الفصل الرابع والخمسون

الدرس

فتناول سعيد العود وضبطه على لحن، ودفعه إلى جوهر، وقال: «أعطها العود.»

فدخل به وسلَّمه إليها فقال سعيد: «اعزفي عليه لحن كذا.»

فأخذت تعزف عليه، وهو يشير إليها أن تصلح هذا الوتر وتشده، أو ترخيه، وتغيِّر هذه النقرة أو تلك، وهي تفعل وأفكارها تائهة؛ لأنها كانت ما تزال مشغولة بأمر أخيها والتنجيم.

ولم يكن هو أقل اشتغالًا بها، وود لو أنها تزيح ذلك الستار ليراها، وندم لأنه لم يشترط على الناصر مجالستها ورؤيتها، ولكنه أومأ إلى جوهر أن يحتال في أن يراها، فأخذ جوهر يُظهر الضجر من نقل الدرس بينهما، وقال: «إن التعليم على هذه الصورة لا يفيد يا قوم.»

وكان لقوله وقع استحسان عند كليهما، فقال سعيد: «لو استأذنت أمير المؤمنين في أن نتقابل لم يمنعنا، وإذا أمرت الزهراء بذلك الآن كان الأمر لها.»

فقال جوهر: «لا أظن أن سيدتي تمانع في ذلك، ونحن في هذا الجناح من القصر وحدنا، ليس من يسمع أو يرى.» ودخل إليها فخاطبها همسًا ثم عاد وقال: «إن سيدتي تأمر برفع الستار على شرط.»

قال سعيد: «وما هو؟»

قال جوهر: «بلغها أنك عالم بالتنجيم.»

فقطع سعيد كلامه قائلًا: «ومن أبلغها ذلك؟»

قال جوهر: «علمت والسلام، وأنا أعلم أيضًا، فالشرط يا سيدي أن تستطلع لها أمرًا شغل بالها منذ عدة أعوام، فإذا فعلت ذلك وأصبت. كشف الستار وقابلتها، فهل تقبل بهذا الشرط؟» قال ذلك وهو يتلوى ويتماجن.

فقال سعيد: «أما وقد أمرت، فلها عليَّ ذلك.» ثم وجه خطابه إليها فقال: «ما الذي تريدين كشفه يا سيدتي؟»

قالت وصوتها يتلجلج: «لا أقول ما هو، ولكنني أقول إني فقدت شخصًا منذ أعوام كثيرة، ولا أعلم ما صار إليه أمره، فإذا كنت تجيد التنجيم حقيقة فقل لي من هو؟ وأين هو؟»

فأخرج سعيد كتابه، وأخذ يقلِّب فيه، وقد استولى السكوت على المكان لا يُسمع فيه إلا حفيف صفحات الكتاب، ثم قال: «إنك تبحثين عن أخ شقيق.»

فلما سمعت الزهراء قوله لم تتمالك أن صاحت: «نعم أخي شقيقي، لله درُّك! هل هو حي؟ أخبرني حالًا.»

فأعاد سعيد التقليب وقال: «نعم، حي!»

فاستغربت الزهراء حكمه السريع، وشكَّت في صدقه، وقالت: «هل تعرف اسمه؟»

قال سعيد: «أي اسم من اسميه تريدين؟»

قالت الزهراء: «وهل له اسمان؟»

قال سعيد: «نعم، له اسمان، اسم تعرفينه، واسم جديد لا تعرفينه.»

قالت الزهراء: «ما هو اسمه الذي أعرفه؟»

قال سعيد: «سالم.»

فصاحت الزهراء: «نعم سالم. سالم. قل لي هل هو حي؟ قل رعاك الله!»

قال سعيد: «نعم، إنه حي ولكنه …»

قالت الزهراء: «ولكن ماذا؟»

قال سعيد: «ولكنه تحت خطر القتل.»

فلما رأت أنه أصاب في ذكر الاسم وأنه شقيقها، صدَّقت كلامه عن الخطر المحدق به، وأخذت ترتعد وقالت: «وأي خطر، وأين؟ قل لي، فإن أمير المؤمنين ينقذه منه إكرامًا لي.»

قال سعيد: «يا حبذا ذلك، ولكن الخطر عليه من أمير المؤمنين نفسه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤