الفصل الثالث عشر

استقبال الرسل

فقال الفقيه ابن عبد البر لسعيد: «لا أظنك تجهل أن أكثر الخلفاء في الدولتين، الأموية والعباسية، أمهاتهم من الإماء، وبعضهن من الجواري. أما أم مولانا عبد الرحمن الناصر فهي نصرانية جميلة، وكان اسمها مرية.»١

وفي أثناء هذا الحديث كان الخليفة قد جلس على السرير في صدر البهو فوق عرش مرتفع، ووقف بين يديه جماعة من كبار الفتيان يتلقَّون أوامره، وعليهم ملابس تأخذ بالبصر، لما فيها من الطراز المذهب، والألوان الزاهية، وسعيد لا يرفع بصره عن عبد الرحمن الناصر، وقد شغله أمره كثيرًا.

فرآه ينظر إلى باب البهو ويبتسم ويشير برأسه مرحبًا، فالتفت سعيد فرأي الحكم ولي العهد داخلًا وعليه ملابس فاخرة ونضارة الشباب تتجلى على وجهه، وقد فاحت منه رائحة المسك، ومن رآه يعرف أنه ولي العهد؛ لأنه كان يلبس القلنسوة الخاصة بذلك، فلما اقترب من أبيه استدعاه وأجلسه إلى يمينه وهو يبتسم له.

ثم دخل ابنه الثاني الأمير عبد الله، وكان البهو قد تكاثر فيه الناس، فلم يعد الفقيه يخشى أن يسمع صوته، فلما دخل الأمير عبد الله، لفت نظر سعيد إليه وقال: «هذا مولانا الأمير عبد الله كيف تراه؟»

قال سعيد: «أراه أحسنهم جميعًا. إني أرى التقوى ظاهرة على وجهه، وأظنهم لو خيَّروه في ملبسه لاختار الجبة والعمامة العادية، وكان في غنًى عن هذه الملابس الفاخرة بما يزينه من الخصال الحميدة.»

فقال الفقيه: «لقد أصبت بفراستك يا سعيد كبد الحقيقة، إن الأمير عبد الله يفعل ذلك في منزله، فإنه من الزهد والتقوى على جانب عظيم، حتى تكاد لا تجد عنده من الخصيان أحدًا، وهو على غير رأي والده؛ ولذلك سموه الزاهد، وله شعر جيد.»٢

فقطع سعيد كلامه قائلًا: «هذا هو الرجل المطلوب. إنه إذا تولى الخلافة أعادها إلى رونقها من الأدران الخارجية.»

فهمس الفقيه في أذن سعيد: «دعنا من هذا الآن.»

وجاء بعد عبد الله إخوته؛ عبد العزيز، فالأصبع، فمروان. ثم أشار الخليفة إلى الخصيان الأكابر الموكَّلين باستقبال الناس، وإدخالهم إلى مجالسهم — وفي جملتهم ياسر — أن يُدخلوا سائر بني مروان، فدخل المنذر، ثم عبد الجبار، ثم سليمان، فجلسوا عن يسار الخليفة. ثم دخل الوزراء فجلسوا يمينًا ويسارًا، وأخيرًا دخل الفقهاء فاندس الفقيه ابن عبد البر وسعيد في جملتهم وجلسوا في أماكنهم المخصصة لهم.

ودخل الشعراء فاحتلُّوا أماكنهم، واصطفَّ الحجَّاب من أهل الجندية من أبناء الوزراء، والموالي، والوكلاء، وغيرهم، وقوفًا في أطراف البهو وراء جدار قصير يفصل البهو عن شبه الرواق حوله. فكان من ذلك منظر يتهيب له الشجاع، وقد زاده هيبةً سكوت الناس، حتى الخليفة وأولاده.

وجاء ياسر بعد قليل فوقف بحيث يعلم الخليفة إذا وقف هناك أن عنده أمرًا يريد عرضه عليه، فاستقدمه فقال له: «إن الرسل في البهو الخارجي، فهل يأمر مولاي بإدخالهم؟»

فقال الخليفة: «أدخلهم.»

فعاد ياسر، وقد علم الحاضرون أن الرسل قادمون، فاتجهت الأبصار نحو الباب، وإذا بياسر قد عاد ثم تنحَّى فتقدَّم الرسل خاشعين؛ وهم بضعة رجال يرأسهم واحد منهم، وقد ارتدوا ملابس كبار الروم، فتقدم الرئيس، وكان يرتدي القلنسوة والبرنس فخلعهما قبل دخوله، فتناولهما أحد الخدم، وفعل مثل ذلك زملاؤه من الرسل.

فمشوا أولًا بين صفين من الجند في البهو الخارجي، حتى انتهوا إلى البهو الداخلي، فحالما وقع بصرهم على سرير الخليفة خرُّوا سجدًا لحظة، ثم نهضوا ومشوا بضع خطوات وعادوا إلى السجود. فعلوا ذلك مرارًا إلا رجلًا منهم كان خلفهم، وكان يحمل جعبة من الديباج على كفيه باحترام، فاكتفى بإحناء رأسه، ولما اقتربوا من سرير الخليفة تنحى الوفد إلا رئيسه، فتقدم وهوى على يد الخليفة يقبلها، فمنعه الناصر من ذلك، وأشار إليه أن يجلس هو ورفاقه على وسائد من الديباج مطرزة بالذهب، أعدت لهم على بعد عشرة أذرع من السرير تقريبًا٣ فجلسوا، إلا حامل الجعبة.
١  رومي، الجزء الرابع.
٢  المقري، الجزء الثاني.
٣  المقري، الجزء الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤