الفصل الحادي والعشرون

الانصراف

فطرب الأمير عبد الله وأخذت عابدة بمجامع قلبه، وأحس بميل نحوها غير ميل الناس إلى الإماء؛ لأنه آنس فيها عزة وقوة وأدبًا ورقَّة، فأحب أدبها وبلاغتها وذكاءها، فأمر بإعداد مائدة من الفاكهة والطعام والشراب المنعش؛ لأنه لم يكن يشرب الخمر، ولا النبيذ ولا يطيق رائحتهما.

فلما أعدت المائدة وليس عليها شيء من الخمر، نظر سعيد الوراق إلى الفقيه ابن عبد البر كأنه يسارُّه، وقال: «هذا أولي بها.» وأشار إلى المائدة وخلوها من الخمر، ففهم الأمير عبد الله أنه يشير إلى الخلافة، ولكنه ظن أن إشارته جاءت عفوًا مع أنها مقصودة، لكنه تجاهل واستعاد الفتاةَ أغنياتٍ أخرى، فظلت تغني حتى طربوا، فقال الأمير عبد الله: «هل تجيد عابدة العزف على العود أو غيره؟»

فالتفت سعيد إلى عابدة فمدت يدها إلى جيبها فأخرجت عيدانًا وأوتارًا، وأخذت تركبها وتشدها، فصارت آلة كالقانون، وراحت تعزف عليها عزفًا متقنًا أشجى الأمير عبد الله، فقال لسعيد: «ما اسم هذه الآلة؟»

قال سعيد: «القانون يا سيدي.»

قال الأمير عبد الله: «لا أذكر أني رأيتها من قبل.»

قال سعيد: «إن مخترعها لا يزال على قيد الحياة، وهو عالم كبير، ولكنه من رجال الفلسفة، وقد تعمق في أبحاثها وألَّف فيها عدة كتب.»

فقطع الأمير عبد الله كلامه قائلًا: «أظنك تعني الفارابي التركي الفارسي الذي نشأ في الشام؟»

قال سعيد: «نعم، هو بعينه يا سيدي.»

فتصدى الفقيه ابن عبد البر للكلام فقال: «أليس هو صاحب القصة مع سيف الدولة يوم حضر مجلس غنائه وهو لا يعرفه، وسأله إذا كان يعرف الغناء فأخرج آلة عزف عليها، فبكى من في المجلس، ثم فكها وركَّبها وعزف عزفًا آخر، فنام من في المجلس؟»

قال سعيد: «نعم، هو نفسه، وهذه هي الآلة التي عزف عليها، وقد تمكنت عابدة من أخذها منه.»

فازداد الأمير عبد الله إعجابًا بالفتاة وتعلقًا بها، فقال: «هل تبيع هذه الحسناء يا سعيد؟»

قال سعيد: «هي أرفع من وصمة البيع والشراء يا سيدي، ولكنني أكون — أنا وهي — في خدمة الأمير حفظه الله.»

قال الأمير عبد الله: «أما أنت، فإنني أرغب أن تمتنع عن بيع الكتب للناس، وتختصني بفضلك فتكون خازن كتبي، فتبقى أنت وعابدة بقصري. هل تستطيع ذلك؟»

فأشار سعيد برأسه إشارة الطاعة وقال: «إن من أسباب سعادتي أن أكون في خدمة مولاي الأمير عبد الله فأبذل جهدي في مصلحته، وقد كنت أرغب أن أقول له إن عابدة لا أتخلى عنها لأنها استأنست بي، وأنا أدِّرس لها أشياء من الأدب والشعر لم تكن تعرفها؛ ولذلك فإني أتردد عليها حينًا بعد آخر.»

فقطع الأمير عبد الله كلامه قائلًا: «لا حاجة بك إلى التردد. إنك تقيم في هذا القصر، وتتولى ترتيب الكتب في أماكنها، وتُحضر إليَّ ما أريده منها، فإني لا أريد أن تكون في قرطبة مكتبة خيرًا من مكتبتي.»

فأشار سعيد برأسه إشارة الطاعة، وسكت.

فصفق الأمير عبد الله، فجاء ساهر الحاجب فقال له: «أعدُّوا دارًا خاصة لنزيلنا سعيد، وأدخلوا عابدة دار النساء مكرمة.»

فوقف سعيد يريد الانصراف، فطلب منه الأمير عبد الله أن يبقى، فقال: «لا بد لي من الانصراف لتدبير أموري والتفرغ لخدمة مولاي الأمير.»

ونهض الفقيه ابن عبد البر وهو يقول: «وأنا أريد أن يسمح لي الأمير عبد الله بالانصراف إلى منزلي.»

أما عابدة فلما أحست ببقائها وحدها، نظرت إلى سعيد وقد توردت وجنتاها من الحياء لبقائها وحدها هناك، فتقدم سعيد إليها وربَّت على كتفها وقال لها: «لا تخشي شيئًا يا عابدة، إنك في رعاية الأمير عبد الله، وستكونين معززة مكرمة.» والتفت سعيد إلى الأمير عبد الله وقال: «هل يأمر مولاي بإحضار القهرمانة لمرافقة عابدة إلى دار النساء فتأنس بها؟»

فأمر الأمير عبد الله بإحضار القهرمانة، فأتت إلى باب القاعة فخرجت عابدة معها وهي تلتفت إلى سعيد وقد شق عليها فراقه.

أما سعيد والفقيه، فودَّعا الأمير عبد الله، وركب كل منهما بغلته وانصرفا، ولما خرجا من الحديقة قال الفقيه لسعيد: «لا نلبث أن نصل إلى منزلي، فهل تبيت عندي الليلة؟»

قال سعيد: «لا بأس من ذلك.» وسارا في طريقهما، وقد سُرَّ الفقيه بنزول سعيد عليه؛ لأنه أراد الاستعانة به في إقناع الأمير عبد الله بما أراده ضد أخيه الحكم، ولم يعلم أن سعيدًا أكثر منه رغبة في ذلك، ولكنه كان أكثر دهاءً وأوسع صدرًا.

دعا الفقيه سعيدًا إلى غرفة واسعة فيها سراج مضيء، وقد فُرشت أرضها بالحصر والأبسطة المتواضعة، وأمر الفقيه خادمه أن يعدَّ لهما فراشين في تلك الغرفة ففعل، وأخذ الفقيه في تبديل ثيابه، وأحضر لسعيد ثوبًا خفيفًا لتبديل ثيابه أيضًا، وبعد أن فرغا من ذلك، جلس كل منهما على فراشه وسعيد يقرأ كل حركة من حركات الفقيه، كأنه في ضميره، والفقيه يحاول أن يحتال في إغرائه على الأمير عبد الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤