الفصل الثاني

الانطلاق الأوَّل

سماء ولاية نورث كارولينا تمتد فوق رأسي حتى الساحل الشرقي الجنوبي لأمريكا الشمالية، الليل كثيف الظلمة بلا قمر، النجوم ترتعش من بعيد توشك على الانطفاء، في طفولتي كنت أسأل أبي وأمي: مين خلق النجوم دي كلها؟ ربنا يا بنتي، وأعود أسأل: ومين خلق ربنا؟ يكف أبي وأمي عن الرد، يدب الصمت لحظة، يبتلع أبي لعابه، أرى تفاحة آدم تعلو وتهبط في عنقه، يخرج صوته متحشرجًا: ما فيش حد خلق ربنا، هو خلق نفسه، لم يكن لعقلي الطفولي أن يتصور شيئًا خلق نفسه.

أصبع أبي الكبير هو أصبع الله يشير إلى السماء، يعطي كل نجم اسمه، ده المريخ، وعطارد، وزحل، والزهرة، أتوقف عند الزهرة، النجمة الوحيدة الأنثى بين النجوم الذكور، إنها نجمتي، وُلدت معي وتموت معي، كانت ستي الحاجة — جدتي لأبي — تقول لكل واحد من الناس نجم في السماء، يولد معه ويموت معه.

عيناي مشدودتان إلى «زهرة»، أهي النجمة نفسها التي كنت أراها في سماء قريتي في دلتا النيل، تبعد عني في الزمان والمكان أكثر من نصف قرن وعشرة آلاف ميل، حنين جارف إلى طفولتي وأيام صباي، في العاشرة من عمري عرفت الحب الأول، في العشرين من عمري عرفت الحب الثاني، مضت عشر سنوات بين الأول والثاني، ثُمَّ مضت ثلاثة عشر عامًا حتى عرفت الحب الثالث، في كل قصة عشتها أسأل نفسي: لماذا هو بالذات من دون البشر؟ لم يكن للسؤال جواب، كأنما انعدام الأسباب هو شرط الحب.

لحظات في عمري أتوقف عندها، تبدو عصية على الفهم، يدركها القلب دون كلام أو لغة، الحب يسبق اللغة في التاريخ، الإدراك الجسدي يرتفع فوق العقل.

تفسد الكتابة لحظات الحب، القلم مثل المشرط يقتل اللحظة، يمزق الجسد، يفصل الرأس عن العنق، عن القلب، عن الصدر، عن البطن.

في مفكرتي السرية وأنا في العشرين من العمر كان سهلًا أن أكتب كلمة الرأس أو القلب أو الصدر، كلمات بريئة تشير إلى أجزاء بريئة من الجسم، كلمة بطن لم ترد على لساني حتى بعد دخولي كلية الطب وتشريح بطون الجثث، كلمة «جنس» لم أنطقها حتى بعد زواجي الأول أرقد مع زوجي في سرير واحد، يصنع منا الزواج حيوانًا بجسد واحد ورأسين، لم أنطق كلمة «جنس»، وإن نطقت كلمة «زوجي» باللغة العامية «جوزي» ترن في أذني نابية.

وفي كلية الطب لم ندرس شيئًا عن الجنس، درسنا الجهاز التناسلي والبولي والحمل والولادة وأمراض النساء وسرطان الرحم وسرطان الخصية، لم نعرف شيئًا عما كان يشغلنا معظم الوقت، كان علم الطب مفصولًا عن حياتنا اليومية.

أصبحت لي مكتبي الصغيرة في غرفة نومي، إنها غرفتي وحدي لم تعد تشاركني فيها أختي الأصغر ليلى، منذ أدخلت جمجمة الميت إلى غرفتي، أخرجت أختي سريرها.

أول ما أسعدني حين بلغت العشرين من عمري من غرفتي الخاصة، حريتي، أحلم بها في طفولتي وأنا ألعب بالعرائس مع أختي، وفي سنين المدرسة الابتدائية والثانوية وفي مدرسة حلوان الداخلية، حنين إلى الحرية أشد من حنين إلى الحب، الحب عندي هو الحرية وإلا ماذا يكون الحب؟!

في خريف ١٩٥١م أدركت أنني أملك حريتي، في الصباح أفتح عيني فتغمرني سعادة مجهولة، أقفز من السرير بخفة العصافير، أندهش من خفة جسمي، أندهش لصوت رذاذ الماء ينهمر من الدش، أغتسل بفرحة طفولية، أحس الخفقات تحت ضلوعي، أغني لنفسي في الحمام: «عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنثر، اسألوا الليل عن نجمي، متى نجمي يظهر.» علاقة خفية بين النجوم وخلجات القلب، لم تعد خفية بعد أن تجاوزت الستين من العمر، قرأت في علم الكون الجديد، التشابه في تكوين جسد النجم وجسد الإنسان.

أصبح لي لأول مرة في حياتي مكان خاص أغلق بابه علي، غرفة صغيرة تتسع لسريري «السفري» من الصاج، ومكتبة لها رفوف عليها كتبي، ومكتب صغير أجلس إليه والباب مغلق، أسجل في مفكرتي السرية ما أشاء، أشرب الشاي بالنعناع دون رقيب أتمدد فوق السرير وأشرد كما يحلو لي الشرود، أبحلق في الفراغ بالساعات دون أن يتهمني أحد بالجنون.

كانت غرفتي تطل على حديقة خلفية صغيرة، نخلة طويلة ممدودة نحو السماء، رأسها المنكوش بالزعف أو سباطات البلح يشبه رأسي، شعري الأسود الغزير يطيره الهواء، اشترى لي أبي مكتبًا صغيرًا من الخشب له ثلاثة أدراج ناحية اليمين، درجان ناحية اليسار، الدرج الأعلى له مفتاح واحد يغلق الأدراج كلها، فوق الحائط ثلاثة رفوف هي المكتبة، عليها كتب الطب، كشاكيل المحاضرات، ولوحة خشبية أرشق فيها الجدول والمواعيد، فوق الرف العلوي الكتب غير الطبية، روايات وقصص، فلسفة وتاريخ، وكتب أخرى أحصل عليها من المكتبات العامة.

من نافذتي الأمامية أطل على جزء من الشارع الصغير المتفرع من شارع ترعة الزمر بالعمرانية، الحي الهادئ في أول شارع الهرم بالجيزة، من نافذتي الخلفية أطل على منزل الجيران، يقف في الشرفة شاب ممتلئ الوجه أبيض البشرة يشبه الملك فاروق، يمسك في يده مرآة تعكس الضوء، يسلط عليَّ دائرة الضوء المتحركة فأغلق الشيش من وراء شقوق الشيش أراه، يضع فوق عينيه منظارًا مكبرًا أو تلسكوب، أسد شقوق النافذة بورق الصحف القديمة.

فوق مكتبي الجمجمة، أجلس إلى المكتب لأذاكر دروسي، أقرأ، أكتب، أفتح النافذة الأمامية، وجهي ناحية السماء، لا بد أن أرى الأفق حين أكتب، تشرد عيناي في المساحات الواسعة اللانهائية، لا حواجز أمامي في مجال الرؤية.

كانت الجمجمة تؤنسني، تذكرني بالموت فيشتد إحساسي بالحياة، تملؤني بالفرح لأنني أعيش رغم وجود الموت، إلى جوار الجمجمة مروحة كهربية صغيرة، تحدث صوتًا خافتًا حين تدور، كحفيف الهمس، تؤنسني تحمي وحدتي.

يكفي أن أغلق بابي لتغمرني السعادة، لم يكن أحد في البيت يقلقني في نومي أو يقظتي، أقرأ في سريري حتى الفجر، أحبس نفسي في غرفتي لأكتب يومين أو ثلاثة، أرتدي ملابسي وأخرج، لم يعد أحد يسألني إلى أين أذهب أو متى أعود، الدراسة في كلية الطب تمتد طول النهار، والمظاهرات الوطنية قد تنفجر في أي وقت.

كنت أمشي في المظاهرات مع الطلبة، وأمشي كل يوم من بيتي في أول شارع الهرم إلى كلية الطب في شارع قصر العيني، وأعود مشيًا أو أركب الترام إذا تأخر الوقت، أختار الأحذية بدون كعب عالٍ، الأحذية الجلدية المتينة غير اللامعة، كل شيء لامع يبدو لي قبيحًا، الشعر المدهون بالبريانتين، القماش الشاركسكن، الأحذية الجلاسيه، البشرة المدهونة بالكريم، الشوارب المنمقة المقصوصة بعناية، ربطة العنق المربوطة بدقة وإحكام، تجذبني الطبيعة التلقائية، وشيء من الفوضى الضرورية لإكمال أي نظام، شيء من القبح اللازم لأي جمال، لم أحب أدوات الزينة، لم أُلوِّن وجهي بالمساحيق، لم أصبع شفتي بالأحمر الصناعي، أرتدي الأقمشة الخشنة الرخيصة، تزيد خشونتها من نعومة بشرتي، لا أرتدي الفساتين المكشوفة الصدر، أصبحت أمتلك جسدي ولست في حاجة إلى عرضه للعيون، أرتدي أحيانًا القمصان الرجالي، تزيد رجولتها من أنوثتي.

في أعماقي أدرك أنوثتي العارية الكامنة الزاهدة في الظهور، يشتد زهدها باشتداد تأججها، تتخفى عن الأعين تحت غلاف الجسد، لا يطل منها شيء إلا البريق الخاطف في العينين، وأصحو مبكرة قبل أن يصحو البيت، أتناول فطوري، فنجان الشاي الساخن جدًّا باللبن الحليب، قطعة من الجبن الأبيض وعسل النحل، نصف رغيف، أشرب الشاي بالنعناع في منتصف النهار أو بعد الظهر، بدأت أحب القهوة مع السهر أيام الامتحانات، كنت أحب النوم، أستغرق فيه حتى الموت، ثم أصحو أُبعث إلى الحياة من جديد.

أهوائي الصغيرة أعشقها، مثل الحملقة في السماء دون عمل أي شيء، الكون يبهرني، الكواكب، النجوم، يراودني السؤال دائمًا من أين جاء هذا الكون؟ متى بدأ وهل يمكن أن ينتهي؟!

خفق قلبي بالحب للمرة الثانية في حياتي داخل مدرج صغير بجوار المشرحة في كلية الطب، نهبط إليه تحت الأرض بضع درجات، يجتمع فيه أغماء الطلبة، يرتبون الإضرابات والمظاهرات الوطنية.

خريف عام ١٩٥١م كان مشحونًا بالأحداث السياسية، منذ إلغاء معاهدة ١٩٣٦م، في أكتوبر ١٩٥١م، لم تكف المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني، حكومة الوفد برئاسة النحاس باشا تشجع المقاومة الشعبية، تسلح الفدائيين في القنال من وراء الستار.

سافر زميلي أحمد المنيسي مع كتائب الفدائيين ولم يعد، كنا نتبادل الحديث في معمل الكيمياء الحيوية (البيوكمستري)، رسالته الصغيرة بخط يده داخل كشكولي، كلماته المترددة الخجول: «ستكون صورتك أمامي وأنا أقاتل في سبيل الله.» أنفه من الجانب مرفوع يرسم في الجو قوسًا حادًّا، في عينيه بريق قوي يتحدى الإنجليز، ونظرة خجولة لا ترتفع إلى عيني، كانت التقاليد صارمة تفصل بين الجنسين بسكين حاد، تحرم تبادل الكلمات أو النظرات رغم الاختلاط في الجامعة.

منذ الرسالة في الكشكول لم أر المنيسي إلا مرة واحدة قبل أن يموت، كان يحارب الإنجليز في القنال وسقط شهيدًا، أقاموا له حفل تأبين، حفروا اسمه فوق حجر في مدخل كلية الطب، ثم سقط الحجر وسقط معه اسمه في التاريخ، وأسماء فدائيين آخرين ماتوا أو لم يموتوا، عادوا من الحرب يطاردهم البوليس المصري قبل الإنجليز، تحولوا بقدرة قادر من أبطال مدافعين عن الوطن إلى مجرمين في نظر الحكومة وإرهابيين في نظر الإنجليز.

أحمد حلمي كان من الفدائيين، التقيت به لأول مرة في المدرج الصغير بجوار المشرحة، كنت الطالبة الوحيدة التي تُدعى إلى هذه الاجتماعات، ربما لأنني كنت أشارك في المظاهرات الوطنية وأكتب في مجلات الكلية، ورثت عن أبي أحلامه الطفولية، أكتب الشعر والأدب، أحمل السلاح، أضرب الأعداء وأحرر الوطن، لم أر نفسي في أحلامي مرتدية ثوب الزفاف أو طرحة الدخلة، لم يكن للزوج مكان في أحلامي، لا يمكن لاسم رجل أن يحذف اسمي أو يحتل جسدي.

هذه الحقيقة الهائلة تحت ضلوعي! أهي حقيقة أم وهم؟ كنت جالسة في المدرج الصغير في اجتماع تنظيم المظاهرة الكبيرة، تسربت الخفقة تحت الضلوع خافتة أول الأمر ثم تصاعدت، كتمتها بحقيبة كتبي، هذا القلب داخل صدري لم يخفق هذه الخفقة منذ الحب الأول وأنا في العاشرة من العمر، عشر سنوات مضت تحولت الطفلة إلى فتاة في العشرين، طالبة مجدة بكلية الطب تدرس التشريح والكيمياء الحيوية والفيزياء والفسيولوجيا والباثولوجي (علم الأمراض)، حفظت القرآن عن ظهر قلب وأجزاءً من التوراة والإنجيل، قرأت كتبًا كثيرة خارج مقررات الطب، في الفلسفة والدين والتاريخ منذ الفراعنة وقدماء المصريين حتى الاحتلال البريطاني والخديوي إسماعيل والملك فؤاد وفاروق والأحزاب السياسية، كنت أدخر أجر الترام أو الأتوبيس لأشتري كتابًا جديدًا أو رواية أدبية، زميلتي «سامية» أمدتني ببعض الكتب عن الماركسية، في مكتبة أبي كان هناك الجاحظ وابن رشد وابن خلدون وابن سينا والطبيب الرازي وأبو العلاء المعري، رسالة الغفران قرأتها قبل أن أقرأ الكوميديا الإلهية، وُلد «دانتي» في إيطاليا عام ١٢٦٥م، قرأ مثلي عن التُّراث المصري والمسيحي والإسلامي، لا بد أنَّه قرأ ابن عربي الصوفي كما قرأه أبي، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ألهذا جاءت صورة العالم الآخر في الكوميديا الإلهية كما جاءت في رسالة الغفران؟ كنت أسمع أبي يقول إن «دانتي» نقل عن أبي العلاء المعري، تمط سامية شفتيها بامتعاض: معري إيه يا نوال … ده عره خالص … عشان كده سموه معري … إيش جابه لواحد عظيم زي ضانطي (دانتي)، تفخم حرف الدال وتقلب التاء إلى طاء، زميلتي «بطة» تقلب الراء إلى غين، وتلعن الجميع: المعغني (المعري) ودانتي وماغكس (ماركس) تسخر منه، تقول عنه مغكس (مرقس) حبيب زميلتنا صفية منذ المدرسة الثانوية.

لم تكن واحدة من الزميلات تمشي في المظاهرات، أو تحضر الاجتماعات السياسية في المدرج الصغير، تلوي بطة شفتها السفلية الحمراء: «سياسة» إيه يا نوال دي كلام فاغغ (فارغ)، تشيح صفية بوجهها بعيدًا: «كفاية أخويا أسعد في السجن والسياسة خربت بيتنا.» تزم سامية شفتيها بازدراء: الطلبة دول كلهم عملاء للأحزاب السياسية المتنافسة على الحكم، ما فيش إخلاص في البلد إلا في الحزب الشيوعي.

كلمة الشيوعية ملبدة بالغموض والإشاعات، الحزب الشيوعي غير شرعي، يعمل تحت الأرض، زعيم الشيوعيين كان طالبًا في السنة النهائية، اسمه إسماعيل شلبي، نحيف الجسم يرتدي بدلة سوداء، فوق عينيه نظارة سوداء تتدلى منها سلسلة ذهبية، قصير القامة يلقي خطبة طويلة عن الفقراء من العمال والفلاحين، يتململ الزملاء في مقاعدهم، ينظرون في ساعاتهم، ينهض زعيم الإخوان المسلمين «عمران عبد الموجود» بجسمه المربع داخل البدلة الضيقة، الصديري تتدلى منه سلسلة ساعة فضية من قبر الرسول بأرض الحجاز، يقف على المنصة مائلًا بجذعه ناحية اليمين، واضعًا يده اليسرى في جنبه، رافعًا يده اليمنى، شفتاه الممتلئتان منفرجتان، يبتسم لقوة ما في السماء، يقف صامتًا في هذا الوضع بضع ثوان، كأنما عدسة سحرية في الفضاء تلتقط له صورة، ثم يستدير ببطء ليواجه الحاضرين بصوت أشبه بالرعد، يبدأ خطبته بسم الله العلي العليم ويختمها بالصلاة على خاتم الأنبياء أجمعين، يتململ الزملاء في مقاعدهم، يتسلل بعضهم من الباب الخلفي، ينهض أحدهم معترضًا: «يا أخ عمران كفاية إنشا عاوزين كلام مفيد»، ينهض فؤاد محيي الدين، كان من أطباء الامتياز أو النواب في قصر العيني، أطولهم قامة شديد النحافة كالعصا الخيزران، شديد الأناقة بدلته خطوطها مستقيمة مكوية، ياقة قميصه منشاة ناصعة البياض بلا ذرة تراب ولا عرق، ربطة عنقه زهية الألوان معقودة بإتقان في نقطة الوسط بالضبط تحت ذقنه يشدها بأطراف أصابعه الطويلة الرفيعة، يشد عنقه الطويلة بحركة الديك الرومي أو الطاووس، كبرياء ربما أو اختناق، فالمدرج تحت الأرض، النوافذ كلها مغلقة، الهواء شبه معدوم، دخان السجائر يتصاعد إلى السقف، جميعهم ينفخون الدخان من أنوفهم، كأنما هذا النفخ جزء من طقوس السياسة أو الرجولة، يخبط فؤاد محيي الدين المنصة بقبضة يده القوية، لا تقل قوة عن قبضة زعيم الإخوان، صوته لا يقل جهورية عن صوته، يردد كلمات مصطفى كامل باشا: «لو لم أكن مصريًّا لوددت أن أكون مصريًّا، نحن يا زملاء مصريون انتماؤنا إلى مصر مسلمين وأقباطًا لا فرق، دستورنا هو القانون يصدر عن البرلمان وليس القرآن الدين لله والوطن للجميع يا إخوان!»

وينهض يوسف إدريس من مقعده، كان طالبًا في السنة النهائية، يتجه نحو المنصة بخطوة واسعة سريعة، رأسه مائل إلى الأمام بقوة كأنما ينطح الهواء، متوسط الطول والنحافة، ليس أنيقًا مثل فؤاد محيي الدين، بدلته واسعة قليلًا، ربطة عنقه واسعة متهدلة حول عنقه، معوجة على جنب، ربما عقدها بسرعة دون أن ينظر في المرآة، لم يحرص أن تأتي العقدة بالضبط في نقطة الوسط مثل فؤاد محيي الدين، يقف على المنصة واضعًا يده اليمنى في جيبه، يحرك يده اليسرى في الهواء، يحملق في الحاضرين بعينين لامعتين غائرتين تحت عظام الجبهة، يثبتهما بحدة في عيون الجالسين كأنما يبغي تنويمهم مغناطيسيًّا، صوته لا يقل ارتفاعًا عن صوت فؤاد محيي الدين، يخلط الفصحى بالعامية: «يا أيها الزملاء، بلادنا تمر بمرحلة خطيرة علينا أن نكون جميعًا فدائيين نحمل السلاح في القنال ونطرد الاستعمار، ويا زملاء، مش كفاية القضاء على الاستعمار، لا بد من ثورة شعبية تحقق العدالة بين الطبقات الكادحة والطبقات العليا.»

تسري الهمهمة بين الطلبة، يرفع أحدهم صوته: «ده كلام شيوعي.» يتصدى له طالب آخر: «اسكت يا أخ خلينا نسمع.» أسكت يعني إيه؟ لا يمكن أسكت! تنشب مشاجرة في ركن من أركان المدرج، ينهض زعيم الوفد «سليمان محمد» يسرع إلى المنصة، لا يتخلى يوسف إدريس عن مكانه، يقف الاثنان معًا فوق المنصة، زعيم الوفد أقصر قامة من يوسف إدريس، أكثر نحافة، بدلته أكثر تهدلًا واتساعًا، كأنما أخذها من أبيه أو أخيه الأكبر، ربطة عنقه باهتة مفكوكة، ياقة قميصه مسودة قليلًا، قبضة يده تضرب المنصة أقوى من الجميع، صوته أعلاهم فهو ينتمي إلى حزب الأغلبية وهو الحزب الحاكم أيضًا بزعامة النحاس باشا، يهتف بعض الطلبة النحاس! النحاس! يشتد الهرج والمرج، يقفز زعيم الوفد فوق المنصة يضرب المنصة بقدمه القوية، حذاؤه له كعب سميك تبطنه قطعة حديد على شكل حدوة الحصان، صوته أعلى من صليل الخيل: يحيا النحاس زعيم الأمة.

في الصف الآخر بجوار الباب الخلفي كنت أجلس، لأخرج حينما أشاء دون أن يراني أحد، كانت عيونهم تتجه نحوي دائمًا، ربما لأنني الطالبة الوحيدة التي تحضر هذه الاجتماعات السياسية، الآلام الحادة في مؤخرة رأسي أو الصداع، ربما بسبب الاختناق «الإسفكسيا» بلغة الطب، الهواء تشبع بالدخان أو النيكوتين وثاني أكسيد الكربون وانعدام الأوكسجين، ارتفعت الحرارة ونسبة السموم في الدم، جالسة في مقعدي عاجزة عن النهوض لأخرج من الباب الخلفي، عقلي مشلول، توقف الدم النقي عن تغذية خلايا المخ يؤدي إلى ضمور العقل أو البلادة، هل غفوت أو سقطت في غيبوبة تشبه النعاس؟ ثم أفقت فجأة على صوت يقول: فين أحمد حلمي؟

انتفخت عيناي لسماع الاسم، تحركت الأعناق نحوه، كان جالسًا في الصف الأخير مثلي، لكن في الناحية الأخرى قرب النافذة، تفصلني عنه مساحة طويلة من المقاعد الخالية، يرتدي القميص الأبيض المفتوح، لم يكن يتعجل الكلام، لا يلقي خطبة، لا يضرب المنصة بقبضة يده، لا يضغط على مخارج الألفاظ، مع ذلك صوته مملوء بالحماس، يدخل في الموضوع مباشرة دون مقدمات: «يا زملاء كتائب الفدائيين في القنال تلزمهم ذخيرة ومؤن وخطوط خلفية، لا وقت للصراعات الحزبية، نحن في حاجة إلى الوحدة الشعبية!»

وعاد إلى مقعده بالخطوة الهادئة نفسها التي سار بها إلى المنصة، التقت عيوننا لأول مرة عبر الصف الطويل الخالي، لم يكن يرتدي نظارة الشمس، عيناه رأيتهما في لحظة خاطفة، وميض من الضوء يشف من تحته ضوء أشد، نافذتان مفتوحتان إلى عمق البحر، داخل المحارة العميقة في جوف المحيط.

عدت إلى البيت سيرًا على القدمين، كان يومًا خريفيًّا من أيام نوفمبر عام ١٩٥١م، الشمس على وشك الغروب أو غربت منذ لحظات، وصلت كوبري عباس وألوان الغسق تنتشر في السماء، مهرجان من الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر والبرتقالي والذهبي والفضي كلها تتعانق وراء السحب، تتخذ أشكالًا لها رءوس وأذرع مثل آلهة الهند ومصر القديمة، تتغير أشكالها مع توهج السماء بلون الدماء ثم تذوب الحمرة في لون برتقالي فاتح، لا يلبث أن يتلاشى في اللون الرمادي، وهذا أيضًا يتلاشى بدوره، يسري الليل في الكون لا صوت، لا حركة، إلا نسمة باردة خفيفة تهز أوراق الشجر، مياه النيل تمشي فوق الأرض، إيقاع صوته يرن في أذني داخل الصمت، أصل إلى شارع الهرم وأمشي وأمشي بالخطوة نفسها غير السريعة، أمشي وأمشي كأنما إلى آخر الدنيا.

تأخرت في العودة إلى البيت، سخنت أمي لي العشاء، شوربة الدجاج والأرز المفلفل، التهمت الطعام بشهية الطفلة، أمي جلست أمامي ترمقني، تحوطني بعينيها كما كانت تفعل حين أعود من المدرسة، البريق في عينيها يشف ضوءًا قويًّا كالنافذة المفتوحة إلى أعماقي، صوتها يخترق المتاريس التي أقمتها حول القلب تحت القفص الصدري: «فيه حاجة يا نوال حصلت النهاردة في الكلية؟»

السؤال عادي تسأله أمي كل يوم، أدفن وجهي في الصحن أتفادى النظر إليها، سحابة من الشك تطفو على ملامحها، تعاود السؤال: «فيه حاجة حصلت يا نوال؟» أمضغ الكلمات مع الأكل وأغمغم: «أبدًا ما فيش حاجة حصلت.»

في غرفتي وحدي أغلق الباب، أفتح النافذة أحملق في السماء، هل لأمي قرون استشعار؟ أو هما عيناي مكشوفتان كالكتاب المفتوح؟ في المرآة أحملق في وجهي، عيناي لم يتغير فيهما شيء، المقلتان السوداوان يكسوهما البريق، أشد بريقًا من المعتاد، هذه الفتاة داخل المرآة أهي التي كنت أراها كل يوم؟ يأتيني الصوت الهامس في أعماقي كالصمت: ماذا حدث يا نوال؟ لا شيء! لا شيء! مجرد لقاء صامت عبر الصف الطويل من المقاعد الخالية.

منذ هذا اللقاء الصامت في نوفمبر ١٩٥١م حتى الطلاق في يناير ١٩٥٧م التقينا كثيرًا، تكلمنا وعشنا تجربة الحب والزواج والإنجاب، إلا أن هذا اللقاء الصامت لأقل من نصف الثانية هو الباقي في ذاكرتي، هي اللحظة غير القابلة للضياع، أتذكرها من بين ملايين اللحظات الأخرى، أهم حدث وقع في حياتنا على مدى السنوات الست من اللقاء حتى الفراق، كم من عقبات مرت بنا، وكم افترقنا ثم التقينا، ولا شيء يدفعنا إلى اللقاء إلا هذه اللحظة الواحدة الصامتة عبر الصف الأخير من المقاعد الخالية في المدرج الصغير.

أهي رسالة أو شفرة سحرية تنتمي إلى عالم غير عالمنا تحدث في اللازمان واللامكان واللاكلام، لحظة خارج الكون فوق قوانين الطبيعة ومنطق العقل، مع ذلك تبدو أكثر اللحظات اتساقًا مع الطبيعة والمنطق تفرض نفسها على العقل والذاكرة، على الزمان والمكان وحركة التاريخ، إلا فلماذا أذكرها هي بالذات دون السنوات الست، مع أنها لن تستغرق إلا نصف الثانية أو أقل؟

ما بين هذه اللحظة من نوفمبر ١٩٥١م حتى يناير ١٩٥٧م تغيرت حياتي كما لم يحدث في أي فترة من العمر، في هذه السنين أيضًا تغيرت الحياة في مصر وانقلب نظام الحكم.

كان أحمد حلمي أحد الفدائيين الذين شاركوا في حرب القنال ومهدوا الطريق لقلب نظام الحكم، الفدائيون كانوا وقود الثورة، جنودها المجهولون يقفون في الصفوف الأولى، صدورهم عارية يتلقون أول الضربات، يدفعون ثمن الثورة أو النصر لا يذكرهم أحد، الجنود المجهولون ليست لهم أسماء ولا وجوه إلا قطعة حجر تسقط مع الزمن.

في المدرج الصغير يدوي صوت الزعماء، يحثون الطلبة على الانضمام إلى كتائب الفدائيين، لكن أحدًا من هؤلاء الزعماء لم ينضم، لم يسافر واحد منهم إلى الحرب في القنال، لم يُصَب أحد منهم بخدش، تخرجوا جميعًا وصعدوا إلى مراكز الحكم، قد ألتقي بأحدهم صدفة في اجتماع أو مؤتمر، لا أحد منهم يذكر ما حدث قبل الثورة، لا يذكرون اسم واحد من الفدائيين.

قبل أن يسافر أحمد مع كتائب الفدائيين تقدم إلى أبي، كان أبي مع العمل الفدائي ضد الإنجليز بشرط ألا يكون أحد الفدائيين زوجًا لابنته: «يعني إيه تسيب الكلية وتروح تحارب؟! الزواج مسئولية يا ابني.» يرمقني أبي بعينيه السوداوين، يرى خيبة أملي فيه، ألم يملأ طفولتي ببطولته في ثورة ١٩؟ يتراجع أبي، يستعيد ثقتي فيه: «طيب يا ابني، أنا موافق على الخطوبة، لكن عقد القران والزواج لن يكون إلا بعد أن تتخرج وتصبح طبيبًا.»

التف الخاتم الذهبي حول إصبعي محفورًا عليه اسم أحمد حلمي، أرادت أمي أن يلتف شيء آخر حول عنقي أو معصمي يسمونها الشبكة، رنت كلمة «الشبكة» في أذني مفزعة، أيمكن أن أكون مشبوكة للعريس؟ كلمة «عريس» سيئة السمعة منذ طفولتي تدربت منذ العاشرة من عمري على تطفيش العرسان، لم أحلم مرة واحدة بفستان الزفاف، لكن الحب شيء آخر، يحملني فوق جناح الريح، أطير في السماء، أحلق مثل نجمة الزهرة، إلى جواري نجم آخر يحلق معي، مصنوع من الضوء، بلا جسد إلا العينين، ولا شيء ماديًّا يلامسني إلا خاتم رفيع من الذهب محفور عليه اسمه.

صوت أمي يدوي في الصالة: «العريس لازم يقدم الشبكة … الناس تقول علينا إيه يا نوال؟»

– «الناس مين يا ماما؟»

– «طنط هانم وطنط فهيمة وكل القرايب لازم حيقولوا فين الشبكة … أقول لهم إيه يا نوال؟»

– «قولي لهم ما فيش شبكة، قولي لهم نوال بنتي غير مؤمنة بالشبكة.»

يشحب وجه أمي كأنما أعلن عدم إيماني بربنا.

كانت قيمة العروس تتحدد بقيمة الشبكة، وقيمة العريس لا يحددها شيء إلا الشبكة، في عائلة أمي وأبي وكل العائلات، في الكلية أيضًا شهقت الزميلات: خطوبة من غير شبكة وكمان لواحد من بتوع حرب العصابات … إنت مجنونة يا نوال!

في غرفة الطالبات كنت أعطيهن دروسًا في الحب، يشتعل البريق في عيني، أحلق بخيالي في السماء السابعة: «يا جماعة إنتو مش فاهمين الحب، لحظة الحب أهم من مليون شبكة، أهم من مال قارون.» تكركر بطة بضحكتها المرحة مثل كركرة الماء داخل قلة من الفخار عنقها ضيق: «أنا باموت في الحب بشرط إنه يكون أستاذ دكتور وعنده خمسة عين مش فدائي ما حيلتوش حاجة!» تعود صفية إلى قصة حبها القديمة مع الدكتور مرقس، كان طبيبًا ناجحًا عنده ثلاثة عيون فقط (عيادة وعربية وعزبة) إلا أنه قبطي وهي مسلمة، وهو مستعد للتخلي عن المسيح من أجل الحب، لكن أمه ترفض، وهو لا يمكن أن يتخلى عن أمه من أجل صفية.

سامية أيضًا أصابتها عدوى الحب، كان لها زميل في كلية الصيدلة اسمه رفاعة، شيوعي مثلها «طبعًا لازم يكون شيوعي يا أخواتي لا يمكن إني أحب راجل برجوازي!» تكركر بطة بضحكتها الممطوطة: «أنا باموت في الغجل (الرجل) البغجوزاي (البرجوازي).» وتنفجر البنات بالضحك إلا سامية تزم شفتيها الرفيعتين بامتعاض: «الرجل البرجوازي لا يمكن يحب المرأة حب حقيقي، الرجل البرجوازي (وتنفجر) لا يعرف حاجة غير مصلحته الخاصة زي الاستعمار بالضبط!» يتصاعد الغضب إلى وجه صفية بلون الدم الأحمر: «يعني الراجل الشيوعي بس هو اللي بيعرف الحب يا سامية؟! قطيعة تقطع الشيوعية واللي جابوها!» وينشب الشجار بين سامية وصفية لا ينتهي إلا بصوت بطة الحانق: «يلعن دين البغجوازية على دين الشيوعية ربنا ياخد الاتنين.»

مصر في نهاية عام ١٩٥١م تنوء تحت نظام ملكي فاسد، وأحزاب تتنازع السلطة، واستعمار بريطاني حوَّل مصر إلى مزرعة قطن أهلها عبيد، حزب الأغلبية (الوفد) يتأرجح بين مطالب الشعب ومطالب الملك والإنجليز، أحزاب الأقلية تتآمر للقفز إلى الحكم، تارة مع الملك، تارة مع الإنجليز، مصر حبلى بالثورة، الشباب طلاب الجامعات هم وقودها ومخاضها.

فوق الدكة الخشبية بجوار ملعب التنس في الكلية كنا نجلس أنا وأحمد، ينتظرني حتى أنتهي من مباراة التنس، أو أنتظره حتى يراجع العدد الجديد من مجلة شعلة التحرير، حديثنا يتجاوز المجال المألوف بين الجنسين، يخاطبني كما لو كنت زميلًا له.

تمر الساعة وراء الساعة، نرشف الشاي بالنعناع أو الكازوزة المثلجة، محور الأرض يميل بسرعة نحو المغرب ومعه قرص الشمس، الليل يهبط فجأة وكان أذان الظهر ينطلق من الجامع منذ لحظة.

بدايات الشتاء كانت باردة نوعًا، تغلف القاهرة شبورة بلون الضباب، رذاذ المطر خفيف، أنا وأحمد جالسان فوق الدكة الخشبية، وهو متكئ بكوعه على المسند، يدخن سيجارة «البلمونت»، عيناه من وراء النظارة شاردتان في الأفق، صوت المؤذن من بعيد ينادي، حي على الصلاة … حي على الفلاح، يرتفع الصوت من المئذنة إلى السماء، يتعلق كذرَّات البخار في جسد الشبورة، يرتل المؤذن آيات الله، الدعاء لله الواحد الأحد لا شريك له، يشق الدعاء عقلي الشارد، صوته يعلو من نغمة إلى نغمة حتى تبدو السماء ملبدة بضباب الشك.

أستمع إليه يتحدث عن الكفاح المسلح في القنال، سوف يسافر إلى التل الكبير مع الفدائيين، يتكلم بصوته الهادئ، ينفخ الدخان مع أنفاسه البطيئة كالأسد النائم، يده كبيرة مثل يد أبي، يمدها فوق الدكة الخشبية ويمسك يدي، أغمض يدي كالنائمة في حلم، أراه حاملًا السلاح يضرب الإنجليز ويحرر الوطن، النساء في القرية يطلقن الزغاريد، الرجال يحملونه فوق الأعناق ثم أسمع صوت الانفجار، طلقات رصاص، يسقط إلى الأرض ينزف، شريط الدم أراه يلمع فوق الأسفلت، أهب من النوم فأراه جالسًا إلى جواري، سلسلة المفاتيح في يده يمدها حتى جذع الشجرة يحفر بسن المفتاح رسمًا له شكل القلب، ينقش اسمي واسمه داخل القلب، يحفره في جذع شجرة الكافور كأنما يحفره في التاريخ.

عاشت الشجرة ثلاثة وعشرين عامًا بالحروف المحفورة عليها، كنت أمر بها أحيانًا بعد الزواج وبعد الطلاق، كانت الحروف باقية تتعانق داخل الشجرة رغم الانفصال، ثم جاء شباب آخرون حفروا أسماءهم وطمست السنون أسماءنا، الشجرة كلها راحت في العدم، في عام ١٩٧٤م جاء بلدوزر واقتلعها، أقاموا مكانها مبنًى من الأسمنت.

قبل أن يسافر أحمد مع الفدائيين فكرت: هل أسافر معه؟ في طفولتي كنت أحمل السلاح في الحلم وأحرر الوطن، لكن الكفاح المسلح كان للرجال فحسب، لم يكن للمرأة أن تنال شرف تحرير الوطن، إن تطوعت في جبهة القتال لا تعمل إلا ممرضة أو مرفهة عن المقاتلين إن ماتت فداء الوطن لا تحمل لقب فدائية، مجدها الوحيد في التمريض أو في الترفيه، بدت المهنتان مهينتين لفتاة تريد أن تحمل السلاح لا جردل البول أو بدلة الرقص.

كنت أحب الوطن، يمكن أن أضحي بحياتي من أجل الوطن، لكن كرامتي أغلى من حياتي، لا أضحي بها من أجل شيء وإن كان الوطن، هل أهبط بنفسي من أجل الوطن لأرقص للمقاتلين أو أحمل بولهم وبرازهم؟

إلا أن جبهة القتال كانت تجذبني، كلمات مثل: التضحية، الوطن، الفداء، الخطر، الموت، ترن هذه الكلمات في أذني ساحرة، اللذة العارمة في كشف المجهول، الزهو بنفسي وارتداء زي البطولة، الثقة بالنفس إلى حد عدم تصور الموت، كنت أتصور موت الآخرين لكن موتي أنا مستحيل، أهي حماقة طبيعية في تلك المرحلة؟ لكني حتى اليوم وبعد أن تجاوزت الستين لا أتصور نفسي ميتة، كم حاولت وتخيلت دون جدوى، كم تمددت فوق الفراش لأموت دون أن أموت.

رياح الشتاء جاءت من ناحية الشمال تحمل البرد والصقيع، جو من الكآبة يخيم على مدينة القاهرة، كلية الطب صامتة كأنما مات كل من فيها، منذ سافر أحمد إلى القتال أصبح الكون مهجورًا، شبورة سوداء تحجب الشمس، والهواء ثقيل تشبع بالحزن والهزيمة، كنت أصحو من النوم على صوتي يهتف في الحلم: يسقط الإنجليز! يسقط الدكتور دري! كان الدكتور «دري» هو الأستاذ الإنجليزي الوحيد الباقي في كلية الطب، رحل الآخرون مع تصاعد الحركة الوطنية، يشبه النمر المتوثب داخل معطفه الأبيض القصير حتى الركبتين، يحمل قلمًا أسود ضخمًا يطل من جيبه كالمسدس، يصوبه نحوي حين يكلمني، وفي الحلم يطلق عليَّ الرصاص، أهب من النوم صارخة: يسقط الإنجليز، يسقط الدكتور دري! منذ تخرجت في ديسمبر ١٩٥٤م لم أره، مضت أربعون سنة منذ رأيته آخر مرة، لكن وجهه باق في ذاكرتي، بشرته بيضاء حمراء مشربة بدمائنا، مجدولة بعناقيد الاستعمار، قصير نحيف الجسم، فكَّاه عريضان، عيناه تخرقان زجاج نظارته الطبية، يتمشى فوق المنصة منتفخًا بالكبرياء، ذراعاه معقودتان خلف ظهره، يتلو المحاضرات بصوت حاد مثل طلقات المسدس، لا يكف عن ترديد كلمة: هواي؟ بعد كل جملة يرشقنا بالسؤال: هواي؟

ذلك اليوم استدار الدكتور دري ليكتب كلمة «هواي» على السبورة Why أصبح ظهره ناحية الطلبة، رءوسهم منكفئة فوق الكشاكيل يكتبون، الصمت مطبق في المدرج الكبير والأنفاس مكتومة، فجأة انطلق صوت من وسط الطلبة يهتف بلغة إنجليزية ركيكة: Why you English here in country? «لماذا أنتم في بلادنا يا إنجليز؟» ثم اختفى الصوت في الصمت كفص الملح يذوب في مياه المحيط.
تجمد الدكتور «دري» في مكانه قبل أن يستدير ثم استدار ليواجه الطلبة، عيناه زرقاوان تحملقان، مئات الوجوه مصفوفة على شكل أنصاف دوائر تصعد حتى السقف، عيناه ككشافين يدوران فوق الوجوه، كما كان يدور فوق وجوهنا كشاف ضابطة الداخلية ونحن نائمات في العنبر، ثم انطلق صوته: if you are a man stand up «إذا كنت رجلًا انهض واقفًا!»
لا أحد يقف، لا صوت يُسمع، مات المدرج بكل من فيه حتى الدكتور دري، لم أسمع إلا صلصلة جرس الترام في شارع قصر العيني، دوَّت في الصمت كصفارة وابور الطحين في منوف، أو صرخات متقطعة لطفلة تشهق، ثم بدأت الحياة تعود إلى المدرج، أول من تحرك كان الدكتور دري، أخرج من جيب معطفه الأبيض منديلًا حريرًا كبيرًا مسح جبهته وأنفه الأحمر، مسح يديه من الطباشير والعرق، طوى المنديل بحركة مسرحية بطيئة، أربع طيات، طوى المنديل … أعاده إلى جيبه، انفرجت شفتاه عن ابتسامة ساخرة، مد يده وأغلق كتابه المفتوح أمامه، وضعه تحت إبطه، سار نحو الباب الأمامي بخطوة بطيئة، فتحه بهدوء ثم استدار، قبل أن يخرج حملق في الوجوه ثم صاح: We are here because you are cowards «نحن هنا لأنكم جبناء» كلمة «كواردز» بالإنجليزي يتضاعف مذاقها المُرُّ حين تُنقل إلى اللغة العربية.

انطلقت الكلمة من فمه مثل القذيفة بيضاء بلون البصاق، رأيتها تطير من فمه بحجم حبة الفول، حلقت في الجو وانقسمت إلى مئات الذرات الصغيرة، بعدد الطلبة في المدرج، فوق وجه كل واحد منهم التصقت البصقة، لم يرفع أحدهم يده ليعترض أو يمسحها عن وجهه، في الليل وأنا نائمة أنتفض بالغضب، أكثر ما يغضبني أن البصقة فوق وجهي أيضًا، يدي لم ترتفع لتمسحها، ملتصقة بوجهي لا تزول وإن اغتسلت بالماء والصابون.

•••

جاءني خبر استشهاد أحمد المنيسي، صفرت أذناي وأنا أسمع الخبر، الصغير الحاد الممطوط كصفارة وابور الطحين في منوف، سمعت الجزء الأول من الاسم «أحمد» ثم كفَّت أذناي عن السماع.

في فناء كلية الطب أقاموا له الصوان فوق الأعمدة الخشبية يشبه خيمة السيرك في منوف، القماش السميك الأحمر يرفعونه في الأعياد والمآتم، يرصون الكراسي الصفراء من الخيزران، يمتلئ الصوان بالرجال، يشربون القهوة السوداء في فناجين صغيرة بيضاء، أو الشربات الأحمر اللون في أكواب طويلة من الزجاج، تهتز رءوسهم مع الترتيل الممطوط للقرآن، أو طرقعات الصاجات في الرقص والغناء.

كان هو حفل تأبين أحمد المنيسي، امتلأ الصوان بطلبة الطب والكليات الأخرى، جلس الأساتذة في الصفوف الأولى يتوسطهم العميد، زعماء الطلبة يروحون ويجيئون داخل بدل رصاصية اللون وربطة العنق سوداء، فؤاد محيي الدين يغطي عينيه بنظارة سوداء، يزم شفتيه علامة الحزن بشدة أكثر من اللازم، إبراهيم الشربيني من خلفه يمشي أقل قامة، أقل أناقة وأكثر حزنًا، يوسف إدريس من حول عنقه ربطة سوداء غير معقودة بإحكام، يصيح بصوت غاضب في عمران عبد الموجود زعيم الإخوان: «يعني المنيسي شهيدكم إنتم بس يا إخوان يا مسلمين ولا شهيد مصر كلها؟!»

– «المنيسي شهيدنا كلنا يا أخ يوسف لكن البرنامج مليان وفيه حفلات تأبين كثيرة جاية في السكة تقدر تتكلم فيها.»

تحول المنيسي إلى كلمة من أربعة حروف «شهيد»، ترن في أذني ثم تتوقف في حلقي، يداي باردتان كالثلج، ترتعدان فوق حجري وأنا جالسة في الصوان، أمسك يدي اليسرى باليمنى، أدفئ الواحدة في الأخرى، هواء بارد يتسرب من بين الفتحات في القماش.

يهتز الصوان مع حركة الهواء، زعيم الإخوان فوق المنصة يلقي خطبة طويلة، لم أسمع منها شيئًا، صورة المنيسي تعود، واقف إلى جواري في معمل البيوكمستري، أصابعه الطويلة القوية حول أنبوبة الاختبار، تعلوها رعشة خفيفة، صوته يهمس مترددًا: «أستودعك الله.» عيناه رموشها غزيرة مملوءتان بالبريق، طويل القامة، أطول قامة من أحمد حلمي وأكثر وسامة؛ فلماذا لم يخفق له القلب كما خفق للآخر؟!

كانت لقلبي مقاييس خاصة، لا يعترف بالقيم الموروثة ولا الرجولة المألوفة، ولا الوسامة ولا شيء، إلا ذلك المجهول المتخفي داخل عناصر الدم أو الكيمياء، داخل اللاوعي أو الوعي الطفولي، حلم الطفلة في السابعة من العمر، فتى الأحلام تنسجه الأيام من حكايات الأم والأب والجدة، ذلك البطل يحمل السلاح يحرر الوطن يشبه أبي في طفولتي، له ملامح سعد زغلول باشا إلا أن البريق في عينيه أشد، أنفه أكثر شموخًا، إرادته لا تلين والنظرة في عينيه لا تنكسر.

أحمد المنيسي كانت له نظرة رغم البريق منكسرة، لا ترتفع عيناه إلى عيني، مثل زعيم الإخوان المسلمين «عمران عبد الموجود» وكل الطلبة في هذه الجماعة، لم تكن عيونهم تنظر مباشرة في العيون الأخرى، فهي دائمًا مطرقة إلى السماء، لا ترى إلا الله أو الفراغ.

الصوان من حولي يغرق في الضباب، كل شيء يبدو غير حقيقي حتى الموت، الوجوه تتراءى لي كما في النوم، الأصوات تختلط بعضها ببعض، الخطب المدوية في الميكروفون مثل الانفجارات في معسكر التدريب بجوار الكلية، صراخ النسوة وراء الميت الخارج من قصر العيني مثل الزغاريد في حفلات الزفاف، وأقف على صوت ينادي اسمي:

«الأخت نوال السعداوي» كلمة الأخت ترن في أذني غريبة، لم أكن واحدة من الأخوات المسلمات، لم أنضم في حياتي إلى حزب من الأحزاب، تكرر النداء «الزميلة نوال» رن في أذني «الشهيدة نوال»، نهضت من مقعدي كما ينهضون من الموت، سرت فوق ممر طويل مفروش بالسجاد الأحمر، الحمرة قانية بلون الدم فوق الأسفلت، أمشي بحذر كأنما أمشي فوق الدم، أحسه تحت قدمي ينبض وينزلق، أمسك بعمود السلم الصاعد إلى المنصة، بضع درجات خشبية تهتز تحت جسدي، أقف وراء الميكروفون، أثبت قدمي في الأرض، أثبت عيني في آلاف العيون الشاخصة نحوي، يدوي الصوت الجهوري: «والآن أيها الإخوة كلمة الزميلة نوال السعداوي.»

أحملق في الوجوه لا أعرف ماذا أقول، لم أحضر في حياتي حفل تأبين، كلمة «حفل» تبدو لي مناقضة للموت، والمنيسي لم يمت في خيالي، حروفه لم يجف حبرها داخل كشكولي، صورته محفورة لا تختفي عن عيني، ماذا أقول لهؤلاء الرجال الجالسين يرمقونني بعيون محدبة ومقعرة، أجل! مات المنيسي أيها السادة، استُشهد في سبيل الله والوطن، وفي سبيل ماذا نعيش نحن أيها السادة؟! لنلقي الخطب من فوق المنابر؟! لنقيم حفلات التأبين؟! لكن التأبين يعني الموت والمنيسي لم يمت، إنه حاضر أمامي في هذه اللحظة، أكثر حضورًا من كل الحاضرين في الصوان، الذين يمجدون الشهداء دون أن يموتوا مثلهم، أليس الصمت أبلغ من الكلام وما جدوى أن نكون هنا؟! لماذا لا نكون هناك في جبهة القتال لتشرب الأرض دماءنا كما شربت دماء الشهداء؟!

كان أحمد حلمي هناك في الجبهة، والآخرون من الفدائيين، انقطعت أخبارهم عنا، لم نعرف هل ماتوا؟ هل أخذهم الإنجليز أسرى؟ هل قبضت عليهم الحكومة وأخفتهم في سراديب السجون؟! الأجانب أو الحكومة المصرية كلاهما تاريخ أسود، يتعاونان في الباطن، وفي الظاهر يتبادلان العداء، مصالحهما تتلاقى أو تتعارض إلا أن عداءهما للشعب المصري واحد، أيمكن أن يذهب دم المنيسي وغيره من الشهداء هدرًا؟!

أنهيت كلمتي وهبطت إلى مقعدي، صعد إلى المنصة بعدي واحد من زعماء الجامعة في كلية الحقوق، اسمه «حسن دوح»، كان يحمل لقب خطيب الجامعة، وقف وراء الميكروفون مطرقًا صامتًا، آلاف العيون مرفوعة نحوه، الأنفاس مكتومة، الصمت يدوي في الصوان كالصفير، انتظرنا ماذا يقول، كان مشهورًا بالخطب السياسية النارية، لم يقل حسن دوح شيئًا، عبارة واحدة قالها ثم ترك المنصة: «أيها الإخوان ليس عندي ما أقول بعد سماعي كلمة الزميلة نوال.»

في نهاية الحفل تجمع مِن حولي بعض الزملاء: «كلمتك كانت رائعة! الكلمة اللي خرجت من القلب ودخلت القلوب، أقصر كلمة وأحسن كلمة، خطيب الجامعة ما عرفش يقول حاجة بعدها!»

عيونهم ترمقني بإعجاب، تحملني عيونهم فوق الأعناق، كأنما أصبحت سعد زغلول باشا، والشهيد المنيسي هل نسوه؟! أينتهي الموتى بانتهاء حفلات التأبين؟ سرت من الصوان إلى محطة الأتوبيس أحمل حقيبة كتبي.

هذه الحقيبة حملها إليَّ المنيسي منذ أسابيع، رغم الحريق في المعمل صعد إليه وعاد يحملها إلي، فوق جلدها أرى بصمات أصابعه، غائرة في الجلد مثل الجرح، سوادها داكن بلون الموت، بلون تأنيب الضمير، لماذا لم يخفق له قلبي؟ هل ذهب إلى الحرب يأسًا من الحب؟ الكون من حولي يبدو كالحلم، الناس تمشي في الشارع كالخيالات، الأتوبيس يأتي ويذهب إلى العدم، الطلبة يهرولون إلى الكلية كالأشباح، ينظرون في ساعاتهم بعيون جاحظة، يقبضون على حقائبهم تحت إبطهم، يقبضون على أرواحهم داخل أجسادهم، يقبضون على عقولهم داخل جماجمهم، يتدافعون من الأبواب، يدوسون على أقدام بعضهم بعضًا، يتنافسون على جثث المشرحة، على المقاعد الأمامية في المدرج، الدرجات العليا في الامتحانات، يسرعون من الكلية إلى البيت ومن البيت إلى الكلية، يتخرجون أطباء، يفتحون العيادات، يشترون السيارات، العمارات، يتزوجون وينجبون ويموتون كما مات المنيسي، إلا أن المنيسي مثل الشهداء لا يموت، يعيش هناك في الدار الآخرة مع الأنبياء.

كنت واقفة عند محطة الأتوبيس أحمل حقيبتي، جاء الأتوبيس مزدحمًا لا محل لقدم، وقفت أكثر من ساعة أنتظر، العربات كلها محشورة بالبشر، أهو يوم القيامة حين يقوم الموتى أفواجًا؟ في طفولتي لم أتصور الموتى ينهضون من القبر، أيمكن أن يكون هناك حياة أخرى غير هذه الدنيا؟! مات المنيسي وهو في العشرين من العمر، مر سريعًا عبر العالم مثل طيف أو خيال، أتكون الحياة حلمًا قصيرًا نصحو منه بعد الموت؟ بدت الحياة الدنيا خيالًا والحياة الأخرى هي الحقيقة، كان عقلي يتلاشى مع المنيسي مرتين، مرة في الدنيا ومرة أخرى بعد الموت.

كان يومًا طويلًا حزينًا، خرجت في الصباح دون فطور، أقبل الليل وأنا واقفة عند المحطة، أسند ظهري إلى العمود المرشوق في الأرض، أفقت على صوت ينادي اسمي: زميلة نوال. تعرفت على وجهه، عمران عبد الموجود زعيم الإخوان واقف أمامي بلحمه ودمه، بجسمه المربع داخل البدلة الضيقة، الصديري تتدلى منه سلسلة الساعة الفضية، يقف على الرصيف مائلًا بجذعه ناحية اليمين، واضعًا يده اليسرى في جنبه، يده اليمنى ممدودة نحوي تقبض على ورقة صغيرة مطوية، شفتاه الممتلئتان منفرجتان، يَبْتَسِمُ لِقُوَّةٍ ما في السماء، وقف صامتًا في هذا الوضع بضع ثوانٍ دون أن ينظر إلي، عدسة سحرية في الفضاء تلتقط له صورة، ثم ناولني الورقة وهو يقول بصوت مرتبك قليلًا: «الرسالة دي لك يا زميلة نوال.»

صعدت إلى الأتوبيس وسط الزحام، شققت طريقي بين الأجساد المنهوكة في العمل طول اليوم، العرق يفوح من الملابس القديمة المبقعة بالزيت، يقفون الجسد ملاصق للجسد، معلقون مثل شرائح السردين في العمود الحديدي في السقف، احتل جسدي بين أجسادهم مكانه، رغم الزحام لا أحد منهم يلتصق بي، وإن مال الأتوبيس فجأة يحرصون على عدم ملامستي، عيونهم مطرقة إلى الأرض، وجوههم شاحبة ممصوصة مثل أقاربي الفلاحين في كفر طحلة، إلا أنهم يحترمون المرأة أكثر من الأفندية أو البهوات ذوي البدل الإفرنجية، أهو احترام حقيقي أم مجرد خوف دفين نابع من الفقر؟!

هبطت في المحطة أول شارع الهرم، اجتزت الكوبري الصغير فوق ترعة الزمر، شارع الترعة مظلم بلا مصابيح، حي العمرانية يرقد في أول الليل كأنما منتصف الليل، لا أسمع إلا وقع قدمي على الأرض، سؤال يدور في عقلي، هل أفتح الحقيبة وأقرأ الرسالة المطوية؟ في أعماقي شيء يزهو، الأنوثة الكامنة منذ الطفولة كالعملاق النائم، كالمارد الراقد في سبات عميق، يصحو فجأة ويطل برأسه يفحص وجوه الرجال، يبحث عن وجه معين مصنوع من مادة الخيال، لا يشبه أحدًا من الطلبة وخاصة ذلك الزعيم الإخواني، يده صغيرة، قبضة مملوءة باللحم، جسمه سمين بلا عظام مكبوس داخل البدلة، عيناه تنظران في الفراغ مملوءتين بالفراغ، ماذا كتب لي في الرسالة؟

كان أبي جالسًا في الصالة وأمي تحضر لي العشاء، حكيت له عن حفل التأبين، سمعت صوت أمي من المطبخ تقول: مسكين المنيسي ضيع حياته على الفاضي، صمت أبي طويلًا ثم قال: أبدًا يا زينب مش على الفاضي، الإنجليز مش خايفين إلا من الفدائيين والنحاس باشا شُرَّابة خُرْج!

أردت أن أسأل أبي: هل يبقى المنيسي خالدًا في التاريخ؟ كلمة الخلود في عقلي مقدسة مثل كلمة الله، الوطن، التضحية، الفداء، التاريخ. الكلمات المقدسة أحفظها عن ظهر قلب، تروح وتجيء في رأسي وأنا جالسة إلى المائدة.

ثم وضعت أمي أمامي صحن مرق الدجاج ساخنًا يتصاعد منه البخار، والنكهة تسربت من البخار إلى الصدر والرئتين، والقلب والمعدة ثم صعدت إلى خلايا المخ، حيث كانت الكلمات المقدسة لا تزال تروح وتجيء محدثة رنينها البراق، الذي بدأ يجف ويشحب إلى جوار نكهة مرق الدجاج.

بعد تناول الطعام ثقلت جفوني بالنوم، ثم تذكرت الرسالة المطوية في اللحظة الساقطة بين اليقظة والغيبوبة، في هذه اللحظة تصحو الذاكرة لا أعرف كيف، عادت إليَّ أحداث اليوم كشريط سينما يعود إلى الوراء، رأيت عمران عبد الموجود زعيم الإخوان واقفًا أمامي، يده اليمنى ممدودة نحوي تقبض على ورقة صغيرة مطوية، بأصابع نصف نائمة وأنا في السرير، نصف صفحة من ورق الكشاكيل المسطر: «قبل أن أسمعك في حفل تأبين الشهيد المنيسي كنت أؤمن بالله والوطن ونفسي، لكن الآن أصبحت أومن بك قبل نفسي.»

بدت الرسالة بريئة لوجه الله والوطن، أعطيتها لأبي ولأمي، كنت أزهو بها، ها هو مخلوق يؤمن بي بعد الله والوطن مباشرة، كأنما صعدت إلى درجة واحدة عالية، في مستوى الله والوطن أو بعدهما بدرجة واحدة أو نصف درجة، مع ذلك لم يخفق قلبي له خفقة واحدة، كنت ألتقي به أحيانًا في فناء الكلية، يصافحني بتلك اليد الصغيرة القبضة الطرية، يكلمني وعيناه شاخصتان إلى الفراغ، تَخرَّج قبلي بعامين أو ثلاثة، أصبح طبيبًا لأمراض النساء، بعد انفصالي عن أحمد تقدم لي، لم أتصوره زوجًا، لم أتصور يده الصغيرة القبضة الطرية تلامسني، وإن تصورتها تسري في جسدي قشعريرة، كأنما هي يد حيوان مائي ذو ذنب قرموط من السمك، ثم مضت عشرون سنة قبل أن أراه على شاشة التليفزيون، أصبح في عهد السادات داعية إسلاميًّا كبيرًا، سافر إلى أرض الحجاز أو السعودية وعاد محملًا بالذهب والفضة، اشترى قصرًا كبيرًا في مصر الجديدة، وجامعًا في مصر القديمة، ثم مضت عشرون سنة أخرى قبل أن ألتقي به في زيورخ في المؤتمر الدولي للأديان، قدم بحثًا طويلًا عن الإسلام والديمقراطية، بعد أن ألقيت كلمتي جاء إليَّ وصافحني، يده لم تتغير منذ أربعين عامًا، قبضة صغيرة طرية ندية بالعرق، وجهه تغير كثيرًا، أصبح شاحبًا متهدل العضلات، شعر رأسه سقط، نما الشعر فوق وجهه وذقنه، طالت لحيته حتى لامست صدره، يقف على المنصة بالطريقة نفسها منذ كان طالبًا بالكلية، يميل بجذعه ناحية اليمين، يده اليسرى في جيبه، يده اليمنى تتحرك في الهواء، يتوقف صامتًا عن الكلام لحظة أو بضع لحظات، شاخصًا في الفراغ كأنما عدسة سحرية في السماء تلتقط له صورة.

عاد أحمد من القنال إلى الكلية، عاد شخصًا آخر يخفي عينيه وراء نظارة سوداء داكنة، وجهه أصبح طويلًا شاحبًا، متهدل الملامح منكسرًا كالأسد الجريح، كانت هزيمة مفجعة له ولكل الفدائيين، الشتاء كان باردًا مليئًا بالغيوم، ريح باردة قادمة من الشمال تضرب رءوس الأشجار، النسوة بالجلاليب السود يولولن وراء الميت، ملاعب الكلية مهجورة والبوفيه مغلق، عم محمود مريض في بيته، على الدكة الخشبية في ملعب التنس نجلس، الحزن يغلف الكون، سحابة سوداء تحجب الشمس، يصمت أحمد طويلًا شاردًا، يدوي الصمت في أذني مثل صفارة وابور الطحين في منوف، جرس الترام يصلصل في شارع قصر العيني مثل صراخ النسوة، صوت الأذان من فوق مئذنة الجامع يتصاعد داخل السحب، قطرات المطر تبلل الدكة الخشبية، أتحسسها بيدي أمسحها بمنديلي الأبيض، حول إصبعي يلتف خاتم الخطوبة من الذهب، محفورًا عليه اسم أحمد حلمي، يشع ضوءًا رفيعًا نحيلًا في كون مظلم، ناعم حول إصبعي كالخيط الحريري، له كثافة مادية في عالم من الخيال، رفيع كالشعرة له متانة الذهب يربطنا معًا حتى الموت.

الهزيمة كالموت، لم يكن ينسى الهزيمة، الدم المراق على أرض القنال، صوته يسري في أذني رغم مرور أكثر من أربعين عامًا: «تصوري يا نوال إحنا الفدائيين اللي كنا بنحارب الإنجليز في القنال أصبحنا مطاردين من البوليس مثل المجرمين!»

هذه العبارة محفورة في ذاكرتي، سمعتها لأول مرة في حياتي من أحمد حلمي في أول الشتاء بعد حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م، وسمعتها للمرة الثانية في نهاية عام ١٩٥٦م بعد الاعتداء الثلاثي على مصر وتطوع الأطباء في جبهة القتال من بورسعيد إلى الإسماعيلية والسويس، وسمعتها للمرة الثالثة بعد حرب ٦ أكتوبر ١٩٧٣م، في كل أزمة يمر بها الوطن ويهب الشباب للتطوع والفداء تحدث المأساة؛ يتحول الفدائيون من أبطال وطنيين إلى مطاردين من البوليس، يدخلون السجون أو يهربون أو يهاجرون، إلا من يستسلم منهم ويدخل حظيرة الحكومة أو السلطة الحاكمة كما تدخل الزوجة إلى بيت الطاعة.

•••

في هذا المنفى البعيد وراء البحر والمحيط، وعلى بُعد أكثر من أربعين عامًا، يعود إليَّ الصوت يحكي قصة الشاب الفدائي في نهاية ١٩٥١م وبداية ١٩٥٢م قبل حريق القاهرة، صوت أحمد المنيسي وغيره من الشهداء، الجنود المجهولون في التاريخ، وهم أجدر بأن يعرفهم الناس، أن يحفظوا أسماءهم ويعرفوا قصصهم أكثر من قصص الملوك والحكام أو رؤساء الدول والحكومات، الذين يتربعون على العرش في الدنيا والتاريخ، في القصور فوق الأرض وفي جنة الخلد، الفدائيون يموتون وتضيع أسماؤهم وحكاياتهم، ألهذا السبب كرهت حصص التاريخ في المدرسة؟! فضلت تشريح الصراصير والضفادع على قراءة حياة الملوك وغزواتهم.

من هذه المسافة البعيدة عن الوطن، يعود إليَّ صوته رغم انقضاء أربعة وأربعين عامًا، يحكي الحكاية كما حدثت على أرض القنال، حيث ترك كلية الطب ولقب «دكتور» ليحمل لقب «فدائي»:

بعد إلغاء المعاهدة في أكتوبر ١٩٥١م أصبح الكفاح المسلح واجبًا وطنيًّا، قرأت في مجلة روز اليوسف مقالات لإحسان عبد القدوس يدعو الشباب للتطوع للعمل الفدائي لطرد الإنجليز من قناة السويس، ذهبت إلى إحسان عبد القدوس في مكتبه بالمجلة ومعي مجموعة من اثني عشر طالبًا جامعيًّا يريدون التطوع، أرسلنا إحسان عبد القدوس لعزيز المصري، كانت له ميول ألمانية من أيام الحرب العالمية ويكره الإنجليز، كان عزيز المصري حذرًا لم يمنحنا الثقة في أول لقاء، كانت الحكومة المصرية ترسل إليه جواسيس الحكومة أو الملك، قابلنا عزيز المصري عدة مرات حتى تأكد أننا لا نعرف شيئًا عن البوليس السياسي وليس لنا صلة بجواسيس الحكومة أو الملك، أرسلنا عزيز المصري إلى وجيه أباظة، تدربنا على السلاح في قشلاقات العباسية، وصل عددنا حوالي ثلاثين فدائيًّا، قابلنا أشخاصًا آخرين مع وجيه أباظة، منهم أنور السادات ومجدي حسنين، تدربنا على الدبابات، إحكام التصويب، الضرب بالدشم، أصبحنا كتيبة فدائية مستعدة للسفر للقنال، المسئول العسكري عنا كان اسمه بهاء، المسئول الإداري كان اسمه سعد زغلول فؤاد، من أفراد كتيبتنا عزت المصري من الفيوم، عباس الأعسر من الشرقية، وسمير رضا كان عمره ثمانية عشر عامًا، وزميل آخر اسمه رزق، وآخرون نسيت أسماءهم، استلم كلٌّ منا سلاحه، حملت مدفعًا رشاشًا من نوع «تومي جان» يضرب رصاص ٩ ميللي، زملائي الآخرون حملوا رشاشات «ستين» وقنابل ضد الدبابات «بريجا» وقنابل يدوية وبنادق، أول عملية خرجت فيها كانت في منطقة بالقرب من التل الكبير اسمها المحجر، منطقة غنية بالفحم تحوطها حراسة إنجليزية مشددة، كانت الخطة تهدف لتفجير معسكر الإنجليز في المحجر والعودة بأسرى أحياء منهم، تلقينا أوامر كالآتي: الزحف على بطوننا مسافة نصف كيلو متر بين التل الكبير والمحجر، فوهة السلاح تكون إلى أعلى بعيدة عن التراب، نتخذ الكمين في بطن الترعة عند الكوبري الصغير، ننتظر حتى يبدأ بهاء رئيس الفرقة الإشارة، وهي إلقاء قنبلة على فرقة الحراسة الإنجليزية، بعدها نبدأ إطلاق النار وتنفيذ الخطة، إلا أن كل هذا لم يحدث، فوجئنا بسماع صوت فرقعة غير متوقعة، وبدأ كشاف ضخم يدور مثل قرص الشمس وفوقه شيء أشبه بالبرج، تحول الليل فجأة إلى نهار من شدة الضوء، يدور مع الكشاف رشاش يضرب علينا رصاصًا قبل أن نطلق نحن النار، كان شيئًا مفاجئًا لنا، لس عندنا علم بوجود هذا الكشاف، وليس عندنا أوامر كيف نتصرف معه، لكن الفدائي المتعلم في الجامعة غير الجندي العادي؛ ولهذا تصرفنا على مسئوليتنا، كان إلى جواري في الكمين سمير رضا، ضربنا النار فورًا في عين الكشاف ذاته، لم يكن أمامنا شيء آخر نفعله لإنقاذ حياتنا، شعار الفدائي (اضرب واجرِ)، لا تسمح لهم أن يقتلوك أو يأخذوك أسيرًا … اكتفينا بتحطيم الكشاف وانسحبنا دون تحقيق الهدف الأول من العملية، رجعنا زاحفين على بطوننا نشعر بفشل العملية، بعد يومين قمنا بعملية ناجحة عوضنا بها الفشل، كانت العملية على طريق المعاهدة الذي يصل إلى الإسماعيلية، عرفنا أن سيارة محملة بالذخيرة في طريقها للقوات الإنجليزية في الإسماعيلية، رابطنا على الضفة الأخرى من ترعة الإسماعيلية، كنا خمسة من الفدائيين، لمحنا سيارة الذخيرة قادمة على الطريق، أمامها عربة عسكرية واثنان من الموتوسيكلات، انتظرنا حتى أصبحت أمامنا فضربنا النار، انفجرت السيارة وانسحبنا دون خسائر في الأرواح أو السلاح، تشجعنا وفجرنا سيارة أخرى كانت تقل القائد الإنجليزي لمنطقة الشرق الأوسط، ضربنا السيارة ونجحت العملية، لكن قائدها بهاء أصيب في قدمه برصاصة ورجع بدون سلاحه، لم نفرح للأسف بهذه العملية، فقد مات زميل لنا دون داعٍ، اسمه عباس الأعسر كان معي في مجموعتي، وكنا نسكن في بيت ريفي من الطوب النيء مثل معظم البيوت في القرى الفقيرة، بدأ أحدنا اسمه رزق ينظف سلاحه، تومي جاك ٩ ميللي، فجأة انطلقت رصاصة من مدفعه وهو ينظفه واخترقت جدار الصالة حيث كنا نجلس، ثم انطلقت إلى الجدار الثاني للغرفة الداخلية اخترقته ونفذت إلى الحائط الثالث للغرفة الأخرى حيث كان يجلس عباس الأعسر مسندًا رأسه إلى الحائط، دخلت الرصاصة إلى رأسه وخرجت من الناحية الأخرى، شيء أغرب من الخيال، كان قائدنا بهاء غير موجود، وكنت أتولى القيادة في غيابه، سمعت الطلقة وجريت لأتبين ماذا حدث في الغرفة، داخل الغرفة الداخلية رأيت عباس الأعسر في غيبوبة كاملة، طلبنا الإسعاف لكنه مات داخل سيارة الإسعاف، في الليلة السابقة كان معنا عباس الأعسر حين نجحنا في تفجير سيارة القائد العام الإنجليزي وعدنا جميعًا سالمين، فكيف نفقد زميلنا عباس الأعسر في البيت بهذا الشكل العبثي لمجرد أن رزق كان ينظف سلاحه؟ أصاب الغضب الشديد أفراد الكتيبة وصمموا على عقاب رزق بالطرد، كان عليَّ أن أنفذ هذا القرار بصفتي القائد، كنت أعرف أن رزق تسبب في موت عباس دون قصد، إن الرصاصة اخترقت ثلاثة جدران لتدخل في رأس عباس، مهزلة أو سخرية القضاء والقدر، إلا أن الخبر وصل إلى القاهرة، في اليوم التالي جاء وجيه أباظة ومعه والد سمير رضا، هكذا فقدنا سمير أيضًا، أخذه أبوه معه إلى القاهرة، قال له إن أمه أصابها مرض القلب من شدة القلق عليه، انخفضت الروح المعنوية بعد فقدان عباس الأعسر وسمير، لكننا واصلنا العمليات الفدائية، أحد أغنياء الصعيد اسمه لملوم عبد الرحمن لملوم كان يمدنا بالذخيرة والسلاح، له أرض في الفيوم استطاع فيما بعد أن يحمينا من البوليس والحكومة، ثم تلقينا الأوامر بتغيير محل إقامتنا فورًا، لقد كشف الإنجليز مواقع الفدائيين ويستعدون لحركة تمشيط واسعة، حملنا سلاحنا وسرنا في الصحراء لا نعرف إلى أين، لم تأتِ إليَّ أي أوامر عن المكان الأمين الذي نتجه إليه، سرنا في الصحراء ثلاثة أيام ولياليها هي أيام التيه الأعظم كما سميناها، فقدنا الطريق وأشرفنا على الموت من شدة العطش، قابلنا قافلة من البدو الرُّحل أنقذونا، بحثنا عن موقع جديد نمارس منه العمل الفدائي، كان هناك رجل وطني اسمه عبد الحميد صادق، كان يورد العمال المصريين للجيش الإنجليزي، لكنه انضم إلى العمل الفدائي وأصبح يشجع العمال على سرقة الأسلحة من الإنجليز وإعطائها لنا، تشجعنا وتحسنت حالتنا المعنوية، تزايد عددنا بوصول كتائب جديدة من الإخوان المسلمين والشيوعيين وبعض الشباب من حزب الوفد، استمرت عملياتنا ضد الإنجليز حتى يوم ٢٦ يناير ١٩٥٢م يوم حريق القاهرة، دبر الإنجليز الحريق للقضاء على العمل الفدائي، هل استخدموا حزب مصر الفتاة أو أحمد حسين؟ هل دخل فيها أعوان وجواسيس الملك؟ لماذا تخلت حكومة الوفد عنا تمامًا بعد أن كانت تشجعنا؟ وزير الداخلية فؤاد سراج الدين لماذا لم يؤمِّن مدينة القاهرة؟ كان عنده من رجال البوليس ما يكفي تأمين جبهة القتال في مدن القنال أيضًا، لكنه ترك القاهرة تحترق، وأصبحنا نحن الفدائيين بلا حماية، جاءتنا أوامر غريبة من وجيه أباظة تقول: كل مجموعة تدافع عن نفسها وتحمي نفسها لا تحاولوا الاتصال بنا أو الحكومة، أصبح ظهرنا مكشوفًا وقائدنا بهاء عاد إلى القاهرة وحده، عرفنا أنه في البوليس السياسي، أصبحنا وحدنا في مواجهة الإنجليز، اختبأنا في منطقة اسمها العباسة، سلاحنا فوق أكتافنا، لا يمكن لمن حمل السلاح أن يتنازل عنه بسهولة، قررنا الاستمرار في العمل الفدائي بدون معونة الحكومة، كان معنا الأهالي والفلاحين والبدو، لكن الناس بدأت تخاف بعد حريق القاهرة، والفلاحون والبدو جاءتهم أوامر من البوليس بعدم حماية الفدائيين، بدأ شعور الأهالي يتغير نحونا، والخوف يتزايد ويمنعهم من حمايتنا، هكذا أصبحنا معزولين تمامًا بلا سند من أحد، بدأ الإنجليز حركة تمشيط للقضاء علينا، كدنا نسقط أسرى في يد نقطة تفتيش إنجليزية، استطاع زميلنا الذي كان يقود سيارتنا واسمه إسماعيل رضا أن ينقذنا، فقد لمح على بعد ١٠ أمتار منه مدفعًا رشاشًا ونقطة تفتيش إنجليزية، رجع إسماعيل بظهر السيارة حوالي ثلاثة كيلو مترات، يمكن لو أطلقوا النار أن يصيبونا جميعًا لكنهم لم يطلقوا النار، ربما أرادونا أحياءً وليس أمواتًا، أو ربما كانت لديهم أوامر ألا يطلقوا النار إلا للضرورة حتى لا يثيروا الأهالي ضدهم، كان غضب الأهالي قد تزايد بعد حريق القاهرة، إلا أن الخوف كان أشد من الغضب، وأخيرًا اجتمعنا وقررنا إنهاء العمل الفدائي والعودة إلى القاهرة، حيث وجدنا حكومة جديدة، والأوامر باعتقال الفدائيين وتسليم سلاحنا للبوليس، اختفينا في الفيوم داخل مغارة في منطقة أثرية اسمها هرم اللاهون، حاولنا الاتصال بوجيه أباظة دون جدوى، عزيز المصري اختفى، بهاء عاد إلى البوليس السياسي، اكتشفنا غلطة عمرنا، وهي أن العمل الفدائي يبدأ في الداخل، ضد العدو الداخلي، ثم يتفرغ للعدو الخارجي؛ لأن العدو الداخلي يمكن أن يضربنا في الظهر وفي البطن ويقضي علينا تمامًا، كما حدث، وأصبحنا في نظر الحكومة مطاردين مثل قطَّاع الطرق، نرقد في مغارة في جبل اللاهون، يتسلل واحد منا في الظلام ليجلب لنا بعض الطعام، دفنا سلاحنا في بطن الأرض، وقلنا لا يمكن أن نسلمه لحكومة خائنة، كنت أنام وأحلم أني أحارب الإنجليز، في اليقظة أستعيد ذكريات القنال، في يوم خرجنا في إحدى العمليات الناجحة، فجرنا معسكر الإنجليز وعدنا إلى البيت سالمين، لكن اكتشفت أن زميلًا لنا غير موجود، كان الواجب أن أخرج إلى الطريق وأبحث عنه حتى أجده وإلا عثر عليه الإنجليز أسيرًا، وعن طريق تعذيبه يكشفون مواقعنا، مشيت في الليل وحدي بدون المجموعة أبحث عن زميلنا، كان الفجر لم يطلع بعد وأنا أزحف الطريق كله عائدًا حيث كنا، نصف جسمي كان في الأرض والنصف الآخر في الطين ومياه الترعة، أخفي سلاحي في صدري أحميه من التلوث، سلاحي كان أغلى من جسدي، مدفع رشاش تومي جام ٩ ميللي، أخيرًا عثرت على زميلنا، كان غارقًا في النوم في بطن ترعة الإسماعيلية وسلاحه نائم فوق صدره يحوطه بذراعيه كالأم تحتضن طفلها، جلست إلى جواره أتأمله وهو نائم يحلم بتحرير الوطن، عمره كان عشرين عامًا مثل عمري وكل الفدائيين، لم يكن يدور بخيالنا أننا كنا فريسة بين الحكومة والملك والإنجليز، وان قيادتنا التي سلمناها حياتنا مثل بهاء ووجيه أباظة وعزيز المصري وأنور السادات ومجدي حسنين، هؤلاء جميعًا تركونا وحدنا نواجه مصيرنا تحت رصاص الإنجليز أو مغارات جبل اللاهون، وجميعهم حصلوا على مناصب عالية في الدولة ودخلوا التاريخ على أنهم الأبطال الذين طردوا الإنجليز وقاموا بالثورة، أما نحن الذين حملنا السلاح وحاربنا فقد أصبحنا مطاردين مثل المجرمين.

•••

قبل حريق القاهرة انتقلت من مرحلة المشرحة في الكلية إلى مرحلة المستشفى، نقوم نحن الطلبة والطالبات بالمرور على عنابر المرضى نتدرب على الفحص وتشخيص الأمراض، بعد الحريق في ٢٦ يناير ١٩٥٢م أصدر الملك فاروق قرارًا بإقالة النحاس وحكومة الوفد، بدأت الحكومة الجديدة في ضرب الحركة الوطنية والعمل الفدائي، امتلأت الزنازين بالشباب الوطني من مختلف الاتجاهات، الإخوان المسلمين، الشيوعيين، الوفديين، الشباب من اتحاد العمال والنقابات والطلاب المستقلين والفدائيين العائدين من القنال، ثم إعلان قانون الطوارئ، صدر قرار بحل اتحاد العمال، غرقت مدينة القاهرة في الظلمة والصمت، رائحة الدخان تفوح من الجدران السوداء المتفحمة في قلب المدينة.

ثم جاء يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، كنت في حصة المرور على عنبر الجراحة في مستشفى قصر العيني الجديد، الأستاذ قصير القامة نحيف الجسم، عيناه الواسعتان تطلان من وراء النظارة البيضاء تحت جبهة عريضة تصل إلى منتصف الرأس أو أكثر يسمونها الصلعة، صوته خافت، ملامحه خافته بلا جاذبية للعين أو الأذن إلا النحافة الشديدة أو الهزال، يشبه المهاتما غاندي زعيم الهند، الوجه الناحل والعينان الكبيرتان تطلان من تحت العدسات البيضاء الكبيرة.

كان يلقي علينا محاضرة طويلة عن سرطان المثانة، مريض راقد فوق السرير، عظام وجهه بارزة من شدة الهزال، أكثر هزالًا من غاندي، يلتف حوله الطلبة يتنافسون على فحصه، خراطيم سماعتهم ممدودة نحو الجسد النحيل، تتلوى وتتعارك فوقه كخراطيم الذباب من حول قطعة لحم، رائحة الدم والصديد العفن تبعثان على الغثيان، أقف في الصفوف الخلفية مكتوفة الأيدي، أتلفت حولي في العنبر الواسع، وجوه المرضى الناحلة الشاحبة تطل من فوق السراير، فلاحون فقراء كلهم، جاءوا من قرى تشبه قريتي كفر طحلة، دودة البلهارسيا تمص دماءهم، لا يبقى منهم إلا القليل يمصه الأطباء الكبار في العيادات الخاصة، ثم ينتهي بهم المطاف فوق السرير في قصر العيني، تقضي عليهم أصابع الطلبة في حصص التدريب، يخرجون من المستشفى إلى المشرحة، أو يحملهم النعش إلى القبر، تولول من خلفهم النسوة بالجلاليب السود.

بعد انتهاء الحصة خرجنا من العنبر، كانت معي الزميلتان بطة وصفية، خرجنا إلى الممر الطويل، له نوافذ كبيرة تكشف النيل، التراب يغطي النوافذ والزجاج مكسور، أتوقف لحظة لأستنشق الهواء النقي، أغسل الرئتين من أدران المرض والجراثيم، تتعلق عيناي بالأفق، أشعة الشمس تتموج فوق مياه النيل، سبائك من الذهب، قلبي يئن رغم الطبيعة المملوءة جمالًا وفرحًا، كأنما الحزن لا يظهر إلا بجوار الفرح، لا أعرف لماذا يغمرني الحزن دائمًا في لحظة الفرح، أهو الحزن المتراكم منذ وُلدت؟ أم هذه الآلام التي تحوطني كل صباح في عنابر المرضي؟ أم هو غياب أحمد عن الكلية؟ لم أكن أعرف أين هو، في السجن مع المعتقلين؟ أو جثة مقتولة على شط ترعة الإسماعيلية؟ أو داخل مغارة في جبل اللاهون؟

فجأة رأيت المرضى يندفعون خارج العنابر يهتفون: تحيا الثورة، كان الراديو قد أذاع الخبر، استولى الجيش على الحكم في مصر وانتهى عصر الملك فاروق، سمعوا الخبر وهم راقدون فنهضوا من المرض، كأنما هي وجوه الجثث في المشرحة، نهضت من الموت، أصبحت تتحرك وتمشي، تفتح أفواهها عن آخرها وتهتف: تحيا الثورة، شاب مبتور الساقين في الحرب قفز من فراشه بدون ساقين بدون العكازين، كان يهتف تحيا الثورة.

من عنابر الرجال انطلق الهتافات، من عنابر النساء انطلقت الزغاريد، اندفع الجميع إلى الخارج، المرضى والمريضات بالجلاليب الدمور والشباشب، الممرضات والتمورجية بالمرايل البيضاء والصنادل، أطباء الامتياز والنواب بالمعاطف والسماعات حول الأعناق، الطلبة والطالبات وتلميذات التمريض وعمال المراحيض والمطبخ والمغسل والمشرحة، جميعهم اندفعوا إلى الشارع يهتفون: تحيا الثورة.

أصبح جسدي يندفع معهم وصوتي يهتف مع أصواتهم، صفية أيضًا رأيتها تجري معنا وتهتف: تحيا الثورة، بطة فوق كعبها العالي الرفيع يطرقع مع صوتها الجاد تصيح: تحيا الثوغة (الثورة)، توقفت جنازة ميت خارج من المستشفى، وضع الرجال النعش فوق الرصيف وانطلقوا مع الناس يهتفون: تحيا الثورة، تحولت ولولة النسوة الثكالى إلى زغاريد.

في تلك اللحظة كنت أبحث عن أحمد حلمي، أبحث عن وجهه بين الوجوه، أريد أن شاركه الفرح، كان مقبلًا من فوق الكوبري الصغير بين المستشفيين القديم والجديد، خرج من المخبأ في جبل اللاهون، كانت الثورة هي الأمل الجديد، لأول مرة في حياتنا نتعانق بالأذرع، اكتشفنا أن لنا أذرعًا يمكن لها العناق، لم يكن لنا إلا الأيدي في المصافحة، بعد الزواج والمشاركة في الفراش لم يكن جسدي يهتز كما كان يهتز في المصافحة، لم أعرف لماذا، أهو الخيال الجامح في الحب يضاعف المشاعر، أم أن «الجنس» مخيب للآمال مثل العمل الفدائي؟

في العناق الأول أحسست أن أحمد ليس هو أحمد، لم أعرف ذلك بعقلي، عرفته بالأعمق، بالأصدق، بإحساس الجسد الفطري لم تلوثه العلوم، شيء فيه راح لم يعد، شيء فيه تركه على شط الإسماعيلية وعاد وحده، أهو قلبه تركه هناك وعاد بلا قلب؟! إلا أننا نسير إلى شجرة الكافور، نتحسس حروف اسمه واسمي داخل القلب المحفور، نتحسس الخاتم الذهبي في أصبعه وأصبعي منقوشًا عليه اسمي واسمه، الشيء المادي الوحيد في عالم من الهيولة والضباب، نمسكه بأصابعنا، نتشبث به كالغريق يتشبث بقارب نجاة أو الأعمى يبحث في الظلمة عن خيط من ضوء.

في ٢٦ يوليو اعتلى الملك فاروق اليخت الملكي لآخر مرة في حياته، كان واقفًا داخل بدلته البحرية البيضاء، فوق بحر الإسكندرية، سبحت فيه وأنا طفلة، صوت أبي في الفرندة البحرية يهتف: يسقط الملك، سقط الملك وتشكل مجلس وصاية على ابنه الطفل أحمد فؤاد، ورث اسم جده، كنت في الخامسة من العمر حين مات الملك فؤاد عام ١٩٣٦م، جاء الصبي الصغير فاروق من بريطانيا ليرث عرش أبيه، الهتافات في شوارع الإسكندرية تدوي، مات الملك يحيا الملك، الراديو يغني: ملك البلاد يا زين يا فاروق يا نور العين، يطل الغلام الملك على الناس بوجه أبيض مستدير، وجه طفل أصبح ملكًا فجأة، لا يعرف شيئًا عن دهاليز السياسة، حوطته القوى الثلاث كالسلسلة الحديدية، القصر والإنجليز والأزهر، ثلاثة رجال هم أركان الحكم، أحمد حسنين، عليَّ ماهر، الشيخ المراغي، كان أبي يسميه الشيخ المرائي (بدل المراغي) أو الشيخ الأزعر (بدل الأزهر).

كيف تحول الطفل إلى ملك مثل أبيه؟ إلى قاتل وعربيد كأبيه؟ واقفًا في اليخت يلقي على مصر النظرة الأخيرة، ملؤها الحزن أو الندم، ربما كان الأفضل له ألا يكون ابن ملك، كنت أسمع الناس في قريتي يقولون: «السلطان من ابتعد عن السلطان.» أهناك مرض في السُّلْطان يشبه السَّرَطان؟! يأكل الخلايا السليمة، ينمو بشراهة وجنون حتى يأكل ذاته، بلغ به النمو السرطاني أن يسعى لتناول التاج من يد الله ويكون خليفة المسلمين.

أسمع أبي يقول: إن الله ليس له يد أو لسان، فكيف تمتد يد الله حاملة تاج العرش لتناوله للملك فاروق؟ أو الماروق كما سماه أبي، يحلو لأبي أن يكتشف التشابه في الحرف والمعنى، فالنحاس هو النحاس حين ينظر بعينه اليمنى إلى الملك والعين اليسرى تفر بعيدًا إلى الناحية الأخرى، لم يسلم أحد من سخرية أبي إلا جمال عبد الناصر، أشار إليه في الصورة بإصبعه وقال: «هو ده اللي فيهم لكن محمد نجيب مجرد يافطة.»

«محمد نجيب» أول حاكم مصري منذ الملك مينا في مصر القديمة، ملامح وجهه ريفية بسيطة تطفو عليها ابتسامة خالية من الدهاء، صوته فيه بحة تقربه من قلوب الفقراء.

في بداية الثورة صدر قرار العفو عن المسجونين السياسيين، انفتحت أبواب الزنازين وخرج زملاؤنا من حزب الوفد والإخوان المسلمين والمستقلون وغيرهم، إلا الشيوعيين لم يشملهم قرار العفو، بقي داخل السجن شقيق صفية «سعد» وخطيب سامية «رفاعة»، أعلن زكريا محيي الدين «أحد الضباط الأحرار» أن الشيوعيين مجرمون اجتماعيون وليسوا مجرمين سياسيين، مطت سامية شفتيها بازدراء: «بقة دي ثورة يا نوال؟ دول شوية عساكر عملوا انقلاب وأمريكا معهم لتدخل مصر بدل الإنجليز!»

تحديد الملكية الزراعية بدأ بمائتي فدان للأسرة، وخمسين فدانًا لكل ولد أو بنت، ثم إلغاء الألقاب والأحزاب وإسقاط النظام الملكي وإعلان الجمهورية في يوليو ١٩٥٣م.

وجوه الناس في الشارع تغيرت، تغير الشارع، سقطت الحواجز بين الغرباء، كانوا يسيرون بوجوه شاحبة عابسة كلٌّ في طريقه، لا أحد يبتسم لأحد، لا أحد يقول صباح الخير لأحد، أصبح الشارع مثل البيت، الناس تكلم بعضها بعضًا، يتصافحون دون سابق معرفة، يتساءلون عن الصحة وعن أخبار الثورة، يهنئون بعضهم بعضًا، يتناقشون في السياسة، يتنبئون ماذا يحدث غدًا، يتوقعون كل يوم قرارًا جديدًا.

في طريقي إلى الكلية ألتقط بعض تعليقاتهم على الأخبار: «أخيرًا ربنا فرج علينا! حد كان يصدق يا ناس إن عرش الملك ده كله يسقط في يوم وليلة؟! خلاص يا عم ما فيش حاجة اسمها باشا ولا بيه! يعني هي كلمة «باشا» دي عربية؟ دي كلمة تركية يا عمي من أيام المماليك والعثمانيين! يعني خلاص البلد اتحررت يا ناس؟ يعيش محمد نجيب يعيش!»

لم يكن للأحزاب القديمة أن تستسلم، لم يكن للباشوات وأصحاب الأراضي أن يتنازلوا عن أملاكهم دون معركة، نشب الصراع بين القديم والجديد، تكتل القديم وراء محمد نجيب، كونوا جبهة قوية تحت اسم الديمقراطية أو الحريات أو إعادة الأحزاب المنحلة، ضمت الجبهة قيادات الوفد والإخوان والشيوعيين، بين الثلاثة عداء مشهود وبحور من الدم، في السياسة يتكتل الأعداء في حلف واحد ضد عدو أكبر، في الغابة أيضًا قد يتحالف القط والفأر ضد النمر أو الأسد.

لم يكن الأسد ظاهرًا في الصورة، بدأت الثورة بصوت أنور السادات في الراديو، ووجه محمد نجيب في الصحف، رأى أبي الأسد في الصورة واقفًا إلى جوار محمد نجيب أشار إلى وجهه بإصبعه وقال: «هذا هو القائد الفعلي للثورة يا نوال!» كان الناس يهتفون لمحمد نجيب ولا أحد يعرف جمال عبد الناصر، سألت أبي: كيف عرفته؟ قال: عرفته من عينيه، عيناه تأملتهما في الصورة، نفاذتان غائرتان تحت جبهة عريضة عظامها قوية، أنفه كبير بارز مقوس في الجانب، شفتاه رفيعتان مزمومتان في ثورة أو غضب منذ الطفولة، ملامح محمد نجيب إلى جواره تبدو بريئة ساذجة كالأطفال.

التقيت بجمال عبد الناصر أول مرة وجهًا لوجه في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية عام ١٩٦٢م، كان أبي قد مات منذ ثلاث سنوات، الثورة في عنفوانها تحطم القلاع الإقطاعية وتعلن القرارات الاشتراكية، ملامح عبد الناصر في الحقيقة أكثر جاذبية من الصور، عدسة الكاميرا لا تنقل البريق في العينين، اللون البرونزي لبشرة بلون طمي النيل، القامة الطويلة الفارعة تشبه قامة أبي وجدتي الريفية، انحناءة خفيفة وهو يمشي تذكرني بمشية أبي، أيحمل العبء ذاته فوق كتفيه؟ يميل بهما إلى الأمام ويمشي بخطواته الواسعة، كأنما لا يحمل شيئًا لولا هذه الانحناءة الخفيفة، تذكرني بالعبء، كان يحمله أبي ليطعم تسعة من الأطفال وأمهم وأمه وأخته المطلقة في القرية، العبء حملته بعد أبي.

لم يحمله أخي الأكبر، اجتمعت الأخوات والإخوة الصغار واتخذوا قرارًا بعد موت أبي: «الوصاية علينا تكون لأختنا نوال.» لم يكن معاش أبي يكفي الأسرة الكبيرة، كان عليَّ أن أعمل لأدبر مصاريف أخواتي في المدارس والجامعة وابنتي بعد الطلاق.

ألهذا زحف الشيب إلى رأسي وأنا في ربيع العمر؟ أم أنني ورثت الشعر الأبيض عن أبي كما ورثت عنه العبء؟ في طفولتي كأنما أرى الشعرات البيض تزحف إلى شعره الأسود الغزير، فاحم بلون الليل، لون شعري، تسري فيه الشعرات البيضاء كأنما خلسة، تشق سواد الظلمة كخيوط الفجر.

تخرجت في كلية الطب في ديسمبر ١٩٥٤م، الدراسة كانت ست سنوات ونصفًا من الأشغال الشاقة، محاضرات طويلة مملة تُتلى علينا، نحفظها عن ظهر قلب ننساها بعد الامتحان، تُعلق أسماء الناجحين على السبورة في مدخل الكلية، العبقرية المفاجئة لأبناء الأساتذة تظهر، يحتلون المراتب الأولى، يحصلون على المناصب العليا في المستشفى الجامعي والكلية، العرش يرثه الابن عن الأب عن الجد، النظام الوراثي في المملكة المصرية وكليات الطب.

الانهيارات العصبية تصيب الطلبة في الامتحانات النهائية، الإدمان على المنبهات «الآنفيتامجين» للسهر في المذاكرة، المنومات «الفاليون» لعلاج الأرق، ثم «الماكسيتون» لليقظة في الامتحان، الأساتذة لا يرحمون المرضى الفقراء فهل يرحمون الطلبة أطباء المستقبل المنافسين لهم في السوق؟!

كنت شديدة الانتباه للدروس، لا تفوتني محاضرة أو حصة في المعمل أو المستشفى، الأساتذة والمدرسون يعبرون عن إعجابهم بهذه الطالبة النجيبة، أذناها عيناها حواسها الخمس تلتقط الكلمة قبل أن تسقط من أفواههم، لا تغيب حتى في الإجازات، يرونها في عنابر المرضى تراجع التشخيص والعلاج، خطوتها وهي تمشي سريعة مستقيمة لا تتلكأ في الفناء مع زميل أو أستاذ، لا تتلفت حولها هنا أو هناك، كالسهم تنطق داخل الكلية وخارجها، قدماها لا تلتويان فوق الكعب العالي، عيناها تنظران مباشرةً في عيون الناس.

كان يدرس لنا في قسم الجراحة أستاذ مساعد أو مدرس اسمه الدكتور رشاد، أصابعه طويلة صلبة كالمسامير الحديدية ينقر بها على صدور المرضى، يخرق بها الصدر أو البطن، يدوس بسماعته المعدنية بين الضلوع كما يدوس بحذائه على الأرض، طفل كان هناك في العنبر مريض بالقلب، اسمه مصطفى لا أنساه، ملامحه تشبه ابن عمتي نفيسة وكل أطفال القرية، عمره عشر سنوات، مثل عمري في منوف وأنا أحلم بالحب الأول، بشرته سمراء بلون بشرتي، عيناه سوداوان واسعتان باتساع عيني، مملوءتان بالبريق، انطفأ البريق بعد أيام من دخوله قصر العيني، كست عينيه سحابة من الحزن، الألم يكتمه حين تدوس السماعات فوق صدره، أربعون أو خمسون سماعة أو أكثر، بعدد الطلبة المتزاحمين حول السرير، المتنافسين على سماع الخشخشة في الدم، أو اللغط في صمام يرشقه الدكتور رشاد بنظرة صارمة، إن رفض أن يخلع الجلباب يرتفع الصوت الآمر: «اقلع يا ولد لأقلعلك عينك.» إن أصر على الرفض أو تردد قليلًا هبطت اليد الحديدية فوق صدغه صفعة واحدة، يخلع بعدها مصطفى الجلباب الفلاحي الباهت، ضلوعه صغيرة هشة تنتفض كضلوع الفرخ الصغير، تطقطق تحت السماعات المعدنية، تنكسر بصوت مسموع للأذن، هل كانت الآذان كلها صماء؟! مسدودة بخراطيم من الكاوتش، تتدلى من أعناقهم مع رأس السماعة الغليظ.

لم يكن اللغط مسموعًا لآذانهم، محشوة بالصمغ ربما وذرات التراب المتراكمة في الشوارع، ومدرجات الكلية وعنابر المستشفى والسنين … يُسَلِّك الواحد منهم أذنيه بعود كبريت، ويظل اللغط غير مسموع … خافتًا هامسًا كحركة الدم داخل صمام القلب، كحفيف الهواء يلامس ورقة وليدة في أول الربيع.

يُخرج الدكتور رشاد من جيبه قطعة نقود فضية يلقي بها فوق المنضدة كمن يلقي الرهان في سباق الخيل أو البورصة: «الشلن ده مكافأة لمن يقول لي ما هو نوع هذا اللغط.» هذه العبارة كلها يقولها بالإنجليزية، الدراسة في كلية الطب لم تكن باللغة العربية، المراجع والكتب وأسماء الأمراض وأنواع اللغط، وكل شيء باللغة الإنجليزية، حتى النكت، ويندفع الطلبة من جديد نحو الطفل المريض، يدوسون على أقدام بعضهم، يتدافعون بالمناكب والأذرع والأكتاف، يضرب الواحد منهم كوعه في بطن الآخر، يشق طريقه نحو الصدر المكشوف، رأس سماعته منتصب أمامه كالقضيب يلمع سطحه المعدني مثل رأس الكوبرا يتلوى فوق خرطوم من الكاوتش يستقر في النهاية داخل الحفرة في اللحم بين الضلوع، وتنطلق من الطفل صرخة لا يسمعها أحد.

لم يكن للطالبات مجال في هذه المنافسة، معركة بالأجساد فهل تدس البنت العذراء جسدها بين الذكور لتسمع خشخشة في الدم أو تحصل على خمسة قروش؟ وكنت أقف في الصفوف الخلفية يتراءى لي وجه الطفل من بين الأجساد، تلتقي عيناه بعيني، تتشبث عيناه كأنما بعيني الأم أو العمة أو الأخت الكبيرة، يرمقني بنظرة استجداء طويلة تذكرني بعيني خروف العيد في طفولتي، كانت عيناه ترمقاني من وراء جسد الجزار بنظرة الاستجداء نفسها، وكنت أقف صامتة عاجزة عن إنقاذه كما أقف الآن.

في النوم تطاردني العينان، عينا الطفل المريض أو عينا الخروف المذبوح؟ متشابهتان واسعتان دامعتان بلا دموع، تشوبه صفرة تطفو عليها شعيرات دقيقة بلون الدم.

ترمقني العينان في الظلمة، مفتوحتين بلا جفون بلا رموش، لا صوت، لا حركة، فقط هذه النظرة الخرساء بذلك الاستجداء حتى أهب من النوم مبللة بالعرق.

كان الدكتور رشاد في قسم الجراحة يشبه الدكتور عمرو في المشرحة، يقف أمام الأستاذ رئيس القسم مكتوف الذراعين، مكتوف الساقين، كالتلميذ المؤدب أو البنت العذراء، يختفي الرئيس فيفرد الدكتور رشاد ذراعيه وساقيه، يتمشى في العنبر لاويًا عنقه إلى الوراء كالطاووس أو الديك الرومي، يقلد الأستاذ رئيس القسم في مشيته، في الطريقة التي ينطق بها الحروف، يقلب حرف القاف إلى كاف كنوع من الرقة، أو الانتماء إلى الطبقات العليا المُقلدة للأجانب، يضحك بصوت عالٍ في غياب الرئيس، مقلدًا قهقهة الأساتذة، ملقيًا برأسه إلى الوراء، عيناه تتجهان نحو الطالبات: «الآنسات الكوارير (القوارير) ساكتين ليه؟ ما فيش واحدة فيكم عاوزة تكسب الشلن؟ ياللا يا ست بطة شدي حيلك، وانتي يا ست صفية وانتي يا ست فوزية ويا ست سميحة ويا ست نبيلة …» ويأتي الدور عليَّ، يهم أن ينطق اسمي بالسخرية نفسها لكنه يتوقف، لا أعرف لماذا، كنت أرمقه بنظرة مشبعة بالغضب، كلمة القوارير ترن في أذني الجوارير أو الجواري، تشتعل عيناي بنار سوداء أثبتها في عينه لا يطرف لي جفن.

لم أرفض في حياتي رجلًا كما رفضت الدكتور رشاد، لم أكن أعرف أن الرجل ينجذب إلى المرأة التي ترفضه، لا يهدأ حتى يرفض الرفض، معركة يخوضها حتى آخر نفس، يشهر فيها كل أسلحته الخمسة عين، عمارة تطل على النيل في المعادي، عزبة في الشرقية، عيادة في ميدان الإسماعيلية، عربة «شيفروليه» زرقاء طويلة يتهادى بها أمام محطة الأتوبيس، يراني واقفة، يوقف السيارة بجانب الرصيف، يطل برأسه من النافذة: «تعالي يا نوال أوصلك.» أنتزع من عضلات وجهي ابتسامة: أشكرك يا دكتور، لا يستسلم الدكتور رشاد لهذا الرفض المؤدب، يكرر الطلب: «تعالي أوصلك بدل زحمة الأتوبيس.» أشكرك يا دكتور، شكرًا يا دكتور، أهز رأسي بالشكر والرفض، وهو يكرر الطلب، يزداد رفضي بازدياد إصراره، يزداد إصراره بازدياد الرفض.

في أعماقي كنت أرفضه، جسدي يرفضه حين يصافحني بيده كالقبضة الحديدية، عقلي يرفضه أيضًا والروح الكامنة في جسدي، الغامضة غموض الملائكة والشياطين، حتى اليوم لا أعرف لماذا رفضته بهذا العنف.

لكن الكراهية كالحب تحدث بلا سبب، أو ربما ذلك السبب غير المُدرك بالعقل، مثل الحقائق الكبرى لا يدركها العقل البشري ومنها حقيقة وجود الله، وقد تشككت في هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق الكبرى، لكني لم أتشكك في مشاعري تجاه الناس، تتحدد مشاعري دائمًا في أول لقاء، يحدث الحب أو الكره من النظرة الأولى للوجه، العينان نافذتان أطل داخلهما وأعرف الإنسان، عظام الوجه مع الأنف والفم تستكمل الصورة، منذ كنت طفلة في السابعة حتى تجاوزت الستين من العمر لم تتغير نظرتي لوجوه الناس، لم أفقد ثقتي في الانطباع الأول، النظرة الأولى تلهمني أشياء كثيرة يعجز عنها العقل أو العقل الظاهر، لم أكن أعرف الكثير عن العقل الباطن، قرأت شيئًا مما كتبه سيجموند فرويد عن أجزاء العقل الواعية والأجزاء غير الواعية شيئًا فشيئًا مع تزايد العلم بخلايا المخ وأسرار الخلية الحية، تجارب الحياة تكشف الحجاب أكثر من العلم.

في صيف عام ١٩٥٧م قبل وفاة أمي جاء الدكتور رشاد إلى بيتنا في حي العمرانية، تقدم لأبي يطلب يدي، كان يومًا حارًّا مليئًا بالغبار، توقفت سيارته الزرقاء الشيفروليه أمام بيتنا، أطلت عليها عيون الجيران من النوافذ، انبهرت بها النساء والرجال من عائلة أمي وأبي، وانفتح بابها وخرج العريس طويلًا ممشوقًا داخل بدلة أنيقة بيضاء من الشاركسكن، كنت أكره البدل اللامعة والأحذية اللامعة والشعر اللامع المدهون والدبوس اللامع في الكرافتة والفص اللامع في الخاتم.

في غرفة الصالون جلس الدكتور رشاد، كل شيء فيه يلمع خاصة النظارة الزجاجية، ولا شيء فيه منطفئ إلا العينين، أنظر في عينيه أبحث عن البريق، لم أعرف متى انطفأ البريق في عينيه؟ في طفولته؟ في شبابه وهو طالب؟! أم مؤخرًا بعد أن أصبح أستاذًا مساعدًا في كلية الطب؟!

– أهلًا رشاد بيه.

– أهلًا سعداوي بيه.

يتبادلان لقب البكوية رغم سقوط الألقاب منذ الثورة، الأب والعريس جالسان في الغرفة الشديدة الإضاءة، تدخل الخادمة حاملة الصينية الفضية العتيقة، حملتها وأنا في العاشرة من العمر وانقلبت فوق صدر العريس، تعثرت الخادمة في خيط السجادة العجمية، عتيقة أيضًا منذ ليلة زفاف أمي، بهتت ألوانها بمثل ما بهت وجه أمي، كادت الصينية تنقلب فوق بدلة الدكتور رشاد، أفلتت من فمي ضحكة مسموعة وأنا جالسة في الركن، تذكرت طفولتي في منوف حين كانت تزورنا مس إيفون، أمد قدمي وأخفي الثقب في السجادة، منذ الثورة لم أعد أخجل من مظاهر الفقر، لم أعد أخفي عمتي الفلاحة عن أعين زملائي وزميلاتي.

– أهلًا رشاد بيه.

– أهلًا سعداوي بيه.

كنت أرتدي ثوبًا قديمًا من قماش رخيص اسمه جباردين، لونه رمادي حزين، قلبي ثقيل مملوء بالحزن، أبي عيناه تلمعان بالفرح، هذا هو الزوج المناسب لابنته الدكتورة، وليس الزوج السابق، الطالب الفاشل أو الفدائي الموهوم.

لم تدخل أمي إلى غرفة الصالون، كانت في فراش المرض قبل وفاتها بثلاثة شهور، على طرف السرير تجلس خالتي نعمات، جاءتنا في زيارة ذلك اليوم، تأملت الدكتور رشاد من شِق الباب، وعادت إلى أمي تشهق بالفرح: «زي القمر والله ودكتور أد الدنيا … أي بنت في الدنيا تتمناه، ليه بنتك نوال ترفضه يا زينب؟»

«مش عارفة يا نعمات اسأليها.» سألتني طنط نعمات ذلك اليوم: إيه عيب الدكتور رشاد يا نوال؟ لم أعرف بماذا أرد، لم يكن فيه عيب واضح، «مش عارفة يا طنط مش باحبه.» تشوح طنط نعمات بيدها في الهواء: «حب إيه وكلام فارغ إيه، أخدتي إيه من الحب يا بنتي غير إنك بقيتي مطلقة.»

كلمة «مطلقة» اخترقت أذني بصوت طنط نعمات كالكلمة النابية، كان طلاق المرأة نوعًا من العار، المرأة المطلقة لا يتزوجها أحد، يقولون عنها امرأة نصف عمر تم استخدامها من قبل، إن تزوجها أحد فهو يشرب من إناء شرب منه غيره، هكذا كان يكتب عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي ونجيب محفوظ وغيرهم من الأدباء الرجال.

حاربت في البيت لأرفض الدكتور رشاد، كما حاربت من قبل لأتزوج أحمد، لم أكن أؤمن بالزواج إلا لسبب واحد هو الحب، كلمة زواج أو عريس لها منذ طفولتي تاريخ سيئ، استطاع الحب أن يطمس هذا التاريخ فأقدمت على زواجي الأول، إلا أن الحب عمره قصير كزهور الربيع، أو ربما هو الزواج يفسد الحب، هناك شيء غير طبيعي في مؤسسة الزواج، أيكون هو قانون الطاعة؟ أول بند من القانون يقول: الرجل يمتلك زوجته وهي لا تملكه، واجب الزوج الإنفاق وواجب الزوجة الطاعة.

كلمة «الطاعة» ترن في أذني كالكلمة النابية، كنوع من السباب أو إحدى صفات العبيد، الناس من حولي يقولون الطاعة فضيلة، وأنا أراها رذيلة، الطاعة معناها أن ألغي عقلي وإرادتي وأصبح مطية للإرادات الأخرى، الطاعة معناها أن أفقد إنسانيتي وأتحول إلى فصيلة أخرى، يسمونها الإناث، أو الزوجات المطيعات، أو الحيوانات المستأنسة في البيوت، لا ترفع الواحدة منهن عينها في عين زوجها، واجبها الطاعة وواجبه الإنفاق.

كلمة «الإنفاق» ترن في أذني كالسباب، كلمة مهينة مشبعة بالإهانة، الإنفاق مقابل الطاعة، الأسياد بالخدم والعبيد، أو علاقة الذكور بالإناث في بيوت البغاء، الرجل يدفع الفلوس والمرأة تلبي أوامره، الطاعة هنا مثل طاعة الزوجة مقابل الإنفاق وليس بسبب الاقتناع.

البند الثالث في قانون الزواج أسوأ من البند الأول، من حق الرجل أن يطلق زوجته حين يشاء ويتزوج عليها امرأة أخرى إذا شاء، وليس للزوجة أن تطلق زوجها إلا في المحكمة إذا أراد القاضي، ولا يمكن لها أن تتزوج رجلًا آخر وإلا اعتُبرت زانية؛ لأنها تجمع بين زوجين، الرجل لا يكون زانيًا إذا جمع بين أربع زوجات.

قانون الزواج ينتهك قانون الأخلاق، المبدأ الأول في الأخلاق هو أن الناس جميعًا متساوون أمام القانون بصرف النظر عن الجنس أو النوع أو الطبقة أو العرق أو العقيدة، المبادئ الأخلاقية تسري على الجميع لا فرق بين ذكر وأنثى أو فقير وغني أو حاكم ومحكوم.

لم يكن لي أن أقرأ بنود قانون الزواج دون أن يتملكني الغضب، ينتفض جسدي بالغضب، هل يمكن أن أضع نفسي تحت طائلة هذا القانون؟ أليس هذا نوعًا من الجنون أن أقدم على الزواج من أي رجل، وإن أحببته، فما بال رجل لا أحبه؟!

كان الطلاق الأول في حياتي هو الانطلاق، كالعصفور ينطلق في السماء، بعد توقيع القسيمة، انفتح باب السجن وخرجت إلى الحرية، قبضت بأصابعي الخمسة على ورقة الطلاق كالغريق يقبض على قارب النجاة، لحظة من لحظات العمر المتألقة، تشبه لحظة نجاحي وحصولي على شهادة الطب، أو اللحظة حين تسلمت أول مرتب عن عملي، تحررت وأصبحت أنفق على نفسي، كان أبي هو الذي ينفق عليَّ، لم يكن يطلب مني الطاعة مقابل الإنفاق، علمني الكرامة واحترام نفسي، علمني الجدل ومناقشة كل شيء حتى وجود الله، كنت أناقش أبي وأناقش الله، فهل أنحدر إلى مرتبة الزوجات واجبهن الطاعة مقابل الإنفاق؟! لم أكن في حاجة إلى زوج ينفق عليَّ، أحمل لقب دكتورة، لي كيان جديد ليس هو أنثى أو ذكر، أفحص أجساد الذكور كالإناث، أصعد فوق التقسيمات المفروضة بالجنس، أصعد فوق القانون الذي يحكم النساء، يسمونه قانون الأحوال الشخصية، تنحدر تحته المرأة من إنسانة كاملة الأهلية إلى زوجة ناقصة الأهلية، كالطفل أو القاصر لم يبلغ سن الرشد، كالمريض بعقله المجنون في حاجة إلى وصي، زوجها هو الوصي عليها، يمتلك جسدها وعقلها تحت اسم الشرع، يضربها إن عصت الأوامر تحت اسم التأديب، يتزوج عليها ثلاث نساء أخريات، يطلق عليها الرصاص إذا لمحها مع رجل آخر، ويخرج من ساحة المحكمة بريئًا شهمًا مدافعًا عن الشرف.

كلمة «الشرف» ترن في أذني غريبة، ينتفض جسدي بالغضب، كان الشرف قاصرًا على سلوك المرأة، يرتبط بجزء معين في نصفها الأسفل، لم يكن الشرف يتعلق بسلوك الرجل، لا يعيب الرجل إلا جيبه، إذا امتلأ جيب الرجل بالفلوس أصبح شريفًا وإن مارس الجنس مع عدد من النساء داخل الزواج أو خارجه.

صوت النسوة والرجال من عائلة أمي وأبي يرتفع في نفس واحد: ما له الدكتور رشاد؟ عيبه إيه؟ الرجل ما يعيبه إلا جيبه! عنده عمارة وعزبة وعيادة وعربية شيفروليه، ناقصه إيه؟ ناقصه إيه الدكتور رشاد؟

السؤال يدور في رأسي وهو جالس أمامي في غرفة الصالون، أبي منشغل بالحديث في السياسة، تضاعف حماسه لجمال عبد الناصر بعد تأميم قناة السويس عام ١٩٥٦م، كاد يتطوع في المقاومة الشعبية ضد الاعتداء الثلاثي.

– من أول ما قامت الثورة ومن أيام محمد نجيب وأنا أقول إن جمال عبد الناصر هو القائد الفعلي للثورة … ولا إيه رأيك يا رشاد بيه؟

– أنا معك يا سعداوي بيه، لكن عبد الناصر رايح شمال خالص ناحية الاتحاد السوفييتي وده فيه خطورة على بلدنا يا سعداوي بيه …

– خطورة إيه يا رشاد بيه؟

– الشيوعية يا سعداوي بيه.

– عبد الناصر لا يمكن يكون شيوعي يا رشاد بيه، ده راجل مسلم ومؤمن بالله والرسول، لكن أمريكا رفضت تمويل السد العالي وأصبح تأميم القناة وتأميم الشركات الأجنبية شيئًا ضروريًّا، يعني إحنا ما صدقنا خلصنا من الاستعمار الإنجليزي لازم نقع في الاستعمار الأمريكي يا رشاد بيه؟

– أنا ضد الاستعمار الأمريكي يا سعداوي بيه، لكن أنا كمان ضد الاستعمار الروسي.

– جمال عبد الناصر راجل وطني رفض كل الأحلاف يا رشاد بيه، ولا يمكن يقع تحت الاستعمار الروسي أو غيره.

في غرفة الصالون كان يدور الحوار بين أبي والدكتور رشاد، كنا في صيف عام ١٩٥٧م، في بيتنا في حي العمرانية، أجلس في مقعدي صامتة أتابع الحوار، لا أحد منهما يسألني الرأي، الحديث يدور بعيدًا عني، كأنما أنا غير موجودة، لماذا يتلاشى وجود المرأة لمجرد وجود الزوج؟ لم يكن الدكتور رشاد زوجي بعد، كان عريسًا يتقدم لأبي، يعني مجرد مشروع زوج فقط، لكنه استطاع أن يلغي وجودي، وأبي أيضًا الذي دربني على الجدل والنقاش لم يحرك رأسه ناحيتي ليسألني رأيي في جمال عبد الناصر أو الدكتور رشاد نفسه!

ناقصه إيه الدكتور يا نوال؟ سألني أبي بعد أن انتهت الزيارة، لم أكن أملك الإجابة، رأيته جالسًا في غرفة الصالون داخل بدلته اللامعة، الدبوس الذهبي في الكرافتة يلمع، أسنانه تلمع، شعره الأسود يلمع، الخاتم في إصبعه يلمع، كل شيء فيه يلمع إلا العينين؛ لم يكن يجذبني شيء في الكائنات الحية إلا بريق العينين، ليس أي بريق، فالقط المتوحش أو النمر المفترس في عينه بريق، كنت أبحث عن بريق خاص لا أراه إلا في عيني الإنسان، لماذا ضاع هذا البريق من عيني الدكتور رشاد؟! لم أعرف، كل ما عرفت أن في عينيه نظرة مليئة بالقسوة وإن كان صوته رقيقًا مليئًا بالحنان.

لم يغفر لي الدكتور رشاد أنني رفضته، كالجرح الغائر في جسده لم يلتئم، كانت البنات والنساء يتمنينه، فلماذا لم يرغب إلا فيمن ترفضه؟ أهي الرجولة الهشة تتهاوى عند أي هزة؟ أو الغرور الذكري ينقلب إلى النقيض عند أي تهديد؟!

ولم يؤنبني أحد على ضياع هذا العريس كما فعلوا مع العريس الأول حين كنت في العاشرة من العمر، صمت الجميع في وجوم، إلا طنط نعمات قالت بصوت كنعيق البوم: «منفوخة على إيه يا ست نوال … ده جواز المطلقة زي أكل الطبيخ البايت! ويا ريت مطلقة وبس لكن كمان مخلفة وعندك بنت!»

رنت في أذني كلمة «بنت» كطلقة الرصاص، كتلة متجمدة من الحزن لها كثافة الرصاص، متراكمة في جسد طنط نعمات منذ وُلدت من أمها حتى تزوجت بلا حب، وطُلِّقَت بلا سبب، وماتت قبل أن تموت، خرجت الكلمة من فمها متجمدة كالبصمة، رمادية بلون النني في عينيها، اخترقت رأسي وعادت بذاكرتي إلى الوراء، حين وُلدت بنتًا وليس ولدًا مثل أخي، حين دب الصمت في الكون ولم تنطلق الزغاريد من أفواه النسوة، أيكون مجيئي إلى الحياة سببًا لحزن أهلي؟!

هذا السؤال لم يكف في طفولتي عن الدق في رأسي، مثل المطرقة فوق رأس مسمار، لماذا يكون وجودي في الحياة سببًا لحزن أهلي؟ كنت أحب أهلي رغم حزنهم على وجودي، يدور في رأسي سؤال آخر: كيف يتحول وجودي من سبب للحزن إلى سبب للفرح؟! كيف أنتزع البسمة أو الضحكة من تلك الأفواه المزمومة؟! كان الفرح الوحيد بالبنت يوم يأتيها العريس، تنفرج الأسارير وتنطلق الزغاريد، كان فرحي الوحيد حين أنجح في الدراسة، في العلم أو الطب أو الأدب، هذه المجالات كانوا يسمونها رجولية، وما هي المجالات الأنثوية عندهم؟! دعك المراحيض أو مسح البلاط وتقشير البصل والثوم.

أصبح السؤال يدور في رأسي منذ الطفولة: كيف تتغير قلوبهم فيدخلها الفرح بنجاحي في الطب أو الأدب أكثر من نجاحي في دعك المراحيض؟ كيف تتغير أحلام أمي وأبي فيريانني داخل معطف الأطباء أو الأدباء وليس داخل فستان الزفاف.

كان الطريق طويلًا شاقًّا مليئًا بالحفر والانتكاسات، قد يفرح أبي وأمي بنجاحي في الطب، لكن سرعان ما يتبدد الفرح حين لا أخضع لإرادتهما فيما يخص حياتي، أو حين لا أنجح في ولادة الذكر وإنما هي أنثى، بنت، بنت، بنت! الكلمة بأصواتهم خاصةً صوت طنط نعمات يملؤني بالغضب، بالتحدي، سوف تكون هذه البنت رغم أنوفهم سببًا للفرح، سأفرح بابنتي وإن حزنوا، سأطلق زغرودة طويلة ممدودة في الزمان حتى ألف عام، ممدودة في المكان حتى السماء السابعة، حتى آذان الآلهة أو الشياطين إذا كانت لهم آذان، سأعلن في الكون أنني ولدت بنتًا وأنني أتحدى بها العالم، أغير بها العالم ليفرح بالبنت كما يفرح بالولد وربما أكثر وأكثر.

في قمة الربيع عام ١٩٥٦م، في اليوم الثامن من شهر أبريل جاءت ابنتي «منى» إلى الوجود، آلام الولادة تبددت لحظة الولادة، كأنما هي آلام وهمية مفروضة على النساء منذ نزول الآية: «تلدين في الأسى والألم ويكون اشتياقك لزوجك وهو يسود عليك.»

في المدرسة الابتدائية في منوف قرأت هذه الآية في «الإنجيل»، قال أبي إن الإنجيل كتاب الله مثل التوراة أنزلهما الله هدًى ونورًا للناس يؤمن بهما المسلمون كالقرآن، لم يكن عقلي الطفولي قادرًا على هذا الإيمان، تتكور الآية في حلقي كالغصة: «تلدين في الأسى والألم ويكون اشتياقك لزوجك وهو يسود عليك.» لم أكن اعرف ماذا يعني الله بعبارة «ويكون اشتياقك لزوجك وهو يسود عليك.» تصورت أن المرأة إذا اشتاقت لزوجها فهو يسيطر عليها، قلت لنفسي: لن أتزوج أبدًا، وإن تزوجت فلن أشتاق لزوجي، وإن اشتقت فلن يسود عليَّ.

تفجر في كياني لحظة الولادة شلال عجيب من الفرح، شلال عجيب من الأحاسيس اسمه الأمومة، قبل أن تأتي ابنتي إلى الوجود لم أعرف ما معنى الأمومة، في أحلامي لم أر نفسي أمًّا تحمل على كتفها طفلًا، أو ترضعه من ثديها، كنت أحمل سلاحًا لتحرير الوطن، أو مشرطًا لتشريح الجسد، أو قلمًا أكتب به القصص، لحظة الولادة تغير جسدي، تفجر منه الشلال المتراكم في التاريخ، المخزون في خلايا الجسد والعقل والروح، التحم ثلاثتهم في شيء واحد اسمه الأمومة، أصبح الجسد والعقل والروح كيانًا واحدًا صلبًا هو الأم، بين ذراعي الأم كانت الطفلة المولودة أشبه بالمعجزة، هذه القدرة على تكرار نفسي داخل جسد آخر له ملامحي، وشكل أصابعي، والمقلتان تشعان الضوء كإشراقة الشمس، وهذا الاكتشاف الجديد كالنهر المتدفق باللبن الدافئ، يسري من جسدي في طفولتي، أنا وهي كيان واحد، أفتح عيني وأصحو فوق صدرها كالشاطئ الوحيد في البحر الواسع، النبض في صدرها يدق مع النبض في صدري، تمديدها الصغيرة تمسك يدي، عيناها عسليتان بلون عيني أمي، تتطلعان نحوي باندهاش بفرحة اكتشاف الأم، أصابعها الخمسة الصغيرة تلتف حول يدي كما التفت أصابعي الخمسة حول يد أمي وأنا أرقد بجوارها ليلة مولدي.

أستعيد اليوم وجه طفلتي حين كانت تضحك، كم كان عمرها حين سمعتها تضحك لأول مرة؟ كانت لها ضحكة مميزة عن كل الأطفال في العالم، ترن في البيت تتجاوز الجدران إلى الشارع إلى الكون، أسمعها وأنا أمشي في الشارع، أو واقفة في غرفة العمليات بالمستشفى، أو جالسة أكتب في مكتبي، أو راكبة القطار أو الترام أو الأتوبيس، لها رنين عجيب في أذني، كالماء المقطر يهتز داخل إبريق من الفضة، أسمعها وأنا غارقة في النوم تبدو كالحقيقة، وأسمعها وأنا صاحية يقظة تبدو كالحلم، أحملها فوق صدري وأطعمها كما كانت أمي تحملني فوق صدرها وتطعمني، رائحة طفلتي في أنفي كأنما هي رائحة أمي في طفولتي، واللبن الدافئ يسري داخل عروقي كالدم.

في عيد ميلادي يأتيني صوتها عبر أسلاك التليفون، يجتاز البحر الأبيض المتوسط وقارة أوروبا والمحيط الأطلسي والشاطئ الشرقي الجنوبي لأمريكا الشمالية حتى مدينة دير هام، يخترق صوتها المساحات والمسافات، لا توقفه أرض ولا بحر ولا سماء، يأتيني وأنا نائمة في السرير عند طلوع الفجر، يسري في أذني مثل أول شعاع للشمس «كل سنة وانتي طيبة يا ماما.» لا يمكن أن تنساه، في كل عام تذكرني به، يأتيني صوتها حيث أكون، في المنفى حيث تلقي بي الرياح خارج الوطن، يرن جرس التليفون بجوار سريري، أرفع السماعة: «كل سنة وانتي طيبة يا ماما.» يأتيني صوتها كأنما في الحلم، كنت أنسى دائمًا يوم مولدي، لم أحتفل أبدًا بعيد ميلادي، النهاردة إيه يا منى؟ تضحك ابنتي ضحكتها المميزة تسري عبر الأسلاك إلى أذني، تمشي كالدم الدافئ إلى جسدي النائم: «النهاردة عيد ميلادك يا ماما.» أصحو فجأة كأنما من غيبوبة «مش معقول يا منى دي الأيام بتجري بسرعة أوي.» يعود إلى ذاكرتي صوت جدتي الريفية وأنا طفلة: «اللي متغطي بالأيام عريان.» أردد العبارة بصوت جدتي، تضحك ابنتي كما كانت تضحك وهي طفلة، أستعيد طفولتي، يتدفق الحماس إلى عقلي الناعس، أقفز من السرير كما كنت أفعل وأنا في السابعة من العمر، أفتح النوافذ على آخرها، أستقبل الشمس والهواء، هذا عام جديد يضاف إلى عمري الطويل، هذه ابنتي تذكرني رغم البعد، تشدني إلى الوطن، تحوطني كذراعي أمي، صوتها يأتيني وإن صمتت كل الأصوات، إن نسيني الجميع لا تنساني، تفسح لي مكانًا دائمًا في سريرها، في مدخل بيتها، في قلبها أجدني وإن امتلأت المساحات في قلبها، إن تعبت أو مرضت أجدها بجواري، تمتد ذراعاها نحوي تحملني فوق صدرها كما كنت أحملها فوق صدري، كبرت ابنتي وأصبحت هي الكاتبة المعروفة «منى حلمي»، يخفق قلبي حين أرى اسمها مطبوعًا فوق الورق، أصابعها تلتف حول القلم تشبه أصابعي، حروفها قوية بارزة محفورة فوق وجه القمر.

في طفولتي تصورت أن قلب أبي أكبر من قلب أمي، كان يتسع قلبه لحب الله والوطن، لم أسمع أمي تتحدث عن الله أو الوطن، تصورت أن الأبوة تعلو على الأمومة كما يعلو الرجل على المرأة أو يسود عليها، ثم اكتشفت أن قلب الأم أكبر من قلب الأب، لا شيء في الكون أكبر من قلب الأم، لا تشترط الأم الطاعة مقابل الحب، الأمومة راسخة في التاريخ قبل أن يعرف الأب أطفاله، لم تنشأ الأبوة إلا بنشوء النظام الطبقي الأبوي وفرض قانون الزواج على المرأة، الأمومة كالشمس والمطر والزرع، ظاهرة من ظواهر الطبيعة من غير حاجة إلى قوانين.

تعلمت الحب بلا شروط من خلال أمومتي، ثم امتدت الأمومة خارج جدران البيت وروابط الدم، أصبحت أحب الحب بصرف النظر عن صلة الرحم، بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو الطبقة أو الدين، عشت قصصًا متعددة من الحب وأصبح لي في كل شبر من العالم قصة حب.

بعد مولد ابنتي في ربيع ١٩٥٦م امتد الفرح ليشمل الوطن كله، في ٨ يونيو ١٩٥٦م تم إعلان الدستور الجديد وإلغاء الأحكام العرفية، والإفراج عن المعتقلين في ٢ يوليو ١٩٥٦م، ولم يلبث أن دوى الصوت في الراديو يعلن تأميم قناة السويس، إنه صوت جمال عبد الناصر، واليوم هو ٢٣ يوليو ١٩٥٦م عيد الثورة الرابع، والشهر الرابع من عمر ابنتي، والأفراح في كل بيت، والسجون انفتحت أبوابها وخرج كل المسجونين السياسيين ومنهم الشيوعيين، خرج أسعد شقيق صفية التي أصبحت الدكتورة صفية في مستشفى الأطفال، وتزوجت مدير المستشفى، خرج من السجن رفاعة خطيب سامية، حضرت فرحهما، واشتغل الاثنان في صيدلية بشارع قصر العيني، تزوجت بطة أحد الأساتذة وشاركته عيادته الكبيرة في ميدان الدقي، أما أنا فقد اخترت طريقًا آخر، كنت أبحث عن شيء جديد، لا أريد أن أكون مثل الطبيبات النساء، يسعين إلى العمل في القاهرة في حضن الأهل والأسرة، كنت أبحث عن عمل يأخذني بعيدًا في أحضان الريف، أكنت أشتاق إلى قريتي أو هي ابنتي أعادتني إلى طفولتي؟! أم أنني مللت القاهرة بكل ما فيها؟!

منذ جاءت ابنتي للوجود دار سؤال لم يخطر أبدًا لعقلي: هذه الابنة! أهي السبب الأول لوجودي؟ أي الهدف الأول من الحب والزواج والطلاق وكل شيء؟ لا شيء خارج كيان هذه الابنة يرتبط بوجودي، مثل ذكر النحل ينتهي دوره بانتهاء الإخصاب، ولا يبقى للمرأة منه إلا الأسى والألم.

أهي الأمومة في قوتها الكاسحة تحطم كل شيء إلا نفسها وموضوع حبها؟! كان الرجل البدائي يقتل أطفاله أو يأكلهم، لم يمنعه إلا الأم، كانت تقتل الأب قبل أن يأكل أطفاله، لولا هذه الأمومة القاتلة في حبها لانقرضت الحياة فوق الأرض واندثرت في التاريخ فصيلة الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤