الفصل السادس

تخالط المقاصد في الرد على الدهريين

أما العالم المادي فليس لنا أن نتدبر فيه لأبعد من القول بأن ظروفه وظاهراته، لا يمكن أن تحدث بتأثير القوة الخالقة في كل طرف في أطرافه تأثيرًا مباشرًا، بل إن حدوثها موكول إلى السنن العامة التي تعهد إليها القوة الخالقة العظيمة تدبير حالات العالم.

هيويل

***

الفرق بين الأبيقوريين والماديين

طريقة النظر الميتافيزيقي الغيبي، التي عكف عليها السيد الأفغاني، حدت به إلى توجيه أفكاره ونقده إلى جهة واحدة. ساقته إلى الدفاع عن الفكرة الدينية. وهي فكرة تملكته طوال أيام عمره. وتحددت هذه الفكرة عنده بالدفاع عن الدين الإسلامي. والدليل على ذلك أنه ما كاد يفرغ جعبته في الرد على الدهريين، حتى زاد إلى تلك الرسالة نبذة طويلة قصرها على البحث في أن الدين الإسلامي أفضل الأديان. ذلك ما حدى به إلى مطاردة كل الأفكار الأخرى التي لا تجد لها من علاقة بالدين. فإنك إن تمحلت للسيد الأفغاني عذرًا في الحملة على المادية لأن للفكرة الأبيقورية صلة بها، فأي الأسباب تنتحلها عذرًا له في قيامه ضد مذهب الاجتماعيين أو الاشتراكيين، أو نظرية «داروين» في أصل الأنواع، أو فكرة «روسو» في «العقد الاجتماعي»، أو مذهب «فولتير» في فلسفة التاريخ؟

دارت أفكار السيد الأفغاني حول دائرة واحدة متصلة الأطراف. ألِأنَّ بعض الاجتماعيين قد تطرف في آرائه إلى القول بالاشتراكية المتطرفة أو الشيوعية التي تكرهها الأديان، يقضي المؤلف على كل مذاهب الاجتماعيين بالفساد، حتى من قال منهم بأن الفكرة الدينية ضرورة اجتماعية لبني آدم؟ ألِأَنَّ «داروين» لم يقل بالخلق المستقل مشايعة لظاهر الأديان يقضي على مذهبه بأنه من خرافات الواضعين وسخافات المشعوذين؟ ألِأَنَّ «روسو» حمل على الدين متأثرًا بثورات القرون الوسطى وتحدى الكنيسة للعلم في العصور المظلمة، ننكر عليه أثره في بث فكرة العقد الاجتماعي وما كان لها من أثر في تطور الأفكار؟ أم لأنه كتب «الاعترافات» ننسى فضل مذهبه في التربية؟ أفلا يكون من العبث أن ننزل فولتير منزلة السوقة؛ لأنه اتبع طريقة النقد الحر في بحث الدين، ونغفل له أثره في وضع فلسفة التاريخ، لأنه حمل على أفكار الكنيسة أو غيرها، وهو الذي يقول فيه العلامة «جون مورلي»: «سيعرف الناس إذا ما اكتملت في عقليتهم كفاءة القياس التاريخي أن اسم «فولتير» ينزل من التاريخ منزلة حركات الفكر الفاصلة في تاريخ الارتقاء، كالنهضة العلمية أو حركة الإصلاح الديني.» لا جرم أننا إذا قضينا بذلك متابعة لرأي السيد الأفغاني مقيدين بفكرته الأصلية، نكون قد تابعناه في طريقته، طريقة التقليد الشكي، ونبذنا طريقة النقد التحليلي.

ينظر السيد الأفغاني في آثار العقول نظرة مقصورة على متجهها كما تكونت في عقلية الواضع نفسه، لا إلى آثار منتجات الفكر في حركة الجماعات في حياتها العامة. فإن العصر الذي تقدم عصر «فولتير» وذاعت فيه آراء أصحاب الموسوعات، «الأنسيكلوبيذيين»، «ديدرو» وأصحابه، كان عصر خروج على الدين. عصر قضى فيه «ديدرو» بأن الأصل في الإنسان الخير، على الضد مما تقضي به مذاهب الأديان العظمى، من أن الأصل في الإنسان الشر، باعتبار خطيئته الأولى. عصر تساءل فيه «ديدرو»، وتابعه في تساؤله المفكرون، «هل في مستطاع بشرٍ فانٍ أن يوجه لله من شر غير محدود الأثر، ليستحق بذلك عقابًا أبديًّا، متى كان العدل أن تكون العقوبة بحسب الشر الحادث من مرتكبها.» فهل كان من أثر ذلك أن انتقض نظام الاجتماع، وراح الناس يقولون بالتشارك في الأموال والأبضاع؟ لم يكن شيء من هذا. بل كان من وراء ذلك، أن ذاعت في فرنسا مذاهب إن استغرقت في المادية وانغمست في الحس الصرف، فإنها اقترنت بمذاهب هي خير ما أنبتت الأفكار الإنسانية من المذاهب في شريعة الآداب. كذلك كان الحال في «روسو». فإن «روسو» قد قضى في أول رسالة نال عليها جائزة كلية «ديجون» عام ١٧٥٠ بأن المدنية خطأ وأن الإنسان سائر إلى الانحلال والفساد، لا إلى التقدم والارتقاء! وعندي أن بث هذه الفكرة أخطر على نظام الجماعات من فكرة مقاومة الأديان. لأنك إذا عرفت أن الأديان بما فيها من مبادئ الإصلاح، وأن الأفكار الفلسفية والعلمية والفنون والآداب التي ذاعت لعهد «روسو» لم تؤثر في الحيوان الناطق من أثر يسوقه إلى الارتقاء المدني، فعلى أي شيء تبقى، وعلى أي عهد لشريعة الآداب تعكف وعلى أي أمل في مستقبل نوعك تعمل وتجاهد في سبيل الأجيال القادمة؟ بنيت هذه الفكرة على أن القدماء أقوى من المحدثين تفكيرًا وأقرب إلى مناهج الطبيعة. غير أن الناس لم يلبثوا إلَّا قرنًا ونيفًا حتى دعم مذهب النشوء الحديث، فثبت للباحثين أن الإنسان يرتقي ويتقدم، وأن الفرق بين المحدثين والقدماء عظيم من حيث المجموع ومن حيث الأفراد، إذ غضضنا الطرف عن الشعب اليوناني القديم. فهل لنا أن نحكم على فكرة «روسو» بأنها فكرة منبوذة لا غير باعتبارها فكرة رجعية، من غير أن نقدر نتائجها العامة التي أحدثتها في عالم الفكر، ونكون في حكمنا منصفين؟

تلزمنا طريقة النقد التحليلي أن ننظر في الأعمال وحركات الفكر، لا من جهة آثارها الفردية، بل من جهة آثارها العامة؛ لأنك إن عكفت على الطريقة الأولى، حددت كل شيء، وحصرت دائرة الفكر قسرًا عنه، وألزمته خشونة البقاء على حالة واحدة لا يتعدى دائرتها ولا ينفذ إلى ما وراءها. انظر في الدين نظرتك الأولى. تجد أنه عبارة عن مراسم للعبادات والمعاملات إن اتبعتها دخلت الجنة تشرب من أنهارها وتلتذ بقطوفها الدانية وأرائكها الموسدة، وإن نبذتها تلظيت في جهنم بنار خالدة وعذاب مقيم. تلك آثار من هداية الفرد. ولكنك إذا نظرت فيه نظرتك الثانية، فهنالك تعرف ما هي آثار خضوع الفرد لمبادئ الأديان في قيام المدنيات وفي تطور الجمعية الإنسانية. هنالك تعرف أن الفكرة الدينية حاجة للاجتماع تحد دائمًا من أنانية الفرد ليخضع لصالح المجموع، وأن أنانية الفرد باعتبارها قوة مفرقة مبددة، لا بُدَّ من أن تحدها قوة مما بعد عقليته، هي الفكرة الدينية، باعتبارها قوة مؤلفة للاجتماع الإنساني.

فإذا أردنا بعد ذلك أن ننظر في الفرق بين الفكرة الأبيقورية والمادية، لزمنا أن ننظر في الفكرتين باعتبارهما أثرين من آثار الفكر، مهما كان فيهما من الخطأ الذاتي، فلا بدَّ من أن يكون لهما آثار أنتجت وجهًا من وجوه التقدم والارتقاء، ولو باعتبار آثارهما السلبية، وتقويتها لجهات الإيجاب، التي طالما فتحت للعقل طريقًا إلى المقارنة بين الحوادث واستخلاص زبدتها النافعة، ونبذ جفائها الضار. وبقاء الأصلح سنة يصح تطبيقها على الأفراد العضوية والأنواع، كما يصح تطبيقها على الآثار العقلية ومنتجات الفكر. من هنا عفت آثار الوثنية الأولى وعقبتها أديان التوحيد متابعة لرقي الإنسان المدني وحاجته الاجتماعية. لذلك ننظر دائمًا في المذاهب الفلسفية والفكرات الاجتماعية باعتبار آثارها في نشوء الإنسان، لا باعتبار أجزائها المكونة لها. كذلك الأشخاص الذين يذكرهم التاريخ، لا نحكم عليهم بمقتضى أعمالهم الفردة؛ بل بالآثار التي خلفتها أعمالهم للأجيال.

الفكرة الأبيقورية

ننظر الآن في الفكرة الأبيقورية لنقارن بينها، إذا ما وعيناها، وبين المذهب المادي باعتبار جوهره لا باعتبار مفصلاته وأوجه النظر فيه، لنضع بذلك قاعدة نستطرد بعدها إلى نقد الرد على الدهريين.

الفيلسوف «أبيقور» هو أول واضع للمذهب الفلسفي الأبيقوري المنسوب إليه. ولد بجزيرة «ساموس» عام ٣٤٢ وتوفي عام ٢٧٠ق.م. وقيل عام ٣٤٠ في السنة الثالثة من الأولمبيادة١ التاسعة بعد المائة. وهنالك اختلاف بين المؤرخين في مسقط رأسه لا شأن لنا بالبحث فيه. وجاء في دائرة المعارف العربية مجلد ثانٍ ص٤١٧ ما يلي: «ذهب «أبيقور» إلى أثينا وعمره ١٨ سنة. وتبع آراء ديمقراط وبعد خمس سنوات عاد إلى أهله في «كولوفون» ثم ساح خمس سنوات، واستوطن أثينا وأنشأ فيها مدرسة للحكمة، واشتهر هنالك حتى تقاطرت إليه الطلبة بكثرة، فنظم منهم جماعة كانت من أحسن الجماعات التي من نوعها. وكان تبعته يعتبرونه ويحبونه جدًّا حتى كادوا يعتبرون أقواله كالوحي.»
كان لأبيقور مذهب ذاع وانتشر في عصر من عصور المدنية اليونانية لم يصلنا من مفصلاته إلَّا القليل وما وصل إلينا من كتاباته أقل. ومذهب «أبيقور»، باعتبار الوضع الحديث، مذهب مادي صرف عريق في إنكار كل شيء إلَّا الحس. كان يقول بأن الآراء والأفكار، وقوة التفكير ذاتها، راجعة إلى الحواس. وكان له مذهب في السعادة، شأن كل فلاسفة اليونان، فإنهم طالما جمعوا بين النظر في الماديات والمجردات، وطالما كان لهم في كل مذهب آراء كثيرًا ما يختلط النظر فيها اختلاطًا فيها اختلاطًا كبيرًا. والسعادة عند «أبيقور» هي لذة الروح وهي عنده السعادة العقلية. وكان شديد الاعتقاد في أن الإنسان لا ينال السعادة إلَّا بالاعتدال في كل أموره، في مأكله ومشربه وتعففه ورياضة عقله. وتطرف في النظر في الحواس فقال: إنَّ كل الإحساسات واحدة، سواء أكانت إحساسات لذة أم إحساسات ألم. وأما الفرق بينهما فيرجع إلى حكم العقل فيها، فهو الذي يجعلها ألمًا أو لذة. وأخذ عنه هذه الفكرة شاعر الإنجليز الكبير «شكسبير» فقال: «ليس في العالم من شيء هو خير بذاته أو شر بذاته، ما لم يكيفه الفكر ويصبغه بإحدى الصبغتين.»٢

والفضيلة عند «أبيقور» تنحصر في تحصيل اللذة العقلية والتخلص من الآلام المادية. وأنها نتيجة مباشرة للحكمة والعكوف على رياضة العقل. وما الحقوق الإنسانية، أي القوانين الوضعية، عنده إلَّا أشياء تحد عمل الفرد الذي لا غنى للهيئة الاجتماعية عنه. وأن الريبة التي تقع في نفس الإنسان من حيث علاقته ببقية المخلوقات، وبالقوة التي أوجدته، هي المرجع الأول الذي يعود إليه اضطرابه، ويبعده عن السعادة. ومن هنا حاول «أبيقور» أن يعيد بناء ما تهدم من فلسفة «ديمقريطس» في الجوهر الفرد، ومادية الكون، فقضى بأن لا شيء يعدم، ولا شيء يتجدد. وقال بأن كل المواد مركبة من الجواهر الفردة، ولذلك لا يكون من الضروري أن تنسب تكوين العالم إلى قوة خالقة. ولكنه كان يقول بأن الإنسان لو سلم بذلك، لما استطاع أن يعلل أصل الشر.

وفلسفة القوانين الطبيعية عنده «هي التي يقوم بها الحكم ويمكن الإنسان بها أن يتعلم قاعدة لا تقبل الغلط، وهي قائمة على أن كل ما تثبته الحواس فهو حقيقي. اركن إلى نظرك وأذنك وذوقك ويديك، واحلف على شهادتها كلها.» راجع دائرة المعارف العربية.

ولقد وقعت على استنتاج غريب أفاض به صاحب دائرة المعارف العربية لدى كلامه في «أبيقور» ومذهبه الأدبي ولعله نقل ذلك الاستنتاج نقلًا عن بعض القائمين ضد مذهب «أبيقور» من الفرنسويين حيث قال: «والنفس عنده ليست من جوهر أعلى من جوهر الجسم. فإذا متنا موتًا مؤبدًا سواء كنا صالحين أو طالحين سعداء أو تعساء، فلا قيام عنده ولا دينونة. فلا خوف على الأشرار من فعلهم الشر، ولا أمل للأخيار بالجزاء عن أتعابهم. فالفضيلة خداع، ولا حقيقة إلَّا اللذة والتنعم. فالموت ليس بشر؛ لأنه لا يشعر بعد التلاشي. فلماذا نخافه؟ أو بالحري لماذا نخاف عاقبته. فهذه هي قوانين المعيشة الإنسانية والمقصد منها. فأول الواجبات الأكل والشرب وعدم الامتناع عند شهوات النفس. وأن التجارب ليست إلَّا تعاليم الأم لأولادها. وأمنا هي الطبيعة. وقد حازت السرقة والتعدي والسلب والنهب. فهذا ما نستنتج من فلسفة «أبيكورس» الأدبية، وهي ما يستعمله في كل مكان السكيرون والكسالى والفساق والمحتالون الخادعون، وعلى الخصوص والإجمال الكفار الذين جاءت هذه الفلسفة طبق مرامهم.» إلى أن قال: «فكان الأدب عنده معيبًا، ومع أنه كان يستعمل لفظة فضيلة وإمساك وتقشف وجودة، كانت الفضيلة عنده تقوم بأن يتحرز من داء النقطة والحمى والقولنج ويتجنب الإفراط في الأمور خوفًا من الطبيب، وأن يحترم المعبودات والشرائع خوفًا من القضاة.»

وأنَّا لا نستطيع أن نجاري صاحب الدائرة على رأيه في «أبيقور»، ولا أن نقضي بأن استنتاجاته صحيحة. أفنستطيع مثلًا أن نقول قول صاحب الدائرة أن «أبيقور» لم يضع فلسفته إلَّا تزكية للسرقة والقتل والفسق؟ وهل من المعقول أن نستنتج أن «أبيقور» كان يعتقد أن الطبيعة تعلم الناس التعدي والسلب والنهب، لمجرد أن يقول إن أمنا هي الطبيعة؟ وهل يتفق عقلًا أن مجرد إنكار «أبيقور» لحياة البعث أو للحياة بعد الموت بوجه من الوجوه يستتبعه الاعتقاد بنبذ الفضائل ونحن نعلم أن «أبيقور» لم يندب إليها إلا على اعتبار أنها لذة عقلية، فهو بذلك يطلبها من طريق المعقول لا من طريق المحسوس؟ لا مشاحة في أن استنتاج صاحب الدائرة مبالغ فيه، بل بعيد عن الواقع، بعد حكم السيد الأفغاني على ذلك الفيلسوف العظيم.

ويقول بعض الباحثين في حياة «أبيقور» أنه أخطأ النقل عن «ديمقريطس»، وفهم مذهبه بشكل معكوس، حيث أخذ عن دياغوراس Diagoras مذهب الجوهر الفرد، ولم يدرس مفصلاته، شأن أذكياء كل عصر، إذ يلمون بالمذاهب الذائعة في عصرهم إلمامًا إجماليًّا. ولذا تراه يقول بما قال به «ديمقريطس» من قبله.
والحقيقة أن مذهب «أبيقور» الأدبي ليس من وضعه. بل إنه نظرية أخذها عمن تقدمه من المفكرين وزاد إليها. وهي في أصلها مأخوذة عن الفلسفة السيرينية التي وضعها الفيلسوف «أرستيب» في أن اللذة والألم هي الخير والشر، وأن الغرض من الحكمة والفلسفة ينحصر في تحصيل الخير، والبعد عن الشر. ومسألة الخلاف الحقيقية بين «أبيقور» وبين السيرينيين أنه أراد أن يجعل هذا المذهب شريعة أدبية عامة للناس، ويخرجه عن كونه مجرد فكرة في شيء بذاته. جاء في دائرة المعارف الإنجليزية الحديثة: ص٥٦١ ما يلي:

لقد عورضت فلسفة «أبيقور» جهد المعارضة، وطالما أفسد الكتاب حقائقها وشوهوا معالمها. وهذه الفلسفة فضلًا عن براءتها من الاستغراق في الحس إلى الدرجة التي ينسبها إليها القائمون ضدها، تلك الحسية التي يمكن أن تنسب بحق إلى المدرسة السيرينية، فلا يسعنا أن نعتبر فلسفة «أبيقور» أمثل بكثير من الفلسفة الحسية الصرفة.

وجاء فيها أيضًا:

إن نظرية الجوهر الفرد كما فهمها «أبيقور» لم تهاجم بغير حق على اعتبار ما تنتج من أفكار الزندقة وإنكار الألوهية. على أن المذهب الذي يبثه «أبيقور» في الفضيلة ويدمجه في ثنايا مذهبه الأدبي، إن فرض وكان يمت بصلة إلى أصل أرقى من القول بإنكار الألوهية، فإن فضيلة «أبيقور» مهما قلبت وجوه الرأي فيها، لتصبح بذاتها، لا باعتبار أصلها الذي تستمد منه، ذات روح بغيضة في نظر الباحثين. فإنه إذا قضى مرة بأن الفضيلة ترجع إلى تحصيل اللذة، لما تيسر مناقشة الذين ينزلونها منزلة السعي وراء ملذات أكثر انغماسًا في الشهوات وأمعن في العكوف على البهيميات، مما قضى «أبيقور» بأن يكون لها حدًّا. لذلك تجد أن مذهبه، فضلًا عن كونه لم يقصد به إلَّا رياضة النفس والعقل وتعويدهما الاعتدال وحب الفضيلة، فإن فيه محلًّا للقول بأن تحضيضه على التزام الفضائل مبني على أساس غير قويم، بل إنه قد يفتح بابًا واسعًا لصنوف الجهالات وضروب الموبقات.

من هنا نجد أن مذهب «أبيقور» لم يكن إلَّا خليطًا من مذهبين ذاعا من قبله، مذهب «ديمقريطس» في الجوهر الفرد ومادية الكون، ومذهب «أرستيب» واضع أساس المدرسة السيرينية في اللذة الحسية. فإذا تذكرنا كلمة العلامة «إردمان» حيث قال: «إن حياة «أبيقور» العملية كانت أرقى من نظرياته وأمثل»، عرفنا أن ما يعني من قولهم اليوم: إن هذا عمل «أبيقوري»، وفلان «أبيقوري»، وتلك مسألة «أبيقورية»، إن كان القصد منها في الواقع الدلالة على عمل غير منطبق على شرائع الآداب العامة أو منافٍ لذوق العصر، فإن هذه النسبة يصح أن ترجع إلى فكرة فئة من أتباع «أبيقور» أفسدوا من عملياته بقدر ما أباحت لهم نظرياته، أكثر من نسبتها إلى «أبيقور» نفسه.

الفكرة المادية

ذاعت الفكرة المادية في أول القرن الخامس قبل الميلاد، وأول واضع لها على ما يعرف من تاريخ الفلسفة «ديمقريطس» الفيلسوف اليوناني الكبير، صاحب المذهب الذري، أو الجوهر الفرد. ولد عام ٤٧٠ أو ٤٦٠ وتوفي سنة ٣٧٠ق.م.

والجواهر الفردة عند «ديمقريطس» كما هو الرأي فيها الآن، أصغر أجزاء من المادة يمكن الوصول إلى تجزئتها بالوسائط العملية. فهي بذلك غير قابلة للانقسام، وأثبت «ديمقريطس» وجودها وعدم قبولها للتجزئة عقلًا بقوله:

إذا كانت الأجسام قابلة للتجزئة إلى ما لا نهاية فيترتب على ذلك أن تجزئتها يمكن إدراكها بالحواس. فإذا تجزأ جسم من الأجسام، فلا بدَّ من أن يترتب على ذلك إحدى حالات ثلاث:
  • (١)

    فإما أن يتخلف عنه أجزاء ذات امتداد.

  • (٢)

    وإما أن يتخلف عنه أجزاء لا امتداد لها.

  • (٣)

    وإما أن يتلاشى جملة.

فالحالة الأولى تلزمنا القول بأن التجزئة لم تبلغ نهايتها باعتبار الامتداد.

والحالة الثانية تلزمنا القول بأن تجمع أجزاء لا امتداد لها لا يمكن أن تكوِّن بتجمعها جسمًا ذا امتداد.

والحالة الثالثة تلزمنا القول بأنه ما دامت التجزئة لا تخلف شيئًا فإذن يكون العالم المادي عدمًا.

فلا بدَّ إذن من وجود أجسام بسيطة غير قابلة للتجزئة كل منها يسمى «أتوم» أو جوهر فرد. والتعريف المأخوذ به في العلوم الطبيعية الآن أن الجوهر الفرد أصغر جزء من المادة يمكن للتجزئة العملية الوصول إليه. والدقيقة المادية ما تكونت من مجموع من الجواهر الفردة.

ومذهب «ديمقريطس» أن الجواهر الفردة دائمة الحركة. ومن حركتها الدائمة تحدث الصور من طريق التئامها وانحلالها أي من طريق الكون والفساد كما يقولون في الاصطلاح الفلسفي. وأن الجواهر الفردة لها صورة وحجم وفيها قوة جاذبة تجذب بعضها إلى بعض ولا مسامية لها. وكل الأجسام تتكون من عناصر أولية واحدة، هي الجواهر الفردة. واختلاف الأجسام يرجع إلى اختلاف طبائع الجواهر وترتبيها ومراكز وضعها. واختلاف الجواهر في هذه الخصائص لا نهاية لها. كما أن عددها غير متناهٍ أيضًا. ومن هنا يكون تنوع الصور لا نهاية له. أما النار فتتركب عند «ديمقريطس» من دقائق متحركة تنتشر حول الأرض، وأن الهواء يتحرك بارتفاع الجواهر الفردة المستمر في الأصقاع السفلى، فيحدث تيارًا سريعًا قويًّا يحمل معه في ارتفاعه وبقوة تياره الأجرام السماوية التي تتكون في درج ذلك إلى السماء. والنفس، باعتبار أنها مبدأ الحركة تتكون من أصفى الجواهر النارية طبيعة. غير أن النفس إذ كانت تتضمن بقية العناصر الأخر، وإذ كان كل شيء يعرف بالقياس على نظيره ومشابهه، فلا بدَّ من أن تكون مركبة في بعض أجزائها من تلك العناصر. وأن الحس المادي هو الأصل الذي ترجع إليه الأشياء المعقولة والمحسوسة وهو أقل الأشياء تقبلًّا للخداع والخطأ. فكل ما يرجع في تكوينه إلى الجواهر الفردة، هو ما نستطيع أن نحكم بأنه صحيح. وهذا الحكم راجع بالطبيعة إلى الحواس. أمَّا الآثار التي تقع على الحواس الخمس فتحدث من جهة باختلاف أوضاع الجواهر الفردة في تكوين أعضاء الحس، ومن جهة أخرى باختلاف الحوادث الطبيعية التي تقع من فعل الأشياء الخارجة عن الحس نفسه. وتلك الأشياء تختلف أيضًا باختلاف أوضاع الجواهر الفردة المكونة لها وصورها ونظام التئامها.

وتابع «ديمقريطس» نظريته هذه في تعليل الكون كله حتى انتهى إلى النفس فقضى بأنها تعدم بالموت؛ أي إنها ليست إلَّا تكوينًا من الجواهر الفردة ينحل بانحلال البدن ذاته. وقسم النفس إلى قسمين؛ النفس العاقلة: ومركزها الصدر. والنفس الشهوية وهي موزعة على بقية الجسم. وكلاهما يتكون من مادة واحدة أو يكوَّن بالأحرى مادة واحدة.

أما فلسفته الطبيعية برمتها ونظره في علم الهيئة، فراجع إلى نظريته في الجوهر الفرد أيضًا. حتى الآلهة، فإنه قضى بأنها مكونة من جواهر فردة، أصفى طبيعة من غيرها وأنها قابلة للتغير والزوال، شأن غيرها من الأشياء التي تتكون من جواهره هذه.

والغرض الذي ترمي إليه فلسفة «ديمقريطس» في مجموعها، ينحصر في تعليل الكون وظاهراته الطبيعية، لا على اعتبار أن خصائص المادة الأصلية مسألة صفة وكيف كما كان الرأي السائد بين فلاسفة المدرسة «الإلياوية الأولى»؛ بل على اعتبار أن خصائص المادة مقدار وكم.

أمَّا فلسفة «ديمقريطس» الأدبية فمحورها أن صفاء العقل بالرياضة هو الغاية من الحياة. وأن اللذة العظمى والسعادة الحقة، ترجع إلى رياضة العقل على النظر في حقائق الأشياء، والتأمل من العالم وحقيقته، وماهية الموجودات. وأن صفاء العقل يرجع إلى الإكباب على التزام الفضيلة.

المدنية والمادية

المعروف في الفكرة المادية أنها مذهب ينكر وجود النفس وكل عنصر غير مادي في الإنسان يقال له الروح أو غير ذلك، أو بمعنى أوسع، مذهب مبني على نظرية أن كل الموجودات، ومنها القوة المفكرة في الإنسان، ليست سوى صور مادية، وظواهر مادية صرفة.

ظهرت هذه الفكرة في فلسفة «ديمقريطس»، وجاراه فيها «أبيقور» الذي أخرج من الفلسفة مذهبًا خلط فيه بين الفكرة المادية ومذهب اللذة الحسية الذي أخذه عن السيرينيين. فكان اختلاط المذهبين على الصورة التي وضعها «أبيقور» مثالًا للتطرف في الأفكار المادية، والاستغراق في إنكار كل شيء إلَّا ما أتى عن طريق الحواس.

تطورت هذه الفكرة المادية شأن كل شيء، فظهرت بثوب جديد في فلسفة «الرواقيين» Stoics التي وضع مبادئ مدرستها الأولى الفيلسوف «زينو» اليوناني. ظهرت بصورة جمعت بين الكثير من التقشف، وبين القليل من الاستسلام للغيب والمجهول، وجمعت بين الاعتقاد في المادة والعكوف على الفضيلة ورياضة العقل بالإكباب على عمل الخير لذاته.

ومذهب «الرواقيين» الأدبي في الحقيقية مذهب وضعت أسسه على قواعد فلسفة «سقراط» الأدبية، فهو ثمرة من ثمارها وحسنة من حسناتها. دعي إلى الفضيلة ورياضة النفس، وحض على التزام شريعة للآداب تكاد تكون مثالية، أكثر منها عملية. وفي هذا المذهب ذاعت الفكرة المادية بصورة أقل تطرفًا من الصورة التي صورها «ديمقريطس» و«أبيقور»، حيث كان بعض فئات من أعلام المدرسة الرواقية لا يعرفون إلَّا المادة وقواها، يردون إليها كل شيء في الطبيعة أو عالم الفكر. فهم مع عكوفهم على المادة راضوا أنفسهم على حب الفضائل غير متجانفين لإثم، ولا عاملين إلَّا بما توحي إليهم شريعتهم الأدبية، لا يتطلعون إلى ثواب جزاء فضيلتهم؛ بل ينسلون عن الرذائل كرهًا فيها ومقتًا لها، على اعتبار أنها ضد العقل السليم والخير المحض.

وإليك بعض مبادئهم أخذناها عن تأملات الإمبراطور الروماني «مارك أوريل أنطونين» وهو من أعلام «الرواقيين» قال:

إنني إنما أتكون من صورة ومادة. كلاهما لا يمكن أن يعدم إلى لا شيء أو يكون قد حدث من لا شيء.

كل ما يلائمك أيها الكون الفسيح يلائمني. وليس عندي من شيء متقدم في الزمان أو متأخر فيه إذا رهن حدوثه على حكمك. وكل ما تنتجه أسبابك أيتها الطبيعة العظمى ثمرة شهية عندي. منك كل شيء. وفيك كل شيء. وإليك يعود كل شيء.

انظر في دخائل نفسك تجد ينبوعًا، كلما أمعنت في احتفاره زادك من الخير نصحًا.

كل شيء يوجد لغاية. فلأي الغايات وجدت؟ ألتحصيل اللذة؟ تريث قليلًا قبل أن تقضي بأن شريعة الآداب تتقبل هذا الحكم.

من هنا نجد أن الفكرات المادية التي عكف عليها هذا الفيلسوف العظيم لم تحل بين نفسه وبين تهذيبها بالفضيلة، أو بين رياضة عقله على التفكير الحر، ونفسه على التزام شريعة الآداب. وعلى هذا ظلت تلك الآراء ذائعة في الناس طوال القرون الوسطى، ولا نقصد بذيوعها في الناس إلَّا وجود مدارس فلسفية تمثلها خلال تلك العصور.

تولت الكنيسة حكم الناس عصورًا طوالًا فصد تيار مذاهبها الجارف العقول عن الانصراف إلى الفلسفة والعلم، وذاعت مطاردة الهراطقة الذين كانت تتخذهم الكنيسة أعداءها الألداء، ولم تكن الهرطقة عند رؤساء الدين سوى النظر في العلوم والفلسفة بما يخالف تيار الأفكار والآراء التي كانت تلزم الكنيسة الناس الاعتقاد بها. وظلت ثمرات العلم والفلسفة والفن طوال القرون الوسطى والقرون المظلمة تابعة للكنيسة، فلم يخرج من جديد إلَّا وطورد أصحابه، ولم ينبت الفكر من نبت إلَّا واقتلعت أصوله، إذا ما اعتقد رؤساء الدين أن في تلك الثمرة ربح المعارضة لآراء أهل الدين المعصومين زورًا من الخطأ، المبرئين خطأ من كل ضلالة.

لم تكد تفك العقول من إسارها في أوائل عصر النهضة حتى ذاعت مذاهب أنكرت وجود الله وعكفت على المادة تنهل من مشاربها وتعتل قطرات الآراء المادية. وما انتشرت في الناس عقيدة حرية الرأي حتى رأيتهم ينقضون كل شيء خرج به الإنسان من مدنية القرون الوسطى، حتى الألوهية؛ لأنها من دعائم الكنيسة ومن أسس الدين.

ليس من شك في أن المذاهب المادية تؤدي بطبيعتها إلى القول بإنكار الألوهية؛ لأنك إذا استطعت أن تعلل كل شيء بالمادة، فلأي شيء يرجع عقلك إلى التفكير فيما بعدها؟ ولأي الأسباب يركن عقلك إلى التسليم بمبدأ منفصل عنها؟

ولكنا على يقين من أن قوة الانعكاس في حرية الرأي كانت بمقدار الاستبداد الذي احتكرت به الكنيسة معاهد العلم وآراء الناس. وإلى ذلك يرجع التطرف القاتل الذي ظهر في آراء بعض الماديين من زعماء مدارس الفلسفة في فرنسا في أوائل العهد بانتشار مذهب النقد في العصور الحديثة.

ما ذاع من فكر أو مبدأ علمي أو مذهب فلسفي إلَّا وقسم الناظرين في المعقولات فريقين؛ فريقًا يتخذه دليلًا على مادية الكون، وفريقًا يتخذه دليلًا على الألوهية. ولا يزالون حتى اليوم على هذا النهج، متبعين هذا السبيل.

وضع «لابلاس» الفيلسوف الفرنسوي العظيم مذهبه في الكون وعلله بالمادة. ومن قبله كثيرون حاولوا ذلك. منهم نفر من مشهوري «الأنسيكلوبيذيين» فلم يكد ينشر مذهبه حتى ذاعت مع ذيوعه فكرة أن هذا النظام الكوني البديع الذي وصفه «لابلاس» أبلغ وصف وأمتعه، لا يمكن أن يعود إلى مصادفة عمياء، أو إلى لا قصد ولا غاية.

نجد من هذا أن الأفكار المادية نفسها كانت ولا تزال مرجعًا يأخذ منه الإلهيون براهينهم وأدلتهم، يعارضون أصحاب المادة ببراهين منتزعة من مادتهم نفسها.

ذاعت في وسط هذه الجلبة فكرة جديدة توسطت بين الفكرتين. وهي فكرة ذاعت بذيوع فلسفة «كانت» Kant وإن كانت في الحقيقة أقدم بكثير من ذلك العهد. غير أنها كانت بعيدة عن محك النقد أزمانًا طوالًا. مضى ذلك الفيلسوف الكبير في بحثه ما بعد الطبيعة على قاعدة أن الخالق وضع لهذا الكون سننه ونواميسه الطبيعية دفعة واحدة، وحدها، وجعلها غير قابلة للتغير ولا التبديل، وأن حكمته قضت بأن لا تنفذ مشيئته في هذا العالم إلَّا من طريق هذه النواميس فهو مقيد بها.

وهذه الفكرة على ما فيها من البعد عن المبادئ الأولية في الأديان، وعلى ما تؤدي إليه من إنكار المعجزات التي يعتقد أنها خرق لنظام الطبيعة الأزلي الذي فرضه الله وشاءت إرادته أن يكون ثابتًا لا تبديل فيه، فإنها عادت فقسمت الناظرين في الكون إلى فريقين. الفريق الأول فريق الماديين الإلهيين: وهم القائلون بهذه النظرية، والفريق الثاني فريق القائلين بالمادة المنكرين للألوهية؛ أي ملاحدة الماديين. وهذه الفكرة في الحقيقة مضادة للفكرة الأفلاطونية في الألوهية ونظام العالم، وهي الفكرة التي دارت حولها رحى العقل منذ أول عصور النشأة الفكرية.

رجعت الأفكار حتى بعد هذا التقسيم إلى نتيجة لا طائل تحتها، ولم تستقو فكرة الماديين الإلهيين على زعزعة يقين الماديين المحض، فإن الفريقين إن اتفقا عند القول بأن للعالم نظامًا ثابتًا لا يتغير ولا يتبدل، وأن حقائق الأشياء ثابتة في ذاتها كما قال العرب، فإنهما اختلفا عند النظر في الأصل الذي ينشأ عنه هذا النظام، والمرجع الذي يعود إليه. فقال الفريق الأوَّل بالمبدأ الأول والعلة الأولى مدعمين أقوالهم ببراهين عقلية وتأملات عجز الماديون عن أن يأتوا على إنكار القصد والغاية في العالم بمثلها قوة إقناع ودامغ حجة، وضربًا في مجالي اليقين بأشد ما تضرب به أصول الشك المتأصلة في النفس الإنسانية.

إذن ففريق الإلهيين وفريق الماديين المحض قد اتفقا على أن للعالم سننًا لا يعتريها الخلل ولا ينتابها التبديل. ومن هنا نشأت فكرة قانون المادة. وانحصر الفرق بين الفئتين بأن الأولين يقولون بأن المادة بما فيها من القوى ترجع إلى مبدأ أو علة أولى منها تستمد ومنها أخذ النظام صبغته، في حين أن الآخرين يقولون بأن المادة والقوة فاعل ومنفعل، وأن النظام نشوئي أتى من طريق المؤثرات التي ترجع إلى فعل القوى الطبيعية.

هذا آخر ما تكيفت فيه الأفكار من حيث النظر في الألوهية والمادية. فإذا عرفنا ذلك ثبت لدينا أن فكرة الأبيقوريين لم تنتج إلَّا في ثنايا المذهب المادي واقتصرت على أن تأخذ من المادة قوة تستند إليها في بث القول باللذة العقلية، ومن ثم إلى التطرف والرجعى إلى اللذة الحسية، والإباحة في الماديات بقدر ما كانت تفسح للناس نظريات «أبيقور» من الإكباب عليها. غير أننا إذا ما نظرنا في حقيقة التطور التاريخي الذي تمشت فيه المدنية الإنسانية، عرفنا أن انتشار الفكرة الأبيقورية راجع في الواقع إلى ضعف الإحساس الأدبي في النفوس، حيث اتخذ بعض الإباحيين من المادة قوة استعان بها على نشر مبادئ الإباحة أكثر من رجوعها إلى الفكرة المادية بالذات. فضعف الإحساس الأدبي كان العامل الأول على نشر الرذائل في عصور الوثنية وغيرها، لم تزده المادية إلَّا قوة ولم تحبه إلَّا بكل ما يقوي أصوله في نفوس الضعفاء من بني آدم.

قلب صفحات التاريخ، وأنعم النظر في تطور الفكرة في الآداب العامة، تجد أن الفكرة في ذاتها لم تكن نتاجًا لضعف الإحساس الأدبي في الإنسان. بل إن ضعف الإحساس الأدبي اتخذته المادية من طريق غير مباشر سندًا لبث مذهب الإباحة. ولو كانت الفكرة المادية أصل في ذيوع الرذائل لما وقعت في التاريخ على رذيلة ذاعت بين البشر قبل انتشار المادية بصورتها الفلسفية المعروفة.

لهذا نعتقد بأن المادية لا علاقة لها بضعف الإحساس الأدبي الذي يعود إليه في الواقع انتشار الفكرة الإباحية في كل العصور. والذين يضعون الإحساس الديني في منزلة واحدة مع الإحساس الأدبي ليعتقدون خطأً بأن ذيوع المادية بمعناها الفلسفي يؤثر في هذا الإحساس ويضعف من قوته في النفوس. وها نحن أولاء نقلب صفحات التاريخ فلا نجد فيها أن المادية في أشد عصورها انتشارًا وذيوعًا قد تعدت فئة خاصة من الناس. فظل معتنقوها أقلية لا يعتد بها، مقيسة إلى فئة المتدينين.

انظر في أطراف العالم الإنساني وقس بين المتدينين فيه وبين الماديين في شعوب الأرض، فإنك تقع على حقائق تنفي كل شك في أن ليس للمادية أثرًا في إضعاف الإحساس الأدبي. تجد أولًا أن الماديين فئة خاصة منتشرة في بعض الشعوب دون بعض. وفي الوقت نفسه تجد أن هذه الشعوب هي أشد شعوب الأرض غلبة، وأعظمها سلطانًا، وأثبتها أخلاقًا، وأقربها إلى الفضائل رحمًا، وأشدها إنكارًا للرَّذائل الاجتماعية، وأعرفها بحقيقة الطبائع البشرية. ولو كان للمادية أثر في إضعاف الإحساس الأدبي أو الأخلاق، لكانت النتيجة على عكس ذلك.

إن قوة الإحساس الأدبي وضعفه، ترجع في واقع الأمر إلى مؤثرات أخر مدنية وتاريخية، وإن شئت فقل مؤثرات خلقية فطرية، أكثر منها فكرية أو اعتقادية.

كذلك لا ينبغي لنا أن ننسى أن الدين لا يقوى مطلقًا من الإحساس الأدبي إذا أجدبت النفوس من الأخلاق. بل على العكس من ذلك يثبت الإحساس الأدبي، إذا ما تأصل في النفوس، من أثر الدين؛ لأن الدين زرع لا ينمو إلَّا إذا صادف أرضًا خصبة ينمو فيها. ولا مراء في أن الأرض الموات تذبل غرسها وتقضي على ثمراته.

رزحت الإنسانية تحت آصار الوثنية دهورًا طوالًا، ولا يزال قسم عظيم منها رازحًا تحت آصارها. والذين تحرروا من بعض آثار الوثنية أقلية عظمى حتى اليوم في كرة الأرض. ولا مشاحة في أن الإنسان قد ورث عن أجياله الأولى أكثر ما أخرجت الوثنية من ثمار الإباحة، والأبيقورية بمعنى عام. ومع كل هذا ضربت الإنسانية في التقدم بقدم الجبار، وتطورت على مر العصور مرتقية في علومها وآدابها وأفكارها وفلسفتها، وماشت شعوب الوثنية أمم التوحيد والتثليث في ترقي الإحساس الأدبي العام، فلست تجد في الأمم المتمدينة بحق في هذا الزمان أمة انتشرت فيها الإباحة بمثل ما انتشرت في عصور الوثنيات الأولى، على اعتبار أنها غير مغايرة للآداب مثلًا. فالأفكار الوثنية لم تصد الهند أو الصين أو اليابان عن التقدم العمراني والضرب في أصول الارتقاء نحو السمت المستطاع من الإحساس الأدبي بمقدار قد عدمت بعض أمم التوحيد شبيهه.

إذن فالإحساس الأدبي وأثره في النفوس مسألة منفصلة تمام الانفصال عن الأفكار المادية. وهو يرجع إلى الشعور والوجدان، رجوع الماديات إلى الاستنتاج. وهما أصلان منفصلان في طبيعة النفس الإنسانية، لن يختلطا إلَّا لمامًا ليتبع كل منهما سبيله الطبيعي الذي يجب أن يماشي فيه روح التقدم العام.

أما الذين يخلطون بين هذه الأصول، ويدمجون بعضها في بعض، فإن نصيبهم من الخطأ في الحكم والتقدير، وإظهار التاريخ الإنساني بمظهر الفوضى والعماء، جديرة بطريقة التقليد التي عكف عليها الفكر زمانًا ما، أوفى من نصيبهم في صحة النقد وقوة التمييز بين حقائق الأشياء.

هل لنا أن نقول مثلًا بأن تأخر الأمم الإسلامية في هذا الزمان وتفكك روابطها الاجتماعية، وانفصام عرى وحدتها، راجع إلى ضعف الدين ذاته والدين الإسلامي هو هو لم يتغير منه حرف منذ أول عصوره حتى الآن؟ كلا. بل إن تأخرها راجع في الواقع والحق إلى ضعف الإحساس الأدبي، وإلى عدم تجانس صفات الشعوب التي تدين به، وضعف الإحساس الأدبي أدى إلى ضعف الإحساس الديني، فأصبحت الأمم أقل ترابطًا وأضعف صلة في مجموعها. ومما لا مرية فيه أنك إن قويت الإحساس الأدبي تتعهده بالأفكار الحرة والتربية الحرة الملائمة لروح العصر، وعملت في الوقت ذاته على المحافظة على قوة التجانس بين صفات الأمة أفرادها وجماعاتها، لأصبحت قوة الإحساس الديني أقوى أثرًا في الأفراد والجماعات؛ لأن هنالك، وهنالك فقط يجد الإحساس الديني أرضًا خصبة تينع ثمراته فيها وتمتد فروعه وتثبت أصوله.

وسواء أعكف الناس على المادة الصرفة أم الإلهيات الصرفة، فكلا الأمرين غير مبدل من أخلاقهم أو صفاتهم المدنية شيئًا. ذلك لأن المدنية غرس الأخلاق القويمة، لا غرس الأفكار مادية أو إلهية.

إنما المدنية مجموعة مبادئ عامة في الأخلاق الفضلى والآداب. وليست هي بفكرة خاصة في شيء منفصل عن النفس الإنسانية. وأنك لن تستطيع أن تكشف للمدنية عن قانون تضعه لتمدين الجماعات غير المتمدينة أو تقوية أثر الأخلاق الفاضلة فيهم، أو غرس صفات الإحساس الأدبي بينهم؛ لأن المدنية صفات عامة ثابتة في أنفس الأفراد تخرج منها صورة عامة تتكيف بها الجماعات، ونصيب الأمم من تلك الصفات مرهون على مقدار ما تتقبل طبيعتها من أصولها.

•••

من رأي الكثير من الفلاسفة المعاصرين أن الأديان كانت الأثر الفعال في ضبط علاقة الفرد بالمجموع، لا من جهة الأخلاق الفردية والصفات الخاصة، ولكن من ناحية الشعور المطلق بوجوب المحافظة على كيان المجموع والتضحية له. لذلك نجد أن علاقة الفرد بالمجتمع أقوى بكثير من علاقة الفرد بفرد مثله. وتلك الأديان المنزلة بما فيها من الشرائع والمراسم والنصائح والأمثال والمواعظ لم تكف اليد الممدودة بالإثم عن ارتكاب الجرائم ضد الأفراد، ولكنها كفت يد الجماعات المتجانسة في صفات القومية والدين من أن تمتد شرورها تلقاء بعضها بعضًا، بمثل ما تمتد يد الفرد الآثم نحو أخيه في القومية والدين.

كذلك أفلست الآراء الإباحية التي اتخذ معتنقوها الأفكار المادية ذريعة لإذاعتها، عن أن تقتل الروح الأدبية في الحيوان الناطق أفراده وجماعاته.

انظر إلى أخص الأمم التي دانت بالتوحيد، وقارن بينها وبين أخص الأمم التي دانت بالأصنام، فإنك لا تجد كبير فرق بين الطرفين في الأخلاق؛ بل غالب ما تقع على أمم في بلاد الهند عكفت على شريعة للآداب تكاد تكون مثالية في نظرنا، وقياسًا على منزلتنا من الآداب. في حين أنها استغرقت من أشد ضروب الديانات قربًا من معتقدات المستوحشين في العصور الأولى. ذلك ما ذكره العلامة «هربرت سبنسر» في بعض كتبه التي جمعها في بحث الجماعات في العالم من الوجهة الوصفية والأخلاقية. وتلك مسألة من أشد المسائل غموضًا في مباحث الأخلاق والآداب.

ولقد أجمع الناظرون في الاجتماع على أن لهذه المسألة علاقة بترقي الفكرة المدنية ذاتها مستدلين على ذلك بما يجدون من الفرق بين آداب الناس في عصور المدنيات الوثنية وعصور المدنيات الحاضرة.

إنَّ الفكرات الدينية وما بني عليها من المذاهب والمعتقدات ضرورة اجتماعية لضبط علاقة الفرد بالمجتمع الذي هو تابع له، أو لضبط علاقة الجماعات المتفرقة بمجموع الكل الاجتماعي الذي يمثل الجماعات العظمى من أفراد الحيوان الناطق.

تأمل من نفسك ساعة، واعكف على طريقة «ديكارت» التي اختارها لنفسه عند إبان تفكيره في أمر الوجود، واتبع خطاه في تجريد نفسك من كل تقليد، واعمل على النظر فيما يحف بك من النظم الاجتماعية والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تثقل جيدك وتنقض ظهرك، من واجبات نحو الأسرة والأب والأم والزوجة والولد والوطن والدين والتقاليد، وفكرات الشرف والعرض وما إلى ذلك، واستسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في تلك الأمور عامتها، وجرد نفسك من المشاعر إن استطعت برهة واحدة، فإنك لا تلبث أن تجد عقلك وقد أخذ يجر خطاك إلى التخلص في هذه القيود التي لن تجد من عقلك ما يسوغها أو ينزلها على حكم النفع المباشر. لماذا تعيش في أسرة وتحمل نفسك من الأعباء ما تطيق وما لا تطيق؟ ولماذا تحب أباك وتحترم واجبات الأمومة وتعطف عليها؟ ولماذا تخضع لعيشة الزوجية وفي مقدورك أن تستعيض عنها بعيش أرغد في نظر العقل وأقرب إلى مطالب الحياة الحرة المطلقة من قيود الواجبات الأدبية؟ ولماذا تحتمل تربية أولادك وتحمل من أجلهم أمر مذاقات الحياة باصطبار وسعادة؟ ولماذا تحب وطنك وتضحي في سبيله بنفسك ومالك وتريق من أجله دمك وأرض الله واسعة الفضاء؟ ولماذا تقيد نفسك بدين تخضع له وفي متسع الإباحة ما هو أرضى لروحك وأرخى لعنانك وأوجب في رضائك بالحياة؟ ولماذا تخضع لشيء ترثه عن آبائك الأقدمين يقال له التقاليد طالما رغب عنها عقلك وسكن إليها شعورك؟ وما هو الشرف؟ وما الذي يحملك على أن تكون ذا علاقة مشروعة بأشخاص من بني آدم تغار على شرفهم وعرضهم وتعمل على الاحتفاظ بسمعتهم ومنزلتهم من الهيئة الاجتماعية؟ تلك أسئلة يجيبك عليها الشعور جوابًا لا يرضاه العقل ولا تسكن له موحيات الأنانية الرسيسة في طبيعتك. إنما الطبيعة قد خصت الإنسان بشيء يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله. شيء آت مما بعد عقليته ينزل تلك المعاني من نفسه منزلة يخضع لها العقل قسرًا عنه، شيء يقال له «الفكرة الدينية» فيها من المشروعية المكتسبة بحكم الإجماع العام ما يخضع الفرد المجتمع لحكم الشعور، وتحد من شهوات الفرد المستقل الخاضع لحكم العقل. تلك وظيفة الدين الكبرى في الاجتماع. وذلك هو الفرق بين الفرد المجتمع والفرد المستقل. فالفرد المجتمع قوة شاعرة خاضعة لحكم المشاعر الصرفة، والفرد المستقل قوة عاقلة مفكرة خاضعة لحكم العقل الصرف، لن تجد لها في الطبيعة الاجتماعية من مثال قائم لها، اللهم إلَّا في النادر اليسير. وذلك النادر من حسن الحظ مقصور على تخلص بضعة أفراد من بعض قيود الاجتماع دون بعض، وما أسرع ما ينبذ هؤلاء المجتمع فتأويهم السجون أو تفعل في رقابهم آلات الجزاء.

نعرف من ذلك أن ليس للدين من أثر في تقويم أخلاق الأفراد الثابتة في طبائعهم بالوراثة، بل إن أثره مقصور على تحديد علاقة الفرد بالمجتمع، تحديدًا قصرت همم الاجتماعيين عن الوقوف على ماهيته وطبيعته. كذلك تجد من جهة أخرى أن الفكرات المادية أو الإباحية ليست بشيء آتٍ من وراء عقلية الإنسان شأن الأثر الديني. ولذا لن تجد من أثر لانتشار المذاهب المادية أو الإباحية في تعطيل وظيفة الدين، إذ إن كلًّا منهما يستمد من ناحية تختلف عما تستمد منه الأخرى. وإن الفرق بين الحالتين لعظيم. لذلك لا يأخذنا العجب مطلقًا إذا وقعنا في التاريخ على رجال مثل «هلفتيوس» و«هولباخ» و«فولتير»، استغرقوا في المادية استغراقًا، في حين أنهم عكفوا على سنة للآداب نتمنى من صميم قلوبنا أنه يكون لأخص دعاة الإصلاح في عصرنا هذا نصف ما كان لهؤلاء الماديين منها. من هنا نعرف أن الشعور الديني شيء والفكرات المادية أو الإلهية شيء آخر، ولن يكون للفكر من تأثير على المشاعر قبل أن يتبدل الإنسان من طبيعته طبيعة أخرى، ومن كيانه كيانًا آخر.

معنى المصادفة في مباحث العلم والفلسفة

كنا نود لو أتيح لنا من الفرص ما تمكننا من أن نتابع نقد «رسالة الدهريين» نقدًا عامًا نلم فيه بأطرافها لمامًا لا نتورط إلى شيء من الإطناب إلا مرغمين، لولا أن الخلط الفاضح الذي انطوت عليه دفتي تلك الرسالة لا يجعل لناقد إلى الإيجاز سبيلًا. لذلك نمت إلى القراء أن يفسحوا لنا من وقتهم شطرًا نقضيه وإياهم في نقدها، نقدًا يلتئم وما أحدثت من أثر في أذهان الناس، جرهم إلى الشك في مبادئ العلوم الطبيعية وساقهم إلى جهة من تاريخ الفلسفة هوشت فيهم ما كان من الواجب أن ينسق من حركة الفكر عندهم. لذلك نستطرد بعد هذه الصفحات التي أحطنا فيها بشيء من نواحي الفكر الحديث، إلى نقد الرسالة باعتبار الموضوعات التي تناولتها بالكلام. غير أنه لا يفوتنا أن نلم بطرف موجز فيما يعني الطبيعيون من معنى «الصدفة» إتمامًا لفائدة النقد.

يقول السيد الأفغاني: «ثم اختلف هؤلاء (الماديون) بعد اعتماد أصلهم هذا (أي المادة) في تكوين الكواكب وتصوير الحيوانات وإنشاء النباتات. فذهب فريق منهم إلى أن وجود الكائنات العلوية والسفلية ونشأة المواليد (الحيوان والنبات والجماد) على ما ترى إنما هو من الاتفاق وأحكام الصدفة. وعلى ذلك إتقان بنائها وإحكام نظامها لا منشأ له إلا الصدفة كأنما أدت بهم سخافة الفهم إلى تجويز الترجيح بلا مرجح. وقد أحالته بديهة العقل.» راجع ص٢١ و٢٢ من «رسالة الدهريين».

وإنا لا ننكر أن الكثيرين من الناظرين في نشوء الكائنات قد استعملوا كلمة مصادفة أو صدفة اصطلاحًا للدلالة على سنة من السنن أو ناموس من النواميس، استعصى عليهم أن يقفوا على حقيقته، بل عرفوه من ظواهره، فردوا ظواهره إلى شيء غامض أطلقوا عليه اصطلاح «الصدفة». شأنهم في ذلك شأن الطبيعيين الناظرين في «الفوسيقة» Physics إذ يفرضون وجود مادة لطيفة تملأ أطراف الكون يطلقون عليها اسم «الأثير» اصطلاحًا وهم يعتقدون بوجود هذه المادة التي لم يروها ولم تقع تحت اختبارهم اعتقادًا جازمًا. إذ يفوتهم أن يعللوا كثيرًا من ظواهر الكون إذا لم يفرضوا وجودها. فالقائلون بالمصادفة والقائلون بالأثير، شرع في حكم العقل، كلاهما يرجع الظواهر التي يعكف على دراستها من غير أن يقف لها على سبب يتناوله اختباره إلى شيء، إن كان وجوده في الواقع أمرًا محتومًا في نظر العقل، إلا أن نزوله منزلة الفرض، أمر لازم عند الباحث الذي لم يعرف وجود السبب لا بوقوفه على ظواهره المحسوسة، فهل في ذلك شيء من تجويز الترجيح بلا مرجح؟ وهل هذا أحالته بديهة العقل؟

يقول العلامة «داروين» في الفصل الخامس من كتابه «أصل الأنواع»: «لقد تكلمنا في الفصول الأولى من هذا الكتاب في التغايرات، وأثبتنا أنها كثيرة متعددة الصور متنوعة الأشكال في الكائنات العضوية إذ تحدث بتأثير الإيلاف، وأنها أقل حدوثًا وتشكلًا إذ تنشأ بتأثير الطبيعة المطلقة، وغالب ما نسبنا حدوثها للمصادفة العمياء. على أن كلمة «مصادفة» هنا اصطلاح خطأ محض، يدل على اعترافنا بالجهل وقصورنا عن معرفة السبب في حدوث كل تغاير معين يطرأ على الأحياء.»

هذا ما يقصدونه من كلمة «مصادفة». وهذا ما يقوم في أذهان القائلين بها من الماديين وغيرهم. انظر في الرأي السائد في أصل النظام الشمسي وتمهل قليلًا في تفهم تلك النظريات التي يضعونها تعليلًا لنشوء النظام من العماء، فإنك لا تلبث أن تجد أن قولهم بالمصادفة يدل في الواقع على الشعور بقصور العقل عن تعليل الظاهر تعليلًا صحيحًا لعدم الوقوف على كنه السنن التي تحدث ظاهرات الطبيعة في جزئياتها وكلياتها. وإليك رأيهم في تكوين النظام الشمسي منقولًا عن «سبنسر» قال: «لنفرض أن المادة التي تتكون منها الشمس والكواكب كانت سديمًا مالئًا أطراف المكان، وأنه قد نتج بتجاذب جواهره الفردة حركة دورية حول مركز معين. وكان النظام في مبدأ تكوينه غير محدود المكان والامتداد، متجانس تجانسًا تامًّا في ثقله النوعي وحرارته وكل ظاهراته الطبيعية الأخرى وأول ما نتج من التغاير في ذلك السديم المنتشر بتأثير ما نشأ فيه من التدامج وقوة التلازم، تباين طبيعي تغايرت به مادة ذلك الجرم الداخلية وأجزائه الخارجية، في الحرارة والثقل النوعي. وأحدث انفصال أجزائه الخارجية في ذات الوقت حركات مختلفة الماهية، متباينة في سرعة حركتها الزاوية، منتهية بالدورة حول حرمها الأصلي، ومن ثم أخذ هذا التغاير المادي في التكرار غير مرة متعاقب الوقوع بتزايد في الكم حتى تدرج النظام الكوني إلى ما هو عليه الآن من شمس وأجرام سيارة، وأقمار تدور حولها.»

هذا هو الرأي السائد في أصل النظام. فإذا سألتهم أو تساءلت أية قوة حركت ذلك السديم، وهل كانت حركته ذاتية أو شيء زائد على الماهية؟ وما الذي أحكم تلك التغايرات بحيث انتهت بذلك النظام البديع؟ وكيف وجد ذلك السديم أصلًا؟ فإن قالوا بقدمه وقعت في مشكلات، وإن قالوا بحدوثه حفت بك معضلات، لن تجد لنفسك منها مخرجًا إلا بالركون إلى القول «بالمصادفة» قصورًا منك عن تعرف تلك الأسباب، وعجزًا عن الجواب، فتلجأ في الواقع إلى الحصر، قانعًا بأن من أسرار الكون ما لا تبلغ إلى معرفته قوى العقل البشري، وإن كانت تلك القوى في ذاتها معجزة من معجزات الطبيعة.

أمَّا كراهية أهل الدين للقول بالأشياء المبهمة كالمصادفة وما يجري مجراها، فلأنهم يردون كل الظاهرات الطبيعية إلى أصلٍ ثابت، إن قلت بالمصادفة افْتَتَّ على حقهم في الاعتقاد بذلك الأصل. غير أنك إن نظرت في الواقع لألفيت أن تلك الكراهية ليست إلا قصرًا في النظر وجمودًا في العقل نود لو يخرج أهل الدين بالإقلاع عنه إلى الحرية الفكرية دون التخبط في ظلمات القسر والتقليد، أو التطوح مع خطرات الوهم في جو الغيب والمجهول. ذلك لأن قولك بالمصادفة ليس إلا نتاجًا لنزعتك العقلية الوثابة إلى تعرف حقائق الأشياء، القفازة إلى الغايات ومعرفة الأسباب التي تحوك ظواهر الكون وترجع في مجموعها إلى أصلها الأول. أما العلة الأولى وذلك الأصل الأول، فيرجع إلى المعتقد الثابت الناشئ عن اليقين بأن كل الظاهرات الطبيعية، لا بُدَّ من أن تعود إلى أسباب وسنن تحكمها، وتضبط حركاتها وسكناتها وتفاعلاتها. فإن بحثت في تلك الأسباب وعرفتها تكون قد خطوت خطوة جديدة تزيد من يقينك وتثبت من عقيدتك في العلة الأولى، وإن عجزت عن تعرفها لم يقنع عقلك بأنها راجعة إلى لا سبب ولا سنة فتعبر باصطلاح المصادفة عن عجزك دون الوصول إلى معرفة الأسباب التي يقترن اعتقادك بوجودها باعتقاد آخر في أنها عائدة إلى أصل أول وعلة أولى. من هنا نعتقد أنه ليس كل القائلين بالمصادفة ملاحدة، ولا أن الفرق كبير بين القائلين بها وبين المعللين لظاهرات الطبيعة وغوامضها بقولهم: «هكذا خلقت.» وإن كان هنالك من فرق، فينحصر في أن الأولين يقولون بالمصادفة وهم معترفون بالعجز مثابرون على تعرف الحقائق وكشف الحجب عن نواميس الطبيعة. أما الآخرون فيقولون بحكمتهم هذه قانعين بأنها تصح أن تكون برهانًا على قيام الأسباب، مكتفين بها دون البحث والنظر في حقائق الأشياء.

١  كانت تحدث الألعاب الأولمبية كل أربع سنوات في بلاد اليونان، فاتخذ ذلك قاعدة للتقويم الزمني فأطلقوا على كل أربع سنوات اسم أولمبيادة Olympiad، وكان أول ما اتخذ هذا الأمر قاعدة لذلك سنة ٧٧٦ق.م. وهي السنة التي خرج فيها «كوروبس» منتصرًا في الألعاب الأولمبية.
٢  The is nothing either good or bad, but thinking makes it so Shakespeare.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤