في نظري، ولكن البَهْو كان يبدو مثل الديكور المسرحي أو ديكور الأفلام السينمائية. وذكرتُ مناقشةً كنتُ قرأتها بين الدكتور صمويل جونسون، الناقد الإنجليزي الأشهَر في القرن الثامنَ عشر، وبين أحد دُعاة الفلسفة «المثالية»؛ أي الفلسفة التي تُثير الشكوك في الحقيقة المادية للواقع المرئيِّ والمحسوس؛ ومِن ثَم في طبيعة الوجود، إذ تَوجَّه إليه هذا الداعيةُ بسؤالٍ ظنَّه سوف يحسمُ القضية إذ قال له: كيف تُثبت أنك موجود أو أنَّ هناك وجودًا؟ فما كان من جونسون إلا أن نهض فجأة وضرب حجرًا بقدمه ضربةً أحدَثَت دويًّا هائلًا وهو يقول: «أُثبته هكذا!» عقلانية القرن الثامنَ عشر أنقذَت الموقف! ولكن كيف أُثبت أن الرؤى التي حفل بها ذهني ذلك الصباحَ غيرُ حقيقية؟ وكيف أثبتُ أنها أقل «وجودًا» من الوجود المادِّي؟ لقد درَسْنا آراءَ الفلاسفة الإنجليز الذين ناقَشوا عمل الحواسِّ ومدى خِداع ذهن الإنسان في إدراك الواقع، وكنتُ شخصيًّا مُولعًا بهم بسببِ ميولهم التجريبية والمنطقية (أو الإمبيريقية أي التي تستند إلى تجارِب الحواس)، ولكن منظر البهو في الفندق لم يكن يؤكِّد أبدًا أن ما أراه «حقيقي»، وانتابَني نازعٌ يُشبه نازع جونسون ولكنني أحجَمت، فنهضتُ وعدت إلى الغرفة واغتسلت وعندما هبطتُ من جديد كان الجميع قد استيقظوا.

كانت زياراتنا لمواقع الآثار المصرية القديمة في الأقصر زياراتٍ عِلمية حيث تولى الدكتور عبد المنعم أبو بكر شرح كلِّ شيء بلغةٍ عربية فُصحى ناصعة، ولكنها كانت في باطنها جهدًا متواصلًا، وعلى أساسٍ نفسي وطيد، للبحث عن الجذور، وللتساؤل الدائب عن أصول الأفكار التي تعيش في وجداننا منذ الطفولة ونُسلِّم بصِحَّتها دون مناقشة، وكانت كلُّ زيارة تتحول في ذهني إلى «مغامرة شعورية» في تلك البُقعة غيرِ الثابتة بين الواقع والحلم، أو بين العالم المادِّي والوهم. هؤلاء أجدادي — بشَرٌ مثلي سبَقونا جميعًا إلى التفكير في الوجود وفي معنى الحياة وفي حقيقة الروح والخلود، وعزَّ على بعضهم التسليمُ بفكرة الفَناء المادي؛ لأن «وجودًا داخليًّا» من لونٍ ما يؤكِّد لهم أن الجسم عَرَضٌ لا جوهر! وما هذه الرموزُ من حولنا إلا الدلائلُ القاطعة على صِدق رؤاهم! لقد نجح الفنُّ المصري القديم في «إمساك» هذه الرُّؤى غيرِ المادية وتثبيتها وتجسيدها بنقشها على الحجر، ونحتها في الصخر، بحيث تحوَّلَت الأفكارُ المجردة والمشاعرُ التي مِن المحال تحديدُ شكلٍ لها إلى رموز مرئيَّة ومحسوسة، وبحيث اتخذَت أشكالًا محددة ذاتَ قوة على الإحالة إلى العالم غيرِ المرئي! لقد أصبحَت دنيا «الشهادة»؛ أي دنيا المشهود والحاضر مدخلًا إلى دنيا «الغيب» عن طريق الفن! لقد نجح الحجرُ في ذلك؛ فهل تنجح اللغة؟

وعندما عبَرْنا نهر النيل إلى البرِّ الغربي لزيارة وادي الملوك ووادي الملكات التفتَ إليَّ الدكتور أبو بكر وقال فجأةً: «إنت سارح في إيه يا عناني؟ بتفكَّر في مسرحية جديدة؟» ولم يُعلق أحد، ولم تكن لديَّ إجابةٌ على السؤال. كنتُ أسير مع الجميع شاردَ اللُّب، ولم أكن أتوقفُ أبدًا حتى حين يقفُ الرَّكْب، بل كنتُ أَدُور في حلقاتٍ حتى أعود إليهم، وطيلةَ زيارة البرِّ الغربي كان الإحساسُ يغمرُني بموضوع الرحلة وموضوع العبور، فالمراكبي (الفلايكي أو قائد القارب) رجلٌ طاعن في السِّن، ملامحه تُشبه إخناتون، تمامًا مثل طالب لدينا اسمه عزت عدلي دميان، (الذي حصَل فيما بعد على الدكتوراه) ولا يبدو أن السنين التي عاشها تنتمي إلى سنواتنا الأرضية. إنه يُشبه «النوتي» (المراكبي في بلدي رشيد) الذي لا ينفصل عن المركب الشراعي الذي يُسيِّره، ويبدو في صمتِه وشروده جزءًا من عالم نهر النيل، أو قُل جزءًا من الزمن نفسِه.

وكانت أفكار الوهم والواقع، وفكرةُ العبور والزمن، والشروق والغروب الذي يؤكد «لا زمنية» الزمن، هي التي سيطرَت على فكري دون مقابلات لُغوية محدَّدة، ولا شكَّ أنها كانت الدافعَ غير المباشر إلى كتابة مسرحية «البر الغربي» عندما عُدنا إلى القاهرة. والذي حدث هو أنني قرأتُ ذات يوم بعضَ الأنباء الخاصة بالمسرح في صحيفة الجمهورية، ونقدًا كتبه الدكتور محمد مندور لمسرحية «السبنسة» التي كان المسرح القومي يَعرضُها آنذاك، من تأليف سعد الدين وهبة، فأصابني القلق، ترى ماذا يحدث في مسرح القاهرة؟ هل يريد أحدُهم سُوءًا بمسرحيتي الأولى؟ وقرَّرتُ العودة خوفًا على مصير الدرجة السادسة. وكان الدكتور سويف قَلِقًا كذلك على بعض أعماله في القاهرة، فقرَّر العودة أيضًا، وهكذا انفصلنا عن الرَّكْب وعُدنا إلى القاهرة دون الذَّهاب إلى أسوان.

وعندما حادثتُ مدبولي في التليفون قال لي إن بروفات المسرحية قد توقَّفَت؛ لأن الفرقة تُقدم عملًا آخَر هو «أنا وهو وهي»، ولكنه كان مهذبًا فلم يتعرَّض لما قلتُه عن اسم المؤلف أو وضعِ اسم سمير خفاجى مع اسمي. وبعد أسبوع عاد الزملاءُ من أسوان، فاصطحبَني سمير سرحان إلى المسرح حيث تأكَّدْنا من خبَرِ توقُّف البروفات، ومن ثَم اتجهنا — وكانت الساعة قد قاربت الثانية عشرة ظهرًا — إلى منزل الدكتور رشاد حيث وجدناه في انتظارنا، وعندما قصَصْنا عليه القصة قال لي في حزم: «انسَ الدرجة السادسة! اكتب مسرحية جديدة!» وأطلَعَنا أثناء الحديث على أن الوزير قد وافقَ على إنشاء فرقة مسرحيةٍ باسم فرقة توفيق الحكيم، يكون مقرُّها مسرح محمد فريد، وتحويل اسم ذلك المسرح إلى مسرح الحكيم ونشر مجلة شهرية ابتداءً من العام التالي (١٩٦٤م) اسمها مجلة المسرح، وأنه أي الوزير (عبد القادر حاتم) قد أوكل إليه الإشرافَ على هذا المشروع!

٤

في فبراير ١٩٦٣م ظهر أول كتاب من تأليفي (لا من ترجمتي) وهو «النقد التحليلي»، وكنتُ به سعيدًا، على صِغره وتواضعه، بل على مُبالغته وشَطحاته ونبرتِه العالية؛ فقد كنتُ آنذاك مؤمنًا بالفنِّ إيمانًا يصل إلى حدِّ التقديس، وكنتُ أرى أن مهمة الناقد الأولى، ودون جدال، هي «نقد» فنِّ الفنان؛ بمعنى تحليل عناصره ودراسةِ مَبْناه والغَوص في دلالاته، لا استنباط «هدف» أخلاقيٍّ أو اجتماعي أو سياسي منه، وربما كان حبي للموسيقى والرسم وممارستُهما من وراء ذلك، ولم أكُن على استعدادٍ مطلقًا أن أقبل «مسخ» عملٍ فني، مهما تكن «رسالته» الظاهرةُ أو الباطنة بأن أُساويَه في الكمِّ أو في الكيف مع هذه الرسالة! وكنتُ أصغي لما يقوله زملائي من النقَّاد الذين استجابوا لموضة «الاشتراكية» التي أصبحَت السياسةَ الرسمية للدولة، وطفقوا يُصنفون الكتاب طبقًا لدلالات كتاباتهم على الميل إلى الرأسمالية (إذا عالَجوا مشكلات الإنسان الفرد)، أو إلى الاشتراكية إذا عالجوا المشكلات «الجماعية» (مثل مشكلة الموصلات)، وكنتُ أقرأ ما يكتبون في دهشة، خصوصًا عندما ابتدَعوا مقابلةً مضحكة بين ما أسمَوْه «الفن للفن» و«الفن للمجتمع». وكان موقفي الذي أساء البعضُ فهمه في هذا الكتابِ هو أن حرف اللام هو سرُّ المشكلة. فما معنى «الفن للفن»؟ بل وما معنى الترجمة الأخرى للعبارة الأجنبية الأصلية وهي باللاتينية ars gratia artis وبالإنجليزية art for art’s sake؟ أي إنك إذا استبدلتَ «من أجل» باللام لم يزد المعنى وضوحًا. فما هو المعنى؟ الواضح أن المقصود هو استبعاد الأغراض غير الفنية عند النظر إلى الفن. ولكن ما هي هذه الأغراض؟ تهذيب الأخلاق مثلًا؟ الدعوة إلى فكر سياسي ناضجٍ مثلًا؟ وكيف يكون ذلك؟ هل يكون من قِبَل الفنان أم من قِبَل الناقد؟ هل يبدأ الفنان — المؤلف الموسيقيُّ مثلًا — بفكرةٍ أو برسالة ثم «يُحولها» إلى موسيقى؟ أم هل يكون على الناقد أن يستنبط هذه الفكرةَ أو الرسالة من الموسيقى؟
هذه الحُجة تقوم على «فرضٍ خادع» هو سببُ الخلط في المقابلة، وهو مفهوم الفن؛ أي ما يعتبر فنًّا. فالموسيقيُّون فنانون؛ لأن الوسيط الذي يستخدمونه وهو تناغُم الأصوات والألحان والإيقاعات «متفَق عليه» منذ قديم الأزل، وكلمة الموسيقى نفسُها نسبةٌ إلى ربة الفن (muse) وكذلك الرسَّامون المبدعون. فالوسيط الذي يستخدمونه متفقٌ على أنه فن، ولو تفاوتَت مكانةُ ودرجة إبداع كلٍّ منهم. ولكن الخداع يبدأ عندما يتحولُ الأمر إلى الأدب؛ فاعتبار الأدب فنًّا يقتضي توافُرَ عناصر فنيةٍ معيَّنة غير متفَق عليها حتى الآن، وربما لا يتفق عليها النقاد أبدًا! فتعريفات الشعر كانت تتراوحُ بين مقارنته طَورًا بالموسيقى، وطورًا بالرسم، وعناصره الفنية ستظل مَثار خلافٍ إلى يوم يُبعثون! فكيف نُطبق عليه إذن مقولة الفن للفن؟ هل نفهم من هذه العبارة أن «الخصائص الفنية» التي تجعل الكلام فنًّا (أي تجعله أدبًا) مقصودةٌ لذاتها لا لتحقيق غايةٍ أخرى؟ وكيف نتصورُ أن الشاعر حين يَنظِم كلامه يهدف من «النظم»؛ أي من إيقاع الألفاظ (بدلًا من النثر غير المنظوم) إلى تحقيق غايةٍ سياسية أو أخلاقية؟ أو كيف نتصورُ أنه حين يُبدع التصوير (بدلًا من التقرير) يرمي إلى تحقيقِ مثل هذه الغايات؟

الواضح أن كلمة «الفن» عند تطبيقِها في هذا السياق كانت تعني الكتابةَ الفنية أو الأدب، وكانت المقولة عند أصحابها تعني ألَّا تكون الكتابةُ بلا هدف جليل، أو بلا هدف له دلالتُه الإنسانية «التي يُعتدُّ بها» (وهي العبارة التي قالها لي خالي وأنا طفل)، والمنطقي إذن هو أن الكتابة حين تتوافر لها العناصر الفنية والدلالة الإنسانية معًا تصبح أدبًا، وهي إذا أصبحَت أدبًا وغدَتْ بهذا المعنى فنًّا حقيقيًّا لم يكن هناك مجالٌ للتساؤل عن الغاية منها. إلا في حدود التساؤل عن الغاية من الموسيقى والرسم والرقص والتمثيل وما إلى ذلك! فالأدب الذي يُصور الفرد تصويرًا فنيًّا لا يقلُّ في «قيمته» عن الأدب الذي يُصور المجتمع تصويرًا فنيًّا! وأنا أضع خطًّا تحت كملة «قيمة» لأن ذلك هو مربط الفرس كما يقولون! فالغاية القصوى مما كان محمد مندور يعنيه «بالنقد الأيديولوجي» هو تحديد «قيمة» العمل الفني في ضوء الأيديولوجيا التي يوحي بها؛ أي في ضوء «الاتجاه الفكري» الذي قد يبدو أنه يدعو إليه. وهذا هو ما كنتُ أرفضه في ذلك الكتاب.

هذا هو ما كان النقاد يَدْعون إليه، وهذا هو ما كنتُ لا أستطيع قَبوله لأن معناه أن يكون الناقد سلطةً سياسية أو فكرية أو خُلقية تتولَّى تحديد «قيمة» ما يكتب ثم تفرض على الآخَرين، الطامحين في تحقيق قيمةٍ ما، محاكاة ذاك الذي كُتب أو النسج على منواله! وسبب رفضي هو أن القيم السياسية تتغيَّر من عصرٍ إلى عصر، وما قد تكون له قيمةٌ سياسية في عصرٍ ما قد يفقدها في عصرٍ لاحق دون أن ينتقصَ ذلك من قيمته الفنية، بل إن القِيَم الفنية نفسَها قد تتغير من عصرٍ إلى عصر، والمعايير التي تستند إلى «القيم» إذن لا بد أن تكون معاييرَ نِسبية لا مطلقة، وهذا هو ما خصصتُ له بابًا مستقلًّا في أوائل الكتاب بعنوان «النقد والتاريخ والنسبية النقدية».

كان لويس عوض يقول لي إن هذه «الخناقة» بين مندور ورشدي «خناقة» لا أساس لها، والمصطلحات المستخدمة فيها لا يفهمها أصحابُها، وكان يقول لي إن عليَّ أن أتابع دراستي في إنجلترا، متجاهلًا هذه «الفقاقيع» النقدية التي لن تصمد للتحليل العلمي، وأهداني (في مارس ١٩٦٣م) نسخةً من كتاب «بروميثيوس طليقًا» وهو ترجمة لمسرحية شلي التي تحمل ذلك الاسمَ مع مقدمةٍ ضافية عن مفهوم الرومانسية الإنجليزية في مطلع القرن التاسع عشر، وتحليل اجتماعي وسياسي لدلالاتها لإنجلترا في ذلك الوقت. وأذكر أنني قابلتُه مصادفةً في ميدان سليمان باشا (طلعت حرب حاليًّا) بعد ذلك بأسبوع، فاصطحبَني إلى مقهى جروبي لمناقشةِ هذا الموضوع، ولا أعرف كيف تطرَّق الحديث إلى مناقشة كتاب «اللغة الشاعرة» لعباس العقَّاد، وكنتُ أعترض على الكثير مما جاء فيه، فإذا بلويس عوض ينبري للدفاع عنه بشِدَّة، ويبدو أنه نسيَ الموعد الذي كان مرتبطًا به، فلم نُغادر جروبي إلا حين أَغلق المقهى أبوابَه!

كان تأييدُ لويس عوض لما جاء في كتابي باعثًا على الاطمئنان؛ فقد أدرك ما أرمي إليه من الكتاب، ولكنه كان يكره رشاد رشدي لأسبابٍ شخصية منها، حسَبما فهمت، أنه دسَّ له لدى السلطات؛ أي «كتب تقريرًا» يتَّهمه فيه بالشيوعية مما أدَّى إلى فصلِه من الجامعة. ولم أعرف مطلقًا مدى صحةِ ذلك، بل ولا أعتقد أن الزمن سوف يكشفُ لنا عن حقيقةِ مثل هذه الاتهامات؛ إذ كنا وما نزال نؤمن بالشائعات، ونحبُّ القيل والقال، والخيالُ المصري خِصْب، وقد حاولتُ تجسيد «ولَّادة» الشائعة في مشهدٍ مسرحي ولكنني لم أُفلح، وتوليدُ الشائعات وانتشارها مبحثٌ لا مجال هنا لمناقشته.

ما أبعدَ ما كان النقاد آنذاك يرمون إليه من تحديد «القيمة الأيديولوجية» للعمل الفني عن مقولتَي «الفن للفن» و«الفن للمجتمع»! كانت الصورة تزداد وضوحًا كلَّ يوم؛ فالنقاد الأيديولوجيون يريدون إلغاءَ الأدب الذي يُركز على الفرد، وإحلالَ أدبٍ يناقش القضايا الاجتماعية بحيث يُعلي من شأن المجموع! ولم أكن أتصوَّر وأنا في تلك السنِّ المبكرة كيف أُبيح لنفسي أن أكون قاضيًا أحكم بفسادِ عملٍ فني لأنه فردي، أو كيف أبتدع منهجًا نقديًّا يُعلي من قيمته الاجتماعية (إذ أعجبني) حتى أُفسِحَ له مكانًا بين الأعمال الفنية العالمية. كان نجيب محفوظ يتمتَّع بسُمعة طيبة لدى هؤلاء وهؤلاء، أي لدى اليمين واليسار؛ لأنه يتولى المعالجة الفنية للفردِ في إطار المجتمع، وكذلك بعض مَن يكتبون القصص القصيرة أو المسرحيات، أما الشعراء فكانوا في حالٍ لا يُحسَدون عليها! وقد اتضَح لي ذلك يومًا ما حين قابلتُ أنور المعدَّاوي، الناقد الاجتماعي ذا الصوت الجهير، الذي كان يُناصب جبهتَنا العداء، وكان يُناصب لويس عوض عَداءً أشدَّ باعتباره «ناقدًا اشتراكيًّا يخون القضيةَ من باب الولاء لأبناء المهنة»؛ أي الولاء لأساتذة الآداب الأجنبية! ولذلك قصة.

كنتُ في مطعم كبابجي الدقي أنتظر الانتهاءَ من الشواء، حين دخل أنور المعداوي وجلس إلى المائدة نفسِها. وكان رحمه الله ضخمًا، ذا شهيةٍ هائلةٍ للطعام، وكان من بلدةٍ صغيرةٍ بجوار رشيد فكان يتكلمُ بلهجةِ أبناء بلدنا، وكان — حتى صدور كتابي النقد التحليلي — يحبُّ ما أكتب إذ كان من مُحرِّري مجلة «المجلة»، وكان من الأصدقاء القدامى للدكتور لويس عوض، ولمعظم الاشتراكيِّين في تلك الآونة، وكان قد طلب طبقًا سريعَ التحضير وهو «أرز بالموزة» (والموزة هي قطعةٌ من اللحم الملاصق للعظم وهي رأسُ العضَلة؛ ولذلك تشبه الموز)، وسرعان ما انتهى من غدائه وطلب «الحلو» وأنا أُناقشه في موضوع الكتاب وإذا به يُزيح الأطباقَ من أمامه ويقول لي بلهجة أبناء البحيرة الجميلة: «انتو عَمَّالين تقولوا الفن الفن .. طب وبعدين؟ انتم في ضلال! والأخطر أن يمتدَّ الضلال إلى الجيل الجديد! طيب لويس عوض يعرف ما يقول .. وهو قادر على تبرير كل شيء بخبرته الواسعة .. لكن أنا قلبي على الصغار!»

وعندما أوضحتُ له أن مسألة الصغار والكبار مسألةٌ نسبية، وأن الصغير الذي يقرأ سوف يكبر يومًا ما، وأنني أدرسُ الفنَّ الأدبي لا المجتمع، وجدتُه — على غير عادته — يتكلم بتُؤدةٍ واطمئنان كأنما هو الوالدُ ينصح ابنَه: «شوف يا عناني .. الأدب ده باعترافكم ابن للمجتمع .. يبقى ازاي تناقشوه بمعزل عن المجتمع؟ انتم كده بتقطعوا الجذور الطبيعية للأدب .. بتِلْغوا مصادر إلهام الفنان .. شوف «فاروق منيب» أهو ده قصَّاص بارع، وسر براعته هو التصاقه بالمجتمع .. شوف «أبو النجا» .. شوف أي قصَّاص ناجح …» وهنا أتى الطعام فانتهزتُ الفرصة وقلت: اسمع حضرتك شوقي:

يا نائحَ الطَّلْح أشباهٌ عَوادينا
نأسَى لواديك أم نَشْجى لوادينا
ماذا تَقصُّ علينا غيرَ أنَّ يدًا
قصَّت جَناحَك جالَت في حَواشينا

فضحك وقال: «أنت تستشهد بالأدلة التي تؤكد صحةَ قضيتي! هذا شاعرُ الفردية، شاعر الملوك الذي ضلَّلَ جيلًا كاملًا أيام الكفاح من أجل الاستقلال! إنه «نصَّاب» فلقد كان يستمتعُ بكل لحظة يقضيها في إسبانيا، والناس يظنون أنه يُعاني في المنفى .. إنه رمز للشعر الذي ينبغي أن نُحاربه!»

ووجدتُ أن الأمر يقتضي التروِّيَ، فقلتُ له: وكذلك المتنبِّي وأبو العلاء المعرِّي؟ فقال في ألم: خلاص .. لم يعد هناك أمَل فيك! هذا كلام طه حسين ولويس عوض! ثم نهض. وقمت لأُحيِّيه قبل الرحيل، فهمس لي: «لقد بدأ لويس عوض بدايةً طيبة في إنجلترا، وديوانه «بلوتولاند» يشهد على ذلك، ولكن طه حسين ما يزال في أعماقه .. طه حسين الفرنسي لا طه حسين العربي.» وقلتُ له: «للحديث بقية»، فقال: «لا! بل ليست له بقية. لقد دافع لويس عوض عن «يا طالع الشجرة» .. دافع عن العبث .. وكان الواجب أن يهاجم توفيق الحكيم عندما انحرف .. ولكنها الجامعة التي ستظلُّ تشد لويس عوض إليها رغم كلِّ شيءٍ! هل تعرف لماذا يُحجِم لويس عوض عن مهاجمة رشاد رشدي رغم كلِّ ما فعله به؟ إنه الانتماء إلى أدبِ الفرد .. الإيمان بأدب شلي وغيره من شعراء الإنجليز .. ولا تنسَ أن لوكاتش — الناقد المجَري العظيم — قد أثبت أن ذلك كلَّه من تراث العصور المظلمة.» وانصرف أنور المعداوي. ولم أرَه بعدها حتى تُوفِّي، رحمه الله.

كان كتاب النقد التحليلي بمثابة إعلانٍ للحرب على أصحاب النقد الأيديولوجي، ومِن ثمَّ وجدتُ نفسي بين عَشيةٍ وضحاها «مصنفًا» بين دُعاة «الفن للفن»! ومن يومها وأنا أحسُّ قوةَ الشعارات! العبارات التي تُوَجَّه للجماهير فتُردِّدها دون أن تفهمَ معناها، وانصرف ذهني إلى الناس وما عَساهم يقولون، هل يمكن أن يجد الفنانُ في الناس — الأشخاص العاديين — سندًا له ضدَّ هجوم النقاد؟ لقد أيَّد جمهور القراء وردزورث وكان نجاحُه الجماهيريُّ سنَدَه في مواجهة «جيفورد» و«جيفري» وهما الناقدان اللذان هاجَماه بكلِّ ضَراوةٍ في بداية حياته الفنية وبعد نُضجه، ولكن مَن ذا الذي يمكن أن يناقش قضيةً شائكة مثل الفن للفن والفن للمجتمع في إطارها الصحيح؟ لقد أصبحَت الكلمات ذاتَ رنين سحري، ومِن العبث التصدِّي لما تعجبُ به العامة، بل مِن العبث إيضاحُ أي شيء للعامة. إن الشعب الذي يعاني من الأمية لم يتحوَّل في يوم وليلةٍ بعد قيام الثورة إلى شعب مُتعلم. ويكفي أن يقول له أحدُ الساسة كلامًا، خصوصًا لو كان في شكل شعارٍ جذَّاب، حتى ينخدعَ ويُصدق. بل إن الشعب نفسَه يريد أن يؤمنَ بشيءٍ ما، بقضية ما، تهبُ حياته معنًى .. خصوصًا في تلك الأيام التي أصبح دعاةُ الدين فيها من دعاة «أفيون الشعوب» (حسَبما تقول الشيوعية) وأصبح الإيمانُ بالغيب سُبَّة ودليلًا على الغباء والتخلُّف. وقلتُ في نفسي: إن ذلك مما لا يمكن المهادَنةُ فيه .. ولن أنبِذَ حبِّي للمتنبي باعتباره من أدب «العصور المُظلمة» (وفقًا لما يقول جورج لوكاتش) ولن أنبذَ الملاحم والسِّيَر الشعبية لهذا السبب أو لغيره، ولن يتأثَّر إيماني بالدِّين بما يقوله دُعاة «التنوير» (وهي الكلمة التي أصبحَت موضةً هذه الأيام) ودعاة القضايا الاجتماعية! وربما كان من المناسب أن أشير إلى القصيدةِ الوحيدة التي نُشرت لي في مجلة الأدب، وهي التي كان يُحررها الشيخ أمين الخولي، والذي حدث أن طالبًا نابهًا في قسم اللغة الإنجليزية آنَذاك هو ماهر شفيق فريد (الدكتور) أعجبَته القصيدة وعُنوانها «الصمت». [وقد نشَرتُها في ديوان «أصداء الصمت» (١٩٩٧م)] فنشَرها في المجلة رغم أنفي! كان ماهر ذات عبقريةٍ مبكرة، وكان يعمل في المجلة محررًا بعد أن اقتنَع أمين الخولي (وهو مَن هو) بمقدرته وموهبته. وكنتُ ما أزال أحبه حبًّا جمًّا، وأطلقتُ عليه ذات يوم صفة «راهب الفكر الصَّمُوت» في مقالٍ بالأهرام. وسرعان ما أغفلتُ القصيدة وإن لم تبرح ذاكرتي، وكان أنْ أعَدتُ نشرها.

وكان سمير سرحان يشاركني آرائي، وكان هدفُنا الآن بعد أن كتب هو كتابه «النقد الموضوعي» في السلسلة نفسِها، أن نكتب مسرحًا قادرًا على الصمود في وجه التيارات المتلاطمة من الآراء النقدية التي تهبُّ مثل رياح الشتاء عاصفةً مزمجرة، فبدأتُ كتابة «البر الغربي» وبدأ هو كتابةَ «الكدب».

٥

كانت جلساتنا أنا وسمير سرحان على شاطئ النيل في كازينور جلسات عملٍ شاق. كنا نُناقش في نزهاتنا على الأقدام جميعَ التفاصيل الخاصة بالمسرحية، ثم نجلس للتخطيط والكتابة، وكان منهجنا واحدًا؛ وهو وضعُ الخطوط العريضة للمسرحية ككلٍّ ثم تقسيمها إلى مَشاهد، ثم كتابة الحوار، ولكن الواقع هو أن النتيجة النهائية كانت كثيرًا ما تختلفُ عمَّا خطَّطنا له في البداية! وقد تعلَّم كِلانا من التجرِبة أن الشخصيات عندما تكتسبُ حياتها الخاصة، وتُصبح كائناتٍ مستقلَّة، وتكاد تُصبح من لحم ودم، تُملي أقوالها وأفعالها وأحيانًا لا يستطيع المؤلفُ التحكُّم فيها! ولم يكن منهجي يختلف عن منهج سمير سرحان إلا في خلفيَّتي الريفية، فذهني عامرٌ بالشخصيات الريفية التي تعيش في وجداني بأقوالها وأفعالها ومَلامحها، وكنت دائمًا أستعينُ بما أذكره عن رشيد في تصوير الشخصيات، فأجد أنَّ بعض الأشخاص يَبرزون بكل ما تتَّسم به معالمُهم البشرية من ضعف وقوة، بينما كان سمير يحبُّ التحديد والإيضاح الحاسم، فهو كما علَّمَنا رشاد رشدي لازمٌ للمتفرج في المسرح، فنحن لا نقدم الحياة كما هي، أو كما نتصوَّرها، بل نقدم منها ما نريد للجمهور أن يتصوَّرَه ويُحسه!

وكثيرًا ما كان أصدقاؤنا يدهشون من حواراتنا وأسئلتنا. وأذكر مرةً أننا كنا منهمِكين في التخطيط والتشكيل حين هبَط علينا نفرٌ من أصدقائنا، من بينهم عبد المنعم حجاب وفاروق فريد وسيد الناصري ونعيم اليافي وماهر البطوطي! وجلس الجميع يتأمَّلون صفحة النهر ويُناقشون إمكانيات العمل في الجامعة وخارجَها، حين سألني سمير فجأةً: «لكن ما الذي يدفع كمال إلى مُصارحة نجية؟» وقلتُ له بثقة: «مرَّت به لحظةُ يأس! لم يَعُد يرى أملًا سِوى في اليأس!» وقال ماهر البطوطي: قصدك على كمال زغلول (وهو أحد أصدقائنا من خرِّيجي قسم اللغة الإنجليزية ويُقيم الآن في اليابان)؟ وضحك الجميع. ثم قال عبد المنعم حجاب: نجية دي اللي بيرمز لها نعيم بحرف نون؟ وعادوا للضحك! وقام سمير وناداني للانفراد به في مكانٍ آخَر وقال لي: إحنا لازم ننتهي من مشكلة مصارحة كمال النهارده؛ قل لي إزاي يفاتحها وإيه رد فعلها؟ ويبدو أنني أجبتُ بصوت مرتفع اجتذب بعضَ أفراد الشلة فتعالَت ضحكاتُهم من جديد، ولم نقل لهم آنَذاك إن هذه كانت شخصياتٍ في مسرحية «الكدب» التي يكتبها سمير، وكان يعتبرُني مسئولًا عن أيِّ خلل قد يراه النقَّاد، مثلما كنتُ أعتبره مسئولًا عن أي خلل في مسرحية «البر الغربي»! وانصرف الأصدقاءُ بعد فترة، ثم عُدنا أنا وسمير للكتابة.

كان عبد المنعم حجاب وفاروق فريد وسيد الناصري من خرِّيجي قسم الدراسات اليونانيَّة واللاتينية، وكانوا جميعًا منتدَبين للتدريس في الكلية، وقد وعَدهم الدكتور خفاجة بالتعيين فيها، حينما تُتاح وظائفُ مدرِّسي اللغة، وكان قد مضَت عدةُ سنوات دون توافر هذه الوظائف، فأصبحنا نُطلق على أقدَم المنتدبين وهو عبد المنعم حجاب لقَب «رئيس قسم الانتداب»، وكان فاروق فريد قد ملَّ الانتظار، فحصل على وظيفةٍ بالمكتبة المركزية لجامعة القاهرة، أما سيد الناصري فكان حديثَ التخرج وكان مرشحًا لبعثةٍ دراسية في إنجلترا.

كان حجاب وفريد يُقيمان في شقةٍ بالعجوزة قريبةٍ من منزلنا، وقد اشتهر عن الأول إحساسُه بالعظمة في ملبسه وسلوكه، وطيبة قلبه ولِين معشره، ومعاناته الدائمة من ضيق ذاتِ اليد. وعلى كثرةِ ما يكسبُه من نقود من الدروس الخصوصية، كان دائمًا بحاجةٍ إلى المال، وكان يقترضُ من الجميع، وكنا لا نبخلُ عليه بأيِّ شيء، ولكنه كان مِتلافًا يؤمنُ بمبدأ «اصرف ما في الجيب»، وقد انتهى به الأمرُ إلى أن حصَل على إجازةٍ دراسية، وفي الطائرة، حسَبما تقول الشائعات، تعرَّف على سيدةٍ أمريكية أقرضَته عشرةَ دولارات، ثم صادقَها أو تزوَّجها، ولكن أخباره انقطعَت عنا رَدْحًا طويلًا حتى علمنا بعدَ سنوات طويلة أنه اعتنَق الكاثوليكية ودخل ديرًا في حلَب ليُصبح من الآباء الكاثوليكيين في سوريا. وأما فاروق فريد فقد حصَل على بعثةٍ دراسية وحصل على الدكتوراه لكنه — رحمه الله — لم يُكتب له أن يعيشَ حتى يعود إلى عمله بالكلية، وقد فُوجئت هذا العام (١٩٩٦م) بأنَّ له ابنةً تعمل معيدة لدينا في قسم اللغة الإنجليزية.

وأنا أذكر هؤلاء الزملاءَ ذكرًا عابرًا بسبب الارتباط الشديد الذي كنا نُحس به وما نزال في قسم اللغة الإنجليزية مع قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، فكنتُ أهوى الترجمةَ عن اللاتينية وأخطئ، فيتولَّى هؤلاء تصحيحَ أخطائي، وكنتُ أحب كتابةَ عبارات قصيرة بتلك اللغة، أو تَبادُلَ عبارات حِوَارية مع أصدقائي منهم بها، وكانت إحدى هذه العباراتِ قد التصَقَت بعبد المنعم حجاب وهي (Pecuniam habes?) أي هل معك نقود؟ وسَمِعَنا الدكتور محمد صقر خفاجة ذات يوم نتحدث اللاتينية فقال مُعلقًا: «دا لاتيني جيزاوي!» وكنتُ أحب أن أفيض في ذكر الخناقات حول اللغة اللاتينية معهم، والواقع أنها استمرَّت فترةً حتى عثرَت على زميلٍ جديد في قسم اليوناني واللاتيني، يتَّسم بالتمكُّن التامِّ من مادته ويعشق متابعةَ أصول الكلمات وتطوُّرَها مثلي، واسمه حمدي إبراهيم (الدكتور)، فكان هو مَلاذي عند الخلاف، وقد دارت الأيامُ فالتقينا من جديد ونحن أساتذة، وهو حاليًّا عميد كلية الآداب بجامعتنا العريقة.

كان هؤلاء الأصدقاءُ جزءًا لا يتجزَّأ من طليعةٍ متعطشة للعلم، في مجتمع يمرُّ بتحولات كبيرة، وكان يمكن أن أسترسلَ في قصِّ ما سمعه عمَّا صار إليه عبد المنعم حجاب مثلًا وما فعله في أمريكا ثم في أوروبا، ولكنَّ اختفاءه من الساحة حتى الآن يفرض عليَّ الصمتَ — مثلما فعلْتُ مع فريد صالح الذي اختفى من قسم الإنجليزي إلى الأبد. وقال قائلٌ إنه عاد إلى اسكتلندا، ليُقيم مع أسرة والدته، وإنه عمل مُحصلَ تذاكر في الأتوبيس الاسكتلندي، ثم ذهب إلى السعودية لتعليم الطلبة باعتباره من أبناء اللغة، دون نجاح، وقد رأيتُه ذاتَ يوم في أواخر السبعينيات (أو خِلْتُ أنني رأيته) يسير بنشاط في دهاليز قسمنا. أين فريد صالح؟

وأما سيد الناصري فقد تخصَّص في التاريخ في جامعة لندن، وتقلَّد شتى المناصب الجامعية حتى أصبَح رئيسًا لقسم التاريخ بكلية الآداب لدينا، وكذلك أصبح نعيم اليافي رئيسًا لقسم اللغة العربية بجامعة دمشق، وكان وما يزال يحمل أصدقَ الحب لمصر وللقاهرة، وقد قابله سمير سرحان أثناء مؤتمر في تونس، إبَّان أحلكِ أزمة سياسية بين القاهرة ودمشق (بسبب معاهدة الصلح مع إسرائيل)، وسمعه وهو يُعارض مَن يشتم مصر، ويَهُبُّ مدافعًا عن القاهرة، وكان في ذلك ما فيه من مَخاطر ومن مُساءلات. وأما ماهر البطوطي فبعد أن عمل فترةً ما في وزارة التعليم العالي، توفر على تعلم اللغة الإسبانية، فأصبح يُجيدها إجادتَه للإنجليزية والفرنسية، ومِن ثمَّ عمل في المكتب التعليمي بمدريد فترةً ما، ثم عاد إلى القاهرة، ثم اجتاز امتحان الترجمة بالأمم المتحدة، وبدأ العملَ في نيويورك عام ١٩٧٨م، وشَغَل عدةَ مناصب حتى أصبح رئيسًا لتحرير المطبوعات العربية كلِّها في تلك المنظمة الدولية، وعكَف في السنوات الأخيرة على الترجمة والتأليف فكتب كتبًا عن لوركا ونيرودا وسيرة ذاتية مختصرة هي «عزلة النسر».

وربما كان من المناسب هنا أن أرويَ قصةَ زميل لنا سأشير إليه بحروف اسمه الأولى وهي «معم» فقط، زميل ماهر البطوطي وسمير سرحان في القسم، كان «معم» طموحًا، وكان يشاركنا جلساتنا في «صان صوصي» بميدان الجيزة، وعندما تخرَّج حصل على عمل بالكويت، وعاد في صيف العام التالي «مدجَّجًا بالأموال» (وهو التعبير الذي أضحك أفراد الشلة جميعًا). كان ذلك في صيف عام ١٩٦٢م. والذي حدَث أننا كنا نتراسل، وكان يحتفظ بخِطاباتنا لما فيها من تعزيةٍ عن عُزلته، وقرأ ذات يوم بعضَ قصائد في صحيفةٍ من صحف الكويت، فقرَّر كتابةَ نقدٍ عنها، وبعد أيام من نشر النقد، زار المدرسة التي يعمل بها وكيلُ وزارة المعارف (التربية) وسأل عن كاتب المقالات، وشحب لون «معم» وأحسَّ بأن مصيره في الميزان، ولكنه عندما قابل وكيلَ الوزارة وجد منه عكسَ ما يخشى؛ إذ اتضح أنه هو صاحب تلك القصائد، وأن النقد الذي كتبه لاقى في نفسِه هوًى، ومِن ثَمَّ كلَّفه الوكيل بالإشراف على النشاط الأدبي في المدرسة مقابلَ مبلغ نقدي كبير. أما الطريف في القصة فهو أن ذلك النقد كان لا يَزيد عن مقتطَفات من الرسائل التي كان يتلقَّاها منا! أما العبقرية التي أدهشَتني فكانت تتجلَّى في تحويل فقراتٍ كاملة من رسائلنا إلى نقدٍ أدبي يمكن للجميع أن يَقبلوه!

وعندما وصل «معم» بالمال، صارَحَني بأنه يخشى عليه ممن يعيش معهم؛ لأن أهله يريدون الاستيلاءَ على المال لتزويجِه من عانسٍ تَكبرُه بأعوام كثيرة، ولا تتمتع بأي قسط من التعليم، وإن كانت «غضَّة بضَّة»، أو على حدِّ تعبيره «أنثى فائرة»، ويبدو أنهم كانوا يُدبِّرون زواجه منها بطريقة فيلم «الماضي المجهول»، حيث يدخل أخوها عليهما فيجدهما في خلوةٍ فيَصيح والسكين في يده «لا يَسْلم الشرفُ الرفيع من الأذى»، وبحيث يكون المَخرَج الأوحد هو عَقْد القِران فورًا، والاستيلاء على النقود. وهكذا جاء إليَّ بالمال ووضَعه بنفسه في الدرج (درج مكتبي الكبير) واطمأنَّ إليه ومضى. وكان يأتي كلَّ يوم إلى المنزل (لا للاطمئنان إلى المال طبعًا) فنجتمع أنا وهو وماهر البطوطي لتدبير «رسائل» نقدية أخرى، أي رسائل في نقد الشاعر وكيل الوزارة للحصول على المزيد من المال!

وذات يوم قال لي «معم» إنَّ من حقنا الاحتفالَ بهذا النجاح بأن نذهب إلى كباريه مثل الذي نراه في السينما؛ لأنه لا يصح لشبابٍ تخرَّجوا في الجامعة وتحقق لهم الثراء أن يُحرَموا متعة النساء! وبالفعل قررنا الذَّهاب إلى الكباريه (ملهى فتحية أحمد بشارع الألفي) وكان التمويل كما يلي: خمسة جنيهات من ماهر، وعشرة جنيهات مني ومثلها من «معم»، وهنا قال «معم» إنه ما يزال مَدينًا لي بنحوِ ذلك المبلغ، وكنتُ أقرَضتُه بعض المال أثناء استعداده للسفر، وكان قد اشترى لي قلمًا ذهبيًّا هو باركر ٦١ (ما يزال لديَّ حتى الآن) وتصوَّرتُ أن في ذلك سَدادًا للدَّين، ولكنه أصرَّ على أن يتولَّى هو الإنفاق على ليلة الكباريه ففتحتُ الدرج وسحبتُ منه عشرين جنيهًا ووضعتُها في جيبي، وانطلقنا في المساء.

كان العرضُ رائعًا، إذ بدأ في العاشرة ببعض الرقصات والأغاني، ثم جاء نجم السهرة وهو محمد عبد المطلب، فغنَّى بعضَ أغانيه التي أشاعت البهجةَ في القلوب، ثم عادت الرقصات، ثم جاءت فتحية أحمد نفسُها (أو امرأة تُشبهها) ولم أكن أعرفُها إلا من الصور التي تنشرها الصحفُ أو من اللوحات المعلَّقة على جدران الملهى. كانت ضخمةً سميكة، وكانت تلبس ملابسَ فاضحة، ووقفَت فغنَّت أغنية كنتُ سمعتُها في طفولتي للمطربة ملك، ولا أذكر منها غيرَ الكوبليه الذي تقول فيه:

سلِّمت له قلبي
ونزلت في بحوره
لمَّا الغرام قال لي
اكتب وانا أملِّي
قلت الهوان مكتوب!

ولا أذكر إن كان اللحنُ من مقام «العجم» (لأنني أعزفه من سلَّم دو الكبير) أم أن به «مي» نصف بيمول، وربما يكون من مقام البيات، وكانت المطربة الكبيرة تتمايلُ وتتشخلع وهي تؤدِّي الأغنية، وكان أداؤها يبعث على الضحك، وكنتُ آنذاك أذكر قول جدتي «الشايب لما يدَّلع، زي الباب لما يتخلَّع!» ولِجَدتي أقوالٌ أخرى في هذا الباب فكانت تقول عن أم كلثوم وغيرِها من المطربات: «أخذت الصحيح وأعطتهم الريح» أي إنها نالت النقود ولم تُعطِ السامعين شيئًا! وعلى أي حال فقد استمتعتُ بفكرة الكباريه نفسِها، خصوصًا جو الأضواء الخافتة في الصالة، ومنظر البلطجية الواقفين على الأبواب! وبعد انتهاء العرض، أُنزِلَت الستار، ورحل البعض، بينما اقترح «معم» أن نشرب «شمبانيا»، وإلا فما معنى الكباريه. وأين النساء؟

وذهب ثلاثتنا إلى «لوج» جانبي، وهو ركنٌ من أركان كثيرة على جوانب الصالة، ولمحتُ بطَرْف عيني وأنا أدلف إليه ضابطَ شرطة كبيرًا أعرفُه خيرَ المعرفة، وكان يجلس بجثته الضخمة وكرشِه الهائل في مقعدٍ وثير ذي مَساند، وحوله ثلاثُ فتيات. كان متزوجًا من خالة أحد أصدقائي، وكان له سبعة أبناء، أحدُهم طبيبٌ حديث التخرج كنتُ لا أتردد في استشارته عندما أصاب بالتهاب في الحلق أو في القولون! وعلى الفور جاءت ثلاثُ فتيات فجلسنَ معنا، وتبيَّنتُ من ملامح إحداهنَّ أنها كانت الراقصةَ التي صاحبَت المطربة المشهورة، وبمجرد جلوسهنَّ جاء النادل فقالت الراقصة هات لنا شمبانيا! وسمعت الصوت الداخلي يصيح في أعماقي: هذا هو الكباريه إذن! وهذه هي الشمبانيا! نحن في مشهد سينمائي ولكن أين فريد شوقي؟ وسألتُها في حذر (فأنا أمين الصندوق) كم سعر الكأس؟ وأجابت: خمسين قرش! ولم أعلِّق. وعندما جاءت المشروبات وذقتُها كنت متأكدًا أنها مشروباتٌ غازية عادية، ولكنني دفعت ثلاثة جنيهات للنادل، أخذها وانصرف.

وسرعان ما أدركَت إحداهن أن «رئيس» الشلة هو «معم»، فهو الذي يأمر بالإنفاق، فجلسَت إلى جواره على الأريكة، وأتاحت له أن يرى بعضَ ما كان يرجوه، بل وأن يلمس بعض ما كان يَنشُده، وعلى الفور أمرَني بطلب المزيد من «الشمبانيا»، وتنبَّه ماهر إلى «اللعبة» فحذَّره وحذرني، ولكن «معم» كان قاطعًا حاسمًا، بل ومنفعلًا، فطلبنا المزيدَ والمزيد، وبدأتُ أُحس بالخداع، ولم يعد يروقني ما يحدث فبدأتُ الحوار مع الفتاة التي كانت تُجالسني فصارحَتني بأن شُكوكي صحيحة، وأن أثمان التذاكر لا تكفي لتغطية نفقات المحل، ولا بد من حيلة «الشمبانيا» لكسبِ المال. وسألتُها عن الضابط الكبير فضحكَت وقالت إنه شخص مهم ومفيد، دون أن تقول لي أي شيء عنه، ولم أشأ أن أفشي أنا السر، وأدركتُ منها أنه يسهر هنا مجانًا؛ لأنه ينفع العاملين في الملهى في الحالات الحرجة، وأخيرًا طلبت منها أن تُحدثني بصراحة عمَّا يُشاع عن حياة اللهو والعربدة وصورة الكباريه في السينما، فقالت لي باقتضاب: إنها أمٌّ لثلاثة أطفال وإنها ترجو أن «أُقرِضَها» خمسين قرشًا من ميزانية السهرة وألا أُفصِح عنها لزميلتَيها؛ فإن أصحاب الملهى لا يدفعون لها ما يكفي من المال، وأنها تُخفي عن أطفالها حقيقة عملها الذي يجلبُ لها العار، وأنها تزعم في الحي الذي تقيم فيه أنها مُمرضة، وأنَّ لها اسمًا آخرَ يختلف تمامًا عن اسم الشهرة التي تظهر به في الملهى، وباختصارٍ أظهرَت نفسَها في صورة الضحية البريئة للمجتمع القاسي، ولم أعرف هل أصدِّق ما أسمع أم أكذِّبه، ولكنني دفعتُ لها ما طلبَته سرًّا، فأخفَت الورقة في طيَّات ملابسها، وحينما رأيتُ أن «معم» قد اندمج مع زميلته إلى حدٍّ لا تسمح به الميزانية طلبتُ من ماهر أن يحمله على الانصراف. ونهض ثلاثتُنا وانصرفنا.

وبعد يومين زارني «معم» وأخذ نقوده وانصرف، ولم أسمع عنه بعد ذلك؛ أي بعد رحيله إلى الكويت، وعندما عدتُ من إنجلترا عام ١٩٧٥م كنتُ أسير في شارع جانبيٍّ متفرِّع من أحد الشوارع المطلَّة على ميدان الجيزة، فلمَحتُه يسير وحده وناديته لكنه لم يسمع ندائي، وعندما انعطفتُ في حارة تابعتُه لكنه اختفى ولا أعرف أين ذهب حتى الآن.

ولم يكن «معم» إلا واحدًا من زملاء الكلية الذين اختفَوا من حياة القاهرة، وقُدِّر لي أن أرى بعضَهم في مناسباتٍ غريبة، مثل شخص يُدعى «الزغبي» (ولا أذكر اسمه الأول) قابلتُه بعد عودتي من إنجلترا وعاملتُه بحرارة، مستجيبًا للحرارة التي استقبلني بها في أحد المؤتمرات الاقتصادية التي عملتُ فيها بالترجمة، وفوجئتُ بعد قليل بأنه يُعامَل باعتباره رجلًا من كبار رجال الأعمال الأمريكيِّين، وسألتُه ضاحكًا: إنت بقيت مليونير؟ فردَّ ضاحكًا: أنا بدأت مليونير! دلوقتي عندي بيزنيس بمئات الملايين، وإن شاء الله نستثمر في مصر! ولم أرَه بعد ذلك.

أما المليونير الآخر الذي ما فتئ يظهر ويختفي فهو منسي يوسف. وقصة منسي قصةٌ لا تُنسى. ففي يومٍ من أيام أكتوبر ١٩٦٣م جاءنا فرَّاش القسم بالكلية (عم علي رحمه الله) ليقول إن الدكتور منسي في انتظار طلَبة الدراسات العليا. ولم أعرف أنَّ أحدًا في الكلية اسمه الدكتور منسي، فدفَعني حبُّ الاستطلاع إلى النهوض وذهبتُ إلى المكتبة فرأيتُ رجلًا رَبْعةً أسمر، يميل إلى الصلَع، ويُشبه رشاد رشدي إلى حدٍّ بعيد، وكان يجلس صامتًا وألقيتُ عليه التحية فردَّ بالإنجليزية «هالو». وكان أول انطباع لي أنه أمريكي زنجي، مثل الأستاذ «بوس» (Boas) الذي كان يُدرِّس الأدب الأمريكي مع «بوب هاتش» (Bob Hatch) للسنة الرابعة، ولكنني عرَفتُ فيما بعدُ أنه مصري.

كان اسمه بالكامل ميخائيل منسي يوسف بسطاوروس، وكان صعيديًّا قُحًّا، وقصته باختصار هي أنه جاء إلى رشاد رشدي وقال له إنه حصل على الدكتوراه في الدراما من جامعة لندن، وإنه يريد ترجمة مسرحياته إلى الإنجليزية ونشْرَها في لندن، وأضاف أنه يقوم بتدريس الدراما حاليًّا في الجامعة الأمريكية، ويودُّ أن يدرِّس للطلبة هذه المسرحيات، ولكنها — وللأسف — بالعربية! وبانتهاء الجلسة كان الدكتور منسي يوسف يتولى تدريس الدراما لطلبة الدراسات العليا، وحصل على خطابٍ من القسم، مختوم من الكلية، بأنه أستاذ الدراما.

وبعد أسابيعَ فوجئ الجميع بمقالٍ نقدي في الدراما منشورٍ في صحيفة الأخبار باسم الدكتور منسي يوسف، واتضح أنه ذهَب إلى مكتب وزير الإعلام وقدَّم نفسَه على أنه المتخصص الأوحد في الدراما ومستنكرًا استبعادَه من الصحافة، وعلى الفور اتصل الدكتور عبد القادر حاتم برئيس تحرير الأخبار واتفَق معه على تعيينه كاتبَ عمودٍ في الصحيفة!

وبدأ نَجْم منسي يوسف في الصعود حين أفصَح القدَرُ عن مفاجأةٍ لم تكن متوقَّعة؛ إذ رآه الدكتور شفيق مجلي الذي كان قد حصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من كلية بدفورد بجامعة لندن، كما رآه الدكتور عبد المحسن طه بدر الذي عاد من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن بعد أن قضى فترةً دراسية طويلة، وأنكر كلٌّ منهما معرفته بمنسي (وكان منسي يُصر على أنه حصل على الدكتوراه من الكلية الأولى، فلما حوصر أنكر وعاد يقول إنه حصل عليها من الثانية). وتردَّد في الوسط الفني أنه غيرُ حاصل على الدكتوراه، فطالبَته جامعة القاهرة بتقديم ما يُثبت حصولَه على تلك الشهادة، فتلكَّأ واعترَض وماطَل، ثم أقلع عن المجيء إلى الجامعة، ثم طالبَته الجامعة الأمريكية كذلك بأوراقٍ رسمية، وكانت النتيجةُ مماثلة، ثم طالبته الصحفُ بشهادة أو ما يُوازيها من أوراق، ولم يكن حظُّه أفضل، وذاتَ يوم وصل أحدُ أصدقائنا من خرِّيجي جامعة الإسكندرية، وضربتُ له موعدًا في فندق سميراميس، وكان يعمل في الإذاعة البريطانية في قسم الاستماع خارج لندن، وكان معنا في الجلسة (التي ضمَّتني أنا وسمير ورشاد رشدي ونعمان عاشور) منسي يوسف. وبمجرد أن وصل ممدوح عياد (صديقي الإسكندراني) حتى أخَذ منسي بالأحضان، وهو يصيح: مايكل! مايكل! يخرب بيتك! بتعمل إيه هنا؟

وقصَّ علينا ممدوح قصة مايكل (ميخائيل) الذي كان يعمل في الإذاعة البريطانية مترجِمًا، ويقومُ في نفس الوقت بالتمثيل في البرامج الهندية، مما كان يُعتبر مخالفًا للَّوائح، وبعد تحذيره عدةَ مرات، فصَلَته الإذاعة فجاء إلى مصر بقصة الدكتوراه! وكان اسمه أثناء وجوده في لندن مايكل بسطاوروس، واسمه في مصر منسي يوسف، وكان يزعم للهنود أنه هندي، وللإنجليزيِّ أنه من أصلٍ أفريقي متخصِّصٍ في لهجات أفريقيا السوداء، ولغيرهم أنه مِصري (وهذا هو الصحيح)، وأخيرًا سافر منسي فجأةً ليعود بزوجتِه الإنجليزية وأولادِه الأربعة — ولكنه لم يَعُد يظهر في الوسط المسرحي. وعندما ذهبتُ إلى إنجلترا عام ١٩٦٥م كنتُ أجلس في مطعم كلية بدفورد بجامعة لندن حين وجَدتُه مُقبلًا عليَّ مع فتاةٍ مصرية ذاتِ وجه مِصري مليح، قدَّمَها لي على أنها إحدى قريباته، وقال لي: لقد نجحتُ في إخراجها من مصر بأن أتيتُ بواسطة ضابطٍ كبير في قسم تأشيرات الخروج. وعندما سألتُه عن الضابط قال لي: أنا! اكتشفتُ أن ارتداء الزيِّ العسكري دون أوراقٍ رسمية لا يُعتبر تزويرًا، فدخلتُ المجمَّع (مُجمَّع التحرير) وأنهيتُ أوراقها ثم تخلَّصتُ من البدلة الرسمية! ولم أكن أريد أن أُصدقه، ولكن الذي حدث بعد ذلك جعلني أميلُ إلى تصديقه!

أعلنَت هيئة الإذاعة البريطانية عن رحلةٍ إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٦٦م بسعرٍ مخفَّض هو ٦٥ جنيهًا (ذَهابًا وإيابًا) للعاملين بها، واستطاع هو بطريقةٍ ما الحصولَ على تذكرة وسافر ولم يَعُد، وفي منتصف السبعينيَّات كان سعد الدين وهبة، الكاتبُ المشهور، في زيارةٍ لأمريكا حين التقى بصاحبنا الذي عرَض عليه شراءَ إحدى محطات الإذاعة الأهلية التي يملكها، ولما سألني سعد وهبة قصَصتُ عليه قصتَه، ولم أسمع عنه شيئًا على مدى السنوات العشرين الماضية!

وكان نمط القدوم والرحيل — وهو ما أحسَسْناه في مسرح تشيخوف — قد وجد طريقه إلى قسم اللغة الإنجليزيَّة أيضًا! وكان من آفات هذا القسم وجودُ عدد من «غير المنتمين»؛ أي الذين لا يرون أنهم من المصريِّين حقًّا وصدقًا، وقد يكون أحدُهم «نصف مصري»؛ أي أن تكون له أمٌّ أجنبية، يتعلَّم منها اللغةَ الإنجليزية فيتفوَّق في الدراسة في القسم ثم ما يلبث أن يهجر مصرَ إلى الأبد، وقد يكون مصريًّا خالصًا لكنه يشعر بأنَّ جذوره مبتوتةٌ بالمجتمع المصري بسبب ضعفه في اللغة العربية، وكان من بينِ زملائي — من النوع الأول — سلمى غانم التي عادت آنَذاك بالدكتوراه؛ إذ حصلت عليها في زمن قياسي، وكان أبوها هو محمد محمد غانم مفتِّش أول اللغة الإنجليزية وأمها اسكتلندية، ولم تلبث سلمى، كما ذكرت، أن هاجرَت إلى كندا، واصطحبَت معها زوجها الطبيب، ثم انقطعت أخبارُها عنا إلى الأبد! وكان من زملائي — من النوع الثاني — عايدة فراج طايع وعمرو حسن برادة اللذان هاجَرا إلى كندا والولايات المتَّحِدة، على الترتيب، واختفَت الأولى، ولم نَعُد نسمع عنها، بينما ظل عمرو وفيًّا لأسرته في مصر، يزورهم من حينٍ لآخَر، وعندما رأيته آخرَ مرة، كانت معه امرأةٌ أمريكية في منتصف العمر — وكان ذلك في أوائل التسعينيَّات — قدَّمَني إليها ثم قدَّمَه إليَّ قائلًا: «جلوريا .. خطيبتي!» ووقفنا نتحدثُ عدة دقائق، وأنا أحاول إحياءَ بعض بذور الصداقة القديمة التي ذَبُلَت، فوقفتُ أحادثه وأستطلعُ أخباره، فأخبرني أنه اتجهَ إلى دراسة علم النفس، وأنه تخصَّص في تعليم اللغة الإنجليزية للأجانب من ضِعاف العقول أو من المعوقين (ونحن في مصر نُسميه «المتخلفين عقليًّا»)، خصوصًا من أبناء البلدان العربية الغنية جدًّا، وقال لي إن معظم هؤلاء يَدرُسون في أمريكا فيما يُسمى بالتعليم العلاجي، وأعدادهم كبيرةٌ جدًّا، وأموالهم طائلة. وقال لي إنه، باعتباره عربيًّا، يستعينُ في تعليمهم الإنجليزيةَ بشذَرات اللغة العربية التي يعرفها، وإن دراسة علم النفس أتاحت له عملًا مربحًا.

وكانت هجرةُ «أنصاف المصريين» الذين يفوزون بالبعثات الدراسية ويتعلَّمون في الخارج على حساب الشعب تُؤلِمُني كثيرًا؛ فما أزال أرى أنَّ مهمة دارِس اللغات الأجنبية هي أن يكون وسيطًا بين علوم الغرب وفِكره وبين التراث العربيِّ الحي، لا أن يختفيَ من حياتنا بعد أن علَّمناه وأنفَقْنا عليه الآلاف (بل عشَرات الآلاف) وأعطيناه مَزايا كان غيرُه أولى وأحقَّ بها. ولذلك كنتُ وما أزال أهتمُّ بالأدب العربي وباللغة العربية اهتمامًا يُوازي، إن لم يكن يَفوق اهتمامي باللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي.

٦

كانت سلسلة النقد الأدبي — وهي الكُتيبات التي شاركتُ فيها بالنقد التحليلي، وشارك فيها سمير سرحان ﺑ «النقد الموضوعي»، والدكتور فايز إسكندر ﺑ «النقد النفسي»، وعبد العزيز حمودة ﺑ «علم الجمال» — بمثابة الثمرة الثانية لحركة النقد الأدبي العربي المعاصر، فقبل ذلك كانت كتبُ النقد ذاتَ طابَعٍ عام أو خِلافي، فكتاب الدكتور محمد مندور «النقد المنهجي عند العرب» (وهو فيما علمتُ رسالتُه التي تقدَّم بها للدكتوراه) يرصد النقدَ العربي بصفةٍ عامة مُركزًا على المنهج الشكليِّ أو اللُّغوي في التراث، وكتابه العظيم الآخر «في الميزان الجديد» يُقدم كما سبق لي أن ذكرتُ منهجَ شرح النصوص وهو المنهج الفرنسي الذي أدى في النهاية إلى مولد المدارس الفرنسية الحديثة التي يُطلق عليها اسم المدارس النظرية أو «النظرية» فحَسْب، وكانت المحاولات الأخرى من جانب كبار الأساتذة مثل ترجمة الدكتور محمد مصطفى بدوي لجورج سانتيانا، وكتاب الغنيمي هلال عن الرومانسية، تُمثل جهودًا تستلهمُ المبدأ الذي وضعه طه حسين منذ مطلع العشرينيات وهو اعتبار الأدب فنًّا لُغويًّا في المقام الأول، أو كما كان يقول دائمًا «باعتباره فنًّا جميلًا يتوسل باللغة». وكنت قرأتُ مقدمتَه (التي نشرها على صورة تذييلٍ أو ذيل) لكتاب «فجر الإسلام» لأحمد أمين عام ١٩٢٣م، فشهدتُ له بالريادة، ورأيتُ أن تلاميذه الكبار (من أمثال لويس عوض وسهير القلماوي) كانوا يُمهدون الطريق لحركةٍ نقدية بنَّاءة، وكانت السلسلة التي يُشرف عليها رشاد رشدي ونُشارك فيها بمثابة الثمرة «الثانية» كما قلت، بمعنى أنها تؤكِّد وجود الشجرة، وتَعِدُ بالمزيد من الثمار!

ولكنها كانت كتبًا محدودةَ النطاق إلى درجةٍ كبيرة؛ فكلٌّ منها يُقدم ناقدًا أجنبيًّا بعينه؛ إذ قدَّمتُ أنا «كلينت بروكس»، وقدَّم سمير سرحان «ماثيو أرنولد»، وقدَّم فايز إسكندر «أ. أ. ريتشاردز»، وقدَّم حمودة «كروتشي». وكانت إلى ذلك تُركز على فنيَّة الفن أو أدبيةِ الأدب، مما أوحى للبعض بأن حركة النقد الجديد التي كنا نرصُدها في أمريكا وأوروبا حركةٌ تُنكر صِلةَ العمل الأدبي بالمجتمع أو بالحياة المادية الواقعية خارجَ نفس الفنان أو خارجَ العمل الأدبي، وكان ذلك بعيدًا كلَّ البعد عن الواقع. فالهدف الأساسيُّ من السلسلة كان إلقاءَ الضوء على جانبٍ من جوانب الأدب لم يترسَّخْ بعدُ الرسوخَ اللازم، ولم يكن معنى التركيز على جانبٍ تجاهُلَ الجوانب الأخرى، ولكن أنصار «النقد الأيديولوجي» — على اختلافهم — رأَوْا فيها فرصةً سانحة للهجوم على رشاد رشدي الذي كان نجمه قد سطع، وكان يتمتَّع بالقُدرة على مُجالَدة الخصوم مهما كَثروا والانتصارِ عليهم!

وكانت جماعة «النقد الجديد» التي كوَّنها رشاد رشدي في العام السابق تضمُّ نقادًا وكُتَّابًا لا يمكن أن ينتموا جميعًا إلى النقد الجديد، وأذكر أننا اجتمعنا ذاتَ مرة حول مِنضدة كبيرة في المسرح القومي، وكان من بين الجالسين سعد الدين وهبة، ونعمان عاشور وعبد المنعم سليم، وأننا اجتمعنا مرةً أخرى في مجلة «بناء الوطن» في مجلس قيادة الثورة القديم بالجزيرة، وكان من بين الحضور الدكتور محمد صقر خفاجة والدكتورة سهير القلماوي! وأننا عقَدْنا ندوةً لمناقشة التطور الموسيقيِّ لمحمد عبد الوهاب، حضرها الموسيقار الكبير بصُحبة صديقه الدكتور مصطفى محمود، وكان المحاضر هو سليمان جميل، والمعلق هو سعيد عزت! ومع ذلك، ورغم اختلاف النزعات والاتجاهات، أحسَّ كبار نقاد العربية، خصوصًا من أبناء دار العلوم، بخطورة «الحركة»، وسرعان ما كوَّنوا جماعة «النقد القديم» وكانت تضمُّ الدكتور الغنيمي هلال، ومحمد مندور، وعبد القادر القط … وآخَرين! وكتَب الدكتور هلال «مانيفستو الجماعة» الذي ركَّز فيه على الرسالة القومية للأدب، وكان في ذلك يُناشد السلطة أن تناصر الجماعة «المحافظة» وأن تحميَ المجتمع من دعاة «الفن للفن»، ولا شك أن رشدي كان يتوجَّه من طرْفٍ خفي أيضًا إلى السلطة؛ طلبًا للحماية من «التيارات الشيوعية»!

كان اللون السياسي مُقحَمًا على المعركة، مما جعل الكثيرين يُحسون بأنها لم تكن معركةً أدبية «خالصة»، ولكن النتيجة كانت لونًا من الاستقطاب؛ فالاشتراكية التي تدعو إليها الدولة رسميًّا تتضمَّنُ جوهرًا من المبادئ السامية التي لا يمكن لعاقلٍ أن يُنكرها، وكان بعض أفراد «جماعتنا» من أعضاء اليسار المشهود لهم بالامتياز؛ مثل لطفي الخولي ولطيفة الزيات! ولذلك كان من التبسيط المخلِّ تقسيمُ التيارات الأدبية حينذاك إلى يمينٍ ويسار، أو إلى مناصري الفن ومناصري الأيديولوجيا؛ فكلٌّ من الجانبَين يُسلِّم بأن الآخَر على حقٍّ في بعض المبادئ الأساسية، بل وفي المبدأ الجوهري الأول وهو أن يكون الفنُّ فنًّا، وإن كان فريقُ النقد الجديد يُفضِّل إقصاءَ الاعتبارات غير الفنية عند «الحُكم على قيمة» العمل الأدبي، بينما يُصرُّ فريق النقد القديم على أن تكون لهذه الاعتبارات أهميةٌ أولى، إلى جانب تفضيل فريقِ النقد الجديد إرجاءَ الحكم على القيمة إلى ما بعد التحليل الفني، وتفضيل فريق النقد الجديد إلى أن يكون الحكمُ هو الأساس، وأن يكون المعيار هو الفكر أو الأيديولوجيا جنبًا إلى جنبٍ مع الفن!

ولم أكن آنذاك مُولَعًا بالنظريات، بل كان همِّي هو الكتابة الإبداعية، ونجحتُ خلال عام ١٩٦٣م في حجز مكانٍ لدراسة الأنثروبولوجيا بجامعة أكسفورد، كما استطعتُ حجز مكان لدراسة علم اللغة الحديث بمعهد الدراسات الشرقية بجامعة لندن. ولكن عام ١٩٦٣م شهد بُزوغ نَجْم علي صبري، ووصولَه إلى رئاسة الوزارة، وكنتُ أعرف من صديقي فتحي رضوان أخبارَ الصراع في دوائر السلطة العليا بين فريق عبد الحكيم عامر وفريق عبد الناصر؛ فالصداقة بين الرجلين لم تمنع أن يكون لكلٍّ منهما رجاله، فكان الأول عدُوًّا لعبد القادر حاتم، فيما علمت، وكان ذلك وراء عرضه بالتحقيق في موضوع مسرحيتي؛ لأنه كان يترصَّد الأخطاء له في مسرح التلفزيون، وكنتُ أتابع ما يدور من بعيد فأنا لا أحبُّ السلطة بطبيعتي وأنفرُ منها. ولكن قرار علي صبري آنذاك بمنع المواطنين من السفر إلا بموافقةٍ شخصية منه جعلنا جميعًا نحسُّ بالسلطة ونعمل لها ألف حساب.

صدر في صيف ١٩٦٣م كتاب «درايدن والشعر المسرحي» (دار المعرفة)، وبعده بقليلٍ صدرَت ترجمتي لكتاب «حول مائدة المعرفة» (دار فرانكلين) وكان على غلاف الأول اسمي واسم مجدي وهبة، وعلى غلاف الثاني اسمي واسمُ المراجع عثمان نويَّة، واسم كاتب المقدمات — عباس محمود العقاد! ولكنَّ انشغالي الأولَ في الصيف كان بمسرحية البرِّ الغربي! كانت المسرحية تُصور كيف تصنع قريةٌ على شاطئ النيل الشرقيِّ صورة البطل الذي يتَّخذ صورةَ الخُطِّ أو السفَّاح أو المجرم العاتي، فهو ما يُسمى في النقد بالبطل الضد، ولكن القرية تُحس بأنها في حاجةٍ إليه باعتباره الخطرَ القائم في الشاطئ الغربي، والذي تفصلُها عنه مياه النيل! إنه «قوة» غامضة، وقد يكون شخصًا لا وجود له، ولكنه يُعتبر «الخطر» الذي يُوحِّد جهود أبناء القرية، ويجعل لها «قضية»، وإذا كان صحيحًا أن القرية قد تعايشَت مع هذا الخطر باعتباره قدرًا لا فَكاك منه، فإنها لا تنفكُّ تحلم بزواله، وتبدأ الأحداث الحقيقية في المسرحية حين «يُشاع» أن ذلك المجرم قد قُتل، ويُتَّهم بقتله مدرسٌ بسيط، وهو بطبيعة الحال بريء، وعندما يُطلَق سراحه ويعود إلى القرية، يجد مِن جانب الجميع تمجيدًا وإكبارًا وإجلالًا «يوهمه» أنه حقًّا بطل! وسرعان ما يتحوَّل البطل المنقذ إلى خطرٍ داهم، وهو خطرٌ يعيش بين ظَهرانَيهم هذه المرة، ولا تَفصلُهم عنه مياهُ النيل! ويتمثل جوهر المسرحية في التحوُّل الذي ينتابُ «البطل» المزعوم؛ إذ يتحول إلى «بطل ضد»، ويصبح خطرُه محسوسًا؛ فهو يفرض الإتاوات ويتحكَّم في الحياة الاقتصادية بل وفي الحياة اليومية للقرية، حتى نصلَ إلى ذروةٍ تُحسُّ فيها القرية بحاجةٍ ملحَّة إلى التخلص منه! وعندما يقتل «البطل الجديد» تَنسبُ القرية شرفَ الخلاص إلى شخصٍ أبعدَ ما يكون عن البطولة، وهو عبيط القرية! ومثلما حدَث للمدرِّس البسيط، يُطلَق سراح العبيط ويعود إلى القرية لتُكلَّل هامتُه بأكاليل الغار، ومِن ثَمَّ يُصبح «البطل الضد» الجديد!

وهكذا تنتهي المسرحية. والبطولة فيها ولا شكَّ ليست للأفراد بل للمجموع، وهو مجموعٌ يعيش في ظلِّ تُراثٍ رهيبٍ من الظلم والقهر، جعَله يعتمد على وجود «خطرٍ ما»، سواءٌ كان هذا الخطر حقيقيًّا أو متوهَّمًا، وأما الخطر كل الخطر فهو أن يتحول «الخطر البعيد» إلى «خطر قريب» يعيش بين ظَهرانَي أهالي القرية، والشخصيات التي تُصورها المسرحية ليست فقط شخصياتٍ «واقعية»، بل أكاد أقولها إنها حقيقيةٌ بمعنى أنني لم أكن «أختلقُها» بل أكاد أنقلُها من الواقع نقلًا! كانت فكرةُ استبدال خطرٍ داخلي بخطر خارجي مُستوحاة، بطبيعةِ الحال، من الواقع السياسي، وربما كانت قصة «الخوف» التي كتبَها نجيب محفوظ ورواها الدكتور محمد أنيس تَكمُن في مكانٍ ما من ذهني، ولكنني كنتُ أحس بوجود مغْزًى معيَّن على المستوى النفسي، أي على المستوى الفردي، لأحداث المسرحية، فالوهمُ عامل نفسي فردي، وقد يسيطر على الجماعة، ولكنه يظل فرديًّا في النهاية!

وبعد كتابة المسرحية قرأتُها، بحضور سمير سرحان، على الدكتور رشاد رشدي فاقترح بعضَ التعديلات التي أجريتُها فورًا؛ إذ كانت طفيفة، واقترح حذف المشهد الثاني من الفصل الثاني لأنه مُمل ويوقِف سَيْر الحدث! وأظهرتُ أو تظاهرت بالموافقة ولكنني أبقيتُ عليه. وبدأنا بعد ذلك إجراءاتِ التقدم بها رسميًّا إلى مسرح الحكيم الذي كان المخرج العظيم جلال الشرقاوي قد تولَّى إدارته، وعمليةَ إسنادها إلى أحد المخرجين. واقترح جلال الشرقاوي مُخرجًا عاد لتوِّه من البعثة الدراسية إلى المجر اسمه كمال عيد (الدكتور). وبعد أن قرأها كمال قال لي إن بها شبهًا من مسرحيةٍ أيرلندية هي The Playboy of the Western World للمؤلف سينج! (فتى الغرب المُدلَّل) ولم أكن قد قرأتُ تلك المسرحية ولكنني لم أعترض. واصطحبَني كمال إلى منزله بحدائق القبة، وعرَّفني بأسرته، وكان قد تزوج من فتاةٍ مجَرية رائعة الجمال، وعندما أبديتُ إعجابي بهذا الإنجاز قال لي بفخر: «أبوها جنرال شيوعي كبير!» وكان الواضح أن انبهاري بجمالها قد زاد عن الحدِّ فهمس لي: «عارف أنا ازاي نجحت؟ رحت لهم البيت على طول!» وبعد دراسة للنص استمرَّت حتى الهزيع الثاني من الليل، اقترح أن أبيتَ معهم، وفعلت، وفي الصباح اتَّجهنا إلى المسرح حيث قدَّم كمال قائمةً بالممثلين الذي يريدهم إلى جلال الشرقاوي. وكان جلال حاسمًا في رفضه للقائمة إذ أصرَّ على أن يقوم بجميع الأدوار أبطالُ «فرقة مسرح الحكيم» مع الاقتصار على نجم أو نجمَين فقط من خارج الفرقة. ورفَض كمال، وانسحب، ووُضعت المسرحية في الدرج.

كان المقرَّر أن تَعرض فرقة الحكيم مسرحيةً واحدة في الشهر، يتم تصويرها تلفزيونيًّا ثم يُعرَض غيرها، وكانت مسرحية الافتتاح هي «بيجماليون» من تأليف توفيق الحكيم طبعًا، وكان المخرج هو نبيل الألفي. وكان المقرَّر أن يعرض المسرح بعدها مسرحية «الأرانب» من تأليف لطفي الخولي وإخراج جلال الشرقاوي، وبعدها البر الغربي. وكانت بروفات مسرحية «بيجماليون» تسير على قدمٍ وساق، حين اقترَح أحدُهم إسناد «البرِّ الغربي» إلى محمود مرسي، وكان يُشاع أنه قد عاد من أمريكا وأنه قادر على صُنع المعجزات. وبعد أن قرأ محمود النص، اتصل بي تليفونيًّا وضرب لي موعدًا في سميراميس (في مقهى الفندق الذي أصبح مكانَ اللقاء المعتاد). وعندما قابلتُه في المساء قال لي: «إنت ناوي تسافر بعثة وتشتغل في الحكومة؟ يعني خايف على مستقبلك الأكاديمي والعملي؟» ولمَّا أبديتُ دهشتي لهذه الأسئلة قال لي: «أنصحك تنسى «البر الغربي»!» وبدأ في تحليل النصِّ تحليلًا غريبًا وغير متوقَّع، انتهى منه إلى أن المسرحية «ضد النظام» وأنها تسخر في الواقع من الحُكَّام، وعلى رأسهم طبعًا .. جمال عبد الناصر! وذهبَت اعتراضاتي أدراجَ الرياح؛ إذ انتهى بالاعتذار عن إخراجها لأنه يخشى على مستقبله، قائلًا بضحكةٍ مكتومة: «العمر موش بَعْزقة!»

في عام ١٩٦٢م كان من بين الخريجين عددٌ كبير من الموهوبين في الترجمة، وكنتُ أعلِّمهم الترجمةَ بعد تخرُّجي، أهمهم شابٌّ نابهٌ قُدِّر له أن ينضم إلى الشلة هو فاروق عبد الوهاب، وكان من بين أفراد تلك المجموعة عددٌ قُدِّر له أن يَشغَل مناصب كبيرة في الهيئات الدولية مثل شوقي مدبولي مصطفى الذي أصبح الآن رئيسًا للقسم العربي بهيئة الطيران المدني الدولية في مونتريال بكندا، وعبد العليم الأبيض الذي يعمل مستشارًا إعلاميًّا لمصر في الولايات المتحدة، وأيمن الأمير الذي يعمل رئيسًا لدائرة الإعلام بالأمم المتحدة في نيويورك، ومحمد العليمي الذي عمل مترجمًا ومراجعًا بالأمم المتحدة فترةً طويلة. وقد استفاد الجميع فائدة كبيرة من إعادة إنشاء وكالة أنباء الشرق الأوسط، خصوصًا القسم الإنجليزي الذي كان يُشرف عليه زين العابدين نجاتي (أخو الدكتور عثمان نجاتي أستاذ علم النفس بالكلية)، إذ تعلَّموا في الوكالة فنونَ الترجمة الإنجليزية والفنون الصحفية الأخرى، وكانوا جميعًا من أصدقائي المقرَّبين، بينما كنتُ أنا ما زلت في بحث دائب عن مكانٍ مستقل أبتعد فيه عن الناس وأخلو لنفسي وعملي الذي لا ينقطع.

كان صديقي الحميم أحمد السودة قد عُيِّن وكيلًا للنيابة الإدارية، وهي الهيئة التي كانت قد أُنشئت من فترةٍ قصيرة، ولكنه كان يتردد — ريثما يتمُّ تعيينه — على مكتب أحد المحامين الأذكياء واسمه محمد عبد المطلب، وكان مكتبه يقع في عمارة أنور وجدي بباب اللوق، وكنت أتردد مع صديقي على هذا المحامي، وهناك تعرَّفت على بعض المحامين كان أهمهم كمال خالد الذي قُدِّر له أن يشتهر فيما بعدُ بالدفاع عن القضايا السياسية. وفي عام ١٩٦٢م ترك محمد عبد المطلب المكتب، وترك لي مفتاحه حتى أستخدمَه في الكتابة حينما أريد، ومِن ثَمَّ نقَلتُ إليه بعض الأدوات المكتبية والأشياء التي تَلزمني ومن بينها العود القديم الذي كنت اشتريته من محمود علي.

وفي الوقت نفسه شاركتُ أحد الأصدقاء في استئجار شقةٍ في شارع الإخشيد بالروضة، وكنتُ أختبئ فيها عن الدنيا والناس حين أريد التركيز في عمل أدبي أو في ترجمة شيءٍ ما، وكان إيجار الشقة ثمانية جنيهات في الشهر، أدفع منها أربعة، وأتولى الإنفاق على كل مستلزماتها أثناء سفره؛ إذ كان يعمل في الخارج ولا يعود إلا في الصيف. وفي خريف عام ١٩٦٣م كان شغلي الشاغل هو أن ترى «البر الغربي» النور، فكنتُ أقضي ساعاتٍ طويلةً في تنقيحها أو في ترجمة مسرحية شكسبير «حلم ليلة صيف» دون أن أحلم بنشرها، فمَن أكون إلى جانب أساطين الترجمة الأدبية في بلادنا؟ ولكنني كنتُ أكتب الشعر الذي أحتفظ به لنفسي بعد أن قرَّرتُ هجرة هذا الفن «على المستوى العام»!

كانت مَزيَّة شقة الروضة هي أنها تُطِل عبر النيل على كازينور! فكنت أعبر كوبري عباس للانتقال من المقهى إلى الشقة أو العكس، وقد أبقيتُ هذه الشقة سرًّا كاملًا حتى لا يعرفها الأصدقاء فتُراودهم نفوسُهم باستغلالها لأغراضٍ لا أرضاها، وكثيرًا ما كنتُ أقضي الليل كلَّه جالسًا إلى المنضدة التي اتَّخذتُها مكتبًا حتى يبزغ الفجر، ثم أسير مع النسمات الأولى للصباح حتى ميدان الجيزة ثم أستقلُّ الأتوبيس إلى منزلنا فأنام حتى الظهيرة!

وفي خريف عام ١٩٦٣م بدا لنا جميعًا أن أحلام السفر قد تحطمت على صخرة علي صبري، وأن المستقبَل الأكاديمي كئيبٌ مُظْلم، وكان أصدقاؤنا يُشفقون علينا من المأزق الذي نعيش فيه، فلا نحن انتهينا من رسائل الماجستير، ولا نحن سافرنا، ولا نحن حقَّقْنا أمجادًا أدبية مما كنا نطمحُ فيه. وناقشتُ الأمر ذات يوم مع الدكتور مجدي وهبة فقال لي: عليك بالصبر؛ فأنت ما زلت صغيرًا، والحياة الجامعية «حبالها طويلة»، ودعاني إلى فنجان قهوة في المساء في «لاباس» (بشارع قصر النيل) مع بعض الأصدقاء، ودُهِشت عندما ذهبت؛ لأن هؤلاء الأصدقاء كانوا يعرفونني جيدًا، وبعد محاورات قال أحدهم: لقد كلَّمت لطفي الخولي في الموضوع، وهو على استعداد لمساعدتك في موضوع السفر وموضوع المسرحية! وفعلًا عندما قابلت لطفي الخولي قال لي: «المسرحية حلوة وجريئة وضد الدكتاتورية .. وإحنا بلد ضد الدكتاتورية .. ولازم ألاقي لك مُخرج تقدُّمي يعملها!» أما البعثة فقال إنه يعرف وزيرًا مُفوَّضًا اسمه سميح أنور يستطيع مخاطبة علي صبري في الموضوع.

وكان المخرج التقدمي هو عبد القادر التلمساني الذي قرأ النصَّ في ديسمبر، ولم يتمسَّك بأيِّ ممثِّلين من النجوم، ولكنه اقترح بعض التعديلات؛ من بينها حذف مشهد الأراجوز الأخير، وهو فعلًا أسوأُ مشهد في المسرحية. الغريب أن كل مخرج كان يقول لي ما قاله رشاد رشدي من ضرورة حذف المشهدِ الثاني من الفصل الثاني! وقد حذفه المخرجُ هذه المرةَ دون استشارتي!

وفي ديسمبر كان هناك حدثان مهمان يلوحان في الأفق؛ أولهما اقتراب موعد غناء أم كلثوم من تلحين عبد الوهاب، والثاني صدور مجلة المسرح التي يرأسها رشاد رشدي ويعمل في سكرتارية تحريرها سمير سرحان وأنا. وفي مُستهل عام ١٩٦٤م افتُتح مسرح الحكيم بمسرحية «بيجماليون» — وكان البطل هو حسين الشربيني، والبطلة بثينة حسن (التي كانت آنذاك زوجةً للممثل حسن مصطفى). وكان العرض مُحزنًا كئيبًا؛ فالأبطال يتكلمون العربية الفصحى، ويحاولون إقناعنا أنهم يعيشون في بلاد اليونان القديمة، وراقصات الباليه يفتقرنَ إلى الحد الأدنى من اللياقة البدنية، ويتحركن بصعوبة شديدة على المسرح، وكانت الأضواء خافتةً على المسرح توحي بالانقباض والهمِّ المُقيم، وكان من الطبيعي أن تفشَل المسرحية جَماهيريًّا فكان الإيراد اليوميُّ يتراوح بين جنيهٍ واحد وجنيهين.

ورغم التهليل الإعلامي لتوفيق الحكيم، أُغلق العرض المسرحي بسرعة، وأثناء العرض الكئيب كنَّا نعمل بجِدٍّ ونشاطٍ في إخراج مجلة المسرح، فكلَّفَني رشاد رشدي بكتابة مقال عن مسرحية آرثر ميلر وعُنوانها «مشهدٌ من الجسر» التي كانت تُعرَض في القومي، وجُمِعَت المقالات وتمَّت في وقتٍ قياسيٍّ طباعة ألْفَي نسخة، ثمن النسخة خمسة قروش، وكان تاريخ الصدور العاشر من كل شهر، وكان تاريخ صدور العدد الأول هو ١٠ فبراير ١٩٦٤م (وكان يوم جمعة). وقابلتُ ماهر البطوطي في صباح ذلك اليوم وذهبنا إلى ميدان الجيزة لشراء عدة نُسَخ من المجلة، فلم نجد سِوى نسخة واحدة، كانت الأخيرة؛ إذ نَفِدَت الأعدادُ عن آخرها!

كان الناس يتحدثون أيضًا عن «إنت عمري» أغنية أم كلثوم التي لحَّنها عبد الوهاب، وكان الجو قد سرَت فيه الحياة والحيوية فجأةً رغم برد الشتاء! واجتمعنا في إدارة المجلة في اليوم التالي، حيث اقترحتُ على رشاد رشدي ضمَّ فاروق عبد الوهاب إلى سكرتارية التحرير فوافق، واقترح أحد الحاضرين مضاعفةَ عدد النسخ المطبوعة، فقال رشاد رشدي: في الشهر القادم نطبع ستة آلاف! والواقعُ أن الستة آلاف بِيعَت في نفس اليوم، وزاد العدد في الشهر التالي إلى ثمانيةٍ فنَفِدَت النُّسخ، ولكن عندما طبَعْنا عشَرة آلاف، كان هناك «مرتجع» فعَلِمنا أن حجم السوق لا يَزيد عن عشرة آلاف! وفي فبراير أيضًا سافر عبد العزيز حمودة إلى أمريكا، ويبدو أنه كان قد حصل على منحةٍ ساعدَته في التغلُّب على قيود علي صبري، ولكننا لم نحزن لعدم السفر، فكان في المجلة ما يَشغلُنا أنا وسمير!

٧

في مارس ١٩٦٤م عَكَفتُ على الانتهاء من ترجمة «حلم ليلة صيف»، تحفة شيكسبير الشعرية، دون أن أستطيع مُجاراتَه نظمًا! ولكنني عندما وصلتُ إلى المشهد الأخير تمكَّنت من إخراج بعضِ ما فيه نظمًا، وكانت فرحتي به تُعادل فرحةَ مَن كتب شعرًا أصيلًا غيرَ مترجم! وكان مقرُّ المجلة في الطابق الأول بمسرح محمد فريد خلية نشاط، يلتقي به جميعُ المهتمين بالمسرح من كُتَّاب ونقاد وفنانين في شتى التخصصات، وكان رشاد رشدي أستاذًا في فنِّ العلاقات العامة، مثلما كان أستاذًا في الأدب الإنجليزي وفي الكتابة المسرحية. فكان قادرًا على «تطويع» أيِّ موقف واستغلاله لصالحه، خصوصًا من خلال ما كان سمير سرحان يُسميه «الاستثمار البشري» أي اعتبار المعارف والأصدقاء رأسَ مال لا بد من استثماره بالصورة الصحيحة، وكان قد تمكَّن من عقدِ صداقة مع الوزير عبد القادر حاتم، فكان يخرج علينا بين الفَيْنة والفَينة بقرارٍ وزاري جديد يُدعِّم النشاط الثقافي ويُشيع الأمل في أوساط الشباب؛ إذ تلا إصدارَ مجلة المسرح إصدارُ عدد من المجلات الثقافية، مثل مجلة «القصة» التي كان محمود تيمور يرأس تحريرها، ومجلة «الفكر المعاصر» التي تولَّاها زكي نجيب محمود، ومجلة «الشعر» التي كان يرأس تحريرَها د. عبد القادر القط، ومع أن هذه المجلات لم تكن تتمتَّع بشعبية «المسرح» فقد التفَّ حولها الكثيرون، ولكن وجود المسرح جعل الكثيرين يتَّجهون للكتابة إليه، حتى من بينِ مَن لم يحاولوا ذلك من قبل، مثل أنيس منصور (الذي كتب مسرحية فكاهية اسمها «حِلمك يا شيخ علَّام» وترجم بعضَ المسرحيات العالمية) ويوسف إدريس، الذي كان معروفًا بانحيازه للقصة القصيرة، وكان مسرح التلفزيون (أي فِرَق المسرح الخمسة التي تُقدم المسرحيات بغرض تصويرها تلفزيونيًّا) نشاطًا دائبًا لا يتوقَّف، وازدهر معهد التمثيل لأن الخريجين أصبحوا يعملون بسهولة، بل ويستطيعون أن يَحلموا بالمجد والثراء من المسرح الجاد. كانت الفِرَق هي: مسرح الحكيم، والمسرح الحديث، والمسرح العالمي، والمسرح الكوميدي — ومسرح الطليعة الذي كان ما يزال يُسمَّى مسرح الجيب. أما المسرح القومي فكان المسرح العتيدَ الذي يضمُّ أعظم الفنانين وأرسخَهم قدمًا، وكان رشاد رشدي قد قدم إليه مسرحية «رحلة خارج السور» ليعرضها في إبريل من إخراج سعد أردش.

كانت الغيرة من رشاد رشدي وتلاميذه قد بلَغَت أوْجَها في تلك الأيام، وكانت لجنة القراءة بالمسرح القومي قد حاولَت إعاقة رشدي عن تقديم المسرحية في أكتوبر ١٩٦٣م بأنْ قرَّرت رفضها، فلما اعترض رشدي قائلًا إن اللجنة لم تقرأها — وكان هذا هو الواقعَ — أصدر الدكتور علي الراعي قرارًا بإحضار المؤلف لقراءتِها على اللجنة. وكان علي الراعي قد فرَض اسمه على الساحة الأدبية عن طريق نشر ملخَّصاتٍ للمسرحيات العالمية في المجلات — مثل مجلة الإذاعة — مثلما فعل لويس عوض من قبله في صحيفة «الشعب» التي توقَّفَت، وكانت اللجنة تضمُّ بعض الفنانين إلى جانب محمد مندور ومحمد القصَّاص، وقد عُقِدَت أولى جلسات القراءة في أول نوفمبر، وكان أحمد حمروش (مدير المسرح) يبتدعُ حِيَلًا لتشتيتِ انتباه اللجنة أثناء القراءة؛ إذ كان الكاتبُ يعتبر ممثلًا لليمين وجميع مَن عداه ممثلًا لليسار، وكان بعض الأعضاء ينهضون للخروج ثم يعودون أثناء القراءة، مما أدى إلى فشل الجلسة واعتراضِ رشاد رشدي وانسحابه.

ولم يكن أمام رشاد رشدي سوى التظلُّم إلى الوزير الذي شكَّل لجنةً أخرى تضم ممثلين لتياراتٍ أخرى من بينها اليسار «المتعاطف» مع رشدي، فأجازت اللجنةُ النص، وكلَّف المسرح سعد أردش بإخراجها. ولا أدري مدى تواطؤ إدارة المسرح مع القيادة اليسارية لإفشال العرض، ولكن البروفات كانت كثيرًا ما تتوقف، أو كان الممثِّلون ينسحبون دون إنذار، ولكن البروفات اكتملَت على أي حالٍ وعُرِضت المسرحية في إبريل ١٩٦٤م، في الوقت الذي عُرضت فيه «البر الغربي» في مسرح الحكيم. وكانت التعليمات لدى كتَّاب صحيفة «الجمهورية» — وهي صحيفة الثورة الرسمية — تقضي بمهاجمة رشاد رشدي، وفعلًا بدأَت المقالات تُنشَر لمهاجمة العرض، رغم روحه «التقدمية» المتفائلة، بسبب التقعُّر في فن الكتابة المسرحية، ولكن الهجوم الأكبر كان على مسرحية «البر الغربي» التي شاع في الوسط الفني أنها ضد الحكومة، بل ضد رأس النظام؛ فهي متشائمة، وهي تُصور الناس تصويرًا أبعدَ ما يكون عن الواقع لأنَّ الشعب في عُرف الاشتراكية لا بد أن يكون عبقريًّا متفتحَ الذهن؛ ومِن ثَمَّ فإن الزعيم الذي يختاره الشعبُ لا بد أن يكون كذلك! وتزَعَّمَ حملةَ الهجوم على محمد عناني (وقيل لي إن الهجوم كان مُوجهًا في الواقع ضد رشاد رشدي) كاتبٌ صغير اسمه جلال السيد (رحمه الله) ورَهْطٌ من زملائه، وكان أهم ما يُقال هو كيف نُصور الشعب الذي يُضحي بأرواحه في حرب اليمن في هذه الصورة المؤسفة؛ صورة الغارق في الأوهام والخرافات، صورةِ مَن يخلق البطل الضد حتى يجنيَ على نفسه؟

وكتب محمود أمين العالم مقالًا طويلًا استغرق صفحةً كاملة في الجمهورية يُقارن بين المسرحية ذات الرؤية المشرقة والبناء المتقعِّر «رحلة خارج السور» والمسرحية ذات الرؤية القاتمة والبناء المُحْكم «البر الغربي». ولكن ذلك كلَّه لم يمنع الجمهورَ من التدفق لمشاهدة العرضَين، وكان المعجبون بالبر الغربي ينتحون بي جانبًا ليهمسوا لي: كيف نفَذَت من الرقابة! وهمس لي جلال العشري (رحمه الله): لقد دخلتَ التاريخ من باب المسرح! وقابلني جلال كشك عند سلم دار روز اليوسف وقال لي: لقد أحسنتَ اختيار الأسمار المستعارة، فجُمعة هو جمال عبد الناصر، وقُورة هو عبد الحكيم عامر، وعبيط القرية هو مَن سيخلف عبد الناصر في رئاسة الجمهورية! وأصابني الرعبُ والهلع، خصوصًا عندما كتب يوسف الحطاب، المخرج الإذاعي تقريرًا (أو بلاغًا) إلى مدير الإذاعة، وبلاغًا إلى رئاسة الجمهورية، يتَّهم المؤلفَ فيه بمعارضة النظام. ولم يكن عقاب معارضة النظام إلا العزل السياسي والاضطهاد؛ أي «خراب البيت»، وكان لي فيما حدَث للويس عوض، وللدكتور عبد العزيز كامل (الذي كان وزيرًا للأوقاف ذات يوم — رحمه الله) وللطفي الخولي؛ خيرُ درس وعبرة! كان جهاز المخابرات — كلما حدث شيءٌ في البلد — يستدعي عبد العزيز كامل (اليمين) ولطفي الخولي (اليسار) ويُودَعان في الحجز التحفُّظي فترةً حتى تهدأ الأمور! كانت هناك قوائمُ بمن يُعارضون النظام ولو في تفاصيل صغيرة، وكانت القوائم جاهزة، وويلٌ لمن يوضع اسمُه في القائمة! ولا أتحدث فقط عن منع المُعارضين من السفر، أو عن منعِهم من شَغْل مناصبَ في الدولة، وبدأ جوُّ «الخوف» الذي صوَّره نجيب محفوظ يُسيطر على الجميع.

وأمر مديرُ الإذاعة بتشكيل لجنةٍ من الرقيب الأعلى مصطفى درويش ومن زوجته سنية ماهر وبعضِ أعوانهما لمشاهدة المسرحية، كما طلب النصَّ ليقرَأه بنفسه، وسهرنا ذاتَ ليلة في منزل رشاد رشدي — سمير سرحان وأنا فقط — نبحث أسلوب الرد على تُهمة المعارضة، ومِن ثَمَّ كتبتُ مقالًا طويلًا ذهبتُ به إلى «الجمهورية» حيث وجدتُ رجاء النقاش (صديقي القديم) في انتظاري، فاصطحبني إلى مكتب سعد الدين وهبة، حيث جلستُ فقال لي سعد مباشرة: «إيه يا عناني؟ انت موش حاسس بالجو؟ المسرحية «ممتازة جدًّا» (وهذا ما قاله بالحرف الواحد — لأنني عجبت كيف يُترجَم التعبير إلى الإنجليزية) لكن ماحدش يعمل كده في الجو ده!» وقرأ رجاء النقاش الرد، ودفع به إلى المطبعة، وفي المساء علمنا أن أمين حماد مدير الإذاعة «أفرج» عن النص، ولكن لجنة الرقابة كانت في انتظاري عند بداية العرض.

كانت سنية ماهر هي صديقتي القديمة في قسم الأخبار بالإذاعة، ومِن ثَمَّ رحَّبتُ بها باعتبارها «معرفة» قديمة، وطلبتُ المُرطبات، وكانت هي وزوجها مشغولَين بمناقشة المستقبل الفنيِّ لأحد الطلبة (ابنها أو ابن أختها) فتعمَّدتُ إثارة موضوع «المستقبل الفني» أثناء العرض بحيث كان انتباهُ الرقابة غيرَ مركَّز، أو بحيث يتشتَّت كلما تركَّز، وكان الرقباء الصغار يُسجلون أي كلمة تقول «البلد الزفت دي» أو توحي بالغضب من أحوال «البلد»! وفي النهاية قالت سنية: هذه مسرحية عن الخُطِّ! وقال مصطفى درويش، تأييدًا لها: إنها تدعو لمحاربة الجريمة في الريف! وقال الرقيب الصغير: إنها مليئةٌ بكلمات لا بد من شطبِها! فقلتُ للجميع: لقد وافق مدير الإذاعة على النص، بشرط شطبِ هذه الكلمات. وكانت النتيجةُ هي البراءة! وودَّعتُ اللجنة وداعًا حارًّا، وقالت لي سنية: لا بد أن يُصورها التلفزيون ويُذيعها حتى يشجع أهلَ الريف على محاربة البلطجية!

ورأى رشاد رشدي أن الندوات التي كانت تُعقَد في مسرح الحكيم لمناقشة المسرحيات، وكانت المجلة (المسرح) تنشر ملخَّصات لها، لا بد أن تُناقش هذه المسرحية تأكيدًا لحكم البراءة، وفعلًا، أتى النقاد وناقشوها، فسمعتُ عجبًا! لقد فسر البعضُ كلمة البر الغربي بأنه «الغرب» الرأسمالي؛ لأنني أقول على لسان أحد الشخصيات «البر الغربي فيه مُتعلمين»! ومِن ثَمَّ انقضَّ على المسرحية بسبب هجومها المزعوم على البر الشرقي باعتباره دولةَ الكتلة الشرقية! وسجَّلنا ما دار في الندوة ونشرناه حتى لا تتبقَّى في أذهان أحدٍ أيُّ شكوك، ولكن محمود جمعة، المدير الإداري للمسرح، ذكر لي بعد يومين، أنه استقبل زائرًا من رئاسة الجمهورية يسأل عن مسرحية «البر الغربي» التي قيل إنها تُعارض النظام! وقال لي جمعة إنه أنكر أيَّ معارضة وشرَح للزائر أنها تدور في الريف عن جرائم الخُطِّ، بل وأطلع الزائرَ على النص، فاقتنع وطلبَ نسخة، وانصرف، وأغلق ملف القضية.

كانت الندوات التي تُعقد في المسرح تجري بانتظامٍ في إطار نشاط نادٍ جديد أنشأه رشاد رشدي، وأسماه ناديَ المسرح، وكُلِّف الدكتور لويس مرقص، رئيس قسم اللغة الإنجليزية بآداب عين شمس، بالإشراف عليه. وقرر الدكتور مرقص إعداد حفل مسرحي كبير يتضمن فقرات من مسرحيات شيكسبير بالإنجليزية، وفقرات منها بالعربية؛ ليُعرض يوم ٢٣ أبريل يوم ميلاد شيكسبير، بمناسبة مرور ٤٠٠ سنةٍ على مولده. وشارك في العرض طلبةُ قسم اللغة الإنجليزية في آداب القاهرة بصفة خاصة، وأصبحوا يترددون على المسرح بانتظام، وكانوا جميعًا بطبيعة الحال، من الهُواة، وإن كان بعضهم قد احترف التمثيلَ فيما بعدُ مثل نادية النقراشي وتهاني راشد. وتولى إعدادَ الحفل فنيًّا فنانٌ تشكيلي موهوب هو الدكتور رمزي مصطفى، كان يقول إنه يَدين لمسرحية «الفراشة» (رشاد رشدي) بإنقاذه من زِيجةٍ مدمِّرة؛ أي مِن قوة جمال المرأة التي تُطفئ شعلة الفن في الفنان. وقد عُرِفَت القصة الحقيقية فيما بعد، ولا شك أن رشاد رشدي كان يعرفها؛ لأنه سجَّلَها في قصة قصيرة بعنوان «عذاب الجسم وعذاب الروح» (في مجموعة «عربة الحريم»). ولكنني لا أرى ما يدعو إلى سردها هنا.

أما المخرج الذي تولى إعداد المشاهد الشيكسبيرية التي قُدمت بالإنجليزية فكان فنانًا مسرحيًّا من طِراز خاص هو الدكتور عزيز سليمان! كان رجلًا فذًّا بمعنى الكلمة؛ فهو مؤمن بالمسرح إيمانًا لا يتأتَّى إلا للذين وُلدوا وترعرعوا في بلاد المسرح، في حين أن مصر لم تكن قد تنبَّهَت إلى فن المسرح إلا بعد وقتٍ طويل! وكان في الخمسينيات يقوم بتدريس اللغة الإنجليزية لطلبة كلية التجارة، فإذا به يُلهِب خيالهم بفن المسرح، ويُشكِّل من بينهم فريقًا للتمثيل «حصد» به جميعَ جوائز المسابقات المسرحية الجامعية، وأصبح رمزًا للفن الخلَّاق الذي ارتبط وما يزال بقسم اللغة الإنجليزية. وكان أحد زملائي من مدرسة الأورمان، وهو نبيل مجدي الذي التحقَ بكلية التجارة وصار يقوم بأهم الأدوار في مسرحيات عزيز سليمان، يصفه بأنه عبقريٌّ مجنون! ومصدر التسمية هو شطحات الخيال التي لم يكن الطلبةُ اعتادوها في المسرحيات المدرسية المقررة (مثل مسرحية «كفاح الشعب» من تأليف أنور فتح الله)، وأي خروج عن المألوف في بلادنا جنون!

وقام الدكتور عزيز سليمان باختيار مشاهدَ عسيرةِ الأداء، وتولى إعدادها وإخراجها بنفسه، معتمدًا على طلبة القسم، بينما استعان رمزي مصطفى ببعض طلبةِ وخرِّيجي معهد الفنون المسرحية، ومن أهمهم هناء عبد الفتاح (الدكتور) وماجدة علي وسعيد طرابيك، وهكذا عمل الجميع في تناسقٍ ما يزال قائمًا بين قسم اللغة الإنجليزية وأكاديمية الفنون حتى الآن.

استعان رمزي مصطفى في تقديم مقتطفاته بالعربية من «حلم ليلة صيف» بالترجمة التي نشرَتها مجلة المسرح، وهي باكورة ترجماتي الشيكسبيرية وإزاء إعجاب الجميع بسلاسة الترجمة وسيولة النص، اقتنع رشاد رشدي بأن جَزالة أسلوبي بالعربية لا تُمثل عائقًا، فسمح لي بترجمة «روميو وجوليت» حتى تُنشر في العام التالي. كما شارك في التمثيل بعضُ الطلبة الذين أصبح لهم شأنٌ مرموق في الحياة العامة فيما بعد؛ مثل محمد سلماوي في دور عُطيل، ونهاد صليحة التي مثَّلَت بالإنجليزية دور ديزديمونا في مسرحية «عطيل» وبالعربية دور هيرميا في مسرحية «حلم ليلة صيف».

وذات يوم وأنا أستعدُّ لحضور عرض المسرحية وجدتُ سيارة الإذاعة تقف أمام المسرح ويخرج منها جمال السنهوري، ومعه بعض الأشخاص، وكان يتحدث في ميكروفون يمسكه في يده موصل بسلكٍ طويل إلى السيارة، ثم توقف وأغلق الميكروفون، وحيَّاني وقال لي: «عناني! مبروك! حنذيع البر الغربي في صوت العرب!» ولم أُصدق. لقد نجَت المسرحية بصعوبةٍ من مقصِّ الرقيب، فكيف يسمح أمين حمَّاد بإذاعتها؟ وفهمتُ فيما بعدُ أنه كان يحمي نفسَه في الواقع، فها هو يُبلغ المسئولين ما تقوله المسرحية علنًا، ولا يمكن لمن يسمع فصلًا واحدًا (وهو الذي يُذيعه في برنامج تاكسي السهرة في صوت العرب) أن يتبيَّن أيَّ اتهام مما وُجِّهَ إليها! وجلس جمال السنهوري إلى جواري في أحد الألواج الأمامية، وبدأ يُذيع الوصف التفصيلي لما يحدث على المسرح حتى بدأ الحوار، ومِن ثَمَّ ترك لي الميكروفون واختفى!

وبدأتُ أنا أذيع ما يحدث، منتقيًا ألفاظي بعناية، حريصًا على تأكيدِ ما انتهت إليه الرقابة، وبانتهاءِ الفصل الأول عاد جمال السنهوري وأخذ الميكروفون وخرج! وخرجتُ من العرض في شبهِ ذُهول! كان يجب أن أسجِّل هذا الحديث حتى أضمنَ أنه يخلو من أي شيء يتضمَّن «المعارضة»، ولكنني لم أكن أذكرُ كلمة واحدة! وصعدتُ إلى الطابق الأول لمقابلة رشاد رشدي فقابلني ببشاشة وقال لي: «برافو!» وأفهمَني أنهم سمعوا ما قلتُه في الراديو وأن المسرحية بهذا قد أُجيزت بصفةٍ نهائية، ومِن ثَمَّ جاءت سيارة التلفزيون وصوَّرَتها في اليوم التالي.

وقابلَني مجدي وهبة في الكلية وهنَّأني على نجاح «البر الغربي»، وعندما ذكرتُ له ما حدَث من الرقابة ضحك وقال «قدَّر ولَطَف!» وفهمتُ ما يعنيه، وامتدَّ بنا الحوار إلى الماجستير واحتمالات السفر، ولكنه كان متشائمًا وقال لي: «الواحد موش عارف هُم عايزين إيه؟» كان مايو ١٩٦٤م شهر المسرح، ولم يكن شهر التفكير في الرسالة ولا في السفر، فكنتُ أستغرق تمامًا في قراءة النصوص المسرحية، وأختلي بنفسي ليلًا في شقة الروضة لترجمة «روميو وجوليت»، وكانت لديَّ ستُّ طبعات تتضمَّن شروحًا وتعليقات مختلفة، أضعُها متجاورةً على المنضدة، وكنتُ أحيانًا أقضي الليل كلَّه في قراءة شروحِ صفحة واحدة وترجمتها، وكعادتي أعود إلى المنزل في الفجر لأنام حتى الحاديةَ عشرة مثلًا، ثم أستأنف عملي في الجامعة والمجلة طولَ النهار. وذات يوم تلقَّيْنا أنا وسمير موافقةَ الجامعات الأجنبية على تسجيل رسائلنا، وموافقة جامعة القاهرة على سفرنا في إجازة دراسية. لم يكن أمامنا سوى موافقةِ رئيس الوزراء، وكان دون ذلك خَرْطُ القَتاد؛ لأن الخروج من مصر مطلبٌ عسير، وقال لي سمير سرحان ذاتَ يوم، وكنا قد انتهينا تقريبًا من امتحانات يونيو، إنه مُصِرٌّ على السفر والعودة وتحقيق أحلامه، وإنه لا يُوافقني أبدًا على فكرة الركون إلى الدَّعَة والحصول على الشهادة من مصر والكتابة المسرحية! وفهمتُ ما يرمي إليه إذ كنتُ قد هيَّأت لنفسي نمطَ حياة شبْهَ مستقر، وعملًا بمبدأ الدكتور سويف وهو «تغيير الخطة» حين تتغيَّر الظروف، غيرتُ خُطتي فقرَّرتُ احترافَ الكتابة والاستقرار! وكان سمير مُقنعًا: لا بد لمن يريد التبحُّر في الأدب الإنجليزي واللغة الإنجليزية من الحياة مع الإنجليز ومُعايشتِهم وعدم الاكتفاء بقراءةِ ما يكتبون، وإذا كنا نريد أن نكون حقًّا أساتذةً فلا مناص من السفر!

وأثناء عمَلِنا في كونترول الامتحانات قال لي الدكتور صفي الدين أبو العز، الأستاذ في قسم الجغرافيا: إنه معجَب بطموحي أنا وسمير، وهو يرجو لنا أن نشقَّ طريقنا خارج الجامعة في الحياة العامة، وأنه من غيرِ المعقول أن يحبسَ الإنسان نفسَه طول العمر بين الكتاب والطالب إذا كان لديه القدرة، ولاحَت له الفرصة، لكسرِ ذلك الحاجز والانطلاق! ولم أكن أعرفُ تمامًا ما يعنيه بالانطلاق، إذ كنا قد بدأنا الانطلاق إلى حدٍّ ما، ولكن الدكتور صفي الدين كان أبعدَ نظرًا من ذلك — إذ همَس لي، ونحن نعودُ من شُرفة غرفة العميد إلى منضدة الرصد «إحنا قادة الفكر .. ولازم نكون قادة المجتمع.» ولم أنسَ ما قاله أبدًا.

٨

كان العملُ في الحياة العامة هو السبيلَ الأوحد لتحقيق الهدف الذي ألمحَ إليه الدكتور صفي الدين أبو العز، وكان اتجاهُ رجال الثورة بصفةٍ عامة، مهما قيل عن «اغتراب المثقفين» وعُزلتهم أو عزلهم، هو التوسُّع في التعليم والاستعانة بالمتعلِّمين في إدارة الحكومة، وكانت الاتجاهاتُ الاشتراكية التي لم تتبلوَرْ بعدُ تمامًا تتطلب الاستعانة بالفنيِّين، ربما إلى درجة الاعتماد عليهم في الإدارة، مع أن الإدارة منهجٌ عِلمي لا علاقةَ له بالتخصُّصات الدقيقة في الجامعة، فالباحث في الكيمياء قد لا يكون مُديرًا ناجحًا، وكانت الثورة تستعين ببعضِ المتقاعدين من الضبَّاط في إدارة شركات «القطاع العام» وهي الأصول الاقتصادية التي أصبحت الدولةُ تمتلكها، وكان مبدأ التأميم قد اتخَذ صورةً جديدة هي تحويل مِلكية المنشآت الخاصة إلى الدولة، وتعيين ضابط عظيم (أي من الرُّتَب القيادية ابتداءً من عميد) على رأسها. وكان أخي الصغير حسن قد تخرج في كلية العلوم وحصل على وظيفة كيميائي في مصنع أسمنت بورتلاند في حلوان، وبدأ يَعرف دقائقَ العمل في الشركة، مثلما فعل محمد (ابن عمي) في شركة الحرير الصناعي بكفر الدوار. وكانت شركة الأجهزة العلمية وأدوات المعامل التي كان يملكها خالي عبد الحليم قد آلتْ مِلكيتها إلى الدولة، وعُيِّن على رأسها ضابط عظيم، وعيَّنَت الحكومة فيها عددًا من خرِّيجي الجامعة ممن لا علاقة لهم بالعمل في هذا التخصص، وتحوَّل المكتب إلى ما يُشبه المصلحة الحكومية بكلِّ أنظمتها البيروقراطية، في حينِ أصبح خالي يتقاضى مرتبًا شهريًّا باعتباره خبيرًا. وتكرَّر نفس الشيء في مطحن الحبوب في رشيد الذي كان يملكه زوجُ عمتي، ومضرب الأرز الذي كان يملكه زوجُ خالتي الذي عيَّنته الحكومةُ موظفًا؛ باعتباره مستشارًا أو «خبيرًا» في شركة مضارب الزقازيق.

وكان ابنا خالتي (محمد الخطيب وصلاح الخطيب) يعملان مهندسَين في الجيش، وكنتُ أناقش معهما الحِكمة في تعيين الضباط على رأس الشركات الإنتاجية، دون أن تكون لهم خبرةٌ بشئون الصناعة أو التجارة أو بفنون الإدارة (إدارة الأعمال). وكان الرد هو أن الضابط قائد والموهبة القيادية هي التي تُساعد على إنجاز العمل، والحسم والحزم مطلوبٌ في أمثال المرحلة الثورية التي تمرُّ بها مصر.

وكان التزام الثورة بالتعليم وتعميم التعليم مجانًا من الحسَنات الكبرى التي تُحمَد للحكومة، ولكن ذلك ارتبط، للأسف، بالتزامٍ آخَر؛ هو تعيين جميع خريجي الجامعة في الحكومة، فالحكومة كانت بالتدريج قد أصبحَت مُوازية للدولة وللقطاع العام (صاحب العمل الأول). ولا شك أن ذلك خلَق روحَ اطمئنانٍ كبيرٍ للمستقبل؛ فكل دارس أصبح «يضمن» وظيفةً تُدِرُّ عليه دخلًا ثابتًا، وتضمن له أن يتزوج دون مشقَّة وأن يجد مكانَ السُّكنى الملائم. وهكذا بدأ نموُّ جيش الموظفين الذين قد يُعيَّنون في أماكن تخصُّصهم أو في غيرها، إذ عُيِّن صلاح المعداوي (ابن خالة سمير سرحان) بعد تخرجه من قسم الصحافة في كلية الآداب مفتشًا للتموين في قنا، وعُيِّن السيد بلال خريج الزراعة مدرسًا للُّغة الإنجليزية (التي لا يعرفها تقريبًا؛ لأنه درس مواده كلها بالعربية)، وعُيِّن علي أبو العيد (خريج الزراعة، قسم المحاصيل) مُشرفًا على مطعم المدينة الجامعية … وهلمَّ جرًّا.

كانت مكاسب التعليم هائلة، وروحُ إنصاف الفقراء والمعدمين تُشيع في النفس الرضا والسعادة، ولكنَّ عظَمة الإنجازات كانت تُخفي عيوبًا لم يُتَح لها أن تظهَر في الأجَل القصير؛ فثروة البلاد قادرةٌ على استيعاب الخريجين وترسيخ الإحساس بالاطمئنان، ولكنَّ بوادرَ اهتزاز هذه الصورة بدأت تظهرُ بسبب حرب اليمن.

كان قد مضى على حرب اليمن عامٌ ونصف فقط (إذ اندلعَت في أواخر سبتمبر ١٩٦٢م)، ولكن عملية تحويل اليمن من بلد يعيش في القرون الوسطى إلى بلد ينتمي حقًّا إلى القرن العشرين كانت شاقة، وكان أهمُّ مجالٍ تجلَّى فيه ذلك هو إصلاحَ الطرق! كان الجيش المصري يحتاج إلى طرقٍ مُمهَّدة في بلدٍ تتميز أرضُه بالتِّلال والهِضاب والجبال، وكان لا بد من إرسال «وابورات الزلط» لإعداد الطرق هناك، وكانت تُشحَن بانتظامٍ من مصر، وكان الضباط والجنود يتَلقَّوْن مرتباتٍ ومكافآت كبيرة، والحرب بعدُ هي الحرب، ولم تكن ميزانيةُ البلد الذي يبني نفسه ويُكافح لبناء السدِّ العالي تسمح بالدخول في حربٍ لا عهدَ للجيش المِصري بها على بُعد مئات الأميال في الجزيرة العربية، وَفْقًا لاعتراف الخبراء آنذاك وفيما بعد، وإن كنا جميعًا نؤيد الدوافعَ النبيلة التي أدَّت إلى دخولها، كما أن أهل اليمن (والحقُّ يُقال) يُقدِّرون لنا تضحياتنا كلَّ التقدير حتى اليوم.

كانت المشكلة على المستوى الشخصيِّ المحض تتمثَّل في الخروج من مصر، فلم يكن مسموحًا لأحدٍ كما ذكرتُ (باستثناء الضباط) بالسفر إلى الخارج، وكان استخراج جواز سفر حُلمًا بعيدَ المنال، وأذكر أنني كنتُ عائدًا ذات مرة من الإسكندرية بعد تجديدِ تأجيل التجنيد وظفَري بشهادة التأجيل، حين التقيتُ بشابٍّ عراقي كان قد تخرَّج في جامعة القاهرة وسافر وتنقَّل بعد ذلك في ربوع الدنيا، فجعل يُحدثني عمَّا رأى وسمع، وعندما علم بأن الخروج من مصر يتطلب موافقةً شخصية من رئيس الوزراء قال لي إن ذلك لو حدَث في العراق لأحدثَ ثورة، ولكنني تذَرَّعتُ بالجُبْن (سيد الأخلاق في تلك الأيام) وقلت له إن الظروف التي نمرُّ بها عسيرة، وتقتضي الحذر!

كان لي عددٌ من الأصدقاء في الجامعة الذين حصلوا على إجازة دراسية أو بعثات رسمية، وكانوا يحاولون محاولاتٍ مستميتةً الحصولَ على توقيع علي صبري. وكانت الوساطات تتراوح بين «المعارف» وبين أصحاب النفوذ في الجيش، وذكر لنا أحدهم أن أنور السادات رئيس مجلس الأمة تربطه صلةُ صداقةٍ عميقة بالأستاذ محمد عبد السلام الزيات، وهو الأخ الأكبر للدكتورة لطيفة الزيات زوجة الدكتور رشاد رشدي، وإذن فلا بأس من الوصول إليه عن هذا الطريق وإقناعه بمخاطبة علي صبري. وقرَّر سمير سرحان ألا يتركَ الفرصة السانحة، فذهَبْنا بخطابِ توصية من الزيَّات إلى مجلس الأمة، حيث قابلني أحدُ خرِّيجي قسم اللغة الإنجليزية وهو الأستاذ الشوربجي الذي كان يعمل سكرتيرًا لأنور السادات، وفوجئنا بالترحيب الذي لقيناه! وبعد تبادُل الأحاديث الطريفة عن دمياط (بلد الزيات) وعن رشيد (بلدي) وعن كفر كلا الباب (بلد سمير سرحان، بالقرب من طنطا)، سألَنا أنور السادات عن غايتنا، فأوضَحْنا له أنَّ وزير التعليم قد وافق على سفَرنا إلى الخارج، وأننا في انتظار تأشيرة الخروج، وسأل باقتضاب: «ورقكم عند مين؟» ومرَّت ثوانٍ شابَها التوترُ ثم قال سمير ببسمةٍ رقيقة: «في مكتب رئيس الوزراء.» وفجأةً ارْبدَّ وجه السادات وقال أو أصدر صوتًا غامضًا هو: «آه». ومرت ثوانٍ أخرى لم نتبادل فيها الحديث، ثم ابتسم السادات ثانيًا وقال: «إن شاء الله خير .. يفعل الله ما يشاء .. مع السلامة.» ونهضنا.

وقال لي سمير ونحن ننحرفُ في شارع القصر العيني «الواسطة failure!» وضحكتُ ضحكةً مكتومة. لم أعرف تفسيرًا للتغير الذي أصاب ملامحَ أنور السادات عندما سمع ذِكْر علي صبري. ولكنني سمعتُ فيما بعدُ أنهما لم يكونا على وِفَاق. وكان الحديثُ — مجرد الحديث — في هذه الأمور يُعرِّض الإنسان للخطر، فكنا نتجنَّبُه قدْرَ الطاقة، وعلى أي حال، كانت هناك «واسطة» أخرى عن طريق لطفي الخولي هي كمال الدين رفعت، وكان يُشاع عنه أنه «مُنَظِّر» الثورة؛ أي صاحب «النظرية الاشتراكية المفقودة» والتي كان الوسط الأدبي يقول إن محمد عودة ما يزال يبحثُ عنها! وقرَّرنا الذَّهابَ إليه في مقرِّ عمله بالوزارة المركزية، في مصر الجديدة بالقرب من جروبي روكسي. وفعلًا حصَلْنا على موعد وذهبنا، وكان ذلك في مايو ١٩٦٤م، ولم يكن الجوُّ حارًّا لأنني ما زلتُ أذكر النسائمَ الباردة التي استمتعنا بها فيما بعدُ ونحن نحتسي الشاي في جروبي.

لم يتوقف كمال الدين رفعت عن الحديث ساعةً أو بعضَ ساعة، وكان الواضح أنه يستعرض معلوماته أمامنا إما لإبهارنا، باعتبارنا في الجامعة، أو لتأكيد الصورة التي شاعت عنه وهو أنه قارئٌ ممتاز. والحقُّ أنني شخصيًّا بُهرت بسَعة اطِّلاعه، وإحاطته بشتى نظريات الفكر السياسي المعاصر، أما سمير فكان يحاول أن يقرأ ما بين السطور، وكان من آنٍ لآخر يُبدي تعليقًا مقتضبًا يتضمَّن الرضا عمَّا يقوله المتحدث، ثم ما لبثَ أنْ حوَّل دفَّة الحوار بسلاسةٍ إلى أهميَّة العلم، وقال كأنما يُبدي ملاحظةً عابرة — أو كأنما لم يكن يعرض صُلب القضية التي جئنا من أجلها: «احنا عندنا بعثة ومنتظرين السفر للدكتوراه» وهلَّل كمال رفعت قائلًا: «برافو! حتسافروا إمتى؟» وقال سمير: «لما الورق يتمضي» فقال كمال: «مضاه الوزير؟» وأومأنا. فعاد الصمت. ثم قال سمير في صوتٍ حذر: «ناقص رئيس الوزراء». وتظاهر كمال رفعت بالبحث عن التليفون، وترتيب بعض الأوراق، ثم قال: «آه .. يعني على الإمضا؟ لا .. بسيطة .. بُكرة يتمضي!» ثم نهض فنهَضْنا. وانتهت المقابلة.

وعندما دخلنا جروبي لم نتبادل أيَّ حديث. جلسنا نشرب الشاي في صمت. وكان الجوُّ جميلًا والزهور رائعة الألوان، وشغَلَني منظرُ الطريق الذي تُظلله الأشجار، وعربات المترو التي تقف أمام المقهى ثم تستأنف المسير، وجمالُ الفتيات اللائي يدخلن ويخرجن من جروبي مُحمَّلاتٍ بالحلوى والفطائر، وعندما دفعنا الحساب (عشرة قروش) وخرجنا كانت الساعة قد قاربَت الواحدة ظهرًا. وقال لي سمير إنه لا بد أن يُسجل حديثًا في الإذاعة في ذلك اليوم عند عبد المنعم الحفني (في برنامج ركن السودان — ولم أكن قد سَمعتُه في حياتي)، واقترح عليَّ أن نذهب معًا؛ فربما كان هناك مجالٌ لتسجيل حديث لي أنا أيضًا.

كان أسلوب سمير سرحان في التصدي للمشاكل يبهرني ويُحيرني. كيف استطاع أن ينسى كلَّ ما قاله كمال رفعت هكذا، وأن يُلقي بالمشكلة خلف ظهره، وأن يفكرَ في الإذاعة وعبد المنعم الحفني؟ وكنت أجدُ في ذلك راحةً كبرى، وأحاول أن أُوطِّن النفسَ على تَقبُّله؛ ولذلك ذهبت معه إلى عبد المنعم، وعرَض عليه سمير فكرةَ تقديمي لحديثٍ في نفس البرنامَج، فوافق على الفور، ودخلنا الاستوديو، وقرأ سمير الحديث، ثم دخلتُ بعده وسجَّلت الحديثَ دون نصٍّ مكتوب، وهمس لي عبد المنعم أنني لا بد أن أُقدِّم نصًّا في المرة القادمة؛ حتى لا يتعرَّض هو للمساءلة، واصطحبَنا إلى الدور الأرضي حيث وقَّعْنا العقود ومضَينا إلى الخزينة وتقاضى كلٌّ منا خمسة جنيهات ونصفًا، وخرَجْنا لنبحث عن أفخر مطاعم العاصمة لتناول الغداء!

وعندما التقينا ثانيًا في المساء سألَنا رشاد رشدي عن نتيجة مقابلة كمال الدين رفعت، وقال له سمير إنه وعدَنا خيرًا، فلم يُعقِّب؛ فقد كان ما يزال مهمومًا بموضوع مسرحيته والهجوم عليها، ولكن فاروق عبد الوهاب قال له ملاحظةً أبهَجَته، وهي أن مشهد «مجلس المهندسين» يمكن أن يتحوَّل إلى مسرحية قصيرةٍ من نوع مسرح العبث. وهنا قَصَّ علينا قصة هذا المشهد، وكيف أنه استقاه من جلسة حقيقيةٍ لمجلس كلية الآداب. ولذلك قصة.

كنتُ في عطلة الصيف عام ١٩٥٨م أقرأ باستفاضةٍ عن وليم بليك؛ لأن أحمد مختار الجمَّال كان مكلَّفًا بكتابة برنامج إذاعي للبرنامج الثاني عن ذلك الشاعر، فأتى إليَّ ببعض المراجع وقال لي: «أنت طالب مجتهد ومترجم الشعر! حضِّر المادة العِلمية وسوف أحوِّلها أنا إلى برنامج إذاعي جذَّاب.» وعكَفتُ على أهمِّ مرجع في رأيي وهو كتاب جاكوب برونوفسكي عن بليك، فانتهيتُ منه وترجمتُ بعض قصائدِه نظمًا (ونشرتُ بعضَها فيما بعد في كتاب فن الترجمة ١٩٩٢م) ثم قرأتُ ما يقوله ف. ل. لوكاس عن «سقوط وانهيار المثل الأعلى الرومانسي»، وأعددتُ المادةَ اللازمة، ثم وجدت وسط «المراجع» كُتيبًا بالإنجليزية من تأليف الدكتور شوقي السكَّري بعنوان «وليم بليك»، فقلتُ فَلْأَرَ ما يقوله مِصريٌّ معاصر، من باب الفائدة.

وعندما فتحتُ الكُتيب وجدتُ الفقرة الأولى منقولةً بالكامل من الفصل الخامس من كتاب برونوفسكي، فاغتظت. وكلما مضيتُ في القراءة وجدتُ المزيد من الفقرات المنقولة، ولكنني قلتُ إنه كُتيب لمساعدةِ الطلبة وليس بحثًا عِلميًّا، ولكنني عندما قرأتُ الأبياتَ التي يستشهد بها وجَدتُها من تأليف وردزورث، وكنتُ أحفظها عن ظهر قلب، وسبق لي أن ترجمتُها! وأُصِبتُ بخيبةِ أمل في هذا الأستاذ الذي كان ما فتئ يتفاخرُ بعِلمه ويشكو من ظلمه في القسم!

وعندما ترجمتُ «حلم ليلة صيف» بعد التخرج، استعنتُ ببعض المراجع عن التقاليد الشعبية الخاصةِ بالجن والعفاريت في إنجلترا أيام شيكسبير، وكان من ضِمنها كتيب كتبَه شوقي السُّكري بالإنجليزية عن هذا الموضوع، أو هكذا كان يقول العنوان، ولكنه كان منقولًا بالحرف من كتاب يوجد في مكتبتنا هو «شيكسبير والتقاليد الشعبية» من تأليف أستاذٍ اسمه بيثيل، وكان حافلًا بالأمثلة والحكايات، وكان حقًّا ممتعًا. وكان منهج شوقي في النقل هو أن يبدأ بفِقرة من فصل متأخر، ثم يُردِفها بفقراتٍ من فصول أخرى سابقة، ويُنهي الكتابَ بخلاصة الموضوع التي عادةً ما يضعها المؤلف في المقدمة، مما يجعل من الصعب على القارئ متابعةَ الأفكار. وكان الكُتيِّبان من مطبوعات مكتبة الأنجلو المصرية (عند عم صبحي جريس متَّعه الله بالصحة ومد في عمره).

وكنتُ قد ذكرت ذلك عَرَضًا لسمير سرحان، فذكره عَرَضًا لرشاد رشدي، وعندما حان موعدُ ترقية شوقي السكري إلى أستاذ مساعد، طلبني رشدي (عام ١٩٦٢م) وطلب مني نُسخًا من هذا الكتيب، فقلتُ له إنها موجودةٌ في المكتبة وعند صبحي جريس، فطلبها، ومِن ثَمَّ كتب تقريرًا يقول فيه إن «الباحث» لا يستحقُّ الترقية بسبب عدم الأمانة (وأنا أعرف أن الكلمة الإنجليزية التي أوحت له بهذا التعبير وهي dishonesty تعني السرقة في الواقع). وأرفَق بتقريره صورًا من «أبحاث» شوقي والأصول المستمَدَّة منها. وكان رشاد رشدي بطبيعة الحال لا يحب شوقي السكري، وقد استغلَّ شوقي هذا «النفور» في تأليبِ أعضاء مجلس الكلية عليه، بحيث أظهر القضيةَ في صورة المسألة الشخصية. ولذلك كان أعضاء المجلس مُنحازين إلى شوقي، ولا يُبْدون أيَّ تعاطفٍ مع ما ورد في التقرير، وكان أعضاء اللجنة العلمية وعلى رأسهم لويس مرقص، ومهدي علام، وهما من كبار أساتذة عين شمس، يريدون ألَّا يقتصر الأمرُ على عدم الترقية، بل أن يُصدر مجلس الكلية قرارًا بمعاقبة الأستاذ «غير الأمين» حتى يرتدعَ مَن تُسوِّل له نفسُه سرقةَ كتب الغير، ولكن رشاد رشدي أقنع أعضاء اللجنة بأن يقتصر التقرير على «الحقائق»، وأن يترك للمجلس اتخاذ ما يراه من إجراءات.

كان أعضاء اللجنة المُوقِّعون على التقرير من كبار أساتذة الإنجليزية في مصر، بل كُتِب لبعضهم فيما بعدُ أن يحتلَّ مناصبَ مرموقة خارج مصر، مثل محمود المنزلاوي ومحمد مصطفى بدوي (من جامعة الإسكندرية)، ولكن مجلس الكلية لم ينظر في التقرير إلا لكي يتساءلَ عن سرِّ الخصومة بين رشدي وشوقي! وكانت الجلسة مؤلمةً لرشدي ومضحكةً إلى حد العبَث أو اللامعقول — إذ تساءلَ أحد أعضاء المجلس: ألستَ ترى أن الدكتور شوقي قد بذل مجهودًا؟ وتساءل آخَر: لماذا لا تفتحُ الباب أمامه بدلًا من إغلاق الدنيا في وجهه؟ وهكذا. وكان القرار هو ترقيةَ شوقي السكري إلى درجة أستاذ مساعد رغم أنفِ الجميع. وكان أن كتب رشدي مشهدَ مجلس المهندسين ليُحاكيَ ما حدث في مجلس الكلية، وكان بكلِّ المقاييس مشهدًا رائعًا — حتى حين قَدِم على المسرح دون تدخلٍ كبير من سعد أردش!

وكان ردُّ الفعل لدى شوقي السكري هو إثباتَ نشاطه الأدبي عن طريق الندوات العامة، فابتدع «ندوة ناجي» التي برَزَت فكرتُها باعتبارها احتفالًا بمكانة الشاعر إبراهيم ناجي، ثم أصبحَت ندوةً أسبوعية ناجحة، ولا شك أن الجوَّ الأدبي حينذاك كان يقبل بل يطلب مثلَ هذه الندوات، وكنتُ أواظب على حضورها، وفيها ومنها تعلمتُ الكثير، بل شاركت في بعضها، وكان سمير سرحان دائمًا معي، وكان العمل والتفكير والإنتاج يُلهينا عن خَيبة الأمل في السفر!

وذات يوم في يونيو جاءتني طالبةٌ تنجح بتفوق (جيد جدًّا) في القسم، وانتهت من السنة الثانية، وشاركَت في مهرجان شيكسبير الذي قدَّمه نادي المسرح، وسألتْني عن بعض معاني آيةٍ أو آيتين في القرآن. كان اسمها نهاد صليحة، وكانت مِن طالباتي المجتهدات، لَمَّاحة، ذاتَ اهتمامات متعددة، خضراء العينين، فجلستُ أشرح لها في غرفةِ مُعاون الكلية حتى تأخرَ الوقت، فوعدتُها باستكمال الشرح في اليوم التالي. وفي اليوم التالي طال بنا الحديثُ فخرجنا إلى كوبري الجامعة ثم أوصلتُها إلى ميدان التحرير حيث عادت إلى منزلها، وبعد ذلك قابلتُها في المسرح وقد اشترَت تذكرة من مصروفها ودخلَت تُشاهد العرض، فقلت لها إن هذا مسرحُنا، ولدينا دعواتٌ لأبناء قسم اللغة الإنجليزية والموهوبين من عُشَّاق المسرح، ولكنها قالت إنها تُفضِّل دفع الثمن مقدمًا حتى لا تؤثرَ الدعوةُ في انطباعها عن المسرحية!

وطلبتُ منها الحضورَ إلى المجلة فجاءت، وأصبحتُ آنَسُ إليها وأسعَدُ بها، ووجدتُني أطلبها وأبحثُ عنها، وصرتُ أعرض عليها كلَّ ما أكتب، ومِن ثَمَّ اقترحتُ عليها أن تنضم إلى الشلة؛ لأنني بصراحة لا أستطيع الاستغناء عن سمير سرحان، حتى ولو استطعتُ الاستغناء عن فاروق عبد الوهاب! ولم تمانع؛ فهُم جميعًا مدرسون في القسم، ورئيس المجلة هو رئيس القسم، والمسرح هو عشقها الجديد! وكنا نلتقي بعد الظهر في مقهى لاباس، فهو مكيَّف الهواء، وكثيرًا ما نذهب إلى السينما هربًا من الحر، وأطلعَتْني ذات يوم على قصة قصيرة كتبَتْها فأعجبَني تمكُّنُها من الأسلوب العربي الذي كان كثيرًا ما يعصيني، وكان الصيف ذلك العامَ أرَقَّ نسيمًا وأجملَ شذًى بفضل هذه الفتاة الرائعة (زوجتي الحاليَّة).

كانت مشكلة الأسلوب السرديِّ مشكلةً حقيقية. الشعر تحكمه أصولُ النظم وتحُدُّه القافية فتُيسر على الكاتب بعضَ الصعاب. أما النثر فهو منطلقٌ دون ضابط ولا رابط. وذات يوم كنتُ مع صلاح عبد الصبور في مقهى سميراميس، حيث سألني عن رأيي في قصيدة «الخروج»، وكان آنذاك في الثالثة والثلاثين ولكنه كان يتمتَّع بقلبِ طفل كبير، ومشاعرَ فيَّاضة لم أشهَدْ مِثلها في حياتي عند أحد، وعندما قمتُ بتحليل قصيدة «الخروج»، مُلقيًا الضوءَ على براعة استخدام الأسطورة الدينية، و«المفاتيح» التي وضعَها للربط بين الرحلة في المكان والرحلة في الزمان، وإذابة قصة الخروج من مصر في قصة الهجرة من مكَّة إلى المدينة، وجدتُ الدموع تترقرقُ في عينَيه، وأحسستُ بكِيانه يهتز، وقال لي بصوت مُتهدِّج: «هذا هو نجاحي الحقيقيُّ في الشعر!» وأحسستُ ساعتَها أنني نجحتُ أنا أيضًا في النقد والشعر جميعًا!

وسرعان ما توثَّقَت صداقتي مع صلاح فقصَّ عليَّ في المساء التالي قصة أبو التسهيل الدلبشاني التي حاولتُ كتابتَها ففشِلتُ مرةً بعد مرة، مما أكد لي أن موهبتي لا علاقة لها بالقصة القصيرة! كان أبو التسهيل يعمل مدرسًا للُّغة العربية في المدرسة التي عمل بها صلاح فور تخرجه. وكان في التاسعة والخمسين أو على مَشارفها حين جاء إلى المدرسة مَن أبلَغَها بأن كبير مفتشي اللغة العربية سوف يصل في غضون أيام، وكان رجلًا ذاع عنه حبُّ العدل والإنصاف، والالتزام التام بالموضوعية؛ فهو لا يجامل أحدًا ولا يُحابي أحدًا، كان يقال إن هذه الصفات هي التي أوصلتْه إلى هذا المنصب وقرَّبَته إلى قلوب كبار رجال الوزارة. وقال لي صلاح إنه لم يكن يرى أنه سيقضي حياته كلها مدرسًا وكان قد بدأ ينشر الشِّعر والمقالات، آمِلًا أن يحصل على عمل في الصحافة؛ ولذلك فقد كان ينظر إلى الزيارة نظرةَ متفرج إلى مسرحية من مسرحيات الحياة، مثلما كنتُ أنظر أنا وسمير إلى بعض الأحداث من حولنا.

وأثناء مناقشة الزيارة في غرفة الأساتذة اتضح أن المفتش كان يومًا ما زميلًا لأبو التسهيل في مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية، وأن الأمل معقودٌ عليه هذه المرة في أن يمنح أبو التسهيل تقديرَ أداءٍ جيدًا حتى يمكن ترشيحُه لوظيفة مدرس أول للُّغة العربية، وهو على مَشارف «التقاعد»، مما يُيسِّر له أن يكتب على شقته «مدرس أول اللغة العربية سابقًا»، وعندما دخل أبو التسهيل غرفة الأساتذة بشَّره الزملاء، وبثُّوا الطُّمأنينة في قلبه، ولكنه كان ساهمًا واجمًا، فسألوه عن السبب فقال: «كان قاعد جنبي في الفصل .. كنا بنقسم السندويتش ونقسم البرتقالة .. وكنا بنمشي للبيت كل يوم.» وهلل الحاضرون قائلين: «يبقى فُرِجَت يا عم! لازم بقى يعرف قدرتك في النحو!» ورَدَّ أبو التسهيل: «كنا بنقرا ابن عقيل (شرح ألفية مالك في النحو) مرة كل سنة في الصيف، وكانت مشكلته الشواهد!» وقال الأساتذة «إنت ملك الشواهد!»: «دانت لو استعصى الشاهد تُؤلف شاهد!» وكان يرمي من ذلك إلى أن أبو التسهيل كان شاعرًا، وكان يمكنه تأليفُ بيت أو بيتين من الشعر ارتجالًا ونسبتُهما إلى أحد القدماء تأكيدًا لوجهة نظره في أيِّ مسألة من مسائل النحو، خصوصًا أنه كان يحبُّ الفَرَّاء والكِسائيَّ والمدرسةَ الكوفية التي تُجيز ما لا يُجيزه البصريون بصفة عامة!

وقال صلاح إن أبو التسهيل كان «راجل بتاع ربنا»، فكان يحب الناس ويُقبِلُ عليهم، وكان يُولِم لهم الولائمَ في منزله بالمعادي، وكانت تنتابهُ نوباتُ استغراقٍ في «الملكوت» فيغيب عن الدنيا؛ شأنَ المتصوِّفة القدامى، وقد تكون النوبة نوبةَ «إشراق» روحاني (epiphany) يَخرج منها مرهقًا يتصبَّب جبينُه عرقًا، وقد تكون لحظة شفافية يبدو فيها كأنما يرى كائناتٍ عُلويةً تملؤه بالسعادة والهناء! ولما كان يعتبر بحقٍّ مرجع الأساتذة في النحو اقترح بعضهم عليه أن يجعل درس «التفتيش» في النحو لا في النصوص أو في أي موضوع آخر قد لا يكون متمكنًا منه. وقبل الانصراف ذلك اليوم همس أبو التسهيل لصلاح عبد الصبور «مراتي بتسألني اشمعنى إنت اللي اتأخرت عن زملائك؟ وموش عارف أقول لها إيه» وأكد له صلاح أن النتيجة سوف تكون إيجابيةً هذه المرة.

وحالما وصل المفتش، اجتمع به الناظر (الذي كان يتعاطف مع أبو التسهيل) ثم اجتمع به كبارُ الأساتذة، فوعَدهم خيرًا، واتجه إلى قاعة الدرس حيث كان أبو التسهيل قد اختار موضوعًا خلافيًّا هو الاستثناء، والمستثنى قد يكون بحرف «إلَّا» أو بِعَدا أو خَلا أو حاشا، وبعضها، وفقًا لابن عقيل، من حروف الجر، ولكنه كان واثقًا من عِلمه وإحكامه للمادة. وابتدأ الدرسَ بدايةً طيبة، وبدا أن الطلبة متجاوبون، ثم سأله أحدُ الخبثاء: ماذا تقول في أغنية نجاة الصغيرة «إلا إنت»؟ ولم يكن أبو التسهيل قد سمعها، ولو كان سمعها لاستطاع «التقدير»، وعندما ضحك الطلبة، رد أحدهم: بس ده بالعامِّي! ثم ساد الصمت، إذ اعترَت أبو التسهيل نوبةُ إشراق، وبدأ العرق يتصبَّب من جبينه، وسرح بصرُه من النافذة في السُّحب التي كانت تتجمع في السماء، وانقضت فترة لا يعرف أحدٌ كم طالت، وعندما أفاق سمع جرس الحصة، ولم يجد المفتش.

وعندما هبط إلى غرفة الأساتذة كان الصمت سائدًا، وأقبل عليه الجميع يطلبون له الشاي والليمون، واصطحَبه صلاح إلى مقعدٍ بجوار النافذة، وطَفِق يُحادثه في كل شيء وهو شبهُ غائبٍ عن الوعي، ولا شك أنه شعر بما حدَث لأنه — على الأقل — لم يسمع كلمة «مبروك» — وعندما جاء الشاي ولحظ بدايةَ انصراف الأساتذة إلى «حصصهم» نظَر في عينَي صلاح ثم انخرط في بكاءٍ صامت.

هذه هي القصة التي وقعَت أحداثها فعلًا كما رواها لي صلاح. لم يكن المفتش قادرًا على المجاملة، ولم يستطع أن يخالف ضميرَه فيقول إن المدرس جديرٌ بتقدير جيد، وخرج أبو التسهيل إلى التقاعد مُدرِّسًا عاديًّا، وكان عليه أن يُواجه تساؤلات زوجته، وأن يُلغي فكرة كتابة اللافتة التي كان يحلم بها، وقد رأيتُ في مأساته مادةً لقصة قصيرة وفقًا لمعايير القصة الأوروبية والعربية الحديثة، ولكنني وقفتُ حائرًا عند ما نُسميه اليوم «بالنغمة». هل يكون موقفي هو التعاطف مع أبو التسهيل وإدانة المفتش الذي رفَض الاستجابةَ للحالة الإنسانية، بحجة الموضوعية، أم تأييد المفتش ومن ثم السخرية من أبو التسهيل؟ كنتُ أُحس أنني باعتباري مصريًّا وعربيًّا أضع الاعتباراتِ الإنسانيةَ قبل الاعتبارات الموضوعية، أتعاطف مع المدرس الذي وصل إلى خط النهاية دون أن يفوزَ في أيِّ سِباق، وأن القرَّاء سوف يُشاركونني هذا التعاطف. فإذا كان هذا هو الحال، فلا بد أن أكتب القصةَ من وجهة نظر أبو التسهيل، وإن لم أستعمل ضمير المتكلم، ويجب أن أتصور كلَّ شيء من وجهة نظره؛ وفقًا للقواعد الفنية الحديثة، ولكنني لم أعرف آنذاك كيف أُصور كبير المفتشين، وكيف أرسم صورتَه للقرَّاء.

وحاولتُ الدخولَ من هذا المدخل فاستعصى عليَّ؛ فقد وجدتُ أن الواجب أن أرسم مكان الحدث وزمانَه بلُغةٍ فصحى راقية، تنمُّ على جو اللغة العربية الذي يسود القصة، وكان أسلوبي يرتفع وينخفض ثم يسقط! وحاولتُ أن أقُصَّها على الأصدقاء بالعامية المصرية، ونجحتُ إذ استجابوا لأبو التسهيل ولاموا المفتش على تزمُّته. لم يكن حديث يتضمَّن وصفًا ولا تحليلًا، بل لم يكن يتضمن من الحوار إلا ما اعتَدْناه في كتب التراث من «أقوال مباشرة»، وتأملتُ «المطلوب»: هل من اللازم وصفُ أبو التسهيل حتى يتصورَه القارئ؟ الواقع أن صلاح لم يَصِفْه لي، وما دمتُ لن أمنحَه اسمه الحقيقيَّ في القصة فربما يكون من المستحسَن أن أصفَه وصفًا يُلائم «المستثنى»، كأنْ أجعله نحيفًا هزيلًا غائرَ العينين، لا شاربَ له ولا لحية، وربما يكون من المستحسن أن يكون قصيرًا، يرتدي حُللًا واسعة، قد تكون قديمةً أو ذاتَ «موضة» عفا عليها الزمن، أما إذا جعلتُه يضع في صديريته ساعةَ جيب بسلسلة (كاتينة) أو يُمسك مِنشَّة، فقد يكون ذلك مَدْعاة للسخرية.

ووجدتُ أن الصِّعاب تتزايد حين شرَعتُ في وصف المدرس ووصفِ المدرسين ووصف المفتش. وهمس لي الصوتُ الداخلي: ألَا تنبع هذه الصعابُ من استمساكِك بالقصة الحقيقية التي رواها لك صلاح عبد الصبور؟ لماذا لا تتحرَّر منها وتكتبُ ما تشاء! أنت كاتبٌ خياليٌّ ولك مطلق الحرية في أن تُسمي البطلَ أيَّ اسم تراه ثم تصفَه أيَّ وصف تراه! ولكنني كنتُ مأخوذًا بالقصة الحقيقية لا أستطيع منها فكاكًا، تمامًا مثلما حدَث لي قبل عامين وأنا أنتظر سميراميس (الحبشية) عند أول كوبري أبو العلا من ناحية الزمالك.

كان موعدي في الثالثة ظهرًا، وكان المفروض أن أقابلَها هناك عند انتهائها من العمل، ثم أصطحبَها إلى مقهًى حتى يحينَ موعدُ العمل في وزارة الثقافة في الرابعة، وكنت قد سهرتُ الليلة السابقةَ حتى الصباح أقرأ كتاب محمد مندور «النقد المنهجي عند العرب»، وأستقي منه المعلومات اللازمة لاقتباسِ ما يلزمني من كتب التراث، وكان أمامي كتابان هما المختار من «الصناعتين» لأبي هلال العسكري، و«العُمدة» لابن رشيق (الذي حبَّبه إليَّ عبد الرءوف مخلوف)، ونِمتُ من الفجر حتى الظهيرة ثم ذهبتُ إلى الجامعة، ومنها إلى موعد اللقاء. وكنتُ تعلمت من التجرِبة أنني إذا وصلتُ فلم أجد الفتاةَ في انتظاري فالأرجح ألَّا تأتي مطلقًا، والأفضل أن أنصرف. ولذلك عندما وصلتُ ولم أجدها، تجوَّلت في المكان نحو دقيقتين، وكنتُ على وشك عبور الطريق لركوب الأتوبيس العائدِ إلى العجوزة، ولكن بصَري وقع على رجل هَرمٍ لا بد أنه تخطَّى السبعين، ومعه طفلٌ لم يتجاوز عامين أو ثلاثةً على الأكثر، يحاول ركوب أتوبيس رقم ١٣ التابع لشركة مقَّار. كنتُ أعرف مسارات معظم خطوط النقل، وكنتُ أعرف أن هذا الخطَّ ينتهي في روض الفرج، في منتصف شَبْرا. وكان الأتوبيس مزدحمًا فركب الرجلُ ولكنه فشل في حمل «حفيده؟» معه فنزَل، وسرعان ما أتى أتوبيس آخر، وكان الرجل هذه المرةَ يحمل الصغير في يدَيه فأعطاه لأحد الركاب وقبل أن يتمكن من الركوب تحركَ الأتوبيس فجرى خلفه حتى استعادَ الطفل، وشُغلت بموضوع الرجل والطفل بعضَ الوقت وهو يحاول الركوب عبثًا، ثم قرَّرتُ مساعدته فحملتُ له الطفل، وصرختُ في الركاب، ولكن المحاولات لم تنجح، فوضعتُ الطفل على الأرض، وإذ بيدٍ تمسني برفق ووجه سميراميس يُطالعني ضاحكًا فدهشتُ إذ كنت نسيتُ الموعد تقريبًا! واصطحبتُها ومضينا سيرًا على الأقدام، وبدلًا من التوجُّه إلى وسط البلد سِرنا على الكورنيش في اتجاه روض الفرج، ورغم جمال جوِّ الشتاء، ودفء الشمس، قررنا شراءَ بعض المرطبات بعد إلغاء فكرة المقهى، ووقفنا عند بائع المياه الغازية، وإذا بي ألمح العجوز وهو قادمٌ نحونا يسير الهُوَينى على الكورنيش مع الصغير.

كان فشلُ العجوز في ركوب الأتوبيس أمرًا عاديًّا في الواقع، ولكنني حمَّلتُه بمعانٍ رمزية ربما لم يكن يتضمَّنُها، وكان التناقضُ بين حالي الذي كنت أعتبرُه حالَ خالي الذهن اللاهي، وحال ذلك الرجل الغامض الذي قرَّر المسير بعد أن أعيَتْه محاولاتُ الركوب، باعثًا على تأمُّلاتٍ ربما لا تكون لها علاقةٌ مباشرة بالحدث نفسِه، وقرَّرتُ تصويرَ الموقف في قصة قصيرةٍ من لونٍ ما، ولكنني فشلتُ وكانت جميع الدلائل تشير إلى استحالة كتابة القصة.

وتذكرت تلك الحادثة بعد عامين وأنا أحاول تسجيل قصة أبو التسهيل، وعزوت الفشل في الحالَين إلى تصوري الخاطئ أن الفنان يستمدُّ مادته من الحياة، أي إنه يستلهم الحياةَ بصورة مباشرة، وعندما درَستُ المدارس النقدية الحديثة وتعمَّقت فيها إلى حدٍّ معقول، علمتُ أن الكاتب يكتب في إطار التقاليد الأدبية التي قد تقوم بدورٍ أكبر من دور «المادة الخام» في تشكيل العمل الفني، وأن الخطأ الأساسي الذي وقعتُ فيه كان سماحي للصور البصرية أن تُسيطر على ذهني بحيث تُعرقل حرِّيتي في الكتابة «في إطار تقاليد القصة القصيرة»! ولكنني كنتُ وما أزال أعزو عَجْزي إلى عدم طواعية الأسلوب النثري، وهو الذي لم يَسْلس قِيادُه لي بالعربية حتى احترفتُ الترجمة، فالدرس الذي خرَجتُ به من هذه الحِرفة هو أن المترجم كاتبٌ يُرغَم إرغامًا على صياغة قولٍ قاله غيرُه (وبلغةٍ غير لغته) صياغةً ناصعة واضحة! إنه مرغم على قولِ ما قد لا يقوله إلا مُضطرًّا، وسوف أضرب مثلًا لهذا الدرس الذي تعلَّمتُه وشقيت في تعلُّمه شقاءً كبيرًا!

كنا نجلس — سمير سرحان وأنا — ذاتَ يوم في مقهى «صان صوصي» بالجيزة، وكان قد انتهى من المخطوط الأول للمسرحية الأولى التي يُؤلِّفها منفردًا، وكان يقرأ لي بعضَ التعديلات التي أدخلها بناءً على اقتراحات رشاد رشدي، حين دخل فجأةً شابٌّ سوداني كان يدرس لدينا في قسم اللغة الإنجليزية، واسمه سيد أحمد الحردلُّو، وهو سَميُّ شاعر سوداني شعبيٍّ كبير، وكان كغيره يعرف أننا كنا نختفي عن الأنظار في هذا المكان، فجلس وطلب الطعام ريثَما ننتهي من القراءة، وبعد ذلك أتاني ليُعاتبني، إذ كان قد بلَغه أن هدى حبيشة (الدكتورة) كانت وصفَت ديوانه الأول بأنه «لا يساوي تلاتة تعريفة»، وكان يتوقَّع من أعضاء القسم بعضَ التشجيع، وتولى سمير سرحان «تطييب» خاطره؛ فهو يتمتَّع بعبقريةٍ خاصة في هذا الصدد، وقال له إنها كانت تقصدُ الطباعة ونوعَ التجليد، ولكن سيد أحمد كان مُستاءً فقال له سمير مُداعبًا: «إذا كنتَ شاعرًا حقًّا فاكتب لنا قصيدةً في مدح سجاير البلمونت التي أُدخِّنها أنا وأنت، ولا تنسَ أن تهجوَ ما يُدخِّنه محمد عناني.» وكنتُ أدخِّن نوعًا اختفى الآن اسمه «معدن ممتاز» كانت تُنتجه شركة كوتاريللي!

وفي لمح البرق بدأ سيد أحمد الحردلُّو يقول:

أحلى السجائرِ قاطبَة
لَمَّا تجيءُ مُرطَّبَة
سيجارةُ البلَمونْتِ يا
ذاتَ العطور الصاخبَة
إن هاجَتِ الأفكارُ في
رأسي وماجَتْ غاضبَة

فصاح سمير قائلًا: «أو إن سمعت الرعد في ودانك!» وضحك سيد أحمد لأنه لم يكن يعرف دلالةَ المصطلح المصري، ولكنه أدرك أن سمير معترضٌ على ما يقول، فسأله ما الخبر؟ وقال سمير: «إيه هوَّ اللي لما تجيء مرطبة؟» فقال الشاعر: «يعني الدخان طري!» فقلت له إنها الضرورة الشعرية! فقال سمير: «ضرورة إيه؟ ده كلام عامِّي خالص!» ثم تحوَّل إليَّ وقال لي: اكتب أنت! وعلى الفور كتبت:

همسَت فتاتي لي ولم تعبَأ بشيء:
«إني أريد سِجارةً!»
وأجبتُ ها هي في فمي،
ظمْأَى وتَجْرعُ من دمي،
هيَّا اقطِفيها إنها حمراءُ يانعةُ السَّعير،
ودُخَانها المحموم يرقصُ حول رأسي كالسَّكِير،
لا تحسبينها «بِلْمُنًا» ذاك الحقير!
لا يا فتاتي! «مَعْدني الممتاز» أنساني حياتي!

وصاح الحردلُّو: «وهذا يُثبت الضرورة الشعرية فكلمة بِلْمُنْ هي بلمونت! ثم إن عناني عنده سبب زيادة في البيت الأخير!» وقلتُ له: أُمَّال لو شفت العَك اللي أنا عاملهولك في قصيدة ثانية وفتحتُ الحقيبة وأخرجت له قصيدةً طويلة فقَدتُ أصلَها وأذكر منها المطلعَ وبعض الأبيات واسمها بنات القاهرة! وأذكر أن المطلع كان يمزج الرجَز بالكامل مما كان يُمثل قلقًا دائمًا لي:

إذا أتيتَ يا صديقي واحتضنتَ القاهرَة،
وتُهتَ في شِعابها تَحْدوك رؤيا عابرَة،
ووقفتَ عند النيل تَرْنو للمياهِ الساحرَة،
يحنو عليك الشطُّ تَرْعاك النخيلُ الآسرَة،
فامرَحْ بأحياء السَّكارى والخبايا الكاسرَة،
واجْرَع رحيقَ الفنِّ في زقِّ الرحيق الطاهرَة!
عِش يومَها هَوْنًا وصاحِبْ ليلَها هونًا ولكنْ،
يا صديقي إن حَنا بردُ المساء احذَرْ بناتِ القاهرَة!

وضحكنا! كانت النغمة هازلة، ولكن التجرِبة التي أوَدُّ تسجيلها هي أن المؤلف له أن يقول ما يشاء؛ إذ سرعان ما قال الحردلُّو: «أنا أستطيع تغييرَ الكثير في هذا الشعر حتى أرتفعَ بمستواه وأكْسِبَه نغمةً جادَّة!» وبدأ يعترض على كلمة «الكاسرة» وقال إنها أليقُ بزقِّ الرحيق، وعلى كلمة «الساحرة» لأنها «كليشيه» مؤكدًا أن هذا هو ما علَّمتُه له أنا في دروس النقد التطبيقي، وعلى كلمة «الآسرة» … فقلتُ له: «أنت تعترض على كلمات القافية كلها؟» فقال «وعلى البيتين الأخيرَين اللذين لا أولَ لهما ولا آخر!» وضحك سمير سرحان جدًّا وقال: «مش كفاية على عناني مراجعة الترجمة؟ ناقص له كمان مُراجع شعر؟» وفجأةً أحسستُ بجِدِّية الموضوع! إننا نكتب ما نريد ونغيِّر ما نريد، ثم يأتي مترجمٌ كتَبَت له الأقدارُ أن يُترجم هذا إلى لغةٍ أخرى فيتَفانى في البحث عن المقابل الدقيق وإن لم يجده فالويلُ والثبور، وعظائم الأمور! وبدأتُ أتأمَّل معنى ما كتبت: ما معنى «يحنو» و«حنا»؟ وما معنى «هونًا»؟ وسمعتُ الحردلُّو يقول (ويبدو أنه كان يتكلم دون أن أعيَ تمامًا ما يقول): إيه دي أحياء السكارى؟ فضحكتُ وقلت: أحياء الحيارى؟ فقال لا: أنت تقصد أهل الفن! فقال سمير: يقصد «أوكار السكارى!» وضحكنا! كان كل شيء قابلًا للتغيير، والنص حتى لو نُشر سيظلُّ «مشروع نص» ولن يصبح مقدسًا إلا عندما يُكَلَّف مترجمٌ بترجمته!

وقال الحردلُّو: ولماذا أحذَرُ بناتِ القاهرة؟ فقلتُ له: هذا ما يأتي في فقرات تالية؛ إذ أقول:

فالبنتُ في بولاقَ عند السوقِ عودٌ من قصَبْ،
سمراءُ فارعةٌ تُظلِّلُها نَواصٍ مِن ذهب،
تتناثرُ الألفاظُ من فَمِها بأنغامٍ عَجَب!
حينًا تسبُّ البائعين وتشتمُ الأترابَ رائعة الصَّخَب!

وضحكنا، وعاد الحردلُّو للنقد، ثم قال لي: أكمِل، فقلت:

والبنتُ في حيِّ الزمالك نزوةٌ من الترَفْ،
في كل ما تحيا به أصداءُ لمسة السَّرَف،
فكأنَّ فِرعونًا أصيلًا بثَّها روحَ الصلف!
والبنتُ في حيِّ الحسينِ زهرةٌ ما أينَعَتْ،
هيفاءُ تَحسدُها الطبيعةُ أنكرَت ما أبدَعَت،
ملفوفة الأعضاء ناعمةٌ تكاد لو انْثنَت!

وعاد الحردلُّو يسأل: ولماذا الحذر؟ فقلت:

فبناتُ قاهرةِ المعزِّ من الشَّمال إلى الجنوبِ إماءُ خِصْبٍ وقرارِ،
الحبُّ ليس له سِوى عقدِ الزواج يَصونه في عُقرِ دارِ،
والقُبلة البيضاءُ تُنجب عَقْد أطفالٍ صغارِ.

وأذكر أننا في هذا اليوم تواعَدْنا على اللقاء، وعندما طرأ طارئٌ أخلَّ بموعدي وجدتُ أن الحردلُّو أرسل لي قصيدةَ هجاء مطلعها:

أتُوعِدُني وتُخلف يا عناني
وقبْلَك قطُّ ما كانت غَواني

وكان هذا البيتُ مصدرَ فرحٍ وسرور لسمير؛ إذ لم يلتفت للخطأ في الكلمة الأولى (المفروض أنه يقصد «أتَعِدُني»)، ولكنه عجب أن يكون عناني هو أولَ غانيةٍ في التاريخ!

وعلى الفور ردَدتُ عليه بقصيدة مطلعها:

تهجو الضياءَ وأنت للشُّعراء ظِلُّ!
وتسُبُّني في موعدٍ أخلَفتُ يا حَردلُّو؟!

ودارت الأيام، والتقيتُ عام ١٩٦٩م بالشارع في لندن بعد أن أصبح دبلوماسيًّا يُشار إليه بالبنان، فإذا به قد نسي الشعرَ وأيام القريض، وانطوَت صفحةٌ لم أكن أودُّ أن تُطوى؛ إذ كنتُ إذ ذاك طالبًا أدرسُ للدكتوراه، وكان قد تخطى ذكرياتنا، ونسي أيامنا.

وكان سمير سرحان يجد في هذا الشعر الذي يُطلق عليه البعضُ صفة «الحلَمَنْتيشي»، ويضعُه البعض الآخَرُ في باب «الإخوانيات»، متعةً كبيرة، وكان يضحكُ كثيرًا من النظم التعليمي الذي كان والدي يساعدنا به في «الدراسة»، وقد أورثه ذلك — دون أن يدريَ — موقفًا خاصًّا من الشعر التقليدي.

والواقع أن بُعدَ الشُّقَّة بيننا وبين الشعر الكلاسيكي، وعدم اتساق لغته مع لغة الحياة المعاصرة، من العوامل التي جعَلَت جيلنا يُفضِّل الشعر الجديد. وكان والدي قد كتب قصيدةً طويلة أسماها «القصيدة الدُّرِّية» (نسبةً إلى شارع الدري، وإلى الدُّرِّ في الوقت نفسِه طبعًا) وضَع فيها «خلاصة» تَجارِبه في الحياة، ويستهلُّها استهلالًا تقليديًّا:

إلى اللهِ أشكو ما ألمَّ بساحتي
وخيبةَ آمالٍ تقودُ لمِحْنتي
إلى الله أشكو وَهْو بالسرِّ عالمٌ
فليست إلى زيدٍ وعمرٍو شِكايتي!

ثم يتطرَّق فيها إلى خطأ «تجرِبة» الزواج، موجِّهًا إلى الشباب في آخِر ذلك الجزءِ نصيحةً غريبة:

فلا تَقْرَبِ الدَّهرَ النساءَ فقد جنَتْ
على آدمٍ حوَّاءُ من بَدْء خِلْقةِ

وينتقد الحياة في المدن، وينصح بسُكنى الريف صراحةً:

عليك بسُكْنى الريف إن كنتَ راغبًا
صيانةَ مالٍ بين كُوخٍ ودَوْحةِ

مُلَمِّحًا بذلك إلى أنه فقدَ ميراثه بسبب العيش في المدينة، وهو خطأٌ صريح، ولكن سمير كان يحبُّ الشعر الفكاهي الذي كان يَنظِمُه والدي عن ألوان الطعام أو الفيتامينات ويتندَّر بأبياتٍ مثل:

ألفَ الفتامين الملوخُ وزبدةٌ
بقدونسٌ لِفْتٌ صَفارُ سَبانخِ

فالمقصود بالصَّفار هنا هو صفار البيض، ولكن إضافة الكلمة إلى السبانخ تُخرج تأثيرًا فكاهيًّا، وكذلك الملوخ (أي الملوخية) أو البيت التالي:

ولا تنسَ الأرانبَ إنَّ فيها
بروتينًا به أسُسُ النَّماءِ

وكان سمير يَدْعوني إلى كتابة مِثل هذه الفُكاهات، فكتبتُ مرةً قصيدة ضاعت وإن كنت أذكر مطلعَها موجَّهةً إلى فاروق عبد الوهاب، الذي كان يتميَّز بالقلم السيَّال، بالعربية وبالإنجليزية، وكنتُ أعجب بقدرته على كتابة المقالات في جميع المجلات الثقافية التي تُصدِرُها وزارة الثقافة:

فاروقُ يا ربَّ الكتابة في مِجلَّات الوزارَة
ربَّ السلاسةِ والمهارة والرَّصانة والشطارَة!

ولمَّا كان سمير مُولَعًا بإملاء ما يكتب على الآلة الكاتبة، ويقتصر على المسرح فقد تطلب قصيدة مختلفة تذكر ما يُمليه وتؤكد تَمكُّنَه من «الدرامة».

سرحانُ يا ربَّ الدرامةِ والمقالاتِ العجيبَة
في كلِّ ما تُمليه من أشياءَ أفكارٌ مُريبَة

وكان فاروق عبد الوهاب — الذي أصبح بعد رحيلنا — سكرتير مجلة المسرح الأوحدَ لسنوات طويلة، ما يزال يذكر قصيدتي الفُكاهية، حتى بعد أن استقرَّ به المقام في شيكاغو وأصبح أستاذً للغة العربية وآدابها هناك.

وكان أخي الأصغر مصطفى آنذاك ما يزال طالبًا في كلية التجارة، ولكنه كان دائمًا أقربَ الناس إلى قلبي؛ فهو يشاركني حُب الأدب والاستمتاع باللغة، وكان كثيرًا أثناء أيام دراستي في الجامعة يُصاحبني في نزهاتي في القاهرة، وكنت — رغم فارق السنِّ الصغير — أمتاز عنه بالضخامة، فكان يستمتعُ بما أشتريه من مأكولاتٍ تدخل في عداد «الرَّمْرمة»؛ مثل الفول السوداني واللب (بذر البطيخ) والحِمَّص والجيلاتي — بل والكشري! وكنتُ أقرأ عليه هذا الشعر الفكاهيَّ فيضحك منه ويجده مسليًا، وكنتُ ما أزال أثقُ فيه ثقةً مطلقة، فكنتُ أبوح له بأسراري كلِّها، وكان يحفظها ويدهش منها، وقد اتَّجه في يوم من الأيام بعد تخرجه عام ١٩٦٥م وعمله في هيئة السد العالي إلى كتابة القصة القصيرة، ونشر بعض قصصه في مجلة «صباح الخير»، وكانت قصصه تتميَّز بعُمق النظرة الإنسانية والتحليل الدقيق للمشاعر، ولكنه كان يُشاركني أنا وسمير «الحس الفكاهي» فكان يعمد — مثل نعمان عاشور في بداية حياته الأدبية — إلى السخرية، وكان يلتقط بسهولةٍ ويُسر «اللقطات» المضحكةَ في حياتنا، وكنتُ في أعماقي أحسُده على سلاسة أسلوبه، وأحاول محاكاته فلا أُوفَّق، ربما بسبب الوعي الذي كان يتزايدُ لديَّ بنماذج النثر الغربي الذي كنت من مُدمني قراءته بعد التخرج.

كنت أكتشف يومًا بعد يوم مَدى الصعوبة التي تُواجه كاتبَ النثر، ومدى المعاناة التي لا بد أن يُكابدها مَن يُصرُّ على إيضاح أفكاره، ولم يكن الشعرُ موطَّأَ الأكناف، فكتابة النَّظم يسيرة، أما كتابة شِعر مثل ما يكتبه صلاح عبد الصبور أو أحمد عبد المعطي حجازي فكانت مستحيلة، ولم يكن أمامي إذن سِوى المسرح!

ومع اشتداد حرِّ صيف ١٩٦٤م أصبحَت جلسات لاباس — المقهى المكيَّف الهواء — أفضلَ مكان لقضاء فترة الظهيرة والعصر، وكانت نهاد صليحة قد عرَفَت المكان وأصبحَت ترتادُه معنا، وكان المفهوم أنني أحاولُ أن أخطب وُدَّها بأسلوبٍ جديد، فهي على أبواب السنة الثالثة، وهي موهوبةٌ وطَموحة، ونظريتي في الحبِّ التي كنتُ أدعو إليها هي ما كنت أُسميه «الحب المركَّب» أي الحب الذي يتحول إلى أسلوبِ حياة مشتركة، أي لا يقتصر على لواعج الغرام التقليدية القائمة على تجاذب الجنسَين بعضِهما إلى البعض، وقد قبلَت نهاد ذلك ورحَّبَت به، وكانت أحيانًا تقضي المساءَ معنا أنا وسمير سرحان ثم نوصلها بالتاكسي، أو أحيانًا سيرًا على الأقدام، إلى منزلها.

كانت صعوبةُ الخروج من مصر تُمثل لكلٍّ منا عائقًا مخيفًا، ومِن ثمَّ وطَّنت النفس، رغم تفاؤل سمير، على البقاء واستكمال دراستي في القاهرة، وبدلًا من الانكباب على ترجمة «روميو وجوليت»، تحوَّلتُ إلى الرسالة فبدأتُ أضع الخطوط الأولى للحُجة التي أعتبرها جوهر الرسالة، وهي أن الشاعر عندما تحوَّل عن الاتجاه الثوري في الفنِّ والسياسة والدين، انعكس ذلك كلُّه في صياغته للصور الشعرية شكلًا ومضمونًا، ولكنني كنتُ كلما بدأت الكتابة، وجدتُ أبياتَ الشعر العربية تُزاحم الإنجليزية، وكلما استغرقتُ في كتابٍ بالإنجليزية وجدتُ بعض الواجبات «النقدية» في مجلة المسرح تطلب مني بذْلَ الجهد، وفي سبتمبر ١٩٦٤م كنا نحضر إحدى مناقشات الماجستير حين التفَتُّ إلى نهاد وقلتُ لها بأسلوبٍ تمنَّيتُ أن يكون غيرَ تقليدي «إحنا طبعًا حنتجوِّز!» وتلَعثمَت، ولا أدري ما قالته فقد كان غمغمةً فهمتُ منها أنها موافقة.

وعندما أخبرتُ سمير قال: «يا سلام! حتتجوز لوحدك؟» ولم أفهم ما يعني ساعتها، ولكنني فهمتُ بعدها بأيام عندما جاءني متهللًا وقال: «أنا خطبت أمينة صبري!» وكانت طالبةً لدينا في السنة الثالثة، وهي الآن كبيرةُ مذيعات صوت العرب، وعَلَمٌ من أعلام الفن الإذاعي في مصر، وكدتُ أن أقولَ له ولكن أمينة لا تستطيع الخروجَ معنا، ولكنني أحجمتُ! ورحب فاروق عبد الوهاب بهذه الأخبار، ولكنه قال إنه ما يزال يبحثُ عن الفتاة الضخمة، وكان يُسميها «ذات العود السِّرِح» أي الطويلة أساسًا! وكان ما فتئ يُقلِّب بصرَه فيمن حوله فلا يجد الطول المناسب، وإن كان قد وجده بعد ذلك بعدةِ سنوات.

وفي أكتوبر بدأ العام الدراسي وشاعت أنباءُ ارتباطنا أنا وسمير، وكان الأهم هو أن المسرح القومي سوف يُقدم «الخال فانيا» من ترجمتي أنا وسمير، وكان المخرج رجلًا روسيًّا يُدعى لزلي بلاتون، واسمه الأول إنجليزي واسمُه الثاني فرَنسي (يعني أفلاطون) بمساعدة المخرج المصري كمال يس رحمه الله.

٩

كان المشهد داخل قسم اللغة الإنجليزية يتغيَّر بسرعة؛ إذ أُصيب الدكتور محمد يس العيوطي الذي كان يُدرِّس لنا الرواية والدراما بشللٍ نصفي، وكان الدكتور أمين روفائيل قد شارفَ على الستين (سنِّ التقاعد) دون أن يحصلَ على درجة الأستاذية؛ إذ لم يكن قد انضم رسميًّا إلى أعضاء هيئة التدريس؛ ولذلك لم يكن من الجائز قانونًا أن تنطبقَ عليه شروط الترقي، فكان يَشغل وظيفة محاضر أول، وكان قد مضى على حصوله على الدكتوراه عشرُ سنوات، وكان الدكتور أمين رحمه الله فريدًا في كل شيء؛ فهو لم يتزوج أبدًا، وكان على إيمانه بالعلم وتفانيه فيه يَسْخر منه، وكان كثيرًا ما يصطحبني بعد الدروس إلى مقهاه المفضَّل في شارع عماد الدين حيث نُناقش الشعر الرومانسي، وكان يحاول قبل التأميم إقناعي بالعمل بالتجارة مع خالي (إذ كان صديقًا حميمًا له) ثم أصبح يقول لي: «كنت أنصحك بما ثبتَ فشَلُه، وأصدُّك عمَّا تأكدتُ من عدم جدواه، فالآن لا أدري ماذا أقول لك!» وكان المقهى يقع على ناصية مقابلةٍ لمكتب خالين في مواجهة سينما «كوزمو» القديمة، وعلى مبعدة خطوات من مسرح محمد فريد، وكثيرًا ما كنتُ أراجع معه تَجارِبَ كتبه الرائعة في الشعر الإنجليزي، وهي المختارات التي انتقاها بصبر وعناية من تراث الشعر الإنجليزي الحافل، أو أراجع معه ترجماته لقصص جيمس جويس، ولا أعرف هل نُشِرت فيما بعد أم لا، وقد احترمتُ منتخباته من الشعر الإنجليزي — التي كانت تُدِرُّ عليه دخلًا متواضعًا — حتى تُوفي، ولم أُقدِم على إعداد المختارات الجديدة أنا والدكتور ماهر شفيق فريد إلا بعد أن أذن لنا صاحب مكتبة الأنجلو، بعد أن تأكدَ له أنه لم يَعُد للدكتور أمين ورثةٌ يُمكِنهم الإفادة من الدخل.

وكان لدينا بالقسم أستاذةٌ صامتة ذات أسرار لا تُكْتَنه؛ هي الدكتورة صفية ربيع، وكل ما كنتُ أعرفه عنها كان مُستقًى من خارج الجامعة، فكنتُ أعلم أنها زوجة الكاتب والناقد بدر الديب، وأنها ترجمَت مسرحية لثورنتون وايلدر، وأخرى لشيكسبير في سلسلة ترجمات جامعة الدول العربية، وحينما عدتُ عام ١٩٧٥م بلَغَني أنها استقالت.

وكان من المدرسين لدينا بالقسم (مُدرِّسي اللغة) عددٌ كبير ممن انتدبَهم رشاد رشدي من المدارس الثانوية، وكان بعضُهم مُعيَّنًا والبعضُ الآخر منتدَبًا من الخارج، وكان أنجحَهم أثناء فترة دراستي الأولى في الخمسينيات شابٌّ رقيق مهذب هو محمود شكري مصطفى، الذي اشتهر فيما بعد باسم الدكتور شكري. وكان له أخٌ يعمل طبيبًا في سلاح الطيران اسمه الدكتور رمزي، وفي عام ١٩٦٣م عاد الدكتور شكري من أيرلندا بعد أن أتمَّ كتابة الدكتوراه لكنه لم يحصل على الدرجة لسببٍ غريب ونادر؛ وهو أنه رسَب في الامتحان الشفوي؛ وذلك أن امتنع تمامًا على الحديث مع أعضاء اللجنة، فلم يُجِب على أيِّ سؤال ولم يقل أيَّ شيء، وكان يجلس في القسم بعد عودته صامتًا، وقيل لي إن لديه اكتئابًا نتيجةَ تفانيه في الدراسة؛ إذ حبَس نفسه أربعَ سنوات كاملة في غرفة في دبلن، يُدخن ويقرأ ويشرب القهوة ويكتب، حتى أصابه ذلك المرضُ النفسي اللعين.

وسرعان ما اكتشف الدكتور سعد جمال الدين سرَّ اكتئابه؛ فالدكتور سعد — إلى جانبِ ما ذاع عنه من إتقانٍ لا يُجارى ولا يُبارى في اللغة الإنجليزية — «ابن بَلَد» من الطراز الأول، وهو ما يُسمِّيه العرب «ألمعي» (بالعامية المصرية «يفهمها وهي طايرة») ولَوْذَعي نحرير! أما السبب فهو أن الدكتور شكري «يريد أن يتزوج»! وطلب مني الدكتور سعد أن أبحثَ الموضوع، فوعَدتُه خيرًا، واتَّضح أن سعد قد تولَّى فحص الحالة جيدًا؛ ومِن ثَمَّ وجدتُ الدكتور شكري يطرق بابي ذاتَ يوم (في شارع الدري بالعجوزة) ليسألَ عن زميلةٍ لي ورحَّبتُ به وحادثتُه طويلًا في غرفة الصالون المتواضعة، وأفهمتُه أن الفتاة التي يسأل عنها قد تزوجَت منذ سنوات، وأنَّ لديها غلامًا يُدعى طارق! فقال في حسرة: «آه! أم طارق طارت!» وضحكتُ مؤكدًا له أن هناك كثيراتٍ غيرَها يمكنه الاقترانُ بهن، فذكر عدةَ أسماء — من بينهن أسماء زغلول التي تُوفِّيَت في حادثة طائرة، ولم يكن بطبيعة الحال يعرف ذلك، وأخريات من الأفضل عدمُ ذكر أسمائهن.

ومع بداية عام ١٩٦٤م وصلَت أخبارٌ مفرحة تفيد أن مجلس جامعة دبلن قد وافق على منح الدكتور شكري الدرجةَ العلمية دون امتحان. وكان ذلك من العوامل التي ساعدَت على تخفيف مظاهر اكتئابه، ويبدو أنه قرر عدمَ الاعتماد على أحدٍ في البحث عن عروس، حين شاهد فتاةً ذات شعر بلاتيني، بيضاءَ هيفاء، كثيرًا ما تجلس على كرسيٍّ في الممر أمام غرفة عم علي (رحمه الله) بحجة شرب الشاي. ومِن ثَمَّ فاتحها في موضوع زيارتها في المنزل لاتخاذ الإجراءات اللازمة فرحَّبَت، وكنتُ أدهش من تجاهله لفارق السن، ولكنَّ الشعر البلاتيني كان عاملًا حاسمًا، رغم ما همسَت لي به إحدى زميلاتي من أنه «غير طبيعي» أي مصبوغ!

ووفقًا للموعد المضروب زارها الدكتور شكري في المنزل فلم يجد أباها، ولكنَّ والدتها رحَّبَت به كلَّ الترحيب، وكانت منهمِكةً في إعداد «مربَّى البلح»، فدَعَته إلى مشاركتها في تنظيف البلح «السمَّاني» المستخدَم في المربَّى بإخراج النوى منه، ففعل راضيًا وانقضَت السهرة دون أن يعود الأبُ، ودون مُفاتحة الأسرة في الموضوع. وعندما قصَّ علينا ما حدث قال له سمير سرحان أن ينسى الفتاة، وذكَّرَه بأن لها أنفًا ضخمًا، وبأنها غيرُ مجتهدة، ودعاه إلى الخروج معنا لمشاهدة فيلم «الحذاء الأحمر» وتناوُل الطعام عند «أرتين» وهو مطعم طاهٍ أرمنيٍّ عبقري، اكتشفه الدكتور شفيق مجلي، فخرَجْنا جميعًا وأمضينا وقتًا ممتعًا، وأوصلناه بالتاكسي إلى المنزل، وعند وداعه قال له سمير: «خلاص بقى؟ ننسى الموضوع؟» فضحك رحمه الله وقال بعد ثوانٍ بدَت طويلةً ممتدة: «بس شعرها بلاتيني!» وعندما حاولتُ الكلام نغزني سمير فسكَتُّ، وضحكنا ولم نُعقِّب.

ولا بأس من استكمال قصته هنا، استباقًا للأحداث؛ فعندما عدتُ من البعثة عام ١٩٧٥م كان الدكتور شكري ما يزال يبحث عن عروس، وكان قد عُيِّن أستاذًا في جامعة الأزهر دون المرور بالترقيات المعهودة، وذلك أنَّ هناك قانونًا من قوانين الجامعة يُعمَل به أحيانًا ويُعطَّل أحيانًا أخرى، وهو يقول إنه يجوز تعيين أستاذ مساعد من خارج الجامعة إذا كان قد مضى على تخرُّجِه عشرُ سنوات، ومضى عامٌ على الأقل على حصوله على الدكتوراه، ويجوز تعيينُ أستاذ من خارج الجامعة إذا كان قد مضى على تخرُّجه ثمانيةَ عشر عامًا وعامان على الأقل على حصوله على الدكتوراه، وفي عام ١٩٧٥م سُمِح بإعمال القانون لتعيين أحد أقرباء كبار المسئولين في الحكومة، فتقدم شكري وحصل على الوظيفة، فأدرك الفرصةَ قبل إعادة تعطيل القانون بأيامٍ معدودة. ولا أدري الآن هل القانون مُعَطَّل أم ساري المفعول.

ولم تمضِ سنواتٌ حتى حصل شكري على وظيفةٍ للعمل بجامعة الإمارات العربية المتحدة في مدينةِ العين، ولم يكن بحثُه عن العروس قد توقَّف، وقد سمعتُ شائعةً مفادُها أنه كان يحبُّ فتاةً في صِباه، وهي أستاذة (لا أستطيع ذكر اسمها) في إحدى الجامعات، فلما رفضَته سبَّبَت له هذا التأخير. على أي حالٍ وجد ضالَّتَه ذات يوم في فتاة فلسطينية تعمل مذيعةً في التلفزيون الإماراتي، وتزوجها، وكنا نتابع أخباره في سعادة، ولكن الزواج كانت له ذيولٌ غير متوقَّعة؛ إذ كانت الزوجة تمارس نشاطًا تِجاريًّا يتطلَّب ضمانًا من البنك قدره مائة ألف دولار، وكان من الطبيعي أن تطلب منه ضمانَها، فوافق، ولم تَمضِ فترةٌ طويلة حتى أعلنَت إفلاسها وكان عليه أن يدفع المبلغ، فدفع معظمَه مما ادَّخر من راتبه، واضطُرَّ إلى بيع أملاكه في مصر لسدادِ الباقي، ومِن ثَمَّ تركها وانتابَهُ الاكتئاب وأُهرِع إليه أخوه الطبيبُ فعاد به إلى القاهرة، وما لبث أن أُصيب بصدمةٍ عصبية أوْدَت بحياته وتُوفي في غضون أيام معدودة — رحمه الله.

وكان الدكتور شفيق مجلِّي من أبناء الإسكندرية، ولم يكن متزوجًا هو الآخر، ولكنه كان على علاقة وثيقة بفتاةٍ بلجيكية تعرَّف عليها في لندن، واستمرَّت مُراسَلاتهما حتى حانت له الفرصةُ للحصول على إعارةٍ للتدريس في جامعة فاس بالمغرب، ومن ثَم تزوَّجها واستقرَّ به المقام أعوامًا، ثم رحل معها إلى أوربا حيث انقطعَت أخباره، وإن كنتُ أحاول متابعةَ أخباره من أخوَيه، أستاذ الآثار النابه منير (الدكتور) وعالم اللغة الشهير فؤاد (الدكتور) الذي شارك في إعداد قاموس أكسفورد (إنجليزي عربي) وقال عنه «دونياخ» مؤلف القاموس إنه كان ذراعَه اليمنى ويدَه اليمنى معًا! وقد زُرته في أكسفورد أثناء مقامي في إنجلترا، وأسعدَني أن أسمع أن كُنْيتَه كانت «المصري النابه».

أما الدكتور شوقي السكري فقد استطاع الحصول على وظيفةٍ للتدريس في أمريكا، في جامعة «سكرامنتو» في كاليفورنيا، وكان يختفي ويظهر تسبقه خطاباتٌ وشهادات تتغنَّى ببراعته ونشاطه العلمي، وكان رشاد رشدي يَعجب مما أعجبَ الأمريكان فيه، ولكنني كنتُ أعرف مدى حبِّ الأمريكان للفهلوة المصرية، واللهجة البريطانية التي تنمُّ على ثقافة عالية، ولا شك أن الأمريكان كانوا يُدهَشون لبراعة ذلك المصريِّ صاحب الذلاقة والبراعة، وكان الطلَبة يتعلَّقون به لقُدرته على استمالة المستمِع بمنطقه الخاص، وهو الذي يوحي فيه بالتبحُّر والتعمُّق، ولم يكن الأمر يتعلَّق، في النهاية، بتوظيفِ باحث (فلديهم كثيرون) ولكن بتوظيف مُعلِّم قادرٍ على اجتذاب الطلبة؛ فالطلبة يدفعون مصاريف الدراسة، ولا حياة للجامعات الأمريكية دون مصاريف!

وانتهى الأمر بالدكتور شوقي السكري إلى الزواج من مصريةٍ اسمها سهيرندا، كانت زميلةً لزوجتي نهاد، وفي نفس العمر تقريبًا، واصطحبَها معه إلى أمريكا (كانت الزوجة الرابعة أو الخامسة) وبعد أن أنجبا طفلين، انفصلَت عنه وتأمْركَت وتزوجت من أمريكي.

كان ذلك كلُّه ما يزال في طيِّ الغيب عام ١٩٦٤م، ولكنَّ بوادر التشتُّت كانت تَلُوح في الأفق، وكنتُ أنا نفسي أتصوَّر الاستقرارَ خارج مصر وأحيانًا كنتُ أعجب لمن تُتاح لهم فرصة «الخروج» ثم يرجعون، وكنتُ مشدودًا بقوةٍ جبارة إلى قصيدة صلاح عبد الصبور «أغنية للقاهرة» التي يقول فيها:

وعندما رأيتُ من خلال ظُلمة المطار،
نورك يا مدينتي،
عرَفتُ أنني غللتُ للشوارع المسفلتَة،
إلى الميادين التي تموتُ في وقْدتِها خُضرة أيامي!

كانت وَقْدة حرِّ القاهرة وحدها كفيلةً بإضفاء جوٍّ سحري على «بلاد برة»، ولكن اللغة العربية التي عادت بي من إنجلترا هي الحبل الذي كنتُ أستمسك به، وكنت لا أتصوَّر لي وجودًا حقيقيًّا خارج مصر؛ ولذلك فقد كان موضوع الرحيل والعودة من الموضوعات التي تَشغل بالي بصورةٍ مختلفة، وكان سمير سرحان يشاركني هذا الاختلاف، فلم يكن يتصورُ أبدًا أن يحطَّ الرحال خارج مصر إلى الأبد، وكنا أحيانًا ما نناقش موضوع المستقبل من حيث العودةُ لا من حيث الرحيل، هذا إذا قدَّر الله لنا أن نرحلَ من مصر على الإطلاق!

وذات يوم عثَرتُ على مجموعةٍ قصصية للكاتب الروسي العظيم تشيخوف مترجَمةٍ إلى الإنجليزية، وكانت تتضمَّن قصة العنبر رقم ٦، وبدأتُ قراءتَها، على طولها، ربما بسبب جاذبية الفقرة الافتتاحية، ولم أستطع أن أُلقي بالكتاب حتى انتهيتُ منها. كانت تُصور حالَ طبيب تتدهور حالته النفسية حتى يصلَ إلى مرحلة الجنون، وينتهي به الأمر إلى دخول عنبر المرضى بدلًا من الإقامة مع الأطباء، رغم تميُّزه وتفوقه، وكان سحر القصة يرجع إلى أنها تُروَى بضمير المتكلم، بحيث لا يملك القارئ إلا أن يتعاطفَ مع الطبيب، وأن يُوحِّد في خياله بين حاله وحال الطبيب، وفي النهاية يبدأ القارئُ في الشكِّ في معنى العقل ومعنى الجنون! كانت الساعة قد قاربَت الرابعة صباحًا فنمتُ نومًا قلقًا ساعةً أو بعضَ ساعة، ثم أفَقتُ مذعورًا وحاولتُ النوم ثانيًا فلم أستطع، ومِن ثَمَّ اغتسلتُ وتهيَّأت للخروج واتَّجهت إلى سمير سرحان فأيقظتُه من النوم، وكان قد انتقل من منزله بشارع الأباصيري بالجيزة إلى منزلٍ آخَر بشارع محمد زاهر بالجيزة أيضًا، ولم أفعل سوى أن أعطيتُه الكتاب وخرجت.

وقابلني في المساء مهمومًا وكأنَّ لسان حاله يقول: «لم فعلتَ ذلك بي؟» كانت القصة قد هزَّته هزَّةً عنيفة، وكانت بعضُ عباراتها قد التصقَت بذهنه، مثل العبارة التي تنتهي بها الفِقرةُ الافتتاحية، وهي «وكان نيكيتا مُطمئنًّا يجلس خارج المستشفى على كوم من القاذورات.» ونيكيتا هذا هو الحارس «العاقل» الذي يشهد تدهوُرَ حالة الطبيب، إلى جانب عبارات أخرى تُصور نظراتِ الطبيب في وحدته من الشباك إلى العالم الخارجي. ولم نُناقش القصة، ولم نتحدث في الفن والأدب، فمن يقرأ تشيخوف، ولو بلغةٍ غير لغته، يُصاب بالإحباط واليأس؛ إذ كيف يمكن لأيٍّ منَّا أن يصل إلى ذلك المستوى العبقري؟

وكانت صورة نيكيتا المستقرِّ فوق كوم الزبالة صورةَ كثيرين من العقلاء في الحياة من حولنا، بينما يتدهورُ حال الطبيب يومًا بعدَ يوم، مثل كثير من أصحاب الفكر ومن تَشغَلُهم هموم الدنيا، وعندما رأى رشاد رشدي ملامحَ القلق على وجْهَينا وأفصحنا له عمَّا «حدث» ضحك ضحكًا شديدًا وقال: «هذا هو سببُ حبي لتشيخوف! إنه يدفعني إلى القلق!» واستمرَّ بنا الحديث عن فنِّ القصة القصيرة حتى دخل الفنان حسين جمعة يحمل لوحاتٍ تتضمَّن تصميمات ديكورات ظننتُها غربيَّة. وعلى الفور بدأ يقُصُّ على رشاد رشدي تصوراته عن إخراج مسرحيةٍ ما، واتضح أنهما كانا قد اتفَقا على تقديم مسرحية «الخرتيت» من تأليف يوجين يونسكو في مسرح الحكيم بالعامية، ويبدو أنهما كانا قد اتفقا على أن يتولى رشدي ترجمتَها، بل يبدو أن رشدي قد «أَقنعَ» جمعة بأن الترجمة موجودة بالفعل! وكان جمعة متخصصًا في الديكور المسرحي، ولكنه خريجُ معهد فنون المسرح على أي حال، والسنوات التي قضاها في إيطاليا يعمل مع كبار المخرجين (الذين كان دائمَ الإشارة إليهم) أكسبَته خبرةً لا بأس بها، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يُبلغ كلَّ الذين درسوا في إيطاليا مثل كرَم مطاوع الذي قدَّم «الفرافير» ليوسف إدريس فأحدثَ ضجة كبيرة، وسعد أردش الذي قدَّم قبلها «رحلة خارج السور» لرشاد رشدي، أما جلال الشرقاوي فكان قد درَس في فرنسا وكان دائمًا من أصحاب مذهب «الانتقاء» الفني، الذي يضع الجمهور في موقع الصدارة من اهتمامه، فأخرج «الزلزال» لمصطفى محمود فهزت الدنيا، وسرعان ما توالت إبداعاته الجميلة.

وفي آخر المساء، ونحن في التاكسي في طريق العودة، قال رشدي لي ولسمير إنه يريدنا أن نترجمَ الخرتيت بسرعة إلى اللغة العامية، وألا نقولَ لأحد إننا المترجمان حتى تنتهيَ الترجمة! وفعلًا، حافظنا على السر حتى انتهينا من الترجمة، وعندها عرَف الجميع أننا — لا رشاد رشدي — ترجَمْنا يونسكو! وسرعان ما بدأَت التجارِب المسرحية، وكانت الترجمة إلى اللغة العامية تجرِبةً بالغةَ الطرافة، لا بد لي أن أتوقف عندها قليلًا.

لقد علَّمتني تلك التجرِبةُ أن الفارق بين الفُصحى والعامية لا يقتصر على الأصوات والألفاظ والتراكيب (النحو)، بل هو من الناحية الفنية فارقٌ بين ثقافةٍ زمنية، وثقافة معاصرة، أي إن قارئ الحوار بالفصحى يضع المتحدثَ في زمن معين، يُحدده المستوى اللُّغوي الذي يختاره المترجم، وحتى لو كان الموضوع معاصرًا فإن مستوى الفُصحى المستخدَمةِ يفرض زمنًا ما على الأحداث والشخصيات، أو قُل إنه على الأقل يفصل بينها وبين الشخصيات الحيَّة حولنا، فمن يُترجم عبارةً بتعبير «ما الخَطْب؟» وهو الذي نقرؤه على شاشة التليفزيون في الأفلام المترجمة، يعرف أن ذلك التعبير «غير حقيقي»، ومَن يقرؤه على الشاشة لا ينزعج منه، فالممثلون الأجانب لا يتكلمون لغتنا، والتعبير تفسيرٌ وحسبُ لما يقولونه، أما إذا كتبه كاتبٌ في مسرحية، فسوف يوحي بأن شخصياته تنتمي إلى زمنٍ سحيق، و«ما خطبُك» تُحيل القارئَ إلى الآية قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ أما الكاتب الذي يُفضِّل «ماذا بك؟» أو «ما الذي حدث؟» أو «ما الحكاية؟» فهو يوحي، خصوصًا في التعبير الأخير، بأن هؤلاء يتحدثون العامية، وبأنه (أي الكاتب) يُترجم تعبير «إيه الحكاية؟» أو «فيه إيه؟» أو «حصل إيه؟» أو حتى «إيش بك؟» إلى الفصحى المعاصرة، وأقول بالمناسبة إن «إيش» التي زعم البعض أنها تركية، هي في الحقيقة عربية، وموجودة في كتب التراث وفي بعض الأمثال السابقة على تأثير اللغة التركية على العربية المُعاصرة، وربما كانت صورةً مختزَلة ﻟ «أيُّ شيء».

أما الذي يكتب الحوار العامي فهو يُلغي عاملَ الزمن تمامًا؛ لأنه يُحيل الشخصيات القديمة التي كانت تتحدَّث لغةً غريبة عنَّا إلى شخصيات مُعاصرة، وسوف يكون مقياس الترجمة هو مدى «التحويل الذي يقوم به المترجمُ للشخصيات الأجنبية إلى شخصيات مَحلية معاصرة».

وهكذا استطعتُ آنذاك تقسيم الكُتَّاب الذي يكتبون الحوارَ في روايتهم العربية إلى عدة أقسام؛ استنادًا إلى مستوى الفصحى الذي يختارونه، وإلى مستوى العامية إذا استخدموا العامية. فتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ كانا يعتمدان على قُدرة القارئ على إحالة الحوار الفصيح لديهما إلى العامية المصرية؛ ولذلك حار المترجمون الأجانبُ في فَهْم ما يكتبون؛ لعجزهم عن إدراك الدلالات الثقافية المعاصرة لذلك الحوار، وكان غيرهم مثل عبد الرحمن الشرقاوي وشكري عياد يعمد إلى استخدام كلماتٍ عامية بعينِها، مهما تكن أصولُها الفصيحة؛ للدلالة على ما يتعذَّر على الفصحى «المقابلة» أن تنقلَه من مَعانٍ ودلالات، وهكذا يفعل اليوم جمال الغيطاني وغيره من المؤمنين بالإبقاء على الفصحى، أو الذين يُعادون العاميةَ من حيث المبدأ، إلى جانب مَن يُدرِج التعابيرَ العامية والحوار العامي في تضاعيف الفصحى في السرد مثل يوسف القعيد، أما مَن يستخدمون العامية في الحوار فيُمكن تقسيمُهم أيضًا إلى مَن يحاولون الارتفاعَ بالعامية إلى مستوى الفصحى، فيستخدمون ما يُسميه الدكتور السعيد بدوي «عامية المثقفين»، وهي ما كان الدكتور محمد مندور يسميه آنذاك ﺑ «العامية الجزلة» (ويسمِّيها غيره «العامية الراقية») مثل صلاح جاهين، وكانت أشعاره في تلك الأيام هي المثل الأعلى لهذا الاتجاه:

أنا اللي بالأمر المحال اغتَوى،
شُفْت القمر نَطِّيت لفوق في الهوا،
طُلته ماطُلْتوش إيه أنا يهمِّني؟
وليه مدام بالنشوة قلبي ارتوى؟
عجبي!

وكان أحمد شوقي هو المثل الأعلى في الجيل السابق:

اللي يحب الجَمالْ
يسمحْ بروحه ومالُهْ
قلبه إلى الحُسْن مالْ
ما لِلعوازل وما لُه

وفي مقابل هؤلاء كان هناك مَن يكتبون الحوار العامي بمستوياتٍ متفاوتة، أو يستخدمون التعبيراتِ التي تُفصِح عن «المواقع الاجتماعية» للشخصيات، بحيث يوحُون بأكثرَ من المعاني الظاهرة للألفاظ عن طريق استخداماتهم المنوَّعة للعامية، وإلى هذا الفريق ينتمي معظمُ كتَّاب المسرح المعاصر بالعامية. وكان نعمان عاشور، رحمه الله، دائمَ الإشارة إلى هذه الطاقة الخبيئة للعامية، ولكن هذه المستويات القائمةَ في المسرح لم تُدرس حتى الآن الدراسةَ التي تستحقُّها، بسبب الإهمال الذي تعاني منه العامية، بسبب ما يتصوَّرُه الكثيرون من أنها صورةٌ «شائهة» للفصحى!

وقد استفدنا أنا وسمير سرحان من هذه التجرِبة، التي أثبتَت لنا أن الأسلوب المميز لكتَّاب «مسرح العبَث» (أو اللامعقول) يتَّسم بالتجريد أساسًا؛ ولذلك تَسهُل ترجمتُه إلى الفصحى، وتصعب ترجمته إلى العامية! هل معنى ذلك أن الفصحى أقدرُ على نقل المُجرَّدات من العامية؟ لا أملك من الأدلة العلمية الثابتة ما يؤكد صِدقَ دعواي، ولكنَّ ذلك ثمرةُ خبرتي العَملية. فقد اغتنَت الفصحى على مدار القرنين العشرين من الترجمات التي قدَّمها جيل الآباء عن اللغات الأوربية التي اكتسبَت ثروةً كبرى من العلوم الطبيعية وأصبحَت تزخر بالمجردات، كما أحيا المترجمون مصطلحات علماء المسلمين الأوائل وفلاسفتهم، فأحيَوْا بذلك تُراثًا هائلًا من المجردات، ظل مقتصرًا على الفصحى دون أن يتسرَّب إلى العامية التي تكاد أن تقتصرَ على لغة الحياة اليومية، وحاجات الناس المباشرة، وعندما يريد المتحدثُ بالعامية التعبيرَ عن فكرةٍ مجردة فسرعان ما يجد أنه قد لجأ إلى الفصحى في ثنايا العامية! والتداخل بين هذه المستويات جميعًا أمرٌ واقع، وهذا هو ما فعلناه أنا وسمير آنذاك، وما تكرَّرَت تجرِبتُه عند تقديم شيكسبير بالعامية بعد ذلك بعشرين عامًا!

ولا بدَّ لي أن أشير فيما يُشبه الحاشيةَ إلى «الموضة» التي انتشرَت آنذاك من باب مُسايرة الدعوة إلى الاشتراكية، وهي كتابة الأغاني بعاميةٍ «محضة»؛ أي بعاميةٍ من المستوى الأدنى الذي حدَّده الدكتور السعيد بدوي، مثل الأغنية التالية:

بتسأل ليه عَليَّه
وتقول وَحْشاك عنيَّه
من إمتى إنت حبيبي
وداري باللي بيَّه
ياللي بتسأل عليَّه
مالَكْش دعوة بيَّه

وقد اشتهرَت الأغنية باسم «مالكش دعوه بيَّ» وكنتُ أجدها مضحكة، وأجد أن التجرِبة في ذاتها فاشلة؛ إذ أثبتَت أنه لا توجد «عامية محضة»، ولا أدلَّ على ذلك من المقطع التالي في الأغنية نفسها:

سيبني للَّيالي
أسهرها لوحدي
سيبني لذكرياتي!
وابعد عن خيالي
يا أغلى ما عندي
وابعد عن حياتي!

فهل هذه عامية «محضة»؟ على أي حال، كانت تجرِبة هذه الترجمة ناجحةً إلى حدٍّ بعيد، وكنتُ أجد في مناقشة هذه المسائل مع سمير سرحان وفاروق عبد الوهاب متعةً كبيرة، خصوصًا ونحن نقرأ في دراساتنا لغة أجنبية تصطدم في كلِّ حين باللغة التي يتكلمها الناسُ من حولنا ونتكلمُها نحن ونفكر بها. وانشغلنا بعد ذلك بخطوبة سمير؛ إذ أصرَّ على إقامة حفلٍ دعا إليه ثلاثيُّ أضواء المسرح جورج سيدهم والضيف أحمد وسمير غانم، وكان سمير سرحان، ولا يزال، يؤمن بالطقوس والشعائر إيمانَه بالمسرح! وكان حفلًا مسرحيًّا رائعًا، وكان العروسان بهجةً للعين والقلب، وكم ضحكنا وفرحنا بهما! أما أنا فقد أصرَّت والدتي على شراء شبكة ودفعِ مهر، وكان المبلغ المعتمَد للطبقة الوسطى آنذاك يتراوح بين ١٥٠ و٣٠٠ جنيه، وكذلك الشبكة وغيرها مما لم أشغَل نفسي به، وقد تم ذلك جميعًا دون ضجَّة، ويوم ٢٤ يناير ١٩٦٥م لبسنا الدبلتين أنا ونهاد، وما تزالان في أصابعنا.

١٠

ولكن عام ١٩٦٤م لم يَطوِ صفحتَه دون المعركة المتوقَّعة بين أنصار «النقد الجديد» وأنصار «النقد القديم»، فكانت المقالاتُ في الصحف تتوالى تأييدًا لهذا المذهب أو ذاك، وأُطلِق على المعركة آنَذاك معركة رشاد رشدي ومحمد مندور أو «الفن للفن» (الشعار الذي فُرِض علينا فرضًا ولم نقل به مطلقًا) و«الفن للمجتمع»! ففي نوفمبر ١٩٦٤م نشَرَت إحدى المجلات قصة سوفيتية نقلًا عن إحدى مطبوعات «دار الشرق» بعُنوان «ليلة الميلاد»، وهلَّل لها النقادُ الذين كانوا يزعمون أنهم يُمثلون اليسار باعتبارها المثلَ الأعلى للأدب الهادف، وكان يمكن أن تفوتَني فرصةُ قراءتها لولا أن مترجمها كان زميلي القديم أحمد مختار الجمَّال الذي التحقَ بالخارجية وعمل دبلوماسيًّا، واتصل بي تليفونيًّا ليُنبهني إلى ما أبدعَت يداه. وتقول القصة بإيجازٍ إن إيغور بافلوفيتش كان ينتظر مولدَ أولِ أطفاله بلهفة، وكانت زوجتُه تنتظر لحظةَ الميلاد بصبر نافد، وكان الشتاء ذلك العامَ قارسَ البرد مريرًا، وكان يدعو الله، لأنه كان مؤمنًا، أن تأتيَها آلامُ الوضع نهارًا حتى يَقبل الأطباء زيارتها ومساعدتها، كما ادَّخر مبلغًا من المال لدفعه للطبيب؛ فأطباء تلك الناحية يُصرون على تناول أجورِهم فورًا ودون إبطاء. وعندما انقضى يوم السبت قرَّر إيغور أن يذهب في الصباح إلى الكنيسة ليُصلي للربِّ حتى يؤخِّر مجيء الطفل إلى يوم الإثنين. وتطلَّع ليلةَ السبت من نافذة مسكنه إلى المكان الوحيد المُضاء في تلك الليلة، وهو مبنى الوحدة الاجتماعية للحي، وهي التي أنشأها المجلسُ المحلي الذي لا يؤمن به، ويعتقد أنه يأخذ من الناس الضرائبَ دون تقديم الخدمات؛ إذ كان إيغور يُعارض دفع الضرائب ويدفعها مُرغَمًا، وكان لا يُحسُّ بأي فائدة لذلك المبنى ورجالِه. ولكن قبل أن ينقضيَ الليل، وكان إيغور يُغالب النوم على الكرسي في غرفة مكتبه الصغيرة، حيث فرَغ من تصميم رسمٍ هندسي جديد، سمع صوتَ زوجته فجأة، فانتفَض مذعورًا وأُهرِع إليها وتأكَّد بنفسه من أن اللحظة قد حانت. وأُسقِط في يده! البردُ شديد والظلامُ حالك، ولكنه لا بد أن يستدعيَ أحد الأطباء، وأدار قرص التليفون يطلبُ مَن يعرفهم ويثقُ فيهم من الأطباء «المؤمنين» مثلِه، ولكن الردود جاءت جميعُها بالنفي والاعتذار، وحاوَل إيغور مساعدة زوجته بكل الطرق الممكنة دون جدوى، وكلَّم أحد أقاربه ممن لهم درايةٌ محدودة بالطِّب، فجاءه الردُّ حاسمًا قاطعًا؛ مَن ذا الذي يمكنه أن يخرج في هذه الساعة؟ وتوسَّل إليه إيغور بحقِّ الرب، ولكن قريبه قال له إن مشيئة الرب نافذة، وما عليه إلا أن يتقبَّلها!

وازدادت آلام الزوجة وعلا صراخها على فترات، وضاقت الدنيا بالرجل ولم يدْرِ ما يفعل، فأطلَّ من جديدٍ من نافذته فرأى النورَ ما يزال مُضاءً في الوحدة وقال في نفسه لن أخسرَ شيئًا إذا طلبتُهم بالتليفون، وكان الردُّ مفاجئًا له إذ قالوا سوف نُرسل سيارةَ إسعاف فورًا، ولم يكد يضع السماعة حتى سمع صوتَ «السرينة» يشقُّ سكون الليل، وسرعان ما طرَق البابَ رجلان وامرأة، نقَلوا الزوجة إلى الوحدة في دقائق، واتَّضح أن حالتها كانت خطرة، وتطلبَت عمليةً قيصرية لأن وضع الغلام كان معكوسًا، وعندما أشرقت الشمسُ كان قد رُزق بغلام جميل.

ولم ينسَ إيغور أن يذهب إلى الكنيسة حسَبما اعتزم الليلةَ السابقة، حتى يشكر الربَّ على إنقاذ حياة زوجته، وعلى إعطائه غُلامًا صحيحَ البدن، ولكن ذهنه شرَد وهو في القاعة الفسيحة التي كانت شبهَ خاويةٍ بسبب البرد، وتذكَّر أحداث الليلة الماضية، وكيف تخلى عنه الأطباءُ والأقرباء، ولأول مرة أحسَّ بالندم لأنه ظلم الوحدة الاجتماعية، بل وشعر بالامتنان لأن الطابَع الإنساني للنظام أنقَذ حياةً إنسانية جديدة.

والغريب أن القصة، على سَذاجتها، وجدَت من يُدافع عن جمالها الفنيِّ استنادًا إلى الأسس التي وصفَها رشاد رشدي نفسُه! فبها جميعُ الخصائص الفنية «المقررة» للقصة القصيرة؛ شخصية رئيسية واحدة، التركيز على التحوُّل داخلها، وهو ما يُمثل «التطور» الطبيعي غيرَ المفروض من الخارج، وتوافر عناصر البداية والوسط والنهاية! ولكن الأهم من ذلك كلِّه كان الهدفَ النبيل الذي تسعى القصةُ إلى إبرازه؛ فهي تؤكد عكس ما يزعمه أعداءُ الشيوعية من أنها «ضد الدين» فها هو النظام يسمح للبطل — رغم عَدائه للنظام — أن يعيش حياته الشخصية كاملة، وأن يُمارس حرية العقيدة والعبادة وحرية الاختلاف! والقصة تُبرز بوضوح وجِلاء الطابعَ الإنساني للنظام، وأنه يقوم على التكافل الاجتماعي؛ إذ تبين أن النوازع الفردية لأطباء الأمس قد قهَرها التعاضد الإنساني والتلاحم البشري، مما يجعل المجتمع هو البطلَ الحقيقي للقصة!

وقارن أحدُ النقاد هذه «القصة الاشتراكية» بقصةٍ كتبها محمود تيمور بعنوان «العوَّامة» يُصور فيها حالَ موظف كان دائمًا يتطلعُ إلى السباحة في البحر، ويدَّخر المال في سبيل نزهة صيفٍ على الشاطئ، وكيف استطاع آخِرَ الأمر تحقيقَ حُلمه واشترى عوَّامة تُساعده على الطفو، وكيف هرب الهواءُ من العوامة المنتفِخة في الماء فغرق الرجلُ دون ذنبٍ جناه! «هذا هو نموذجُ الأدب التشاؤميِّ الذي لا هدفَ له» — على حد تعبير أحدهم — أو كما قال آخَر «هذا هو الأدب الذي يهدم ولا يبني.» وذات يوم كنا في مبنى الإذاعة القديم، نجلس في الكافتريا على السطح في نحو التاسعة مساءً حين دخل محمود كامل (واسمه الحقيقي محمود قاسم، وهو من بلدنا رشيد) وجاءنا ليهمس همسًا حذرًا: «لقد صدر لي التكليف بمراقبة جميع التمثيليات الإذاعية غير الاشتراكية والإبلاغ عنها.» وتلفَّتَ سمير سرحان إليه في دهشة وقال: «إنت؟» وكان معنى السؤال هو كيف يُكلَّفُ ممثلٌ من الطبقة الثالثة بمراقبة كتابةِ الكُتَّاب؟ ولكن محمود أوضحَ لنا أن أكْل العيش مُر، وأن شخصًا معينًا بالطابق الثالث قد كلَّفه علي صبري بهذا العمل، دون إخطار أمين حماد رئيس الإذاعة، حتى يتمَّ إقصاء جميع أعداء الاشتراكية واستئصال شأفتهم! ولما كنتُ قد عرَفت محمود صبيًّا وصاحبتُه شابًّا في رشيد والقاهرة، وكان يعرف أسرتي خيرَ المعرفة، فقد سألتُه في حذر: «فيها حاجة لك؟» فهمَس والبِشْر يكسو ملامحه: «سوف يُرقِّيني مدير العقود محمود مصطفى إلى الدرجة الثانية، وسوف أشترك في معظم التمثيليات!» ثم رجَانا بنفس الهمس الحذِر عدمَ إبلاغ أحدٍ بذلك، وأن نكون على اتصال به حتى يكتب تقاريرَ ممتازة عن تمثيلياتنا!

ولم تكد تمرُّ أيامٌ حتى شكا إلينا ميخائيل رومان أن المخرج أضاف دور «بوَّاب» إلى تمثيلية إذاعية كتبَها وسجلها في اليوم السابق، بل وطلب إليه أن يضَع له عددًا من السطور اللائقة حتى لا تقتصرَ التمثيلية على الحوار بين الطبيب والممرِّضة، وأضاف قائلًا: «وبلغ من صَفاقة المخرج أن أعطى الدورَ لممثلٍ من الدرجة الثالثة!» وهمَمتُ أن أسأله هل هو محمود كامل، ولكن سمير سرحان نغزَني؛ أي اسكت، فسَكتُّ! كنا نجلس في مطعم «الأونيون» بشارع ٢٦ يوليو (الذي اختفى الآن) وكان معنا الدكتور فخري قسطندي الذي كان قد عاد من البعثة بعد ستِّ سنوات في دراسة الدراما، وكان كعادته يتحدثُ في موضوع خارج حديث الجماعة، فكان يؤكد أن فريق الخنافس ليسوا خنافس، وأن كلمة بيتلز تكتب بحرف اﻟ e واﻟ a مما يتضمَّن توريةً على كلمة إيقاع؛ ولذلك فهي تختلف عن كلمة بيتلز بمعنى الخنافس، وكان محقًّا — بطبيعة الحال — ولكن الذي كان يَشْغل ميخائيل رومان كان شيئًا آخر تمامًا!

لم نكن نجد صعوبةً في تسجيل تمثيلياتنا الإذاعية، خصوصًا بعد أن ترقَّينا أنا وسمير سرحان إلى كُتَّاب من الدرجة الأولى (لأننا كُتَّابُ مسرح)، ولكن الدرجة الأولى في الحقيقة كان فوقها درجاتٌ أعلى بكثير، فكان فوقها كُتَّاب الدرجة الممتازة (سعد الدين وهبة ويوسف إدريس ونعمان عاشور ورشاد رشدي وميخائيل رومان) وفوقها النجوم من كُتَّاب الرواية الذي تتحوَّل أعمالهم إلى مسرحيات، ومن فوقهم الأعلام وتضمُّ فردًا واحدًا هو توفيق الحكيم. وكانت علاقتنا بتوفيق الحكيم قد توثَّقَت مِن خلال مجلة المسرح؛ إذ كنت أذهب إليه أنا وسمير بانتظام للحصول على مقابلات صحفية، وكان أحيانًا ما ينطلق في الكلام على سَجيَّته، فيصول ويجول في أروقة الفكر العالمي، ثم ينتبه فجأة إلى أننا لسنا ضيوفًا وربما نكون «من الصحافة» فيسكت، ولكن مكتبه في الأهرام كان بُقعةً مضيئة في جوٍّ تلبَّد بالغيوم واكفهرَّ.

وعندما عُقِدَت الانتخاباتُ العامة، والاستفتاء على رئاسة الجمهورية، شعرتُ في منطقة العجوزة بتحرُّكات غير معتادة. وكنتُ بطبعي حسَّاسًا للتغيير، أرقبُ ما يحدث بدقةٍ وقد لا أُعلق عليه إلا بعد سنوات، أو أختزنه في الذاكرة إلى الأبد، وكنت ما أزال أَنفِرُ من الشتائم والهجوم، ولا أحب أن أرى شخصًا يتعرض «للبهدلة»؛ ولذلك كنتُ أتعاطف تلقائيًّا مع كل مَن ينهال عليه الصحفيون بالسباب؛ لأنه «غير اشتراكي» أو «يميني متفسِّخ»، وكان ذلك يُسبب لي ضيقًا شديدًا، ولكنها كانت الموضة، وكان فتحي رضوان يُخبرني، استنادًا إلى معلوماته الخاصة، بأسماء «المخبرين» أو «المبلِّغين» الذين ينقلون إلى السلطات أنباءَ مشاعر الناس وكلامهم، وكانوا مكلَّفين في منطقتنا بمراقبة المسجد الصغير الذي نُصلي فيه الجمعة، ومراقبةِ الزوَّار من أصحاب السيارات الفارهة، وكذلك مراقبة أحاديث الجماعات، سواءٌ كانت جماعةً من الطلبة، أو جماعاتٍ من المهنيين الذين يقضون وقت الفراغ على المقهى.

وكانت شلة الطلبة في شارع الدري تتكون مني وعلي أبو العيد، ومحمد فريد، وأخيه عادل فريد، ومحمد الشنواني، ووجيه صلاح الدين وأخيه، وجميل مكاوي (مفتش الضرائب) وأخيه نبيل مكاوي (ضابط الشرطة فيما بعد). وكان يُقيم في إحدى الفيلات توءمان يصعب التفريق بينهما، ولكنهما لم يُكملا تعليمهما، وكان أحدهما يعمل بعضَ الوقت لدى مَن سوف نُسميه يونس اللبَّان، والآخر يعمل في وظيفةٍ ثابتة في مُجمَّع التحرير مشرفًا على أرشيف البريد. وعندما بلغَنا أن أحدهما قد بدأ عمله «مخبرًا» (إلى جانب المكوجي والحلَّاق) قررنا أن نُسايِرهما، فلم نكن نستطيع التفريق حقًّا بينهما، بألا نَنبِذَهما من الشلة بل بأن نُوثِّق انضمامَهما وندسَّ إليهما من الأنباء ما يُحيرهما! كان معظمنا قد تخرج والتحقَ بالوظائف، ولكننا كنا كثيرًا ما نتجمعُ مصادفةً في ساحةٍ في منتصف الشارع لنتجاذبَ أطراف الحديث ومعرفة أخبار بعضنا البعض. واقترح وجيه صلاح الدين، وكان «ملك المقالب» أن يتحول إلى الحديث بالإنجليزية عندما يكون معنا أحدُهما، ثم يسأله أحدنا أسئلة مثيرة بالعربية فيُجيب عليها بالإنجليزية أيضًا، فنحن واثقون أنَّ أيًّا منهما لا يعرف تلك اللغة!

وتحقق ما كنا نرجوه إذ أتى أحدُهما ذات يوم، واقترب ببسمة واضحة الاصطناع، وكانت تلك هي الفرصةَ التي ينتظرها وجيه، فبدأ حديث بالعربية قائلًا: «انقلاب خطير!» وكان محمد الشنواني يُراقب وجه صاحبنا، فاطمأنَّ إلى أنه قد بدا عليه الاهتمام، ومِن ثَمَّ تحول وجيه إلى الإنجليزية، وكانت لهجته تدفعُني إلى الضحك، ولكنني كنتُ أقاوم الضحك وأتصنَّع الجِد، وكان مُجمَل حديثه هو وصْفَ مباراةٍ لكرة القدم حفظه عن مذيع إنجليزي، ووسط حماسه سأله عادل فريد بالعربية: «ونجحت العملية؟» وأجاب بالإنجليزية: «نو!» واستمر يتحدث عن مهارة الدفاع في صدِّ الهجوم، ويبدو أن صاحبنا قد ضاق صدرُه فهمس في أذني «هو بيحكي عن محاولة انقلاب؟» وهمست بلهجة حاولتُ أن تكون جادة إلى أبعدِ حد «اسكت واسمع». واستمر وجيه يتحدث وإذا بمحمد فريد يصبح قائلًا: «يعني بعد كل ده مارضيتش؟» وذهل صاحبنا. وقال عادل: «وهو .. كان قالع؟» وأجابه وجيه بالإنجليزية. ثم قال الشنواني «على رأيك .. أخطر انقلاب في حياته .. قلب حياته رأسًا على عقب!»

وفوجئ الجميع بصاحبنا ينفجرُ قائلًا: «انتو بتضحكوا عليَّ؟ أنا عارف انتو بتحكو على إيه!» وقال له عادل: «إنت عارفها؟» وقال محمد: «أنا شفته مع أخوها» وقلت أنا في تؤدة: «الراجل ما يهموش الفضايح الجنسية بتاعتكم ..» ووضعت يدي على كتفه وقلت: «ده راجل فاضل .. وغلطان اللي بيسمع لكم!» وبدَت الحيرة على وجهه. وتلعثمَ ثم انصرف في اضطرابٍ واضح.

وعندما سألني الأسطى فوزي الحلاق أثناء قص شعري عن رأيي في عبد الناصر، هكذا وبصورة مباشرة، قلتُ له: «رأيي هو رأيك .. إنت رأيك إيه؟» وقال بسرعة «لا .. إنت راجل متعلم .. يعني عاجبك اللي بيقوله على الملك حسين والملك فيصل؟» وبنفس سرعته قلت له: «وإنت شايف إيه؟» وعاد يقول: «أنا عايز أستفيد منك!» وقلت له إنني مواطن مخلص ولا علاقة لي بالسياسة، ولكن لي أصدقاء في جهات عُليا سوف أُبلغهم بمدى اهتمامك بالحديث عن عبد الناصر! وتوقف الحلاق برهة وفي يده المقص، وبدا أن عبارتي قد أصابت هدفَها تمامًا، فجعل يُحدق في المرآة ناظرًا إلى صورة وجهي وأنا أتطلع إليه، وقال في صوت خفيض: «أنا ما أقصدش حاجة ..» وبسرعة قلت له «إنت بتتكلم على جمال عبد الناصر بقى لك ساعة!» وضحك ضحكةً بدا فيها الحرج وقال: «أهو كلام يا أستاذ محمد .. بناخد وندِّي في الكلام!» ومنذ تلك اللحظة صار يتحاشى نظراتي إليه في الشارع، ويبدو كالمهموم الذي يحمل أثقالًا لا يَقْوى على حملها.

أما التوءم الذي يعمل عند يونس اللبَّان فقد حدث له ما صرَفه عن مهنة استراق السمع فترةً ما؛ إذ كان والد اللبان قد اقتنى زوجةً صغيرة جميلة، نقل إليها ملكية العمارة، فأصبحت الآمرةَ الناهية في محل الألبان باسم زوجها، وكان التوءم لا يُطيق أوامر السيدات، فكان يشكو ليونس، ويونس يشكو لي؛ إذ كان طالبًا منتسبًا في قسم التاريخ، وكان يلجأ إليَّ لأشرح له ما استعصى عليه في دروس اللغة الإنجليزية، ولم يكن يكترث لوجود التوءم؛ فهو «كاتب حسابات» وحسب، ولكنه كان قد ضاق ذرعًا بنمطِ الحياة في ظل الزوجة الجديدة. وسرعان ما بدا شعاعٌ من الضوء في حياته، ولم يكن الشعاعُ باهرًا ولا جميلًا، ولكنه كان يُمثل حلًّا للمشكلة؛ إذ كانت للزوجة ابنةٌ من زيجةٍ سابقة، وكانت تزعم أنها أنجبَتها وهي ابنة اثنتَي عشرة سنة، وأنها الآن قد بلغَت السادسة عشرة (بالحساب الهجري) ومِن ثَمَّ عرضَت عليه أن يتزوج الفتاة ويُقيم مع الأسرة، في شقةٍ من شقق العمارة الضخمة، وبذلك يصبح شريكًا في كل شيء!

واستشارني يونس فسألتُه سؤالًا كان الحريُّ بي ألا أسأله؛ إذ سألته إذا كان يُحبها، وأدركتُ عندما أجابني مدى خطأِ السؤال، إذ تحدثَ عن موقفه وهو يعمل منذ طفولته في الدكان، ويتفانى في خدمةِ والده ظانًّا أنه سيكون وريثَه، وكان منطلِقًا في روايته عندما تداركتُ الخطأ وقلتُ له «يبقى على بركة الله .. المهم أنها بتحبك ..» وتزوجا، وبدا كلُّ شيء على ما يُرام عدة شهور، ثم بلغَنا من التوءم أن الوالد تُوفي فجأة، ولم يكن يشكو أيَّ مرض، وكان التوءم يهمس بشُكوكه في النساء، ولكننا استبعدنا ذلك الاحتمال.

وجاءني التوءم ذات يوم في نحو السادسة صباحًا وهو في حالة اضطرابٍ يطلب مني الخروج معه، وارتديتُ ملابسي وخرَجت بسرعة، وذهب بي إلى دكان اللبَّان حيث وجدنا يونس في حالة يُرثى لها، كانت عيناه حَمراوَين، وكان يتكلم في شبهِ ذهول، قائلًا إنه عندما عاد إلى شقته في مساء اليوم السابق، في نحو الواحدة صباحًا، لم يستطع فتح الباب بالمفتاح لأن الزوجة كان قد غيرَت الكالون، فطرَق، ففتحَت حماته (وأرملةُ أبيه) الشُّرَّاعة وقالت له: «موش عايزين النهارده .. مع السلامة!» وضحك متصورًا أنها كانت فُكاهة، ورجاها أن تفتحَ الباب لأنه في حاجةٍ شديدة إلى النوم، ولكنها أصرَّت على موقفِها، وكانت تستخدم باستمرارٍ عبارات مثل: «عايز إيه؟» «إنت مين؟» «امشي أحسن أنده لك العسكري!» ومِن ثَمَّ اضطُر إلى قضاء الليلة في الدكان جالسًا على الكرسي، والحمد لله أن الليل كان قصيرًا، والجو لا بأس به، ولم يجد مَن يستشيره سوى صديقه العاقل (يقصد شخصي الضعيف).

ولما وجدتُ نفسي في موقفٍ يفرض عليَّ التصرفَ العاقل، قررتُ أن أقوم بدور الوساطة، فوعدتُه أن أعود إليه بعد أن أغتسلَ وأرتديَ ثيابًا لائقة، وفعلًا عدتُ بعد نحو ساعة، فطلبتُ منه الانتظار حتى أكلِّم السيدة، وصعدتُ مع التوءم إلى الشقة، وعندما طرقنا البابَ فتحَت لنا السيدة «الكبيرة» الشُّراعة، وكان الواضح أنها قد استيقظَت من مدةٍ طويلة، وسألتنا عن الغرض من الزيارة فقلتُ لها: «هل هذه شقة يونس اللبَّان؟» فقالت بسرعةٍ ورنة انزعاج: «أيوه يا خويا .. هو فين؟ جرى له حاجة؟ أصله ما جاش ليلة امبارح!» ولم أعرف ماذا أقول. وبعد ثوانٍ أحسستُ أنها كانت دهرًا قلت لها: «لأ .. هو بخير .. بس كنا عايزينه في حاجة!» وردت بنفس اللهفة: «حاجة إيه كفى الله الشر؟ عمل حاجة؟ إنتوا بوليس؟» وحاولتُ بكل طاقتي أن أعيد الاطمئنانَ إليها، ولم أشأ أن أقصَّ عليها ما رواه لي يونس؛ عسى أن يكون في الأمر سوءُ تفاهم، وقلت لها إن الأمر يتعلق بدراسته في الكلية، وإنني أعمل مدرسًا في الجامعة وأطلعتُها على الكارنيه، فاطمأنَّت، وانصرفنا.

وعندما هبطنا إلى يونس وجدناه قد أعدَّ مجموعة من السكاكين والهراوات، وقال لنا إنه سوف يرتكب جريمةَ قتل، وكان في حالةِ هياج لم نُفلح في إخراجه منها إلا بإغلاق الدكان والخروجِ معه إلى الطريق العام، وسِرنا في اتجاه شارع النيل، وكان هدفي الأول هو أن أتبيَّن حقيقة ما حدث، فجلس ثلاثتُنا على مقهًى صغير في حارة متصلة بشارع «محمد عوف» (وما يزال المقهى قائمًا حتى الآن) وطلبنا منه إعادةَ رواية ما حدث، فأعاد القصة بحذافيرها، وقلت له، «ألا يحتمل أن يكون أخطأ في الشقة؟» وسأله التوءم: «ألا يمكن أن تكون قد فقدتَ المفتاح؟» ونظر إلينا مثل الغائب عن الوعي وقال: «إنتوا صدَّقتوها؟» وترقرقَت في عينيه دموعٌ آلمتني ألمًا شديدًا، فنهضتُ واصطحبته إلى خارج الدكان، فسار معي مطيعًا حتى شارع نوَّال، وظللنا نسير حتى ميدان الدقي، ولم نكن نتبادل الحديث بل كنا نسير في صمت، وكان الصباح جميلًا والنسائم منعشة، وعندما وصلنا إلى الجامعة حرَصتُ على أن أشغَله بأشياءَ كثيرة حتى الظهيرة ثم اصطحبتُه في طريق العودة بالأتوبيس.

وعندما دخلنا المحل قال لنا التوءم إن السيدة سألت على يونس، ولم أعرف مَن أصدق ومن أكذِّب، فطلبتُ منه أن يعود إلى شقته فقال: تعالَ معي! ولم أجد في ذلك غضاضةً فصحبتُه حيث أدار المفتاح في قُفل الباب وفتحَه ودخل (ترى هل قامت السيدة بتغيير الكالون فوضعَت القديم مكان الجديد؟).

ولم تمضِ أيام حتى تكررَت الحادثة، وقمتُ بالوساطة من جديد، وكنا قد بدأنا نقتربُ من موعد الامتحانات فلم أكن أشاهد يونس اللبَّان كثيرًا، ويبدو أن الحادثة تكرَّرَت عدة مرات وكان الصفاء يعود في كلِّ مرة، حتى جاءني يونس ذاتَ يوم وقال لي إن زوجة أبيه عرَضَت عليه أن يُطلِّق ابنتها في مقابل التنازل عن كل حقوقها، و«تأجير» الدكان له. ولم أفهم.

وسألته إن كان والده قد أعطاه مِلكية الدكان، فأجاب بالنفي، فسألتُه عن الشقة فقال إن كل شيء مكتوبٌ باسم زوجة أبيه، وأنه لم يرث إلا بعضَ المال السائل، وهو يستطيع أن يبدأ به عملًا في مكانٍ ما. وعندما قررتُ أن أذهب إلى المرأة وأتبيَّنَ حقيقة الأمر، وما إن شاهدَتني حتى صاحت «أهو الدكتور شاهد!» ولم أفهم ماذا تعني إلا عندما أجَلتُ بصري في الشقة فوجدتُ أشخاصًا لا أعرفهم، ويبدو أنهم من أهلها، وأنها كانت تقصُّ عليهم قصةً ما، ولم تتوقَّف المرأة عن قصتها: «الولد ده مجنون! وإن ما كانش حيطلَّق بنتي بالسياسة حطلَّقها بالمحكمة! وأنا عملت له محضر تعدِّي في القسم! وعنده سكاكين وبُلَط عايز يقتلنا بيها .. إحنا الولايا اللي مالناش حد!» ثم انفجرَت باكيةً وأمها تُهدئ من رَوعها، وكانت أمها سيدةً طاعنة في السن وما تزال بها مسحةٌ من جمال الصِّبا، وتضع كثيرًا من المساحيق والأصباغ! وقال أحد الموجودين: «قول له يا دكتور محمد يطلق وما يضيَّعش مستقبل البنت .. وهي حتبرِّيه وتأجر له الدكان!» [تبريه: تُبرِّئه من حقوق الزوجة المالية].

وجلستُ أستمع إلى قصصٍ متناقضة؛ بعضها يَنْسب الوحشية ليونس الوديع، وبعضُها يَنْسب الجنونَ لوالده المتوفَّى، وقَدَّمَت لنا إحدى الموجودات عصيرَ ليمون، وأنا أُخالس يونس النظرَ فأراه شاردًا لا يَقْوى على النطق، وفجأةً انشقَّت الأرض عن مأذون مثل الذي نراهم في السينما، ويبدو أنه كان قد انتهى من جميع الإجراءات ولم يبقَ إلا توقيعُ يونس على عقد الطلاق البائن، وعلى عقد إيجار المحل، كما قدَّم له المأذون ورقةَ تبرئةٍ من الالتزامات، وبمجرد الانتهاء من ذلك، والذي لم يستغرق دقائق، انطلقَت الزغاريد من غرفة مجاورة وانصرفنا.

واستأجر يونس شقةً في شارع محمد شكري (الذي كان ماهر البطوطي يُقيم فيه) فكنتُ أزوره أحيانًا، فأرى السكاكينَ والهراوات معلقةً على الحائط انتظارًا ليوم الانتقام، ثم ما لبث جسدُه أن نحل وذَوَى، وغارت عيناه، ولكن الحظَّ ابتسم له فتخرَّج في قسم التاريخ، وعُيِّن في نفس العام (نوفمبر ١٩٦٤م) مدرسًا للُّغة الإنجليزية بإحدى قرى محافظة الجيزة، بالقرب من الصَّف، وكنتُ أراه لِمَامًا في الشهور الستة التالية قبل رحيلي إلى إنجلترا، والواقع أن وظيفة مدرس اللغة الإنجليزية، على معرفته الهزيلة بتلك اللغة، أكسبَتْه رونقًا وطلاوة، فكان حين يزور الحيَّ (بعد أن تخلَّى عن دكان الألبان) يُحادثني تليفونيًّا بالإنجليزية المصرية، وعندما أقابله لا يقول لي glad to see you أو حتى How are your؟ ولكن يقول لي happy occasion (أي مناسبة سعيدة) وهذا تعبيرٌ لا يُستعمل في اللغة الإنجليزية أبدًا. وعندما عدتُ من إنجلترا عام ١٩٧٥م كان الدكان قد اختفى، ولم أسمع عنه ولا عن أصحاب العمارة أيَّ أخبار، على إلحاحي في السؤال والتقصِّي.

١١

كانت الحياة من حولنا آنَذاك مسرحًا كبيرًا، وكانت عيني تلتقطُ المشاهد وأذني تلتقط الأصوات، وكانت تعليقاتُ سمير سرحان نفَّاذةً لاذعة؛ إذ كان يتمتع بحسِّ السخرية وروح الفكاهة الكفيلة بتحويل أيِّ مشهد وأي مَسمع إلى قطعةٍ فنية. وكثيرًا ما كان يستطيع بإضافةِ عبارة واحدة أن يُحيل الحادثة الحقيقية إلى حادثةٍ فنية! وذات يوم كنا عائدين من المسرح في وقتٍ متأخر، وكنت أنتوي قضاءَ الليل في شقَّة الروضة للعمل في ترجمة «روميو وجوليت»، فقرَّرنا استيقافَ تاكسي لتوصيله أولًا إلى الجيزة ثم الذَّهاب بعدها إلى الروضة. وعندما وقف التاكسي وهمَمْنا بالركوب أضاء السائق نور السيارة الداخليَّ وتطلَّع في وجهَينا مَليًّا مما أثار دهشتنا، ولكنه أطفأ النور وقال: «لا مؤاخذة يا أفندية .. أصل امبارح ركب معاي جدعين وقالوا لي أوصَّلهم لمدينة المهندسين .. حتة مقطوعة بعيد عنكم ورا نادي الصيد! وأول ما وقفت مسكوني وسكَعوني عَلْقة وخدوا الفلوس كلها — فوق سبعة جنيه ونص!» وسألناه عن أوصافهما فانطلق يتحدَّث عن حياته وأحواله حتى وصلنا إلى الجيزة، وهناك قررتُ مغادرة التاكسي مع سمير وعبور كوبري عباس سيرًا على الأقدام، فطلبنا منه الوقوفَ في آخر شارع الجامعة، وكان مهجورًا تمامًا في تلك الساعة، ودفعنا له الأجرة (نحو ١٧ قرشًا مع قرشٍ للبقشيش) ثم انصرف. وهنا قال لي سمير، في نبرة ساخرة كأنما يضع اللمسة الأخيرة للقصة، «وهنا أعلن الراكبان عن اعتزامهما سلْبَ نقودِ السائق، فصاح قائلًا اتفضلوا اتفضلوا .. بس بلاش ضرب، وانطلق لائذًا بالفرار!»

كانت فكرة تَكْرار السرقة، رغم احتياط السائق بإضاءة النور والتطلع إلى وجوه الركاب، قادرةً على أن تُحيل الحادثة «الإجرامية» إلى حادثة إنسانية؛ إذ يتحول عندها سائق التاكسي إلى «بطل» للقصة؛ فهو إنسان يَجِدُّ ويجتهد في جمع النقود، وحياته لوحةٌ كاملة الأبعاد لا تحتاج إلى المزيد من الرُّتوش، وبعد تَكرار الحادثة تتحولُ حياته إلى «احتمالات» لا تتوقف؛ إذ يتحول هو أولًا إلى إنسانٍ يستريب بكلِّ راكب، وتتحول رحلة التاكسي كلَّ يوم إلى رحلة في عالم الخطر، وتصبح روايتُه لقصة الضرب وسلب النقود مونولوجًا دراميًّا ينتهي نهايةً مفجعة.

ولكن الكلمة التي غرَسَت القصة في ذهني، وصورة السائق النحيل ذي الشارب الخفيف والحُلة البالية، هي كلمة «سكَعوني»! هي قَطعًا تحوير لكلمة «صكَّ» ولكن العامية مولَعةٌ بحرف العين؛ فهو أصيلٌ في العربية واللغات السامية، ومن العبث البحثُ في العربية إذا تجاهلنا حروفها الأصلية، مثلما فعل لويس عوض بعد ذلك بعشرة أعوام في كتابه «مقدمة في فقه اللغة العربية»؛ فنحن في مصر نُضيف العين بعد الكاف أو قبلها لتوليد كلمات جديدة، فنقول: يكعمش (يكمش)، ويكعبش (يكبش)، ويتكعور (يتكور)، ويتكعبل (يتكبل)، ويكعكع (يتكأكئ)، ويتلكع (يتلكأ) … وهلم جرًّا، فالعربية تستبدل العين بالهمزة في التمويع (بدلًا من التمويئ؛ أي إضافة الماء)، بل ولم يجد بعضُ العرب المحدَثين غرابةً في إضافة العين إلى المكرونة فأصبحت معكرونة!

وكان من أسباب جمال عبارة «سكَعوني علقة» هي أنها تدل على ظلم فادح؛ فالمضروب بريء، وهو عامل يكدُّ ويجتهد ليلًا ونهارًا لكسب الرزق، ولو كان ما حدث له مقصورًا على السرقة لهان الأمر، ولكنه عوقب على ذلك عقابًا مريرًا بأنْ «سكَعوه» العلقة! فالمفارَقة القدَرية قائمةٌ منذ البداية، وهي مفارقة مضحكةٌ مبكِية، أما تَكرارها — كما اقترح سمير سرحان — فيُحيلها إلى حدثٍ رمزي بلغة النقد الحديث، بمعنى أنه يُضفي عليها دلالات أعمق وأبعد من المأساة الفردية؛ إذ يجعلها تتخطى ذلك إلى دلالات جهد الناس في عالم لا يأبه، بل ويتربصُ بهم الدوائر، أو ما شئت من دلالات أخرى تتجاوزُ الحادثةَ العارضة لأنها تُقيم نمطًا أو بناءً داخليًّا .. أو قُل — بلغة النقد الحديث أيضًا — شكلًا باطنًا، والشكل له معنًى قد يتخطَّى أحيانًا معنى المادة المُشَكَّلة!

وكانت الأحداث التي تقع حولنا في تلك الأيام لا تختلفُ عن الأحداث التي تقع في كلِّ مكان وزمان، ولكننا كنا صغارًا نسبيًّا، فلم يكن أيٌّ من أفراد الشلة قد تخطَّى السادسة والعشرين، ولكننا كنا نتمثَّل كلَّ ما نقرأ وكل ما يحدث في وجداننا دون قلقٍ على مرور الزمن، فالنهار طويل والليل أطول، ورؤية الحياة بوجدان الطفل تُلغي الإحساس بأن ثمة نهاية، ومن ثَمَّ بالفناء، وربما كان هذا هو ما يعنيه وردزورث حين خاطب الطفلَ قائلًا إن الخلود ينشر جَناحَيه عليه مثل ساعات النهار! وأنا أحاول الآن، في غضون استرجاع الأحداث التي حفل بها عام ١٩٦٤م، وإحساسانا بهذه الأحداث، أن أذكر ما كنا نشعر به فلا أستطيع! وأعود إلى ما قاله الشاعر الإنجليزي نفسُه حين قال في قصيدةٍ أخرى إن النفس تذكر كيف أحسَّت، لكنها لا تذكر ما أحست به! وهو يُعلق على ذلك قائلًا إن في محاولة استرجاع الزمن والعجز عنه دليلًا على أن الزمن مطلَق! أين ذهبَت أحداث الأمس ومشاعرُه؟ وهل ما بقي منها في النفس هو ما خامرَ النفسَ آنذاك؟ وما مدى تحوُّلها وتبدُّلها على مرِّ الأيام وكرِّ السنين؟ إن فشل الإنسان في إدراك ذلك هو سبيله إلى التسليم بوجود الزمن، والزمن بَعدُ هو الفيض الدفَّاق أبدًا، ولا يستطيع إدراكَ حقيقة الخلود مَن يَغفل عن هذه الحقيقة.

كنا جميعًا نعيش في سياقَين زمنيَّين متلازمَين، وأكاد أقول متطابقَين؛ الأول هو سياق الحاضر — الذي يجرفُنا بأحداثه فلا نحسُّ به، والثاني هو المستقبل الذي نُحس به كأنه نورٌ دفَّاق يملأ الأفق ويمتدُّ بلا نهاية، وهذا هو الذي قال عنه وردزورث إنه إشعاعُ ضوء الأبدية الذي وُلِدنا به، وكان يعني به يقينَ الروح من الانتماء إلى عالم غيرِ أرضي! ولما كان وردزورث يؤمن بأن ضوء الأبدية فطري، أي بأنه يولَد مع الإنسان، فقد كان يُفسر أيَّ إحساس بهذا الضوء بأنه «ذكرى» لعالم الغيب الذي أتى منه، وهذه رؤيةُ شاعر على أي حال، أما أنا فكنتُ أرى أن هذا النور الدفاق أبدًا هو الحقيقة الوجودية التي اختصَّ اللهُ الإنسانَ بإدراكها؛ سواءٌ وضَعها في رموزٍ مستقاة من حياته (مثلما يفعل زعبلاوي بطلُ قصة نجيب محفوظ الشهيرة)، أو تركها مطلقةً تُشرق وقتَما تريد، وتهبُ المعنى لوعيه بذاتِه في لحظاتٍ نادرة الحدوث.

وعندما كنا نعمل بجدٍّ في تلك الأيام، كان بعضنا يُطل على المستقبل من خلال رموزه، فكان بعضنا يرى نفسَه في صورة كاتبٍ مسرحي، وقد يكون هذا الكاتب عَلمًا يُشار إليه بالبنان، أو في صورة أستاذٍ مرموق، أو في صورة أستاذٍ وكاتب معًا، لكن الصورة كانت تتداخل، وكنتُ أكثرَ من يعانون من هذا التداخُل، فعندما يكتب الإنسانُ كلامًا ثم يسمعه منطوقًا على المسرح بنبرات وأنغام قد تتفاوتُ وقد تُغير معناه، تختلط المعاني ويبدأ في التساؤل عن الوعي الذي تدلُّ عليه، وعندما كنتُ أترجم «روميو وجولييت» كنتُ أتساءل عن المتكلم — شيكسبير أم الشخصية أم أنا أم الممثل؟ وكثيرًا ما كنتُ أسمع الصوت الداخلي وقد تهدَّجَ وبدَتْ عليه دلائل الإرهاق!

١٢

وفي الشهور الأولى من عام ١٩٦٥م كنتُ أعمل بجِدٍّ في الرسالة التي تأخرَت، وفي ترجمة شيكسبير، وكتابة مقالات مجلة المسرح، وكنت أحسُّ بأنني أصبحتُ حبيسَ زمن لا يريد أن يتحرك! ولذلك كثيرًا ما كنتُ أخلو بنفسي في شقة الروضة، التي ظلَّت سرًّا لا أُطلِع عليه أحدًا (حتى لا يرتادوها فيُفسدوا خَلوتي، وقد يفعلون ما لا أحب)، وكانت خطيبتي نهاد تشكو من أنها أحيانًا ما تفشل في العثورِ عليَّ في أي مكان في القاهرة! ولكنني كنتُ أشعر يومًا بعد يوم بأن القراءة تتطلَّب الخُلوة، وكانت الكتب التي لا بد من قراءتها تفرض عليَّ العزلة، ومِن ثَمَّ تمكَّنتُ من الانتهاء من ترجمة روميو وجوليت، ودفعتُ بها إلى المطبعة في مارس، وظهرَت في عدد إبريل، ومع ظهورها جاءتنا مكالمةٌ تليفونية غيرُ متوقَّعة! كانت المتحدِّثة هي الدكتورة لطيفة الزيات، وأبلغَتني باقتضابٍ أن علي صبري قد وقَّع قائمةً تضم عشَرة أشخاص سُمح لهم بالخروج من مصر، وأن اسمي واسم سمير سرحان في القائمة، بعد أن اكتشَف الموظف المسئول أن ميزانيتنا سبَقَت الموافقة عليها عام ١٩٦٣م.

وأُهرِعتُ إلى سمير أُبلغه الخبرَ السعيد، وسرعان ما استخرَجْنا جوازات السفر، وكانت مشكلةُ جواز السفر هي أنه لا يسمح باستخراج الجواز إلا مع النصِّ على اسم الدولة التي سيُسافر إليها المسافر، ولم تكن أوراقُ إدارة البعثات تسمح بالنصِّ على إنجلترا (بالنسبة لي)، وأمريكا (بالنسبة إلى سمير) فخرج كلُّ جواز وبه دولةٌ واحدة يُسمح لها بالسفر؛ هي ليبيا! وعملنا أسبوعَين عملًا شاقًّا لإضافة الاسمَين، وما يزال جواز السفر القديمُ معي يحمل تأشيرةً تقول «ليبيا — أُضيفت إنجلترا بمعرفة المصلحة». وسرعان ما اشتريتُ تذكرة السفر، ذَهاب فقط، بنحو ٩٣ جنيهًا، وبدأنا الاستعداد، في سباقٍ مع الزمن؛ للرحيل قبل أن يُغيِّر أحدُ المسئولين رأيه.

وحددتُ أنا تاريخ السفر في أقرب فرصة، وهو يوم ١٢ مايو ١٩٦٥م، بينما حدَّد سمير الموعد بعدَه بأسبوعَين، وصِرنا نتردَّد على مُجمع التحرير يوميًّا للانتهاء من الإجراءات، وتغيَّرَت صورة مصر في نظري على الأقل؛ إذ كانت السنوات الستُّ التي قضيتُها بعد التخرج حافلةً بالعمل، وبما هو أهمُّ من العمل؛ ألا وهو الانتماء لمجتمع أدبي وفنِّي مُزدهر، بما في ذلك من علاقاتٍ بشرية عميقة ومتعددة، ولكن الذي لم أكن أعمل له حسابًا هو البُعد عن اللغة العربية؛ فلقد اكتسبتُ في تلك السنوات قدرةً على الإحساس بها والتعبير بها، جعلها جزءًا لا يتجزَّأ من كياني؛ وكذلك الابتعاد عن العود! وكنتُ قد اشتريتُ جهاز تسجيل ضئيلَ الحجم من أحمد أبو شادي (زميل فاروق عبد الوهاب) سجَّلتُ عليه بعضَ الألحان التي صنعتُها لقصائدِ صلاح جاهين وما زلتُ أحفظ بعضَها! لم أكن أعرف أن غَيبتي ستطول عشر سنوات! وفي ليلة السفر دعانا رشاد رشدي مع نهاد وفاروق وسمير إلى السهرة في عوامة (مركب راسية) في النيل وجعلنا نتحدثُ حتى الساعات الأولى من الصباح، ثم حملتُ حقيبتي واتجهتُ إلى المطار، ولما كنتُ أكره لحظاتِ الوداع والانفعالات المعتادة، بادلتُ المودِّعين التحيةَ باقتضاب، في مطار خالٍ من المسافرين، وفي الثامنة تمامًا أقلَعَت الطائرة ثم هبطَت في مطار روما، حيث توقفنا ساعة، انتهزتُ الفرصة فيها لإرسال بطاقةٍ إلى مصر، بعد أن غيَّرتُ النقود الإنجليزية بإيطالية، وكان لا يُسمح للمسافر بأكثرَ من خمسة جنيهات إسترلينية.

وفي مساء ذلك اليوم هبَطَت الطائرة في لندن، وبدأت رحلة جديدة في واحات الحياة، وانطوَت معها رحلةُ الزمن في الواحات التي كُتب لها أن تختفيَ من حياتي إلى الأبد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤