الفصل الثامن والعشرون

الحكم الإسلامي

لم يكن عَجبًا من أمر القبط أن يسعَوا إلى الإيقاع بأتباع المذهب الملكاني والاقتصاص منهم، بعد ما ذاقوه من الروم وبطريقهم قيرس من سوء العذاب، ولكن ما كان عمرو ليُبيح لهم مثل هذا الأمر إن دار في خَلدهم أن يفعلوه؛ فإن عمرًا كان في حكمه يسير على نهج الاعتدال والتسامح، ولم يكن له هوًى مع أحد المذهبين الدينيين. ولدينا كثير من الأدلة على صدق هذا الرأي؛ فمثلًا يذكر ساويرس أن أسقفًا ملكانيًّا بقي على مذهبه حتى مات لم يمسسه أحد بأذًى، وذكر أن بنيامين كان يستميل الناس إلى مذهبه بالبرهان والإقناع. وقد ورد ذكر كثير من كنائس الملكانيين بقيت إلى ما بعد ذلك من العصور،١ وورد ذكر الملكانيين، وأن عددًا كبيرًا منهم كان باقيًا في مصر إلى ما بعد الفتح بخمسين عامًا.٢ وعلى هذا لا بد لنا من أن نقول إن المذهبين كليهما قد بقيا جنبًا إلى جنب في مصر يُظلُّهما الفاتحون بذمتهم، ويحمونهما جميعًا بحمايتهم.
والظاهر أن حماية المسلمين لأهل الذمة كانت في ذلك الوقت الأول من حكم الإسلام لا تُقيدها القيود التي دخلت فيما بعد على أحكامه في أمر أهل الذمة؛ فإن شرط الصلح مع المسيحيين في مصر قضى بأن يدفعوا الجزية على أن يأمنوا في بلادهم، ويُدفع عنهم من أراد غزوهم من عدوهم؛ فكان هذا عهد أهل الذمة الذي استقرُّوا عليه، ولكنا نجد تغيرًا طرأ على هذا العهد، فنجد منذ القرن العاشر أن دفع الجزية تقيَّد بنوعين من الشروط؛ فالنوع الأول من هذه الشروط ما يجب لزومه واتباعه في كل الأحوال، والنوع الثاني ما يكون لزومه واتباعه بحسب شرط العقد إن وُجد. والشروط التي لا بد من لزومها واتباعها هي:
  • (١)

    ألا يُعتدى على القرآن ولا تُحرق مصاحفه.

  • (٢)

    ألا يُقال عن النبي إنه كذاب، ولا يُحقر في القول.

  • (٣)

    ألا يُسَب دين الإسلام، ولا يُرد عليه بالتكذيب.

  • (٤)

    ألا يتزوج مسيحي من مسلمة.

  • (٥)

    ألا يُغرَّر بمسلم أو يُغْرى على أن يرتدَّ عن الإسلام، ولا أن يؤذى في ماله ولا في نفسه.

  • (٦)

    ألا يُوالى أعداء الإسلام، ولا يُنصروا، ولا يُكرم أغنياؤهم.

وأما الأمور التي يُتبع فيها شرط العقد فهي:
  • (١)

    أن يلبس أهل الذمة لباسًا يُميزهم، ويعقدوا الزنانير على أوساطهم.

  • (٢)

    ألا يعلوا في بُنيانهم على المسلمين.

  • (٣)
    ألا يؤذوا المسلمين بقرع نواقيسهم،٣ ولا بترتيلهم في صلاتهم، ولا بما يرَون في عقائدهم، سواء في ذلك اليهود والنصارى.
  • (٤)

    ألا يُبدوا صُلبانهم، ولا يشربوا الخمر جهارًا، ولا يُظهروا خنازيرهم.

  • (٥)

    أن تُقام مآتمهم بغير احتفال، وتُدفن موتاهم كذلك.

  • (٦)
    أن يركب أهل الذمة البراذين والخيول المعتادة، وأن يتجنَّبوا ركوب الأصائل.٤
وليس في كل هذه الشروط ما لا يقبله العقل، ولكنا نشكُّ في أنها كانت مُشترَطة عند أول دفع الجزية وقت الفتح؛ فإن كثيرًا من الأمور التي جرت عليها العادة أصبحت في حكم القانون، وصار الناس ينظرون إليها فيما بعد كأنها من أصل الدين ومن أحكام الإسلام، فقال الماوردي مثلًا: «إنه لا يحقُّ لأهل الذمة أن يتخذوا لأنفسهم كنائس أو بِيعًا جديدة في دار الإسلام، فإذا بنَوا لأنفسهم ذلك هُدم، ولكن لهم أن يُعيدوا بناء ما تهدَّم من كنائسهم أو بِيعهم.» وهذا التفريق لم يكن في أول عهد حكم الإسلام في مصر؛ فقد ورد أن القائد «سنوتيوس» أرسل إلى بنيامين مقدارًا عظيمًا من المال لبناء كنيسة القديس مرقص في الإسكندرية،٥ وورد أيضًا أن البطريق «حنا السمنودي» بنى كنيسة وكرَّسها باسم ذلك القدِّيس عينه.٦ فلما جاء بعده البطريق إسحاق قيل إن حاكم مصر نفسه عبد العزيز بن مروان أمر أن تُبنى كنيسة في مدينته الجديدة حلوان.٧ فالظاهر من هذا أن القبط نالوا في أول الأمر كل ما يتصوره العقل ويُبيحه من الحرية.
وليس من المُستطاع أن نحدِّد النظام السياسي الذي سارت عليه البلاد عند ذلك بمثل هذه السهولة، غير أن الحكم المدني كان على وجه الإجمال على عهده الأول لم يُغيَّر فيه شيء؛ إذ كان العرب رجال حرب وسيف لم يتعوَّدوا حكم البلاد، ولم يحذقوا فنونه، ولم يكن بينهم نظامٌ معروف قد يتخذونه في مصر أو يُدخلون منه شيئًا في إدارة أمورها، ومصر عريقة في الحضارة ذات نظام مقرَّر مُشعب، بيْدَ أن العرب كانوا أهل ذكاء وفهم سريع؛ فكان في استطاعتهم أن يتناولوا أعنَّة الحكم التي وجدوها دونهم ويُديروا بها الأمور على ما كانت سائرة عليه من قبلهم. وقد بيَّنا فيما سلف أن بعض أكابر حكام الروم قد بقوا في أعمالهم، ولعل طائفةً كبيرة من عامة الروم ساروا في ذلك على منهاجهم، غير أنه لا بد قد خلت أعمالٌ كثيرة؛ إذ نزح عمالها الروم الذين لم يرضَوا أن يكونوا من رعية الإسلام، فجعل العرب في مكانهم عمالًا من القبط، فما مرَّ إلا قليل زمن حتى صار عمال الدولة يكادون جميعًا يكونون من المسيحيين. وهذا أمر كان لا بد منه في مثل تلك الحال؛ إذ كان العرب قومًا لا عهد لهم بالمدينة، وفُتحت لهم بلادٌ ذات حضارة عالية. وقد تنبَّأ بذلك الرسول نفسه بثاقب نظره، وأقرَّه في قوله إقرارًا صريحًا؛ وعلى ذلك خلا المسلمون من أعباء الحكم وانصرفوا إلى أمور الدين؛ إذ لم تشغلهم عنه مشاغل الدنيا. ومن العجيب أن نجد كثيرًا من أسماء الروم وألقابهم باقيةً في حكم الإسلام، ورغم تطاوُل الزمن؛ فقد بقي القبط إلى آخر القرن السابع يُسمُّون المسجل أو الناموس باسمه الروماني «الخرتولاريوس»، ويُسمُّون رئيسه باسم «الأرباخوس» أو «الأرخون»، ويُسمُّون مَقرَّ الحاكم باسم «البريتوريوم»، وكانوا يُسمُّون حاكم الإسكندرية باسم «الأغسطل».٨ وقد ورد لقب «دقس» في كثير مما كُتِب في القرن الثامن،٩ ولا سيَّما في الحجج الشرعية، وقد استعمله الكاتب «ساويرس»، وكان في القرن العاشر.١٠
ولكن الظاهر أن العرب وإن حافظوا على طرق الروم في تدوين دواوينهم وجمع ضرائبهم، كانوا على ما يلوح لنا أخفَّ منهم وطأة في جباية الأموال؛ إذ كان مقدار الجزية والضرائب الذي اتفقوا عليه في عهد الصلح أخفَّ حملًا على الناس وأقل إحراجًا لهم. وإنه من الصعب أن يعرف الإنسان حقيقة مثل هذا الأمر؛ فليس دوننا إلا ما كتبه العرب، واختلافهم يبلغ معظمه في إحصاء الأعداد وذكر الأرقام؛ فابن عبد الحكم مثلًا١١ يقول إنه لما استقرَّ الأمر لعمرو بن العاص جعل القبط يدفعون من الجزية مثل ما كانوا يدفعون للروم، غير أنها كانت تتغير بحسب غناهم ورواج أمورهم. وليس لهذا في نظرنا إلا معنًى واحد، وهو أن عمرًا سار على ما كان الرومان يسيرون عليه في جباية خراج الأرض؛ لأن الجزية التي فرضها العرب على القبط كان مقدارًا معلومًا، في حين كان خراج الأرض يتغير بحسب علو الفيضان وبحسب حال الزراعة. ويقول ابن عبد الحكم بعد ذلك: إن زعماء الناس في القرى كان عليهم أن يجتمعوا لينظروا في حال الزراعة، ويجعلوا جباية المال مناسبة لذلك؛ فكانوا في ذلك بمثابة لجنة خاصة تجتمع لتقدير مقدار ما يُجبى من الأموال. فإذا اجتمع من ذلك المال شيءٌ فوق ما فُرِض على قريتهم أُنفقَ في إصلاح أحوالها. وكانت تُجعل في كل بلد قطعة من الأرض يُخصَّص ريعها لإصلاح الأبنية العامة وصيانتها، وذلك مثل الكنائس والحمامات. وكانوا كذلك يقدِّرون ما يُفرض على الناس من المال لضيافة العرب، وكان هذا حقًّا من حقوق العرب عليهم، وكذلك ما كان يُفرض من المال لضيافة الحاكم وإكرامه إذا وفد عليهم.
هذا وصفٌ لا بأس به لحال الضرائب وجبايتها على الأرض، ولكنا لا نعلم هل وقع الاتفاق عليها في شرط الصلح عند الفتح أم أنها بقيت على ما كانت عليه يعدُّونها ضريبة على ملك الأرض، وكذلك ليس من الجلي ما يقصده مؤرخو العرب إذ يذكرون خراج مصر؛ أيقصدون كل ما يُجبى من أموالها، أم يقصدون الجزية وحدها، أم الخراج وحده؟ غير أنه يلوح لنا أنهم إنما يقصدون الخراج؛ فقد جاء عنهم أن عدد من فُرضت عليهم الجزية دينارين: ستة آلاف ألف نفس. وجاء بعد ذلك أن مقدار المال الذي جُبي من مصر كان اثنَي عشر ألف ألف دينار.١٢ ويقول مؤرخو المسلمين إن هذا المال أقل مما كان يجبيه المقوقس، ومقداره عشرون ألف ألف دينار.١٣ فإذا صحَّ لنا أن نصدِّق هذه الأعداد، ونثق في أنها قُدِّرت على أساسٍ واحد في الحالين، وأنها تصلح لأن تكون أساسًا للمقارنة؛ كان لا بد لنا أن نتخذها دليلًا على أن حكم العرب كان بركة على المصريين خفَّف عنهم وطأة الضرائب. على أن الأمر كان على غير ذلك؛ إذ إن المال الذي يذكره العرب لا يُقصد منه إلا مال الجزية، في حين أن ما يُذكر عن أموال الروم لا يُقصد به في أغلب الظن الجزية وحدها؛ إذ إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس وضرائب أخرى كثيرة العدد.١٤ ومع كل هذا فإنه مما لا شك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل؛ إذ كانت تُعفى منها طائفةٌ ممتازة من أفراد أو جماعات.١٥ وكذلك لا شك في أن الدولة في أيام هرقل كانت في أشد الحاجة إلى المال، وذلك في السنوات التي قبل الفتح، فليس ثَمة من سببٍ يحدو بنا إلى تكذيب ما ذكره مؤرخو المسلمين من خفة وطأة الضرائب على المصريين بعد فتح العرب. هذا إلى أن العرب أزالوا ما كان مقرَّرًا من التفريق بين الناس في جباية الضرائب وإعفاء بعضهم منها، غير أن النفس بها شيء من الشك في أمر الإسكندرية؛ إذ من المحقَّق أن أهلها كانوا شديدي الضجر من الحكم الجديد. ولعل هذا الضجر قد لحقهم لِما أصابهم من زوال بعض امتياز كان لهم؛ إذ لعلهم كانوا من قبلُ لا تُفرض عليهم جزية على الأنفس، أو لعلهم قد لحقهم ضرر لِما أصاب المدينة في أرزاقها من فادح الخسارة في تجارتها، وكساد أسواقها في مدة الحرب الطويلة التي حلَّت ببلدهم، ومما فقدته من الخير عندما هاجر منها كثير من أغنياء التجار والأعيان عند الفتح وتسليم المدينة. وإذا صح أن عهد الصلح شرط على المدينة أن تفقد ما امتازت به قديمًا، وهو الإعفاء من جزية الأنفس، كان من العسير علينا أن نُدرك كُنْه ذلك الصلح. وأغلب الظن أن مدينة الإسكندرية قد حُرمت من ذلك الامتياز قبل فتح العرب بحين من الدهر.
وقد رأينا فيما سلف أن الضريبة التي كان العرب يُسمُّونها الجزية كانت دينارين على كل رجل، ليس على الصغير الذي لم يبلغ الحلم، ولا الشيخ الفاني، ولم تُفرض على النساء، ولا على الرقيق، ولا على المجانين أو المساكين المُعدمين. على أن الجزية وإن كانت في مجموعها على عدد الرءوس عن كل رجل دينارين، لم تكن على ما يظهر لنا واحدة على كل فرد، بل كانت تختلف؛ وذلك لأن الدينارين لا يتكلف الغني في حملهما شيئًا، في حين أنهما يبهظان الفلاح الفقير؛ فلعل الحاكم كان له الخيار أن يقسم من تُفرض عليهم الجزية إلى ثلاثة أقسام: الفقراء، وأوساط الناس، والأغنياء. فكان يضع على كل فئة قسطًا من الجزية خلاف ما يضعه على غيرها.١٦ وهذا أمرٌ لا يأباه العقل ولا يرى فيه ظلمًا، غير أنه كان بلا شك عُرضةً لأن يفسد. وقد تطرَّق إليه الفساد؛ فمكَّن الحكام أن يزيدوا مقدار الجزية ويُمزقوا بذلك عهد الصلح؛ فإنك إذا نظرت إلى الأمر في ذاته لم تجد بأسًا بأن تكون الجزية على الناس بحسب طاقاتهم مع بقاء جملتها واحدة لا تتغير، وكذلك لا تجد بأسًا في أن يكون خراج الأرض في جملته مُتغيرًا بحسب السنة وخصبها، وأن يتغير ما يُفرض على صاحب الأرض من الخراج بحسب خصب أرضه ومقدار ثمرتها، ولكن ليس في طاقة البشر أن يبقى مثل هذا النظام ثابتًا لا تُفسده الأطماع؛ فكان لا بد له من عدلٍ كامل لا شائبة فيه كيما يبقى على صلاحه، غير أنه كان عُرضة لأن يُداخله الفساد وتعصف به الأطماع، ولم يكن بالعجيب أنه قد فسد بعد حين من العمل به.
وإن هذا لمَوضعٌ لذكر ما رواه ابن عبد الحكم أن الخليفة عمر بن الخطاب تقدَّم إلى عمرو بن العاص في أن يستشير البطريق بنيامين١٧ في خير وسيلة لحكم البلاد وجباية أموالها، فأشار عليه البطريق بالشروط التالية:
  • (١)

    أن يُستخرج خراج مصر في أوانٍ واحد عند فراغ الناس من زروعهم.

  • (٢)

    أن يُرفع خراجها في أوانٍ واحد عند فراغ أهلها من عصر كرومهم.

  • (٣)

    أن تُحفر خلجانها كل عام.

  • (٤)

    أن تُصلح جسورها وتُسَد ترعها.

  • (٥)
    ألا يُختار عاملٌ ظالم لِيليَ أمور الناس.١٨

وكان ذلك الشرط الخامس أشقَّ الأمور وأصعبها تحقيقًا؛ فإن السيادة التي جرى عليها الحكام في اختيار العمال كانت لا بد أن توجد فيهم تلك الصفات التي تُفسد نظام الحكم وتجعله مشئومًا.

إنا لا نشكُّ في أن عمرو بن العاص كان في أول حكمه لا يقصد إلا العدل والرأفة بأهل البلاد، ولكن الخليفة لم يُواتِه في هذا ولم يُوافقه عليه؛ فقد رأى الخليفة أن عمرًا قد ملأ أنباره بالقمح من مصر، ودرَّ على خزائنه الذهب، ومد سلطان العرب على فسيح البلاد، ولكن الخليفة عمر لم يجزِه بذلك إلا هوانًا وجحودًا. وقد بقيت صيغة بعض كتب مما تردَّد بين الخليفة وواليه، وإنا لا نشكُّ في صحتها،١٩ وهي تُظهر لنا ظهورًا جليًّا ما كان عليه الرَّجلان في صلتهما؛ فقد كتب الخليفة عمر مرة إلى عمرو:٢٠ «أما بعد، فإني فكَّرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرضٌ واسعةٌ عريضةٌ رفيعة، وقد أعطى الله أهلها عددًا وجلَدًا وقوة بر وبحر، وإنها قد عالجتها الفراعنة، وعملوا فيها عملًا مُحكَمًا مع شدةِ عتوِّهم وكفرهم، فعجِبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدب. ولقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج، وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر، ورجوت أن تُفيق فترفع إليَّ ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تعبأ بها لا تُوافق الذي في نفسي، لست قابلًا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك. ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي وقبضك؛ فلئن كنت مُجربًا كافيًا صحيحًا إن البراءة لنافعة، وإن كنت مُضيعًا نطعًا إن الأمر لعلى غير ما تحدِّث به نفسك. وقد تركت أن أبتلي ذلك منك في العام الماضي٢١ رجاءَ أن تُفيق فترفع إليَّ ذلك. وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا أن عمالك عمال السوء، وما توالس عليك وتلفف اتخذوك كهفًا، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك فيه؛ فلا تجزع أبا عبد الله أن يؤخذ منك الحق وتُعطاه؛ فإن النهر يُخرِج الدر، والحق أبلج، ودعني وما عنه تلجلج؛ فإنه قد برح الخفاء، والسلام.»٢٢
فردَّ عمرو على ذلك بأن قال: إن الخراج كان من قبله أوفر وأكثر، والأرض أعمر؛ لأن الفراعنة على كفرهم كانوا أرغب في عمارة أرضهم من العرب مذ كان الإسلام.٢٣ ثم وجَّه إليه شكوى مما وجَّهه إليه من شديد التأنيب، وقال: «ولقد عملنا لرسول الله ولمن بعده، فكنَّا بحمد الله مؤدين لأمانتنا حافظين لِما عظَّم الله من حق أئمتنا، نرى غير ذلك قبيحًا والعمل به شينًا، فتعرف ذلك لنا ونصدق فيه قلبنا. معاذَ الله من تلك الطُّعم، ومن شر الشيم، والاجتراء على كل مأثم. فأمضِ عملك؛ فإن الله قد نزَّهني عن تلك الطعم الدنية والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبقِ فيه عِرضًا، ولم تُكرم فيه أخًا. والله يا ابن الخطاب لأنا حين يُراد ذلك مني أشد غضبًا لنفسي ولها إنزاهًا وإكرامًا، وما عملت من عملٍ أرى عليَّ فيه مُتعلقًا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت. يغفر الله لك ولنا! وسكتُّ عن أشياء كنت بها عالمًا، وكان اللسان بها مني ذلولًا، ولكن الله عظَّم من حقك ما لا يُجهل.»
ولكن هذا الرد السهل في أسلوبه الجليل في معناه لم يكن له أثر في عمر؛ فإنه رد عليه في جفاء، فقال:٢٤ «أما بعد، فإني قد عجِبت من كثرة كُتبي إليك في إبطائك بالخراج وكتابك إليَّ بثنيَّات الطُّرق، وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق المُبين، ولم أُقدمك إلى مصر٢٥ أجعلها لك طُعمةً ولا لقومك، ولكني وجَّهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك. فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج؛ فإنما هو فيء المسلمين، وعندي من قد تعلم قومٌ محصورون، والسلام.»
وقد طلب عمرو أن ينتظر به على الناس حتى تُدرك غلتهم، مُتبعًا في ذلك مشورة بنيامين. وقال لعمر إنه لا يستطيع أن يزيد الخراج على الناس بغير أن يؤذيهم، وإن الرفق بهم خير من التشديد في أمرهم، وإكراههم على أن يبيعوا ما هم في حاجة إليه في أمور معيشتهم٢٦ لكي يؤدُّوا ما يُطلب منهم. وقد اتهمه «فيل» في مراجعته هذه بالنفاق، وأنه إنما كان يضنُّ بالمال كي يحتفظ به لنفسه، غير أنَّا لا نجد ما يدعونا إلى مثل ذلك الظن؛ فإنا لو آمنَّا بأن الطمع والجشع قد دبَّا في قلبه لم يكن لنا أن نذهب إلى أنهما قد ملكا عليه لبَّه فأنسياه العدل، وجعلاه يتخلى عن أداء أمانته نحو المصريين، غير أن عمر جعل كل قوله وراء ظهره ودبر أذنه، فلم يستشعر رحمة في جباية الأموال،٢٧ فأرسل محمد بن مسلمة إلى مصر، وأمره أن يجبي منها ما استطاع من المال فوق الجزية التي أرسلها عمرو من قبل. وقيل في روايةٍ أخرى إنه إنما أوفده إلى عمرو لكي يُقاسمه ماله. وقد اتهم ابن مسلمة عمرو بن العاص بأنه كان يتستر بالدفاع عن أهل مصر لحاجة في نفسه يريد قضاءها، كما اتهمه عمر بن الخطاب بالخيانة والتفريط، ولكن عمرًا كان يُدافع عن المصريين كما أقرَّ ابن مسلمة. فإذا أضفنا إلى هذا ما قاله في الدفاع عن نفسه رجح عندنا صدقه وإخلاصه، واستبعدنا اتهامه. وفي الحق أن عمر بن الخطاب أولى بأن يُتهم بالحرص؛ فقد روى البلاذري أنه كان كلما استعمل عاملًا على بلدٍ أثبت مقدار المال الذي عليه جبايته منه، فإذا زادت الجباية على ذلك شيئًا قاسَم العامل فيه أو أخذه في بعض الأحيان كله؛ ولهذا لم ينجُ منه البطل خالد بن الوليد نفسه؛ فإنه بعث إليه في الشام بمن يُحاسبه على ماله، وأمره أن ينزل عن نِصفه، حتى لقد قيل إنه قد أخذ إحدى نعلَيه. وقد أشار بعضهم على عمر بأن يرد عليه ما أخذ منه، فقال: «والله لا أردُّ شيئًا؛ فإنما أنا تاجر للمسلمين.» ولكنه كان إذا قال المسلمين لم يقصد إلا نفسه، أو تلك الفئة القليلة التي كانت معه في مكة. وقد كان ذلك وبالًا عليه؛ فإن ذلك الرأي الذي كان يراه في أداء أمانته نحو المسلمين وملء بيت المال مما يجمعه من البلاد التي فتحها المسلمون منذ حين، كان كل ذلك سببًا في القضاء على حياته.
وقد حذق خلَفه ذلك الدرس، وهو لعَمْري درسٌ وبيل؛ فإن عثمان عزل عمرًا عن ولاية مصر، واستعمل عليها عبد الله بن سعد، وكان عمر قد استعمله مع عمرو بن العاص على الصعيد والفيوم، فزاد في جباية الأموال ألفَي ألف دينار، حتى بلغ ما جمعه أربعة عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان لعمرو عند ذلك: «إن اللقاح بمصر بعدك قد درَّت ألبانها.» فأجابه عمرو: «ولكنها أعجفت فصيلها.» وكانت زيادة الجزية فوق ذلك نقضًا للعهد؛ فقد بيَّنا فيما مضى أن معاوية عندما أمر وردان أن يزيد الجزية على القبط، قال له إن ذلك غير ممكن، وإلا نُقض عهد الصلح.٢٨ وقد روينا عن عروة بن الزبير أنه قال: «إن الناس كان يُفرض عليهم ما لا طاقة لهم به فآذاهم ذلك، مع أن عمرو بن العاص كان قد عقد لهم عقدًا جعل لهم فيه شروطًا معلومة.»
وذلك الوصف يحملنا على أن نحمد لعمرو عدله، غير أن ابن عبد الحكم روى رواية إن صحَّت كانت ناقضة لذلك؛ فقد قال إن عمرو بن العاص أنذر القبط أن من أخفى منهم كنزًا من الكنوز اقتصَّ منه بالقتل. فسُعي إليه بأحد قبط الصعيد اسمه بطرس أنه يُخفي كنزًا. فلما مثل بين يدَيه أنكر ذلك وأصرَّ على الإنكار، فسجنه عمرو، وسأل بعد حين فقال: هل ذكر بطرس اسم أحد من الناس؟ فقيل له إنه لم يذكر إلا اسم راهب في الطور. فأمر عمرو فأخذ خاتم بطرس، وكتب كتابًا إلى ذلك الراهب فقال فيه: «أرسِلْ إليَّ ما عندك.» ثم ختمه بذلك الخاتم. فجاء إليه بعد مدة رسولٌ يحمل قِدرًا مُقفَلة عليها خاتم من رصاص، ففتحه عمرو، فوجد فيه رقعة كُتِب عليها: «إن مالك تحت الحوض.» فأمر عمرو بالماء الذي في الحوض فأُفرغ، ونُزعت الأحجار التي في قاعه، فوُجدت غرفة فيها اثنان وثلاثون٢٩ مُدًّا من نقود الذهب. فأمر عمرو بضرب عنق بطرس عند باب مسجده في بابليون. ولا يسعنا أن نمرَّ على قصة كهذه بغير كلمة نقولها؛ فإنها غير جديرة بالتصديق، ولا تحتمل النقد، فما هي إلا قصة من تلك القصص التي خلقها الخيال، وكان ذلك المؤرخ مُغرَمًا بإيراد أمثالها يُحلي بها كتابه؛ فإنه من الثابت أن القبط كانوا أجدر الناس بأن يأسفوا مُر الأسف عندما عُزل عنهم عمرو بن العاص.
لم يبقَ إلا الشيء اليسير فوق ما قلناه في أمر الضرائب، غير أن أمرًا واحدًا يجب أن نذكره لِما له من الشأن، وذلك أن المسلمين في أول الأمر لم يُبَح لهم أن يملكوا الأرض، وكان إقطاع الأرض في ذلك الوقت قليلًا؛٣٠ إذ كان الرأي أن يبقى العرب على رباطهم لا يشتغلون بالزرع، ولا يحلُّون بالبلاد كأهلها. فلما أن اطمأنوا في البلاد، أخذ ذلك المنع يرتفع عنهم، وأبيح لهم أن يملكوا الأرض، وكانوا إذا ملكوا أرضًا دفعوا عنها الخراج كسائر الناس، ولم يتغير نصيب أرض من الخراج إذا ملكها مسلم من قبطي، بل بقي على حاله، والناس فيه سواء؛ ولهذا كان القبطي إذا دخل في الإسلام لم يرتفع عنه خراج أرضه، ولكن الجزية كانت على غير ذلك؛ إذ كانت الجزية سِمة لأهل الذمة وعلامة لغير المسلمين، فكان الدخول في الإسلام كافيًا لزوالها؛ إذ تزول بذلك صفتا الذمة واختلاف الدين. وهذا أمر قد أجمع عليه مؤرخو العرب؛ فإن المقريزي يأخذ على عمر بن عبد العزيز (وكانت وفاته في شهر يناير من عام ٧٢٠ للميلاد) أنه حكم بأن الذميَّ إذا مات استحقَّت الجزية من ورثته. ويقول المقريزي: «يحتمل أن تكون مصر فُتحت بصلح، فذلك الصلح ثابت على من بقي منهم، وإن موت من مات منهم لا يجعل على خلَفه٣١ مما صالحوا عليه شيئًا»، ولكن رُوي عن عمر بن عبد العزيز نفسه أنه «وضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة من أهل مصر، وأُلحق في الديون صلح من أسلم منهم في عشائر من أسلموا على يديه، وكانت تؤخذ قبل ذلك ممن أسلم». وأول من أخذ الجزية ممن أسلم من أهل الذمة الحجاج بن يوسف الثقفي، ثم كتب عبد الملك بن مروان إلى عبد العزيز بن مروان أن يضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة، فكلَّمه ابن جحيرة في ذلك، فقال: «أُعيذك بالله أيها الأمير أن تكون أول من سنَّ ذلك بمصر، فوالله إن أهل الذمة لا يتحمَّلون جزية من ترهَّب منهم، فكيف تضعها على من أسلم منهم؟» فتركهم عند ذلك.٣٢
وقيل إن ابن شريح،٣٣ وهو الذي جاءه أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز، كتب إلى الخليفة يقول إن الإسلام قد أضرَّ بالجزية، حتى لقد نقص عشرون ألف دينار من عطاء أهل الديوان. فكتب إليه الخليفة كتابًا شديدًا قال فيه: «أما بعد، فقد بلغني كتابك، وقد ولَّيتك جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطًا. فضع الجزية عمن أسلم قبَّح الله رأيك، فإن الله إنما بعث محمدًا هاديًا ولم يبعثه جابيًا. ولعَمْري لعُمَر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على يديه.»٣٤ راجع كتاب الخطط، الجزء الأول، صفحة ٧٨ والصفحتين السابقتين لذلك.
وعلى ذلك قد كان في الدخول في الإسلام ربح وغُنم. ولقد كان عهد الصلح مع القبط كفيلًا من الوجهة النظرية بأن يكونوا آمنين في دينهم، غير أن الأمر صار بعد حين إلى خرق العهد ونقضه؛ فالحق أن الأمن في الدين إذا كان مُقترنًا بأن يكون الرجل مَهينًا بين الناس، وأن يحمل ثقلًا في ماله، لم يكن أمنًا حقيقيًّا ولا باقيًا. فلما انتشر الإسلام بين الناس زادت وطأته اشتدادًا على القبط، وأصبح عبء الجزية ثقيلًا لا ترضاه النفوس، وأصبح أصحاب الجزية من اليهود والنصارى بعد حين وقد صاروا في قلةٍ ظاهرة بسبب من كان يُسلِم منهم عامًا بعد عام. فكان هذا الأمر فاسدًا؛ إذ هو بمثابة رشوة لتحريض النصارى على الخروج من ملتهم، فوق ما كان من أثره في نقص مقدار الأموال نقصًا ظاهرًا، وكان نقص الجزية سريعًا، فبَيْنا كان مقدارها في أيام عمرو اثنَي عشر ألف ألف دينار، وفي أيام خلَفه الظالم عبد الله بن سعد أربعة عشر ألف ألف، إذا بها في خلافة معاوية خمسة آلاف ألف بعد أن أسلم عددٌ عظيم من القبط، ثم إذا بها في خلافة هارون الرشيد أربعة آلاف ألف، ثم ثبتت الجزية على ثلاثة آلاف إلى أواخر القرن العاشر.٣٥ ولما حدث هذا النقص في الأموال التي كانت تُجبى من الجزية، استحدث الحكام وسائل جديدة يعوِّضون بها ما نقص من مال الجزية. وليس ثَمة من شك في أن الحكام عندما استحدثوا تلك الضرائب الجديدة فرَّقوا فيها بين معاملة المسلمين وأهل الذمة، فميَّزوا المسلمين فيها؛ فأكبر الظن على ذلك أن المسيحيين قد آل أمرهم في حقيقته ومظهره إلى زيادة فيما يحملون، وكان عبؤهم يزيد عليهم ثقلًا كلما قل عددهم؛ فلا عجب إذن أن يخضع كثير من القبط فيسوقهم أتيُّ الحوادث إلى الإسلام، بل العجب أن يبقى عددٌ عظيم منهم ثابتًا في جرية ذلك الأتي، ولم تستطع عواصف الحدثان التي توالت عليهم ثلاثة عشر قرنًا أن تُزعزعهم عن عقيدةٍ قائمة في قلوبهم على صخرة.

على أننا إن قلنا ذلك فلسنا ننسى أن التاريخ لم يحوِ بين صفحاته ما هو أعجب من العرب وفتحهم؛ إذ جاءوا إلى مصر فئةً قليلة من الصحراء فانتصروا بها، ثم نقول إجمالًا إنهم أقاموا لأنفسهم بُنيانًا مما هدموه فيها من ديانةٍ مسيحية، ومدنيةٍ بيزنطية، قد اجتمع بها ضعف ورقَّة، إلى جمال وروعة، منذ امتزجت بها أكبر المدنيات القديمة الثلاث: المدنية المصرية، والمدنية اليونانية، والمدنية الرومانية.

١  بقيت إلى اليوم كنيسة من هذه الكنائس على قمة برج قصر الشمع في قلب مكان القبط ومَعقلهم.
٢  جاء في وثيقة كُتبت في ذلك الوقت (انظر كتاب Vie du patriarch Isaac، ترجمة أميلنو، صفحة ٥٢) أن البطريق «أرجع عددًا عظيمًا عن كفرهم فقادهم إلى الإيمان الصحيح، فعمَّد بعضهم وتلقَّى الآخرين، وجعلهم يرجعون بأنفسهم عن إلحادهم ويُنكرونه … إلخ». ولا بد قد كان أكثر ذلك الكفر إن لم يكن كله معناه اتباع مذهب الكنيسة البيزنطية؛ مذهب خلقيدونية.
٣  الناقوس بالمعنى الدقيق هو الناقوس الخشبي، وليس المعدني.
٤  أخذنا هذه الأخبار عن الماوردي، وقد كتب في النصف الأول من القرن الحادي عشر، ومات في سنة ٤٥٠ هجرية، أي سنة ١٠٥٨ ميلادية، وكتابه «كتاب الأحكام السلطانية» أكبر حجة في موضوع الضرائب في العصور الأولى، وقد رجعنا إليه كثيرًا في هذا الفصل، وقد جاء أول ذكر جباية الأموال في صفحة ٢٤٥، وهو عن الجزية، ثم في صفحة ٢٥٣، وهو عن الخراج.
٥  ساويرس، الجزء الثالث، صفحة ١٠٨، سطر ١٠. وليس من الواضح إذا كان بنيامين قد أفلح في الحصول على المال الكافي، وليس في النص ما يُثبت رأي من يقول إن النية قد اتجهت عند ذلك إلى إعادة بناء الكنيسة الأصلية كنيسة القديس مرقص.
٦  Vie du Patriarche Codte Isaac (Ed. Amelineau)، صفحة ٤٤. وتاريخ حنا هو سنة ٦٨٠: سنة ٦٨٩ للميلاد (انظر الذيل السادس).
٧  Vie du Pat. Copte. Isaac، صفحة ٧٨. ولا شك في أن تاريخ ذلك يكون سنة ٦٩٣.
٨  Vie du Pat. Copte. Isaac، صفحات ٥ و٧ و٧٣.
٩  انظر كتاب المستر Coptic Ostraka (W. E. Crum)، رقم ٢٥٦.
١٠  يذكر المستر ملن أن النظام الروماني للحكومة في مصر قد احتفظ المسلمون بمجمله في حكومتهم حتى يومنا هذا (انظر كتاب Eg. Under Rom. Rule، صفحة ٢١٦).
١١  نقله عنه السيوطي في صفحة ٨٧.
١٢  نقل السيوطي عن عبد الله بن صالح هذه الأرقام، وأبو صالح (صفحة ٨٢) يذكر عبارةً هامة، وهي أن عمرًا في سنة ٢٠ للهجرة جبى ألف ألف دينار، وفي سنة ٢٢ للهجرة جبى اثنَي عشر ألف ألف دينار. ومعنى ذلك أنه في السنة التي فتح فيها حصن بابليون بلغ مقدار الجزية ألف ألف، ثم زاد ذلك المقدار إلى اثنَي عشر ألف ألف بعد عام الفتح. وهذا يلوح لنا قريب الاحتمال. وقد ذكر ابن حوقل المقدار نفسه، أي اثنَي عشر ألف ألف دينار، وذلك نقلًا عن أبي حازم القاضي (Bibl. Geog. Arabe, part II، صفحة ٨٧)، وهو يذكر صراحةً أن المقدار المذكور هو الجزية وحدها. وأما البلاذري فإنه عندما ذكر خراج مصر الذي جباه عمرو جعله ألفَي ألف دينار (صفحة ٢١٦). ولا بد من أن نعزو هذا الخلاف إلى خطأ النُّساخ. وقد تكرَّر هذا الخطأ مرةً أخرى؛ إذ جاء فيه أن الخراج الذي جمعه عبد الله بن سعد كان أربعة آلاف ألف بدل أربعة عشر ألف ألف. ويذكر اليعقوبي (الكتاب السابق الذكر، الجزء السابع، صفحة ٣٣٩) أن عمرًا جبى أربعة عشر ألف ألف دينار في السنة الأولى من ولايته، ثم عشرة آلاف ألف في السنة التي تليها. ولكنا لا نستطيع تعليل هذا الاختلاف بسهولة، والظاهر أن تواتُر الأدلة يُثبت أن الجزية كانت اثنَي عشر ألف ألف دينار. وهذا مع أن المقريزي ذكر في الخطط، صفحة ٧٦ من الجزء الأول، أن أهل مصر الذين فُرضت عليهم الجزية بلغ عددهم ثمانية آلاف ألف.
١٣  نجد اضطرابًا في قول أبي صالح؛ فالظاهر أنه يذكر (صفحة ٨١) أن الروم كانوا يجبون عشرين ألف ألف دينار، ويذكر في الوقت عينه أن هرقل طلب من قيرس أن يجبي له ثمانية عشر ألف ألف، ولعله يقصد أن قيرس احتفظ بما زاد من ذلك المقدار الذي جباه.
١٤  انظر كتاب ملن Eg. Under Rom. Rule، صفحة ١٢١-١٢٢. وكل هذا الفصل جدير بأن يُقرأ؛ لأنه يُظهر أن الضرائب كانت كثيرة الأنواع وغير عادلة، كما أنه يُظهر أن العرب ساروا على نهج الروم ولزموه في كثير من تفاصيل نظامهم (انظر مثلًا صفحة ١١٩ و١٢٥).
١٥  يذكر المستر ملن (في الكتاب السالف الذكر) نقلًا عن يوسفوس أن أهل الإسكندرية كانوا مُعافين من الجزية، ولكنه لا يذكر المدة التي بقوا فيها على ذلك الإعفاء.
١٦  ذكر المقريزي عن يزيد بن أسلم أن عمر كتب إلى قُواده يأمرهم أن يجعلوا الجزية بحيث يدفع الغني أربعة ويدفع الفقير أربعين درهمًا. ولكن يلوح أن هذا التقسيم غير مُدرَج. غير أن الماوردي يقول إن الفقهاء اختلفوا في مقدار الجزية؛ فقال أبو حنيفة إن الجزية مقادير ثلاثة: (١) يؤخذ من الغني ثمانية وأربعون درهمًا. (٢) ويؤخذ من الأوساط أربعة وعشرون درهمًا. (٣) ويؤخذ من الفقراء اثنا عشر درهمًا. ويذكر أن هذه المقادير هي الحدود التي ينبغي للولاة أن يتجاوزوها أو يخرجوا عنها باجتهادهم. ولا يسعنا إذا قرأنا الماوردي إلا أن نُعجب بروح العدل ومراعاة القصد التي تسري في كل نظام الضرائب الذي يصفه. ولنأتِ من ذلك بمثل، وذلك قوله إنه إذا نقض بعض أهل الذمة عهدهم بأن أبَوا دفع الجزية، لم يحل للمسلمين قتلهم، ولا أخذ أموالهم أو أولادهم ما داموا لا يُقاتلونهم، على أنه يجب أن يؤمَّن هؤلاء الناقضون حتى يخرجوا من أرض الإسلام، فإذا أبَوا الخضوع والخروج وجب إخراجهم قسرًا. ولا شيء أدل من ذلك على رأي المسلمين في دوام العقد بين الحامين وبين أهل الذمة المحميِّين.
١٧  يذكر ابن عبد الحكم أن المقوقس هو الذي استُشير، ولكنه بلا شك يرى أن المقوقس هو بنيامين، وقد ذكر ذلك في مواضع عدة. ولا شك أن عمرًا قد يكون سأل قيرس السؤال عينه، ولكن ابن عبد الحكم يجعل المقوقس حيًّا في أيام ثورة منويل، وفوق ذلك فالظاهر أن الاستشارة هي نفسها التي سبق نقلها عن ساويرس، مع أن ساويرس يذكر أن نصيحة بنيامين كانت بوجهٍ عام. ويُورِد المقريزي صيغةً أخرى للجواب تختلف عن هذه بعض الاختلاف؛ فإنه يجعل من شروط الحكومة الطيبة: (١) أن يُجبى الخراج من غلة الأرض. (٢) ألا يُباح مطل أهلها. (٣) أن يُعطى العمال أرزاقهم بغير انقطاع.
١٨  ذكر المقريزي الشرط الخامس هكذا: «ولا يُقبَل مطل أهلها، يريد البغي.» وذكره في موضعٍ آخر على هذه الصورة: «ولا يُقبَل مطل أهله، ويُوفى لهم بالشروط، ويدر الأرزاق على العمال لئلا يرتشوا، ويرتفع عن أهله المعاون والهدايا ليكون قوة لهم.» (المعرِّب)
١٩  انظر كتاب Geschichte der Chalifen (Weil)، الجزء الأول، هامش صفحة ١٢٥. وقد رأى ابن عبد الحكم هذه الكتب بنفسه، وهو يُورِد نصها، ونقل عن De Sacy أنه يسلِّم بصحتها كل التسليم، مُستندًا في رأيه هذا على قِدم أسلوب لغتها. وقد اتبعنا ترجمة Weil اتباعًا تامًّا.
٢٠  نقلنا هذا النص عن المقريزي، رواه عن ابن عبد الحكم. (المعرِّب)
٢١  يظهر من هذا أن تاريخ هذه المُراسلة كان حوالَي أول سنة ٦٤٤.
٢٢  قد آثرنا نقل الكتاب كله حتى يتم المعنى. وأما المؤلف فقد اقتضب فيه ولم يذكر إلا إلى قوله: «عما أسألك فيه». وقد حذف من وسطه جزءًا من أول «ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي»، إلى قوله: «وقد تركت أن أبتلي منك في العام الماضي». وفي ترجمة المؤلف للكتاب شيء من الإجمال. (المعرِّب)
٢٣  ذكر ابن رستاه (Bibl. Geog. Arab Part VI1، الجزء السابع، صفحة ١١٨) أن خراج مصر في مدة الفراعنة كان ستة وتسعين ألف ألف دينار. وقال أبو صالح إنه في مدة فرعون موسى بلغ المال تسعين ألف ألف. وقال المقريزي إن الخراج كان تسعين ألف ألف. ثم قال إن ابن دحية قال: إن الدينار كان في ذاك الزمن يقوم بثلاثة دنانير إسلامية. وذكر الشريف الحرَّاني أنه وجد بالصعيد مكتوبًا بلغة الصعيد مما نُقل إلى العربية جاء فيه أن خراج مصر في مدة يوسف بلغ أربعة وعشرين ألف ألف وأربعمائة ألف دينار، وقدر ذلك ثلاثة وسبعون ألف ألف دينار إسلامية (انظر تعليق المستر Evett على صفحة ٨٠ من كتاب أبي صالح). لم نذكر من نص كتاب عمر إلا منذ ابتداء الموضع الذي اختاره المؤلف. (المعرِّب)
٢٤  آثرنا كتابة الخطاب من أوله نقلًا عن المقريزي. (المعرِّب)
٢٥  اقتبس المؤلف عمر من أول هذه الجملة. (المعرِّب)
٢٦  ترجمنا هذه الجملة عن المقريزي، الخطط، الجزء الأول، صفحة ٧٨. وقد جاءت هذه المُراسلة في كتاب البلاذري، صفحة ٢١٩. (المؤلف)
٢٧  إنا ننقل هنا ما ذهب إليه المؤلف من رأيه في عمر. ولنا رأيٌ يُخالفه كل المخالفة؛ إذ إن عمر وسائر الصحابة كانوا في كل أقوالهم وأفعالهم صادرين عن رغبة في الخير لم يُوفَّق المؤلف إلى تفهُّمها واكتناهها. (المعرِّب)
٢٨  البلاذري، صفحة ٢١٧. ويتفق ذلك مع رواية المقريزي، وقد جاء رد وردان في المقريزي هكذا: «كيف نزيد عليهم وفي عهدهم ألا يُزاد عليهم شيء؟» ولكنه يزيد على ذلك قوله إن أمر معاوية كان أن تُزاد الجزية قيراطًا، وذلك جزء من ثمانية وأربعين جزءًا، أو هو نحو ٢٪.
٢٩  ذكر ابن دقماق أنها اثنان وخمسون.
ورد في كتاب المقريزي نقلًا عن ابن عبد الحكم: «فوجد فيها اثنين وخمسين إردبًّا ذهبًا مصريةً مضروبة.» (المعرِّب)
٣٠  ذكر ابن عبد الحكم أن عمر لم يُقطع إلا ألف فدَّان في منية الأصبغ لابن سندر، وكان إقطاعًا عظيمًا.
٣١  نص قول المقريزي فيه خلاف عن هذا المعنى، فهو نقيضه؛ إذ قال: «وإن موت من مات منهم لا يضع عنهم مما صالحوا عليه شيئًا.» فهو على ذلك يُبرر أن يُطالب ورثة الميت بجزيته، ولا يُخالف رأي عمر بن عبد العزيز في ذلك. والواقع أن أول سياق الرواية يدل على أن المقريزي إنما يروي رأي عمر نفسه؛ فقد جاءت القصة في المقريزي هكذا: «وكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بن شريح أن يجعل جزية موتى القبط على أحيائهم. وهذا يدل على أن عمر كان يرى أن أرض مصر فُتحت عنوة، وأن الجزية إنما هي على القرى، فمن مات من أهل القرى كانت تلك الجزية ثابتة عليهم، وإن موت من مات منهم لا يضع عنهم من الجزية شيئًا.» قال: «ويحتمل أن تكون مصر فُتحت بصلح، وذلك الصلح ثابت على من بقي منهم، وإن موت من مات منهم لا يضع عنهم مما صالحوا عليه شيئًا.» وهذا بالطبع معناه أن المقريزي إنما يُورِد حجة عمر بن عبد العزيز في تبرير جعل الميت من القبط على ورثته في كل حال، سواء قيل إن مصر فُتحت عنوة أو صلحًا. (المعرِّب)
٣٢  أخذنا هذا النص عن المقريزي. (المعرِّب)
٣٣  جاء في الأصل الإنجليزي «ابن شريك»، وهو تحريف. (المعرِّب)
٣٤  قد أثبتنا رواية المقريزي كما وجدناها نحن، ولكن المؤلف في الأصل الإنجليزي ظنَّ أن الجملة الأخيرة من قول المقريزي نفسه، وترجمة الأصل الإنجليزي هكذا: «ويُعلق المؤرخ العربي على ذلك، وله في ذلك الحق، بقوله. «ولعَمْري إن أكبر ما كان يرجوه عمر أن يدخل الناس كلهم في الإسلام.»» ولما كان تصحيح الرواية لا يذهب بشيء من المعنى الذي قصده المؤلف آثرنا تصحيحها. (المعرِّب)
٣٥  ذكر ذلك الخبرَ اليعقوبي (مات في سنة ٢٦٠ للهجرة) (Bibl. Geog. Arab. Part VII، صفحة ٣٣٩). ولا يتفق كل الاتفاق مع ما جاء في كتاب أبي صالح؛ إذ يقول إن الجزية كانت خمسة آلاف ألف دينار في زمن أحمد بن طولون، وإنها كانت أربعة آلاف ألف في مدة يعقوب بن يوسف، وإنها نزلت بعد ذلك إلى ثلاثة آلاف ألف (صفحة ٨٢). ولكن من الجلي أن الواجب تفضيل المؤرخ الأسبق في التاريخ. حقًّا إن ابن رستاه يقول إنه في مدة عبد الله بن الحبحاب كان الخراج ألفَي ألف درهم وسبعمائة ألف درهم وسبعة وثلاثين وثلاثمائة درهم، لكنه قلَّ في أيام موسى بن عيسى حتى صار ألفَي ألف درهم ومائة وثمانين ألف درهم، وكان ذلك حوالَي سنة ١٨٠ هجرية، أو نحو آخر القرن الثامن (Bibl. Geog. Arab Vib، صفحة ١١٨). غير أنه من الصعب أن نعتقد أن مثل هذا التغير العظيم يمكن أن يحدث في ١٥٠ سنة. والحق أن الأستاذ Stanly Lane Poole في كتاب The Story of Cairo، صفحة ٦٠، يرى أن التغير لم يأتِ إلا بطيئًا، فقال: «وبعد أن مضى على الفتح تسعون عامًا يئس أحد الولاة من تزايد المسلمين تزايدًا كبيرًا، فاضطرَّ إلى إحضار خمسة آلاف عربي إلى مصر السفلى، ولم تصِر مصر بلادًا إسلامية إلا بخطواتٍ بطيئة، وبعد الامتزاج بالمُصاهرة والتكاثر بالمُهاجرة.» والظاهر أن هذا الرأي يستهين بالضغط على القبط وما نشأ عنه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤