الفصل الثالث

خيبة بنوسوس

يظهر أن «بنوسوس» وإن كان قد جعل سيره بحذاء ترعة كليوباترا، وهي أكبر التُّرع التي تخرج من الفرع البلبيتي ذاهبةً نحو الإسكندرية، قد اتخذ سبيل البر على الأقل في المرحلة الأخيرة من مسيره، وقد نزل أول منزل له في «ميفاموميس»، ثم نزل في «دمكاروني» بحسب رواية الأسقف المصري. ولسنا نجد وصفًا لهذين الموضعين في كتاب «زوتنبرج»، حتى إنهما ليُحيران من يسمع بهما أول الأمر. غير أنه ورد في سياق ذلك الكتاب أن «ميفاموميس» هي «شبرا» في وقتنا هذا، وهذه لا بد أن تكون «شبرا» القريبة من دمنهور. ويذكُر «شمبوليون» مدينةً اسمها «موممفيس»،١ ويقول إنها على سبعة فراسخ من دمنهور إلى جهة الغرب، ويُسمي المدينة الأخيرة «تيمنهور» بحسب ما كانت معروفة به عند المصريين القدماء؛ وعلى ذلك فلسنا نتردَّد في أن نقول إن «ميفاموميس» هي بعينها «موممفيس»، وإن موضعها بقرب دمنهور، ولكن «شمبوليون» لا يمكن أن يكون على حق في قوله إنها هي عينها «بانوف خت» التي سمَّاها العرب «منوف السفلى»، والتي يقول ذلك العالم الفرنسي إنها على مسافة واحد وعشرين ميلًا من «دمنهور»، وهي مسافة يستحيل تصوُّرها.
أما «دمكاروني» فلا يستطيع الإنسان أن يذكر اسمًا شبيهًا في كتابٍ آخر، ولكنا إذا علِمنا أن «دِم» أو «تِم» كان حرفًا يوضع في أول أسماء البلاد في اللغة المصرية القديمة، ومعناه «مدينة»، إذا ذكرنا ذلك لم يكن ثَم موضع للشك في نظرنا أن «دمكاروني» هي الاسم القبطي لمدينة «كيريوم» أو «كريون».٢ وهذا التفسير يتفق كل الاتفاق مع وصف ذلك الإقليم؛ فإن «كريون» كانت واقعة إلى الغرب على الترعة التي كان «بنوسوس» يسير عليها، وذلك يتفق مع ما ورد في الكتاب، وهي فوق ذلك في نحو منتصف المسافة بين الإسكندرية ودمنهور؛ إذ هي على نحو ثمانية وثلاثين كيلومترًا من الإسكندرية، وعلى نحو واحد وثلاثين كيلومترًا من دمنهور.
سار «بنوسوس» من «كريون» ولم يلقَ كيدًا إلى أن بلغ الجانب الشرقي من العاصمة، وهناك وقف بجيشه على مرأًى من أسوار المدينة، وعقد النية على أن يُهاجمها في غده، وهو يوم الأحد. وإنه لمِمَّا نتُوق إليه لو استطعناه أن نعرف الوسائل التي كان يطمع أن يصدع بها الأسوار العالية والحصون المنيعة التي كانت تحرس تلك المدينة الكبرى.٣

غير أن أهل الإسكندرية لم يكُونوا في حالٍ يستطيعون معها صبرًا على الحصار؛ فيُقال إن قديسًا من أهل صعيد مصر اسمه «تيوفيلوس» (الواثق بالله)، أو «صاحب الاعتراف»، كان يعيش على رأس عمود. ويلوح أنه تلقَّى فوق ذلك العمود الحكمة والكياسة، فنصح «نيقتاس» أن يخرج ويُناجز أعداءه القتال. فخرج بجنوده، ووقف بهم داخل «باب أون»، وكان الطريق الأكبر الذي يشق المدينة طولًا طريقًا واسعًا فسيحًا، فكان فيه ما يتسع لحشد الجيش. أما اسم «باب أون» فلا يفسِّره «زوتنبرج»، ولا يجد الناظر إليه لأول مرة أيَّ شبه بينه وبين علَمٍ معروف من أعلام الإسكندرية، ولكنا نجد في موضعٍ آخر من الكتاب أن اسم «أون» مُرادف ﻟ «عين شمس»، واسم «عين شمس» هو الاسم العربي للمدينة المشهورة ﺑ «هليوبوليس»، وكان الاسم المصري القديم لهليوبوليس هو «أون»؛ ﻓ «باب أون» على ذلك هو الباب المتجه نحو مدينة «هليوبوليس»، ويمكن فوق ذلك أن يُقال إنه هو بعينه الباب المعروف ﺑ «باب الشمس»، وهو في نهاية الطرف الشرقي لذلك الطريق الواسع الذي كان يشق الإسكندرية من الشرق إلى الغرب، كما أن «باب القمر» كان عند نهاية الطرف الغربي منه، وكان يقطعه عند مفترق واسع طريقٌ آخر يتجه بين الشمال والجنوب. ولنا أن نقول هنا إن كثرة ورود الأسماء المصرية القديمة، كما هو ظاهر من استعمال اسم «أون» هنا وفي أسماءٍ وردت في مواضع أخرى، يدل دلالةً قوية على أن «حنا النقيوسي» كتب هذا الجزء من ديوانه الأصلي باللغة القبطية.

والآن فلنَعُد إلى ما كنَّا فيه؛ فإن الجيوش الإمبراطورية أتاها الأمر عند ذلك أن تزحف على المدينة يقودها قائدٌ فارس، فتقدَّموا ولكنهم قبل أن يقتربوا من المدينة أُرسلت عليهم النيران المُحرقة من مجانيق عظيمة كانت تُزمجر وتخور فوق الأسوار والآطام، وأصابت إحدى تلك المقذوفات القائد فكسرت فكَّه، وأرْدَته صريعًا لم تُمهِله، وأصابت أخرى قائدًا ثانيًا فقتلته؛ فتردَّد الزاحفون وقد أوقعت هذه المجانيق فيهم الرعب والاضطراب. وعند ذلك أمر «نيقتاس» جيشه بالخروج من المدينة، ففتح «باب الشمس» وخرج الجيش منه، فوقف صفًّا، وحمل على العدوِّ حملةً صادقة ثلَم بها صفوفه، واستحر القتال، ثم انجلى عن شطر جيش «بنوسوس» شطرين، ووقعت على أثر ذلك الهزيمة. ولما رأى «نيقتاس» أن أكثر المُنهزمين يُسرعون نحو الشمال، سار بجماعة من رديفه، وهم من جنود السودان، وخرج من بابٍ آخر قريب من كنيسة «مار مرقص» في الجهة الشمالية من المدينة تجاه البحر، وعند نهاية السور من الشمال الشرقي؛ فما لبث أن سبق المُنهزمين الفارِّين وأخذ عليهم السبيل، فردَّهم من حيث جاءوا، فكانوا في رجوعهم بين مُستهدف تحت الأسوار تحصده القذائف من حجارة وسهام، وبين جانح نحو البساتين يلجأ إلى حوائطها ذات الأشواك، فيُحصر هناك ويُقتل. وأما من هربوا من جيش «بنوسوس» نحو اليسار، أي إلى الجنوب، فقد وجدوا أنفسهم حيال ترعة تقطع عليهم سبيلهم، وكانت سيوف العدو تلمع من ورائهم وهم يتبعونهم، فأخذ الخوف بقلوبهم وأذهل ألبابهم، فصاروا يخبط بعضهم بعضًا خبطًا بالسلاح وقد أعمى الهول أبصارهم.

وهكذا تمزَّق جيش «بنوسوس» كل ممزَّق، وكان بين القتلى «مرقيان» حاكم «أثريب» و«ليونتيوس» و«فالنس» وكثير من الأعيان، وكان للواقعة من الأثر ما جعل الحزب الأزرق نفسه يتخلى عن «فوكاس»، ولكن «بنوسوس» نجا بنفسه وارتدَّ إلى قلعة «كريون»، وكريون مدينة سيأتي ذكرها بعد ثلاثين عامًا عند مَسير العرب بقيادة عمرو إلى الإسكندرية، وكانت واقعة على كلتا ضفَّتَي الترعة الآتية من النيل إلى العاصمة، ويصفها «ابن حوقل» بأنها كانت في أيامه مدينةً كبيرة جميلة تُحيط بها الحدائق، وهي لا تزال باقية إلى اليوم، ولكنها قريةٌ صغيرة. ولسنا ندري أي عمل قام به «بول» وأسطوله في أثناء هذا القتال، فلعله كان يُناجز جانبًا من جيش العدو في الجنوب الغربي من المدينة؛ فلم يكن قريبًا هو وأسطوله من محل القتال، ولم يُساعد في حرب البر، ولم تكن له يد في حماية الفارِّين.

فلما سمع «بول» بعد ذلك بتلك الهزيمة القاضية، سوَّلت له نفسه أن يسلِّم ويلتحق بأصحاب «نيقتاس»، ولكنه مع ذلك ثبت في جانب حزبه، واستطاع أن يتقهقر بوسيلة من الوسائل إلى مدينة «كريون» حيث لحق بالقائد «بنوسوس». ولا بد لنا أن نُقر بالإعجاب على كُره منَّا بما كان لهذا القائد «بنوسوس» من قوة الجَنان وسَعة الحيلة؛ فإنه لم يدُر في خَلده ساعةً أن يخرج هاربًا من النضال، فسار مُسرعًا في الترعة إلى أن بلغ فرع النيل الغربي، ثم سار في النهر صعدًا إلى «نقيوس»، وكان جنوده لا يزالون يحمونها، فجمع هناك أسطوله، وأصلح من شأنه، واستطاع أن يسيطر على النهر بعد أن دمَّر عددًا كبيرًا من سفن الإسكندرية. وإذ كان غير قادر على لقاء «نيقتاس» مرةً أخرى، اتخذ سبيله في ترعةٍ أخرى (ولعلها ترعة الروجاشات) سائرًا نحو مريوط، ثم سلك ترعة الثعبان التي في غرب الإسكندرية قاصدًا نحو مريوط يريد أن يستولي عليها، ويجعلها قاعدة له يُجهز منها السرايا إلى الإسكندرية، ولكن «نيقتاس» بلغه خبر هذه النية، فأمر أن تُهدم القنطرة التي عند «دفاشير» بقرب مريوط؛ وبذلك سد مجرى الترعة، وحال دون إتمام ما أراد عدوه.

فثارت ثورة «بنوسوس» عندما علم بهذا الفشل، وعزم على أن يدع الحرب الصريحة، وأن يقتل «نيقتاس» غيلة؛ فأوعز إلى أحد جنوده أن يذهب إليه كأنه رسول جاء ليُفاوضه في أمر التسليم وشروطه، وقال له: «خذ معك خنجرًا صغيرًا، واجعله تحت ردائك، فإذا ما اقتربت من «نيقتاس» فضعه فيه، واخرق به قلبه حتى تتركه قتيلًا، ولعلك تقدر أن تنجو في أثناء الاضطراب الذي يعقب ذلك، فإذا أنت لم تستطع النجاة فقد متَّ شهيدًا في سبيل حماية الإمبراطورية، وسأجعل ولدك جميعًا في قصر الملِك أتعهَّدهم بنفسي، وأُجري عليهم الأرزاق مدى حياتهم.» ذلك كان تدبير «بنوسوس»، ولكنه فشا؛ إذ أذاعه خائن؛ فإن رجلًا ممن كان معه اسمه «حنا» أرسل كتابًا يُنذر فيه «نيقتاس» ويحذِّره، حتى إذا ما جاء الفاتك إليه أحاط به الحُراس وفتَّشوه، فوجدوا معه الخنجر مخبوءًا، فضربوا به عنقه.

فلما خاب «بنوسوس» في كيده سار في البر إلى «دفاشير»، وشفى غلَّه بأن أحدث في أهلها مَقتلةً عظيمة، وجاء «نيقتاس» يسعى للقائه، غير أن «بنوسوس» كان يعلم أنه من الحمق أن يُخاطر بمُناجزته القتال بمن معه وهم فلولٌ ضعيفة، فعاد أدراجه على ذلك، وعبر نهر النيل، والتجأ إلى «نقيوس» ليتحصن فيها مرةً أخرى. وأما «نيقتاس» فإنه لم يتبعه إلى العَدْوة الأخرى، بل بقي في غرب النهر وسار إلى مريوط، فأخذ المدينة والإقليم، ووضع فيهما جندًا كثيرًا. وكان شديد القلق لِما لقيه من استماتة عدوه وشجاعته، وسرعة حركته التي كان يغلب بها خططه؛ ولهذا كان يقدِّم الحزم في مقابلة حركات عدوه الجريء، فلم يعبر (نيقتاس) النهر ذاهبًا نحو منوف إلا بعد أن خلص له كل ما وراءه، وثبت قدمه على الجانب الغربي من النيل، وكان في منوف حصنٌ حصين، وهو من أكبر ما أقامه «تراجان»، وكان في طاقته أن يبقى على المقاومة ما شاء لو دافَع عنه من فيه دفاعًا قويًّا، ولكن الناس كانوا من غير شك يميلون إلى حزب الثوار، وكان جنود الإمبراطورية تخبو شجاعتهم برغم شجاعة قائدهم وجراءة احتياله في الحرب، ففرَّ عددٌ كبير من جند الحامية، وأُخذ الحصن عنوةً بعد قتالٍ ضعيف.

فلما تم ﻟ «نيقتاس» ملك ضفَّتَي النيل وما حولهما من البلاد، سار قاصدًا مدينة «نقيوس»، وقد ضيَّق عليها من كل جانب؛ فبلغ الأمر بالقائد «بنوسوس» أن وهنت عزيمته، ففرَّ تحت جنح الليل، ولعله انسلَّ من بين الجيش المُحاصَر، وسار إلى الشرق نحو «أثريب»، أو لعله هوى مع النهر إلى الشمال، ثم ضرب نحو مدينة «صان» سالكًا إليها إحدى الترع الكثيرة التي هناك. وعلى كلا الحالين استطاع أن يبلغ «الفرما» سالمًا؛ ومن ثَم ركب البحر إلى فلسطين، ومنها سار في طريقه إلى القسطنطينية تُشيِّعه لعنات الناس إلى أن لحق بسيده «فوكاس». وكان فتح «منوف» و«نقيوس» إيذانًا للمدن الأخرى ولسائر القُواد أن يسلِّموا، وأُسِر «بول» حاكم «سمنود»، وصديقه المُقعَد الجريء «كسماس»، ولكن الفاتح المُنتصر عفا عنهما عفوًا صريحًا، ثم قبض «نيقتاس» على زعماء الحزب الأخضر، وأنذرهم وأوعدهم إذا لم يسيروا بالحسنى؛ وذلك لأنه رآهم قد اتخذوا نصره على عدوه ذريعة للاعتداء على الحزب الأزرق، ولقتل الأنفس ونهب الأموال، فتصالح الحزبان، وعُقد لحكامٍ جديدين على المدائن كلها، واستقرَّ الأمر، وعاد سلطان القانون، وصار هرقل سيد القُطر المصري.

لقد كانت الحرب قتال المُستميت، وطالت بها مدة الزمن، وتقلَّبت بها الأمور تقلبًا عجيبًا، تارةً يبسم فيها الحظ، وتارةً يعبس؛ فقد رأينا البلاد في سُباتها وهي جاهمةٌ كارهة، فإذا هي تهبُّ على صوت الصور من جيوش «هرقل»، ثم فتح «نيقتاس» الإسكندرية بغير قتال يُذكَر، ورأينا الثورة تنتصر في مصر، ثم رأينا «بنوسوس» وهو يهوي كأنه نمرٌ انقضَّ على رأس مصر السفلى، فاكتسح كل ما دونه حتى بلغ أسوار الإسكندرية، وصدم حصونها صدمةً لم تُغنِ شيئًا، فارتدَّ وهو كليمٌ حسيرٌ عاجز عن المضيِّ في النضال إلا مُناجزةً هيِّنة بين حين وحين، وبقي على ذلك مدة تُحمَد فيها شجاعته وحماسته المتَّقدة؛ فلما لم يبقَ له ما يستطيع به المقاومة مكر بأعدائه الذين أحاطوا به، فهرب منهم تحت جنح الليل، ولم يمكِّنهم من نيل ثأرهم منه. وإنها لصورةٌ بديعةٌ زاهية الألوان، تدل كل ناحية منها على حقيقة ما تُصوِّره، وقد بقيت كلها مجهولة لا يعرف عنها التاريخ شيئًا حتى كشف عنها تاريخ «حنا» أسقف «نقيوس».

ولسنا نجد في كتب مؤرخي بيزنطة كلمةً واحدة تقصُّ علينا شيئًا من أنباء هذه الحرب العجيبة التي ثارت ثورتها بمصر، اللهم إلا أن «ديوان بسكال» يذكُر في حوادث سنة ٦٠٩ للميلاد «ثورة أفريقيا والإسكندرية»، ونجد في كتاب «جبون» — وهو يعرف كل ما كتبه هؤلاء المؤرخون معرفةً لا نقص فيها — خلاصةً استخلصها من مُطالعة ما كتبوا عن الثورة، فيقول: «احتشدت جيوش أفريقيا، وجنَّدها فَتيان مِقدامان (هرقل ونيقتاس)، واتفقا على أن أحدهما يُسافر بالأسطول من «قرطاجنة» إلى «القسطنطينية»، وأن يسير الآخر بجيشه عن طريق مصر وآسيا، وأن يكون الرداء الإمبراطوري الجائزة لمن يجدُّ منهما وينجح. فتسرَّب شيءٌ قليل من أخبار ذلك العزم إلى «فوكاس»، فأخذ زوج الفتى «هرقل» وأمه رهينتين كي يبقى «هرقل» على ولائه، ولكن «كريسبوس»، وكان ماكرًا غدَّارًا، هوَّن أمر ذلك الخطر البعيد عند الإمبراطور، وأهمل أمر الدفاع أو توانى فيه، واستنام الطاغية وتراخى حتى ألقت السفن الأفريقية رواسيها في خليج هلسبونت.»٤ ولا يرِد هنا ذكر لحوادث مصر وما كان لها من الأثر في مصير الثورة، بل لقد جاء في كتاب «جبون» بعد بضع صفحات من الباب نفسه وصف لدخول الفُرس في مصر في أيام كسرى سنة ٦١٦ للميلاد، وفيه يقول عن مصر صراحةً: «إنها كانت الإقليم الأوحد من أقاليم الدولة لم تعترِه غزوة من خارجه ولا حرب في داخله منذ أيام دقلديانوس.» وهذه عبارة يعجب لها الإنسان؛ لأن «جبون» ينقض جزءًا منها في وصفه القصير المُبين لأقباط مصر في الباب الثاني؛ فالحقُّ أن الإنسان كلما أمعن في درس ذلك العصر تبيَّن له وزاد عنده وضوحًا أن مصر كانت فيه أكثر بلاد الدولة هياجًا، وأيقن أن أمورها كانت في اضطرابٍ يكاد يكون مطردًا منذ انعقد مجلس «خلقيدونية»، وما أكثر الأدلة على ذلك الاضطراب في ثنايا كتاب «حنا النقيوسي»، وفي كُتبٍ أخرى مثل «تاريخ بطارقة الإسكندرية» الشهير الذي ألَّفه «رينودو». وهذه الكتب تصف اضطراب مصر بغير تعرُّض للقصة التي نحن بصددها؛ قصة هرقل ذاتها.
وليس هذا موضع البحث في حوادث تاريخ مصر في القرنين الأخيرين من حكم الرومان، كما أنه ليس موضع البحث في المَراجع التي يُرجع إليها في ذلك التاريخ. ويقيننا أنه إذا جاء الوقت الذي يُكتب فيه تاريخ هذا العهد كتابةً وافية، ظهر أن ذَينك القرنين كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين، نضال يُذكيه اختلاف في الجنس واختلاف في الدين، وكان اختلاف الدين أشد أثرًا فيه من اختلاف الجنس؛ إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت تلك العداوة بين «الملكانية» و«المونوفيسية»،٥ وكانت الطائفة الأولى، كما يدل عليه اسمها، حزب مذهب الدولة الإمبراطورية وحزب الملِك والبلاط، وكانت تعتقد العقيدة السنية الموروثة، وهي ازدواج طبيعة المسيح، على حين أن الطائفة الأخرى، وهي حزب القبط (المونوفيسيين) أهل مصر، كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها، وتُحاربها حربًا عنيفة في حماسةٍ هوجاء يصعب علينا أن نتصورها، أو نعرف كُنْهها في قومٍ يعقلون، بَلْه ممن يؤمنون بالإنجيل؛ فالحقُّ أن روح التعصب الشديدة التي ثارت بمن مزَّقوا جسم «هيباشيا» قِطعًا في المِحراب كانت لا تزال كامنة في القلوب لم تتغير. غير أنها بعد أن كانت تدفع إلى التنكيل بفتاةٍ جميلة يُعزى إليها ذنب الوثنية، صارت تثور بفِرقتين كلٌّ منهما تدَّعي أنها ابنة المسيح، وترمي الأخرى بأنها من نسل الشيطان. وفوق هذا قد كان يزيد الأمرَ شرًّا ما كان بين الحزبين الأخضر والأزرق من نضال؛ إذ كانت عداوة هذين الحزبين في مصر عداوةً حقيقية بلغت أشد ما بلغته عداوتهما في أي جهة من جهات الدولة الرومانية. ولم تكن تلك العداوة ناشئة عن خلاف الدين، غير أن الخلاف الديني كان يزيدها ضرامًا.

حسبُنا هذا القول لندلَّ به على ما كانت عليه مصر في ذلك العصر من السلام في داخلها. أما ما يزعم الزاعمون من أنها كانت بمنجاة من غزوات الأجانب وإغاراتهم، فيكفي لإظهار خطئه أن نذكُر إغارة الفُرس في أيام الإمبراطور «أنستاسيوس» حين أُحرقت كل أرباض الإسكندرية كما يشهد بذلك «سعيد بن بطريق»، وهو كاتبٌ مصري المولد، وهو يذكُر أن القتال ظل قائمًا بين المصريين وغزاة الفُرس في مواقع يتلو بعضها بعضًا، وأن البلاد عصفت بها مَخالب الخراب، فلم تكَد تنجو من السيف حتى أصابتها مجاعةٌ دفعت بالناس إلى الثورة. وماذا عسانا أن نذكُر عن عسف الاضطهاد، وعن المذابح وما سال فيها من الدماء، وتشجيع الحكام لذلك حتى «جستنيان» نفسه؟ وماذا عسانا أن نذكُر من الثورات الصغيرة مثل تمرُّد «أرستماخوس» في أيام الإمبراطور «موريق»، ومن خروج اللصوص في عصاباتٍ منظَّمة، ومن غارات البدو وقبائل السودان وما يصحبها من انزعاجٍ دائم؛ إذ كانت تلك القبائل إذ ذاك كما هي اليوم خطرًا يُهدد حدود البلاد؟ فلئن كانت الحرب في كثير من الأحيان غير ثائرة في البلاد في الحقيقة، فإن شبحها المُخيف كان يتراءى لها أبدًا، ويرفعه الآل على آفاقها.

فمن الواضح إذن كما ترى أن أسبابًا كثيرة أدَّت إلى أن تكون تلك البلاد دائمة الاضطراب، وكانت الأحزاب بها كثيرةً عنيفة الخلاف؛ فكان لأي غازٍ عقد العزم على غزوها أن يعتمد على أحد تلك الأحزاب التي بها. أما «نيقتاس» فقد أعانه أن «فوكاس» كان كريهًا عند الناس كراهةً لا شك فيها؛ ذلك لأن جرائمه قد زادت على الطاقة حتى في نظر الرومانيين أنفسهم، وكان القبط يرونه طاغية فتَّاكًا، وكان فوق ذلك قطب سلطة أجنبية وعقيدة مكروهة٦ كان وجودها بينهم يُنغص عليهم حياتهم، ويجعل عشيهم مرًّا. على أنه من الجائز أن «نيقتاس» أحسَّ أن بقاءه بمصر لازمٌ حتى بعد خروج «بنوسوس» منها لكي يدعم سلطانه ويُوطده. ومن سوء الحظ أن تواريخ تلك الفترة ليس من السهل إدراكها؛ فإن «حنا النقيوسي» على ما يظهر يزعم أن مدة الحرب قبل هزيمة «بنوسوس» عند الإسكندرية قد وقعت في السنة السابعة من حكم «فوكاس»؛ أي قبل تمام سنة ٦٠٩، فتكون الواقعة ذاتها إذن قد حدثت في شهر نوفمبر من تلك السنة،٧ وقد تكون سائر الحوادث قد استغرقت بضعة أسابيع أخرى، ومعنى هذا أن «نيقتاس» قد تم له ملك مصر في ربيع سنة ٦١٠. ومن العجيب أن أمرًا واحدًا لا يرِد له ذكر في ديوان أسقف «نقيوس»؛ وذلك هو القسط الذي كان لحصن «بابليون» في النضال، وهو ذلك الحصن القوي بقرب «ممفيس»؛ فقد كان في القوة ثانيَ الحصون بمصر لا تفُوقه إلا الإسكندرية، ولا شك أنه قد كانت فيه قوةٌ مسلَّحة من جنود الإمبراطورية، وقد كان في وقت غزو العرب أول ما قصد إليه القائد العربي، وكان فتحه فصل الخطاب في انتصار الهلال. وكل هذا واضحٌ جلي يصفه ديوان ذلك المؤرخ حتى لا يسع الإنسان إلا أن يفهم من ذلك الإغفال أن الحصن قد سُلِّم إلى «نيقتاس» بغير حرب؛ فإذا صح هذا، وإذا صح أن الحرب قد وضعت أوزارها قُبيل ربيع سنة ٦١٠، كان من الجلي أن «نيقتاس» لم يكن يخطر له ببالٍ أن يُسارع نحو «القسطنطينية»، ولو فعل لاستطاع أن يصل إلى العاصمة البيزنطية، ويخلع «فوكاس» قبل زحف هرقل بستة أشهر؛ لأنه لا محل للشك في أنه كان يستطيع أن يُجهز في مصر أسطولًا كافيًا لغرضه هذا. حقًّا إن المؤرخ «قدرينوس» يقول إن وقعة «بنوسوس» بأهل أنطاكية ومذبحته لهم كانت في سنة ٦١٠. ولو صح هذا لكانت الحرب المصرية كلها في خلال تلك السنة، ولكن هذا التاريخ لا يتفق مع سائر ما جاء في كتاب «قدرينوس»، وهو أيضًا لا يتفق مع «ديوان بسكال»، وكذلك يختلف اختلافًا لا مجال فيه للتوفيق مع النسخة الأثيوبية المخطوطة من ديوان حنا التي عندنا، وتواريخ ذلك الديوان — ديوان حنا — على وجه الإجمال موثوقٌ بصحتها ثقةً كبيرة؛ وعلى ذلك فإنا نُرجِّح أن التاريخ السابق هو الصحيح، ويصحُّ لنا أن نجزم بأن «نيقتاس» بعد أن أتم الغرض الذي كان مُوفَدًا إليه بأن حاز النصر على ضفاف النيل قنع بالبقاء في تلك البلاد حتى يقوم هرقل بزحفه، وعمل على أن يجمع جيوش الدولة التي في مصر ويستميلها إلى جانبه، ثم أن يجمع في يده أزِمَّة موارد البلاد العظيمة من قمح وسفن، وكانت القسطنطينية تعتمد عليها اعتمادًا عظيمًا.
١  ويذكُر سترابو أيضًا إقليم موممفيس.
٢  من الغريب أن هذا التفسير لم يرِد في «أميلنو»؛ فإنه عند كلامه على هذه الفقرة في كتابه Geog. Copte يزعم أن ذلك المكان قرية خارج الإسكندرية، وكأنها من أرباضها.
٣  يجدُر بنا أن نذكُر هنا أن الإسكندرية كان يُطلَق عليها في كل ما كُتِب في ذلك العصر اسم «المدينة الكبرى»، وكانت القسطنطينية يُطلَق عليها تمييزًا لها اسم «المدينة الملكية».
٤  هو الدردنيل.
٥  لم يكن المونوفيسيون فيما بينهم وحدة، بل كانوا أحزابًا، يشهد بذلك ما كان من الخلاف بين «تيودوسيوس» الرجل العالم، و«جايان» القبطي، ونضالهما على ولاية البطرقة اليعقوبية في أوائل القرن السادس. وكان كل الرهبان مع «جايان»، وقد بزَّه «تيودوسيوس»، فقام بالصلاة في كنيسة «مار مرقص»، وقُلِّد الولاية قبله، ولكن الناس ثاروا عليه وأنزلوه عن عرشه، ولكن ما كاد «جايان» يلي البطرقة حتى تدخَّلت «تيودورا» في الأمر، فأرسلت «نارسيس» ليخلعه ويُعِيد «تيودوسيوس»، وأعقبت ذلك ثورة بين الناس، ونشب قتال في شوارع الإسكندرية أُريقت فيه الدماء، واشترك فيه الناس جميعًا حتى النساء، فكنَّ يرمين بالآجُر من أعلى المَنازل على رءوس الجنود الغرباء الذين يتقاتلون في الطُّرق. وقد ثارت الحرب الأهلية في أيام «جستن» الأول بين حزب كان يعتقد أن جسم المسيح فانٍ يفسد، وآخر يعتقد أن جسمه باقٍ لا يفنى ولا يفسد. ولما قلَّد «جستنيان» «زويلوس» ولاية الدين، ثار الناس وغلبوا جنود الروم، فلجأ إلى أن جعل «أبوليناريوس» واليًا للمدينة وبطريقًا في آنٍ واحد، فنشأت عن ذلك مذبحةٌ أمر بها المطران من مِحرابه وهو في سلاحه وعُدة حربه، فجَرَت الدماء من المُصلين من القبط. وقد أنفذ «جستنيان» أمرًا يريد به الإصلاح في مصر، ولكنه كان أمر سيد مُستبد إلى رعية من عبيد. ويُفهَم من سياق كتاب «حنا النقيوسي» أن حزب «جايان» كان لا يزال موجودًا في وقت كتابة ذلك الكاتب، ولكن القبط تركوا تدريجًا عقيدة جايان في أن جسد المسيح لا يفنى ولا يفسد، وغلب على اعتقادهم رأي «تيودوسيوس» في أن جسمه كجسم البشر. وقد اقتبس «لوكيان» توقيعَ خطابٍ كتبه «خيل»، وهو البطريق السادس والأربعون، وتوقيعه هو: «خيل — بمشيئة الله — مطران الإسكندرية وطائفة التيودوسيين.» وهذا يكون في القرن الثامن للميلاد، وتوقيعات الكتب القبطية في القرن السابع كانت على هذه الصورة عينها، ويقول «ساويرس» إن القبط هم «التيودوسيون».
٦  يقول في الأصل accursed، ومعناها «ملعونة».
٧  وهذا يُوافق ما يُروى من أن «حنا الرحوم» قد اختير بطريقًا سنة ٦٠٩ في حجرة «تيودور» الذي قُتل في ثورة «نيقتاس». انظر كتاب لوكيان Or. Christ.، الجزء الثاني، صفحة ٤٤٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤