الفصل الخامس عشر

تغيير

أما سعيد فشارك رفيقه الفقيه في أسفه إلى أن قال له: «والله إني كنت خائفًا من هذا الفشل من قبل؛ ولذلك رأيتني ارتبكت في الجواب حين سألتني عن الطالع.»

فقال الفقيه: «لا أدري ما الذي أنساني الخطاب كأني لم أخطَّ منه حرفًا، ولعل ذلك من سوء الطالع. أظن أن وجود القالي أفسد عليَّ طالعي.»

قال سعيد: «لا، بل هو منذر بن سعيد. يا لله! إنما الدنيا حظوظ وطوالع! أيُرْتَجُ على الفقيه ابن عبد البر ويُفلح المنذر بن سعيد!» قال ذلك بنغمة الأسف وهزَّ رأسه وعمد إلى أن يتمم غرضه، فأظهر أسفه الشديد على ما اتفق للفقيه ابن عبد البر وقال: «والأمر الذي ساءني على الخصوص …» وسكت.

فابتدره الفقيه قائلًا: «لا بد أن يكون قد ساءك ارتباكي مع اعتقادك الأكيد أني أستطيع الكلام، وقد سمعت خطابي وأُعجبت به.»

فقطع سعيد كلامه قائلًا: «إن ارتباكك ساءني طبعًا، ولكنَّ هناك أمرًا آخر أغضبني. دعنا من ذلك الآن.»

فازداد الفقيه رغبة في الاستطلاع، فقال: «وما ذلك؟ قل.»

قال سعيد: «ساءني أني سمعت ولي العهد، ولكن أخشى أن أكون مخطئًا.»

فقال الفقيه: «لا، لا، قل ما سمعته.»

قال سعيد: أظنني سمعته يقول حين رآك وقعت مغشيًّا عليك ووقف منذر بن سعيد وخطب ما خطبه، سمعت ولي العهد يقول: «هذا صاحبها والأولى بها، وليس الكسيباني، فلا أدري ماذا يعني؟»

فقال الفقيه: «ألا تدري وأنت تستطلع الغيب؟! أظنك تخشى غضبي! قل ولا تخشَ شيئًا.»

قال سعيد: «أظنه يعني منصة القضاء.»

قال الفقيه: «قد أصبت، وسينال هذا المنصب المنذر، بورك له فيه.»

فقال سعيد وهو يضحك: «لك أسوة بالأمير عبد الله العالم الزاهد. ألم تكن الخلافة أولى به؟!»

فأحس الفقيه ابن عبد البر من تلك الساعة بنقمة على الحكم، رغم ما كان غارقًا فيه من نعمة، فإن فشله وفوز زميله منذر بن سعيد هاج حسده وأعماه عن الحقيقة، وزاده غرورًا بنفسه، فعزا إخفاقه إلى تصادم الطوالع، وكان لقول سعيد تأثير كبير على اعتقاده، فتوهم أنه مظلوم وأن الحكم هو السبب في ظلمه، فأحس بالنقمة عليه. ولم يكن سعيد غافلًا عما جال في ذهن الفقيه وهو الذي أثار كامن حقده وهاج عاطفة الحسد فيه على المنذر، والنقمة على الحكم، فلما لمَّح إلى أفضلية عبد الله في الظفر بالخلافة على أخيه الحكم، نظر إلى الفقيه فاستشفَّ من ملامحه استعدادًا للاقتناع، ولكن الخوف منعه من التصريح، فابتدره قائلًا بصوت ضعيف لئلَّا يسمعه أحد سواه: «لعلِّي تجاوزت في قولي إلى أبعد مما يُسمح به، ولكنني قلت ذلك مدفوعًا بالانتصار للحق. وأنا وراق أبيع الكتب وأعرف ما يقتنيه ولي العهد منها، لكن ما شأني به!» قال ذلك وأظهر أنه يريد أن يفترق عنه.

فتوسم الفقيه ابن عبد البر من ذلك التلميح شيئًا يهمُّه الاطلاع عليه، فعمد إلى استدراج سعيد كي يكشف له عن ذلك السر، فقال: «مهما يكن من اطلاعك على ذلك فإني أعلم منك به، وأنا كما تعلم قد عاشرت الحكم طويلًا.»

قال سعيد: «مهما عاشرته فإنك لا تعرف عنه ما أعرفه أنا؛ فإنه يستحي أن يعرف الناس — وخاصة الفقهاء — أنه يطالع الفلسفة، فتضعف ثقتهم بدينه.»

فبُغت الفقيه وقال: «يطالع كتب الفلاسفة؟! نعوذ بالله من خليفة فيلسوف! إن الخلفاء يقاومون الفلاسفة ويضطهدونهم خوفًا على عقائد الناس، فكيف يكون الخليفة نفسه من أهلها؟!»

فتجاهل سعيد ما كان من أثر ذلك الخبر في نفس الفقيه، وأظهر أنه قد آن له أن يفارقه، وكان الفقيه أكثر رغبة في الفراق لأمرٍ خطر له، يريد أن يسعى إليه.

وكانا قد خرجا من القصر وسارا حتى وصلا إلى باب السطح حيث تركا البغلتين، فقال الفقيه: «سنفترق الآن. لا تحزن يا صاحبي، إن الزمان يدور، وسوف يعلم الحكم وأبوه …» وسكت، وتظاهر سعيد بالتجاهل، وقال: «متي أتقدم بكتاب «العقد الفريد» إلى الأمير عبد الله؟»

قال الفقيه: «بعد يومين. هل تعرف منزله؟»

قال سعيد: «أين هو؟»

قال الفقيه: «في قصر مروان خارج قرطبة بالأرباض.»

قال سعيد: «عرفته. أستودعك الله.»

قال الفقيه: «سنتكلم فيما بعد. لا تنسَ أن تُحضر معك عابدة لأني كلمت الأمير بشأنها، وهو يريد أن يراها.»

قال سعيد: «سمعًا وطاعة.» وركب بغلته وتوجه إلى منزله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤