الفصل السادس

الأدب الفارسي الإسلامي

في العصور الوسطى

الأدب الفارسي الإسلامي، أو الأدب الفارسي الحديث، هو أدب الأمة الفارسية المسلمة، نشأ في القرن الثالث الهجري، واستمرَّ مُتَّصِل السُّنى، مُسلسلَ التاريخ إلى عصرنا هذا؛ فعمُرُه زُهاء ألف سنة.

وموطنه موطن الأمة الفارسية في العصور الإسلامية، وهو نَجْد إيران من وادي دجلة في الغرب إلى بلاد الأفغان في الشرق، ومن خليج البصرة وبحر الهند في الجنوب، إلى بحر الخزر ونهر جيحون في الشمال.

وتتَّصل به الآداب التي أُنشئت باللغة الفارسية في غير بلاد الفرس — الآداب التي أنشئت في بلاد الهند والأفغان والترك — وهي آداب واسعة جديرة بالعناية والدرس، ولكنَّا لا نعرض لها في هذا البحث المُجمل، اكتفاءً بوصف الأدب الفارسي في موطنه الأصيل، فهو المثَل الذي احتَذى عليه المُنشئون في المواطن الأخرى.

ولا ريبَ أن الأدب الفارسي له مكانة في البلاد المجاورة لإيران، وله أثرٌ بيِّن فيما أنشأت هذه البلاد من آداب، كالأدب التركي والأدب الأُرْدِي، وكان واسطة لتأثير الأدب العربي في آداب تلك البلاد أيضًا؛ فالأدب الفارسي هو الأدب الثاني ذيوعًا وتأثيرًا في الأُمَم الإسلامية بعد الأدب العربي.

والبحث في الفصول الآتية يتناول الأدب الفارسي في إيران وحدَها.

(١) اللغة

الفهلوية هي اللغة الوسطى من لُغات إيران؛ هي بين الفارسية القديمة التي عرفت في آثار الدولة الفارسية الأولى، دولة الأكمينيين التي أزالها إسكندر المقدوني، واللغات المُعاصرة لها كلغة الآوِستا (كتاب زرادشت) وبين الفارسية الحديثة التي نشأت في القرن الثالث الهجري.

نشأت الفهلوية في الفترة التي تلتْ غارات الإسكندر إلى قيام الدولة الساسانية في القرن الثالث الميلادي، فبلغتْ أوْجَها في عصر هذه الدولة، إذ صارت لغةَ الدولة ولغة الأدب والعِلم في إيران. ووقفت بالفتح الإسلامي، فحلَّت العربية محلَّها واستأثرت بالعُلوم والآداب في تلك البلاد، إلى أن نشأت الفارسية الحديثة فتبِعَتْها ثم سايرتْها ثم سبقتْها على مرِّ العصور.

ومعظم الفروق بين الفهلوية والفارسية الحديثة تتجلَّى في هذه الأمور:
  • (١)

    اعتماد الفارسية الحديثة على الثقافة الإسلامية العربية.

  • (٢)

    اشتمالها على ألفاظ عربية كثيرة، وتأثرها بالمفردات والجُمل العربية في صياغة بعض مفرداتها وجُملها.

  • (٣)

    اتِّخاذ الأوزان والقوافي العربية والسجع والمُحسِّنات الأخرى.

  • (٤)

    كتابتها بالخط العربي بدل الخط الفهلوي.

(٢) الثقافة الإسلامية العربية

دخل الفرس في أُخُوَّة الإسلام، واشتملت عليهم الجماعة الإسلامية العظيمة التي يسيطر عليها الإسلام ويقوم عليها العرب، فاستأثرت العربية بالعالَم والأدب زُهاء قرنَين، ثم ظهرت الفارسية في رعاية العربية فاستمدَّت الإسلامَ — عقائده وكتابه ولُغته — واستمدَّت التاريخ العربي، وزادت عليه ما أورثها الزمان المديد والحضارة القديمة من تاريخٍ وأساطير وآداب وأفكار وأخيِلة؛ فكان الأديب الفارسي مُثقفًا بثقافة إسلامية واسعة شاملة تجمع بين ثقافة العرب والعجَم. وكانت ثقافة العرب أو ثقافة اللغة العربية واعيةً خُلاصة ما أدركه البشر إلى تلك العصور. وقد بقِيَت بلاد إيران موطنًا للأدب العربي منذ انتشر العرب في إيران، ودخل الفرس في أُخوَّة الإسلام إلى غارات التتار. وبقي الأدب العربي أدبًا لشعرائها وكتابها وأدبائها حتى عصرنا هذا. وحسب الباحث أن يتتبَّع تاريخ أدباء العرب الخُلص والمُستعرِبين الذين عاشوا في إيران، وحسبُه أن يَعبُر كتابًا مثل يتيمة الدهر، فيعرف نصيب إيران من أدباء العربية، وحسبُه أن يتعرَّف نصيب أدباء إيران المعاصرين من الأدب العربي.

وهذه جُملة من كتاب المقالات الأربع «جهار مقاله» لنظامي العروضي، من مقالة الكتابة، تُبيِّن منهاج أدباء الفُرس في دروس الأدب:

وكلام الكاتب لا يبلُغ درجةً عالية حتى يأخُذ من كل علمٍ نصيبًا، ومن كل أستاذٍ نكتة، ويسمَع من كل حكيمٍ لطيفة، ويقتبس من كل أدبٍ طُرفة، فينبغي أن يعتاد قراءة كلام ربِّ العزة، وأخبار المصطفى، وآثار الصحابة، وأمثال العرب، وكلمات العجَم، ومُطالعة كتب السلف، والنظر في صحف الخلف، مثل ترسُّل الصاحب والصابي وقابوس، وألفاظ الحمادي والإمامي وقُدامة بن جعفر ومقامات البديع والحريري وحميد وتوقيعات البلعمي وأحمد بن الحسن (المَيمندي)، وأبي نصر الكندري، ورسائل محمد عبده وعبد الحميد وسيد الرؤساء، ومجالس محمد منصور، وابن عبادي، وابن النسَّابة العلوي.

ومن دواوين العرب ديوان المُتنبي، والأبيوردي، والغزي؛ ومن شعر العجم شعر الأزرقي، ومثنوي الفردوسي، ومدائح العنصري إلخ.

(٣) الألفاظ

دخلت في اللغة الفارسية ألفاظ عربية كثيرة، في لغة الخطاب ولغة الأدب والعِلم. ونترك لغة الخطاب هنا لأنها لا تهمُّ القارئ في موضوعنا هذا ولأنها تختلف باختلاف البقاع.

ولغة العِلم أكثر ألفاظًا عربية من لغة الأدب، والنثر أكثر من الشعر نصيبًا من هذه الألفاظ؛ فالنثر العلمي تكثُر فيه الاصطلاحات العربية حتى لا يبقى أحيانًا من الفارسية إلَّا الفعل وروابط الجملة وحروف الجر؛ والنثر الأدبي بين هذا وبين الشعر. والشعر قد يخلو فيه بيتٌ أو بيتان مُتتابعان أو ثلاثة من لفظ عربي، ولكن يندُر أن تجد أكثرَ من ثلاثة أبيات خالية من لفظ عربي.

ولا يحسبنَّ القارئ أن الألفاظ العربية كثُرت في الفارسية حين نشوئها، ثم قلَّت على مرِّ الزمان، فلعلَّ الأمر على عكس هذا؛ ربما تجد شعرًا قديمًا أقلَّ ألفاظًا عربية ممَّا هو أحدث منه، وكذلك النثر.

(٤) الصياغة الفنية

وكان نشوء الأدب الفارسي وازدهاره في حضانة الأدب العربي وسيطرته، فتبع الأدب الناشئ الأدب القديم في الصياغة الفنية التي أُولع بها بعض شعراء العرب منذ القرن الثالث الهجري، ثم زادت صنوفها وشاعتْ وعمَّت حتى صَيَّرت الشعر صناعةً لفظية في القرون الأخيرة. فصِيغت المجازات والاستعارات الفارسية على غرار ما أُلِّف في الأدب العربي. وكان في فارس من ينظُم باللَّغتَين العربية والفارسية، فلا جرَمَ تقاربت اللغتان في بيانهما. وكثيرٌ من الشعراء نظموا شعرًا مُلمَّعًا فيه بيت عربي وآخر فارسي، أو شطر وشطر، وهو كثير في الشعر الفارسي.

ومن أمثلته:

يضرب سيفُك قتلى، حياتُنا أبدًا
فإنَّ روحي قد طاب أن يكون فداكَ

وقوله:

در حلقهُ كل ومل خوش خواند دوش بليل
هاتوا الصباح حيُّوا يا أيُّها السُّكارى

وطُبِّق على النظم والنثر في اللغة الفارسية قواعد البلاغة العربية حينما صارت البلاغة قواعد؛ فكانت كتُب البلاغة الفارسية في قواعدها واصطلاحاتها لا تختلف كثيرًا عن نظيراتها في اللغة العربية، بل طبَّقت هذه الكتب قواعدها على الكلام العربي والفارسي على السواء، مثل كتاب حدائق السحر في دقائق الشعر لرشيد الدين الوطواط العُمري الكاتب. وهو أحد بُلغاء اللسانين، وقد جمع بين أصلِهِ العربي وموطنه الإيراني. ولستُ في حاجة إلى التمثيل ولا أراه يُجدي كثيرًا على القارئ العربي في هذا الفصل المجمل.

(٥) الأوزان والقوافي

اللغة الفارسية ليست مُعْربة، وليس فيها علامات للتأنيث ولا أداة للتعريف، فهي في جُملتها أقصر ألفاظًا وأقل حركاتٍ من اللغة العربية، وقد يُجمَع في كلماتها ساكنان أو ثلاثة، ويقوم المدُّ في أوزانها مقام الحركة. وقد أدرك الجاحظ هذا من قبل إذ قال:

العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تُمَطِّط الألفاظ فتقبِض وتبسُط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونًا على غير موزون.١

ومن أجل هذا كان البيت من الشعر الفارسي في الغالِب أكثر ألفاظًا من مثلِه في الشعر العربي. وكان لا بدَّ أن تختلف الأوزان في اللغتَين بعض الاختلاف، وأن يَجري من الزحاف والعِلَل في إحداهما ما لا يَجري في الأخرى، ويحسُن من الوزن وأجزائه في الفارسية ما لا يحسُن في العربية. وهذا ما نجد بيانه مُجملًا فيما يأتي:

لا مراء أنَّ الشعر الفارسي الحديث نُظِم على أوزان الشعر العربي، ولكن بعض أوزان العرب كانت أقربَ إلى طباع الفُرس ولُغتهم من بعض، وكذلك اقتضى مِزاج الفُرس وطبيعة لُغتهم من التغيير والزيادة والنقص في الأوزان التي أخذوها عن العرَب ما لا نجِدُه في الأوزان العربية.

ولهذا كان العَروض الفارسي في أصوله واصطلاحاته، ودوائره وبحوره وتفصيلاته هو العروض العربي، وكان في بعض الأضرُب والزحافات والعِلل مخالفًا له. ولما أراد صاحب «كتاب المُعجم» أن يضع كتابًا في العروض وضعَه في العروضَين معًا، وكتبه بالعربية وجعل شواهده بالعربية والفارسية. فأنكر عليه هذا الصُّنع جماعةٌ من أدباء الفرس، فقسَّم كتابه قِسمَين: المُعرب في معايير أشعار العرَب، والمُعجم في معايير أشعار العجم. وهذا مِصداق ما قلتُ من اتفاق العروضين في الأصل اتفاقًا دعا المؤلف إلى أن يضعَ كتابًا واحدًا لأوزان العرَب والفُرس، واختلافهما اختلافًا أدَّى إلى الإنكار عليه، وإلى أن يفصل هو العروضَين أحدهما عن الثاني، ولكنه حين تكلَّم على العروض الفارسي لم يجد بُدًّا من شرْح العروض العربي، فجاء كتاب معايير أشعار العجَم مُشتملًا على معايير أشعار العرَب.

يقول صاحب المُعجم في أول الباب الرابع في البحور القديمة والحديثة:

وصناعة الشعر في بدو الأمر مخترَعُ طبع العرب، ومُبتدَع خاطرهم، والعجَم في كل الأبواب تابِعون لا واضِعون، وفي تسمية الأجزاء والأركان وتقدير البحور والأوزان، وتقرير الجائز وغير الجائز فيها ناقِلون لا مُستقِلُّون؛ فلزِم أن نُقدِّم في الكلام على البحور والدوائر أجناسَ شعرهم، وتعديد أوزانهم، كما بدأنا بشرْح أوضاعهم واصطلاحاتهم ليتبيَّنَ الصواب والخطأ، والحَسَن والقبيح، فيما زاد العجَم ونقصوا في أشعارهم.

وخُلاصة ما فعل الفُرس بالأوزان العربية:
  • (١)

    أنهم زادوا أبحُرًا على الأبحر الستة عشر المعروفة في العروض العربي؛ وهي الغريب والقريب والمُشاكِل.

  • (٢)

    وأنهم زادوا في أجزاء الأوزان فأجازوا أن يكون الرَّمَل — مثلًا — ثُمانِيًّا، وهو في العروض العربي لا يزيد على ستة أجزاء، وكذلك الهزَج وهو في العربية سُداسي في الأصل، ورُباعي في الاستعمال.

    ولهذا يشعُر القارئ العربي، وهو يُنشد الهزج الثماني في الشعر الفارسي أنَّ كل شطرٍ بيت كامل. ومن أمثلة هذا قول حافظ الشيرازي في أول الديوان:

    ألا يا أيها الساقي أدر كأسًا ونالها
    كه عشق آسان نمود أول ولي أفتاد مشكلها
    حضوري كرهمي خواهي أزو غائب مشو حافظ
    متى ما تلق من تهوى دع الدنيا وأهمِلْها

    فالشطر الأول من البيت الأول، والثاني من البيت الثاني بيتان كامِلان من الهزَج في العروض العربي، وهما شطران في هذه القصيدة.

  • (٣)

    وأنهم تصرَّفوا في الزِّحافات والعلل حتى أخرجوا من الأوزان العربية أضربًا تعدُّ في نغماتها مستقلة عن الأوزان العربية، ولا يربطها بها إلا تخريج العروضيِّين، كما أخرجوا الرباعي ذا الأضرب الكثيرة من بحر الهزج.

  • (٤)

    وأن طباعهم عدَلَت بهم عن الأوزان الكثيرة الدَّوران في الشعر العربي فهجروها هجرًا تامًّا، فلم ينظُموا في الطويل والمديد والبسيط إلا لإظهار المَقدرة على النظم فيها. وكما عدلوا عن هذه الأوزان أُولعوا بالأوزان التي قلَّ فيها شِعر العرب، مثل المُجتثِّ والمضارع والمقتضب. ووافقوا العرب في أوزانٍ كَثُر فيها النظم في اللغتين، مثل الهزج والرمل والخفيف والمتقارب. وفي المتقارب نظَم الفردوسي الشاهنامة، والشيخ سعدي البستان ونظامي إسكندر نامه. وفي الرمل نظم فريد الدين العطار منطق الطير، وجلال الدين الرومي المَثنوي. وفي الهزج نظَم نظامي الكنجوي خسرو وشيرين، ونظَم في الخفيف بهرام نامه.

    وهذا دليل على ما بين طِباع الأُمَّتين وأذواقهما من التقارُب والتفاوُت. فلا رَيبَ أنَّ إحداث أبحُرٍ جديدة وهجر أبحُرٍ قديمة كان مُقتضى الطبع واللغة.

    ويمكن أن يُفسَّر هذا كله بأنَّ طباع الفُرس أميل إلى الطرَب والخفَّة، فالحركات البطيئة في الأوزان لا تلائم طباعهم. وهذه الأبحر لا تتوالى فيها الحركات تَوالِيَها في الأبحر الأخرى لكثرة الأوتاد فيها.

    وأما القافية، فقد ساروا فيها على السُّنَن العربية، وأخذوا اصطلاحاتها كلها، ولكنهم أُولعوا بالقافية المزدوَجة وسمَّوها المثنوي، نسبةً إلى كلمة «مثنى»، وكذلك أكثروا من الدو بيت أو الرباعي، وذهبوا في الموشَّحات مذهبًا غير مذاهب العرب وسمَّوها بندًا، وقسَّموه قسمين: ترجيع بند، وتركيب بند. ونظَموا المسمط رُباع وخُماس إلى عُشار.

    وأغرِموا في أنواع القوافي بالرديف، وهو كلمة أو أكثر تُكرَّر في آخر الأبيات وتُلغى في التقفية، وتلتزم قافية قبلها.

وقد انتهى العُرف بين أدباء الفرس إلى تقسيم المنظومات هذه الأقسام:
  • (١)

    القصيدة: وهي منظومة على رَويٍّ واحد كثيرة الأبيات لا تقلُّ عن ثلاثين غالبًا، ويغلب على موضوعها المدح والوصف مثل قصائد الأنْوَري والخاقاني.

  • (٢)

    والغزل: وهو منظومة ذات رَوي واحد، قصيرة لا تقلُّ أبياتها عن سبعةٍ ولا تزيد على خمسة عشر غالبًا. وأصل موضوعها الغزل، وأحيانًا تتناول موضوعًا آخر. ويلتزم الشاعر ذِكر لقبه الشعري (التخلُّص) في البيت الأخير مثل غزليَّات سعدي وحافظ الشيرازي.

  • (٣)

    والمَثنوي: وهو منظومة في القافية المزدوجة، يتَّفق كل شطرَين منها في الرَّوي. وقد اتسع لهم مجال النظم في هذه القافية، فنظموا فيها المنظومات المُطوَّلة التي تتجاوز عشرات الآلاف من الأبيات أحيانًا، مثل الشاهنامة والمَثنوي، وخمسة نظامي.

  • (٤)

    والرباعي: وهو أربع أشطر فقط يتَّفق فيها الأول والثاني والرابع في الروي وينفرد الثالث غالبًا. وهو ضرب شائع في الأدب الفارسي، وقد انتقل إلى العربية باسم الدو بيت. وقد خرَّجه العروضيُّون من بحر الهزج، ولكنه فيما أظنُّ اختراع الفُرس. ويقول شمس الدين الرازي:

    «ولأنَّ الزحاف المُستعمل في هذا الوزن لم يُعرف في الشعر العربي القديم لم يُنظم شعر عربي في هذا الوزن، ثم أقبل عليه الآن المُحدثون المطبوعون، فشاعت الرُّباعيات العربية في بلاد العرب كلها، وتداولتها الألسن.»٢
  • (٥)

    والمسمَّط: ونظامه أن تتوالى ثلاثة أشطر أو أكثر مُتفقة في الرَّوي، ثم ينفرد شطر برَوي، تُشاركه فيه نظائره في المنظومة كلها، كالمُربَّع والمُخمَّس المعروفين في النظم العربي.

  • (٦)

    البند: وهو قِسمان؛ تركيب بند، وترجيع بند. وهو منظومة مُقسَّمة إلى أقسام (القسم يُسمَّى خانه)، وكل قسم فيه أبيات مُتفقة في الرَّوي، يَعقُبها بيت مُستقل. وهذا البيت المستقل يُكرَّر بعد كل قسمٍ كما هو، فيُسمَّى النَّظم ترجيعًا، أو يُكرَّر رويه فقط، فيُسمَّى النظم تركيبًا. وهو يُشبِهُ الموشَّح العربي.

(٦) الشعر الفارسي أوليته

لا نعرف شيئًا من آثار الفُرس القدماء في الشعر، وليس بين أيدينا أثارةٌ من الشعر في اللغة الفهلوية أو اللغة الفارسية القديمة أو لغة الآوستا.

وبعيدٌ ألَّا تنظُم الشعر أمةٌ ذات حضارة وأدب كالأمَّة الفارسية، فلا مناصَ من أن نقدِّر أنهم نظموا الشعر، ولم يبقَ منه شيء على مرِّ الأيام. وربما كانت المنظومات القصيرة، التي تُسمَّى الفهلويات والتي تنظم باللغة العامية، مثلًا عن الشعر الفارسي القديم. وربما تكون بعض أضرُب العروض التي لا نظير لها في الأوزان العربية بقايا من النظم القديم، وإنْ وصلَها العروضيُّون بالأوزان العربية.

وقد أدَّى فَقْد آثار الشعر القديم إلى أنْ شاع بين مؤرِّخي الأدب، من الفُرس والعرب في العصور الإسلامية، أنَّ الفرس القُدَماء لم ينظموا الشعر.

يقول ابن قتيبة:

«وللعرب شِعر لا يشركها أحد من الأُمم الأعاجم فيه على الأوزان والأعاريض والقوافي، والتشبيه، ووصف الديار والآثار والجبال والرمال والفلَوات، وسُرى الليل، والنجوم.

وإنما كانت أشعار العجم وأغانيهم في مُطلقٍ من القول. ثُم سَمِع بعدُ قومٌ منهم أشعار العرب، وفهِموا الوزن والعروض فتكلَّفوا مثل ذلك في الفارسية وشبَّهوه بالعربية.»

وخُلاصة ما ذكره محمد عوفي في لُباب الألباب — وهو أول كتابٍ في تاريخ الأدب الفارسي — أنَّ بهرام جور أول من أنشأ شعرًا بالفارسية، وأنه تعلَّم الشعر من العرب؛ إذ نشأ بينهم ووقَفَ على دقائق لُغتهم، وأنَّ له شعرًا عربيًّا بليغًا، وأنَّ هذا المؤلف رأى ديوانه في خزانة كُتب في بُخارى٣ وطالَعَه وكتَب أشعارًا منه وحفظ. ومنها أبيات نظَمَها حينما رجع إلى فارس واستقرَّ على سرير الملك بنُصرةِ العرب، وعرض عليه خواصُّه أن يتزوَّج، ومن شِعره أيضًا:
فقلتُ له لمَّا نظرتُ جنودَه
كأنَّك لم تسمعْ بصَولات بهرام
فإني لَحامي ملكِ فارس كلِّهِ
وما خَير مُلكٍ لا يكون له حامي؟

ثم يذكر عَوفي بيتًا فارسيًّا ارتجلَهُ بهرام في وقت طربِهِ ويقول:

«فكان أول من نظَمَ الكلام الفارسي. وأما الأغاني الخسروانية التي وضعها باربد في الأصوات أيَّام برويز فكثيرة، ولكنها بعيدة من الوزن والتقفية وأشباههما، فلهذا لا أتعرَّض لها هنا. حتى جاءت نوبة آخِر الزمان وسطعت شمس الملَّة الحنفية والدين المُحمَّدي على ديار العجم، وحاور لِطاف الطباع من الفُرس فضلاء العرب، واقتبسوا من أنوار فضائلهم، واطَّلعوا على أساليب لغة العرب، وحفظوا الأشعار المطبوعة الرائقة وتعمَّقوا في معانيها، واطَّلعوا على دقائق البحور والدوائر، وتعلَّموا الوزن والقافية، والرَّوي، والردف والإيطاء والأسناد، والأركان والفواصل، وشرعوا ينسجون على هذا المنوال لَطائفَ من نتائج طباعهم … وحينما علَتْ راية دولة المأمون رضي الله عنه في آخِر سنة ثلاثٍ وتسعين ومائة — وكان ممتازًا في بني العباس بالحِلم والحياء، والجُود والسَّخاء، والوَقار والوفاء — كان في مَروٍ واحدٌ من أبناء الكبراء اسمُه عباس مُنقطع النظير في الفضل، وله مهارة كاملة في عِلم الشعر، وبصَرٌ شامل في دقائق اللُّغتَين، فنظم بالفارسية قصيدة مطلعها:

أي رسانيده بدولت فرق خودتا فرقدين
كسترانيده بجود وفضل در عالَم يدَين

«يا من سما فرقُه بالسعادة إلى الفرقدين، وبسط في العالَم بالجود والفضل اليدين.»

ويقول في أثنائها:

كس برين منوال بيش أز من جنين شعري نكفت
مرزبان بارسي راهست تا أين نوع بَين
ليك زان كفتم من أين مدحت تراتا أين لفت
كيرد أز مدح وثناء حضرت تو زيب وزين

وترجمته هذا:

ما قال أحدٌ قبلي شعرًا كهذا قط، وما كان للسان الفارسي بهذا عهد.

ولكني نظمتُ هذه المدحة لتزدان هذه اللغة بمدحك والثناء عليك.

فلمَّا رُويت هذه القصيدة في حضرة الخليفة أحسنَ إليه ووصله بألف دينار عين، وخصَّه بمزيد العناية والعطف.

ولمَّا رأى الفضلاء هذا صرَف كلٌّ طبعَه إليه، ونُقِش بقلم البيان فضلًا على صفحة الزمان.

ولم يقل أحد بعده شعرًا فارسيًّا، حتى كانت نوبة آل طاهر وآل الليث، فنبغ شعراء قليلون، فلمَّا كان عهد آل ساسان علت راية الكلام، وظهر كبار الشعراء، وبسطوا بساط الفضائل، ووضعوا لعالَم النظم نظامًا، واتخذوا الشعر شعارًا.»

وكذلك يذكر شمس الدين محمد بن قيس الرازي في كتابه «المعجم في معايير أشعار العجم» تربية بهرام جور في الحِيرة وتأدُّبه بآداب العرب، ويقول: إنَّ حماد بن أبي ليلى (حماد الراوية) رَوى عن أهل الحِيرة قِطعًا من الشعر العربي لبهرام، ثُم يروي بيت بهرام الذي يزعم الفُرس أنه أول شعرٍ فارسي ويقول:

«ورأيتُ في بعض كتب الفرس أن علماء عصر بهرام لم يُنكروا شيئًا من أخلاقه وأحواله إلا قول الشعر، فلمَّا بلغت إليه نوبة الملك، واستقرَّ له الأمر تقدَّم إليه الحكيم آذرباد بن زرادستان ونصحه قائلًا: «أيُّها الملك! اعلَم أن قول الشعر من كِبار معايب الملوك، ودنيِّ عاداتهم، لأن أساسه على الكذب والزُّور، وبناءه على المُبالغة الفاحشة، والغلوِّ المُفرط؛ ولهذا أعرَضَ عنه عظماء فلاسفة الأديان وذَمُّوه، وعدُّوا مُهاجاة الشعراء من أسباب هلاك الممالك السالِفة، والأُمَم الماضية.»٤

فارعوى بهرام ولم يقُلْ شعرًا بعدُ ولا سمِعه، ونهى عنه أولاده وأقاربه. ومن أجل هذا وضع باربد الجهرمي — وهو أستاذ العوَّادين — في النثر لُحُونه وأغانيه في مجلس برويز؛ وهي التي تُسمَّى «خسروانية» مع أنها كلها في مدح خسرو، ولم يَستعمل قطُّ فيها منظومًا.

ويقول بعض الناس إن أول شعر فارسي قاله أبو حفص حكيم بن الأحوص السُّغْدي، وهو من سغد سمرقند، وكان له في صناعة الموسيقى مهارة تامة. وقد ذكره أبو نصر الفارابي في كتابه، وصوَّر الآلة التي تُسمَّى شهرود التي لم يستطع أحد أن يستعملها بعد أبي حفص، وقال إنه كان حيًّا سنة ثلاثمائة من الهجرة.

والشعر الذي يُنسَب إليه هو:

أهوى كوهي در دشت جكونه دو ذا؟ يارندارد بي يارجكونه رودا

كيف يسير الظبيُ الجبلي في الصحراء؟ لا أنيس له، فكيف يَسير بغير أنيس» ا.ﻫ.

ذلكم ما يقوله محمد عوفي، وهو أقدَمُ من كَتَب في تاريخ الأدب الفارسي، وما يقوله شمس الدين الرازي، وهو مُعاصِر له، وهو القول المُردَّد في كُتب الفرس.

ومهما يكن فالتاريخ يعي اخبارًا وآثارًا لشعراء نظموا باللغة الفارسية في القرن الثالث الهجري، على قلَّةِ المأثور من أخبارهم وأشعارهم. وقد ذكر محمد عوفي واحدًا فقط من الشعراء أيَّام آل طاهر هو حنظلة البادغبسي، واثنين من الشعراء في عهد آل الليث، هما فيروز المَشرقي وأبو سليك الجرجاني. وإمارة بني طاهر في خراسان استمرَّت من سنة ٢٠٥ﻫ إلى سنة ٢٥٩ﻫ. وبنو الليث أو الصَّفاريون كانت لهم دولة بين سنة ٢٥٤ﻫ و٢٩٦ﻫ.

والناظر في تاريخ الأدب الفارسي يراه ينشأ ويترعرَع في خراسان والأطراف النائية من إيران، في رعاية الإمارات الفارسية، ثم يمتدُّ على مرِّ الزمان إلى الأصقاع الأخرى، ويعمُّ حتى يصير أدب الأقاليم الإيرانية ترعاه الدول الفارسية وغير الفارسية؛ بل نرى الفردوسي يقدِّم الشاهنامة للسلطان محمود الغزنوي التركي، والشاهنامة في صميم فصولها الحماسية تصِف حروب إيران وتوران، وتتعصَّب للفرس، وتذمُّ الطورانيين وهم الترك.

فإذا نظرنا إلى الدول التي سيطرتْ على إيران منذ القرن الثالث وهو العصر الذي نشأ فيه الأدب الفارسي الحديث وجدْنا مصداق هذا:

فلم يكن بنو طاهر ذوي عناية بالأدب الفارسي، ولا كان لهم من السلطان وطول المدة ما يجعل لهم أثرًا في هذا الأدب، ولا عرفْنا أنَّ أحدهم مدح بشعر فارسي.

ويقول عوفي: «كان آل طاهر ذوي كرم ظاهر، وجود وافر، وكان فيض فضلهم وإنعامهم عامًّا، ولكن لم يكن لهم اعتقاد في اللغة الفارسية واللغة الدرِّية.»

وقد روي أن عبد الله بن طاهر أتي بقصة فارسية قديمة فأمر بإحراقها.

والصَّفَّاريون تتصِل أخبارهم بتاريخ الأدب الفارسي قليلًا، ويُقال إنَّ أول شطر من الشعر الفارسي ترنَّم به طفل ليعقوب بن الليث (٢٥٤–٢٦٥ﻫ). وقد مُدِح يعقوب بشعرٍ فارسي، ولكن أثر الصفَّاريين في أدب الفُرس ليس بيِّنًا.

وأما الساسانيون الذين ينتسبون إلى الملك الساساني بهرام جور (٢٦١–٣٨٩ﻫ) فكان لهم من سلطانهم وطول عهدهم، وقيام دولتهم في الأصقاع النائية عن مركز الحضارة الإسلامية والأدب العربي، وانتسابهم إلى الفُرس القدماء ما جعلهم من حُماة الأدب الفارسي الناشئ، وسجَّل مآثرهم في تاريخه.

فقد رعَوا الأدب الفارسي وسمعوا المدائح الفارسية، ونظَم بعض أمرائهم الشعر الفارسي، ونبغ في أيَّامهم زُهاء ثلاثين شاعرًا. وألَّف لهم العلماء في الفارسية، وترجموا إليها من العربية. أُلِّف كتاب أبي منصور الهروي في الطب،٥ وأُلِّف كتاب في التفسير، وتُرجِم تاريخ الطبري وتفسيره؛ فهذه كتب أربعة هي أقدم ما وَعَي تاريخ الأدب الفارسي الحديث من نثر؛ وبذلك صارت الفارسية لغة عِلم وأدب، وشرعت تُشارك العربية بعض المشاركة فيما استقلَّت به العربية منذ الفتح الإسلامي.

أما بنو بويه (٣٢٠–٤٤٧ﻫ) فقد قامت دولتهم على مقربةٍ من العراق العربي ثم سيطرت عليه، فكان أدبها عربيًّا خالصًا؛ نظم كثير من أمرائهم شعرًا عربيًّا، ومدَحَهم شعراء العربية. وحسبُنا قصائد المُتنبي في عضد الدولة. وكان وزراؤهم من حُماة الأدب العربي وقادته. كابن العميد والصاحب ابن عبَّاد. ولم نعرِف أن أحدًا من ملوك بني بويه ووزرائهم مُدِح بشعرٍ فارسي إلَّا الصاحب؛ مدَحَه شاعران من شعراء الفارسية، هما الخسروي والمنطقي. فإذا قِسْناهما بمن مدح الصاحب من شعراء العربية تبيَّنت الفروق بين الأدبَين في تلك البقاع.

وكان ملوك الدولة الزيادية في طبرستان (٣١٦–٤٧٠ﻫ) ينتسبون إلى ملوك الفُرس القدماء إلى الملك قباذ (٤٨٨–٥٣١م) وقد احتُجزوا قليلًا عن مجرى الحوادث والحضارة، بمكانهم في هذا الإقليم الساحلي الذي تقطعه من إيران تلك الجبال الشاهقة، جبال البرز وما يتَّصل بها. وقد تسمَّوا أسماءً فارسية مثل قابوس ومنوجهر وكيكاوس، وعُنوا بالأدب الفارسي، وقصدَهم بعض شعراء الفُرس. مدح قابوسَ بن وَشْمكير الشاعران؛ الخسروي والقمري الجرجاني، ومدح ابنَه مَنوجهر الشاعرُ الذي سَمَّى نفسه منوجهري انتسابًا إلى هذا الأمير. وقد ألَّف كيكَاوس حفيد قابوس كتابًا فارسيًّا في الأخلاق سمَّاه قابوس نامه.

ولكن شيخ هذه الدولة قابوس كان كاتبًا في العربية، ولا تزال رسائله المُسمَّاة كمال البلاغة في أيدينا.

وأما الدولة الغزنوية (٣٥١–٥٧٩ﻫ) فقد امتدَّ سلطانها على شرقي إيران وقِسم من خراسان. وكان قيامُها بعد أن ازدهر الشعر الفارسي فقصد ملوكها — وهم تُرك لا يتعصَّبون للفارسية — كثيرٌ من شعراء الفرس، وأُلِّفت لهم كتبٌ كثيرة بالفارسية. وأُثِر عن السلطان محمود وابنه محمد شعر فارسي. وكانت غزنة في عهد محمود وبنيه حافلة بكبار الشعراء من الفرس، أمثال العنصري والأسدي والعسجدي والفرخي.

وحسبُنا أنَّ الشاهنامة — وهي الحماسة الفارسية الكُبرى — تَمَّ نظمُها في عهد محمود وقُدِّمت إليه.٦ وسنُفصِّل الكلام عنها في فصل القصص الآتي:

وأُلِّفت لمحمود كُتب بالفارسية؛ كَتَب اليميني أحد شعرائه تاريخه بهذه اللغة، وكتب البَيْرواني كتاب التفهيم في النجوم بالفارسية وبالعربية …

وقد عدَّ صاحب لباب الألباب ثمانيةً وعشرين من الشعراء الذين نبَغوا في عهد الغزنويين أيام سيطرتهم على خُراسان وما وراء النهر.

وفي عصر السلاجقة — هؤلاء الترك الذين سيطروا على آسيا الغربية بين الهند والبحر الأبيض مدةً طويلة على اختلاف الأحوال — نبغ شعراء كثيرون عَدَّ منهم عوفي في لباب الألباب أكثر من مائة شاعر، فيهم كثيرٌ من أكابر شعراء الفرس، مثل الأنواري والخاقاني والخيام ونظامي.

(٦-١) أول شاعر فارسي عظيم

اتَّفق مؤرِّخو الأدب الفارسي على أن أول شاعر كبير، سُجِّل شعره في ديوان، هو أبو جعفر الرودكي؛ لم يكن أول من نظم الفارسية، فقد سبقَهُ جماعة إلى النظم. وقد جعله صاحب اللباب السابع في ترتيب الشعراء، ولكنه كان أول من أفاض في الشعر فأُثِر له ديوان.

وكان لتقدُّمه ومكانته أن أثنى عليه الشعراء من بعدُ، وجعلوه مَضرِب المثَل في الشعر والحظوة عند الملوك ونَيل صِلاتهم. وقد أُثِر الثناء عليه والإعجاب به عن شعراء عظام، مثل الدقيق والعنصري. وقد سمَّاه معروفي البلخي سلطانَ الشعراء.

وُلِد في قريةٍ من قرى سمرقند، اسمُها رودك، وحفظ القرآن وهو ابن ثماني سنين، وتعلَّم القراءات، ثم قرض الشعر ونبغ فيه وفي الموسيقى، وكان حسَنَ الصوت جدًّا. وحظي برعاية ملوك بني سامان، ولا سيما نصر بن أحمد الساماني (٣٠١–٣٣١ﻫ) ومدحهم كثيرًا، وقال بعض الشعراء:

لولا شهود الجود أنكر سامِعٌ
ما قاله حسَّان في غسَّان
وترى ثناء الرودكي مُخلَّدًا
من كل ما جمعَتْ بنو سامان

ونال من الثروة منالًا، حتى قيل إنه كان يركَبُ في مائة عبد، ويحمِل ثقله على مائة جمل. وقد قال الشاعر العنصري:

جهل هزاردرم رودكي زمهتر خويش
عطا كرفت زنظر آوري بكشور خويش

«نال الرودكي بالشعر وهو في مَوطنه أربعين ألف درهم من ممدوحه.»

وقد بالغَتِ الروايات في تقدير شعره، فقيل إنه دُوِّن في مائة دفتر، وقال الرشيدي الشاعر. إنه عَدَّ أشعاره فإذا هي ألف ألف وثلاثمائة ألف.٧

ومن القصص الشائعة التي لم يُغفلها كتاب من كُتب التراجِم التي ذكرت الرودكي، قصته مع الأمير نصر بن أحمد. وخلاصة ما رواه العروضي صاحب كتاب جهار مقاله:

أنَّ الأمير نصر بن أحمد الساماني كان يشتو بسمرقند ويصيف ببخارى. ولكنه توجَّه سنةً إبَّان الربيع إلى باذغيس من نواحي هراة، فأعجبته مياهُها ومَراعيها، ثم رحل منها إلى هراة فرأى من طِيب هوائها وكثرة فاكهتِها وأزهارها ما حبَّب إليه المُقام، ومازال يُرجئ الرحيل من فصلٍ إلى فصل حتى أمضى أربع سنين.

واشتاق الجُند إلى أوطانهم، ولم يستطع أحد من الخبراء أن يكلِّم الأمير في الرحيل لِما رأوا من إعجابه بهُراة وإطنابه في وصفها؛ فذهب رؤساء الجند إلى أبي عبد الله الرودكي، ولم يكن بين نُدماء الأمير الأعظم منه مقامًا، وأنفذ منه عند الأمير قولًا، ووَعدوه أربعة آلاف دينار إذا صنع لحنًا يُحرِّك الأمير من هذه الأرض إلى بُخارى ليرَوا أولادهم وبلادهم، فقبِل الرودكي وكان قد عرف مزاج الأمير، فنظم قصيدةً ودخل على الأمير حين الصَّبوح، وأخذ مكانه من المجلس.

فلمَّا بدأ المُطربون أخذ هو الرَّباب وشرع يُنشد هذه القصيدة في نغمة العشَّاق:

بوي جوي موليان آيد همي
بوي يار مهربان آيد همي

ثم يقترب وينشد:

ريك آموي ودرشتي رآه أو
زير بايم برنيان آيد همي
آب جيحون أز نشاط روي دوست
خنك ماراتا ميان آيد همي
أي بخارًا شاد باش ودير زي
ميرزي تو شادمان آيد همي
مير ماهست وبخارًا آسمان
ماه سوى آسمان آيد همي
مير سرو است وبخارًا بوستان
سرو سوى بوستان آيد همي٨

فلما بلغ الرودكي هذا البيت بلَغَ من تأثُّر الأمير أن نزل من التَّخت وركِب فرس النوبة غير مُنتعِل، وتوجَّهَ إلى بخارا فحمَلَ الخدَم النَّعل واتَّبعوه فرسخَين حتى لبِسَها، ولم يلوِ على شيءٍ حتى بلغ بخارا.

فضاعف الجُند للرودكي خمسة الآلاف التي وعدوه بها.

وقد أثبتُّ هذه الأبيات في أصلِها ليرى القارئ — وإن لم يعرِف الفارسية — نموذجًا من الوزن والقافية في شِعر الرودكي طليعة الشعراء العظام. والقصيدة من الرَّمَل، وهو وزن عربي أُولع به الفُرس، والقافية مردوفة؛ والردف أن تُكرَّر كلمة أو أكثر في آخِر الأبيات، ثم تُقفَّى القصيدة وتُبنى على رَويٍّ قبل اللفظ المُكرَّر وهي صنعة مُحبَّبة إلى شعراء الفرس جدًّا، وليست مألوفة في الشعر العربي. وهي مسألة جديرة بالاهتمام في تاريخ نشوء الأدب الفارسي.

وليس يعنينا هنا تمحيص أخبار الرودكي ونقد الروايات التي تضمَّنت أخباره وشعره، فحسبُنا أن نقول إنَّ الأخبار مُتفَّقة على أنه طليعة الشعراء الكبار في الفارسية الحديثة، ومن أجل هذا ينبغي أن نقِف عندَه وقفةً لنعرف ضروب شِعره وأنواع قوافيه وأوزانه، ونقيسها بشِعر اللاحِقين والمُعاصِرين، فنتبيَّن خصائص الشعر الفارسي منذ نشأته ونعرِف كيف تطوَّر من بعد.

شعر الرودكي الذي عُدَّ بمئات الألوف لم يبقَ منه إلَّا قطع مُتفرقة في كتب اللغة والأدب. وقد جمع الدكتور إيتي منه ٥٢ قطعة فيها ٢٤٢ بيتًا. ومن هذه البقية الضئيلة نستطيع أن نتبيَّن بعض موضوعات شعره وضروب قوافيه وأوزانه، وهي لا تختلف عن مُعاصريه ومَن جاء بعده.

ويمكن أن يُستخلَص من أخبار الرودكي وشِعره النتائج الآتية:
  • (١)

    الإكثار من النَّظم والإسهاب. وهي سُنَّة شعراء الفرس كلهم.

  • (٢)

    نظم الرُّباعيات، والوزن والتقفية فيها يُشبهان أن يكونا فارسيين وإن خرَّجهما علماء العروض من بحر الهزج. ولعلَّه ضرب من النظم عرَفه الفُرس قبل هذا العصر، ولم يُؤثَر إلا حينما نبغ شعراء الفارسية فأُثِر شعرهم.

  • (٣)

    النظم على الأوزان والقوافي العربية مع التوسُّع في الزحافات والعلل وإدخال الرديف في القافية؛ وهذا يدلُّ على صنعةٍ قديمة في القافية قبل الرودكي, ولكن لا يبعُد أن تكون من اختراعه.

  • (٤)

    الاهتمام بالقصص، فقد نظَم الردوكي كتاب كليلة ودمنة في القافية المزدوَجة التي يُسمِّيها الفُرس المثنوي. وقد سُبق إلى نظم هذا الكتاب في اللغة العربية، ولكنَّ نظم الردوكي يُعدُّ إيذانًا بما في طباع الفُرس وما دلَّ عليه تاريخ أدبهم من الولوع بالقَصص والإطالة فيه.

  • (٥)

    استمداد التاريخ الفارسي والتاريخ العربي في الموضوع والتصوير.

وهذه سُنَنٌ سار عليها شعراء الفرس منذ عصر الرودكي إلى هذا العصر. ويرى مؤرِّخو الأدب الفارسي أنَّ التطوُّر في ألفاظه وأساليبه وموضوعاته قليل، فشِعر الرودكي يُنشَد اليوم فلا يمتاز في لفظِهِ ووزنه وقافيته وموضوعه كثيرًا عمَّا نُظِم في العصور التالية إلى يومِنا هذا.

ففي شعر الرودكي أكثر خصائص الأدب الفارسي الحديث.

(٧) الشعر الفارسي موضوعاته وخصائصه

١

كنت أسير في استانبول مع أديب تركي عالِم نتحدَّث في الأدب، فسألني ماذا ترى في الشعر العربي والفارسي؛ أيهما أبلغ وأجمل؟ قلت: أرى أن الشعر العربي أبلَغُ وأجمل في حقائق الحياة وعُدَدها: من الأخلاق والسجايا والمكارم والمآثر؛ فالحرب والسِّلم، والغِنى والفقر، وغِيَر الدهر وحادثات الأيام، والشجاعة والإقدام، والصبر، والكبرياء والإباء، والسخاء، والوفاء، والإيثار، وحماية الجار والضعيف، والنفور من الهَوان، والثورة على الضَّيم؛ كل هذه الأخلاق أشيَعُ في الأدب العربي وأجمل، قد فاض بها الشعر العربي منذ عصور الجاهلية وعُنيَ بها في كلِّ عصوره.

ثم قلت: وأرى الشعر الفارسي أبلغ وأجمل في الدقائق النفسية، والعواطف الخفية؛ ومن أجل هذا نبغ شعراء الفُرس في الشعر الصوفي. وكذلك يفوق الشعر الفارسي في القصص.

كان هذا الجواب عفو البديهة، ولكن لم ينقُصْه التفكير من بَعد. وقد اطَّلعتُ في كتاب أُردِي اسمُه «شعر الهند» ألَّفه الأستاذ عبد السلام الندوي على هذه الفقرات:

الشعر الأردي ظِلُّ الشعر الفارسي في أكثر موضوعاته، ففيه من العيوب ما يُرى في الشعر الفارسي إذا قيس بالشعر العربي:
  • (١)

    يفيض الشعر العربي بموضوعات البطولة، والشجاعة، والإقدام، والمُخاطرة، والعزة، والغيرة، والحزم، والحرية، والسخاء والإيثار، وقِرَى الضيف، وما إلى ذلك؛ وهي موضوعات قليلة في الشعر الفارسي والشعر الأُردي.

  • (٢)

    يُصَوِّر الشعر العربي — تصويرًا بيِّنًا — أحوالَ الحضارة والاجتماع، وأحوال الأُسرة، وأساليب المَعيشة والأزياء، وهذه أمور لا تظهر في الشعرَين الفارسي والأُردي.

  • (٣)

    أغرم العرب بالمرأة، وأبانوا في التغزُّل بها عن العواطف الإنسانية السامية، والشاعر في الفارسية والأُردية يتخيَّل معشوقًا يتحدَّث عنه في جوانب كثيرة غير مُستحسَنة. فينحطُّ العاشق والمعشوق من الوجهة الأخلاقية.

وكذلك نرى في الشعر الأردي مزايا الشعر الفارسي التي يَبذُّ بها الشعر العربي:
  • (١)

    المثنويات كثيرة في الشعر الفارسي والأُردي، ولا توجَد في العربية (يقصد المنظومات المطوَّلة في القافية المزدوجة وأكثرها قصص).

  • (٢)
    مناظر الربيع والأمطار التي صوَّرها شعراء الفارسية والأُردية تصويرًا دقيقًا لا يستطيع شعراء العرب تصويرها، لأنهم لم يرَوها.٩
  • (٣)

    الفرس يفوقون العرب في خيالاتِ الحُبِّ والغرام. وقد أبدع الشعر الأُردي في بيان لطائف العِشق ودقائقه مُحاكاةً للشعر الفارسي.

  • (٤)
    الفلسفة والتصوُّف في الشعر الفارسي والأُردي لا نظيرَ لهما في الشعر العربي.١٠

والخلاصة أني وجدتُ في هذه الفقرات تصديقَ ما قُلتُه وإن اختلف رأيي ورأي المؤلف الهندي في التفصيل.

٢

الآداب الواسعة الكاملة تتناول كل عواطف الأمة وآمالها وآلامها، وكل المشاعر والحوادث والمرائي؛ فلا تجد أدبًا كاملًا من آداب الأمم يخلو من موضوعٍ تناوله أدب آخر، ولكن يختلف مَيل الأمم إلى الموضوعات، وتصوير الآداب إيَّاها؛ بعض الموضوعات تُولَع به أمة وتفيض فيه، وتُفنِّن في تصويره حتى يكون ديدن أدبائها، وصورةً واضحة في أدبها، ومزيةً من مزاياها، بينما تتناوله الأمم الأخرى فلا تجيد تصويره، أو تقلُّ مُعالجتها إيَّاه، أو يأتي في أدبها عرضًا أو إشارة.

وبالموضوعات الغالبة على الأدب، والصور المُتلألئة فيه التي تكشف الصور الأخرى، تتميَّز الآداب وتُعرَف. حسْبُ الكاتب في هذا الفصل المُجمَل أن نُبيِّن الموضوعات التي تغلب في الأدب الفارسي حتى تُعدَّ من مَعالمه، وتسمو حتى تُحسَب من مفاخره؛ وإنما يجيء الحديث عن الموضوعات الأُخرى توفيةً للبحث وتكميلًا للموضوع.

(٧-١) القصص في الشعر الفارسي

رأينا في شعر الرودكي — أول شعراء الفرس العظام — كثيرًا من موضوعات الشعر الفارسي الحديث وخصائصه، وقُلنا إن نَظْمَه كتاب كليلة ودمنة كان إيذانًا بما عُرف في الأدب الفارسي بعدُ من الكَلَف بالقصة والإطالة فيها. ونقول هنا إنَّ مَيل الشعراء إلى القصص لم يلبَثْ أن استبان في شِعر أبي المؤيد البلخي، الذي نظَم قصة يوسف وزليخا، وهو من شعراء الدولة السامانية. وقد ذكره الفردوسي في مقدمة منظومته «يوسف وزليخا».

ثم جاء أبو منصور الدقيقي من شعراء القرن الرابع، ومن الذين مدحوا الصاغانيين ثم السامانيين، وتُوفِّي حوالي سنة ٣٧٠ﻫ. وهو أول من شرع ينظُم أساطير الفرس القدماء وتاريخهم؛ أمره بهذا الأمير نوح بن منصور الساماني (٣٦٥–٣٨٧ﻫ) فاختار بحر المُتقارَب ونظم ألف بيتٍ في سيرة الملك كشتاسب وانتصاره لزرادشت واهتمامه بنشر دينِه. ثُم فُتل وهو شاب، فبقِيَ هذا العمل المُرهِق ينتظر شاعرًا مُفلِّقًا صبورًا يضطلِع به، حتى جاء أبو القاسم الفردوسي الشاعر المطبوع الصبور، فعكفَ على نظْم الكتاب زُهاء ثلاثين سنةً حتى فرغ منه. وهو يقول في مقدمة الكتاب: «فلمَّا قُرئَتْ هذه القصص على الناس أعارتها الدنيا سمعَها وقلبها، وأُولِع بها العقلاء والحُكماء حتى ظهر فتى فصيح اللسان، حسَن البيان، ذكي الفؤاد، فقال سأنظُم هذا الكتاب، ففرِح الناس به أيَّ فرح … ثم انقلب به جدُّه فقتله أحدُ عبيده؛ نظم ألف بيت عن كُشتاسب وأرجاسب. ثم انتهى عمره فذهب والكتاب لم يُنظَم … إلخ.»

ثُم يقول الفردوسي في مُقدِّمة فصل كشتاسب إنه رأي الدقيقي في المنام فسأله ألَّا يبخل عليه بإثبات ألف البيت التي نظمها في كتابه فأثبتها. وقد نقدَها الفردوسي وقاسَها بشِعره، وبيَّن قصور نظم الدقيقي عن نظمه.

(أ) الشاهنامة

في هذه المنظومة الهائلة زُهاء خمسة وخمسين ألف بيتٍ من البحر المتقارب والقافية المزدوجة (المثنوي)، وهذا الوزن يُلائم الحماسة، ويُفخِّم الإنشاد.

ولهذا الكتاب عند الفُرس مكانة عظيمة؛ هو سجِلُّ تاريخهم وأساطيرهم، وأناشيد مجدِهم، وديوان لغتهم، ومَوضع سرِّهم ولهوِهم، يُنشدونه في المحافل، ويُعنى به العالِم والجاهل. يقول شَيكِس: «وقد استمعتُ إلى أبيات منها يُنشدها بدويٌّ غاضِب لا يقرأ ولا يكتُب، فعرفتُ كيف يبذُل الفارسي رُوحه في مثل هذا الموقف.»

ويقول نُلْدِكَه ما خُلاصته:١١

«إنَّ الفردوسي شاعر مطبوع يَستولي على فِكر القارئ، ويُحيي القصة التافهة بإنطاق المُمثلين، بل كثيرًا ما تختفي الأفعال في جلال الأقوال. وهو يفصل الحادث المُجمَل تفصيلًا حسنًا، ويخلق حادثاتٍ صغيرة أحيانًا ليُكمل الوصف، وهو بصير بإحياء الأبطال وأحيانًا يخلُقهم على غير ما صوَّرتْهم الأساطير. وما أقدَرَه على بيان ما وراء أفعال الأبطال من أسبابٍ وأفكار. ووصفه النفساني رائع، ونغمة البطولة مسموعة في الكتاب كله. وعظمة الماضي وأُبَّهته، وفرحه وترَحه، وجهاده وجِلاده مُصوَّرة في أسلوب عجيب، حتى ليسمع القارئ صليل السيوف، وضوضاء المحافل. هو لا يبلُغ في التفصيل مَبلغ هوميروس، ولا يستطيع أن يُجمِل واقعةً في كلماتٍ قليلة مثله، ولكنه مع هذا، يمشي قدُمًا إلى غايته حين يصف الوقائع، وإن يكن في الخُطَب والرسائل ثرثارًا ككُلِّ فارسي.

مشاهد الحرب تلقَى القارئ في كلِّ فصل، ولكن هناك ميادين للحُب. والعواطف اللطيفة أيضًا، هناك قصص غرامية رائعة كقصة زال وروذابه وقصة بيزن وفينزه. وهي أجمل فصول الكتاب.

والشاعر في هذا — بل في الكتاب كله — يملك القارئ بسهولةِ الوصف. وعاطفةُ الأمومة والأبوة والقرابة بيِّنة في الكتاب كله، ولكن يصحَبُها الظمأ إلى الدماء ثأرًا للأقارب؛ فقصة الانتقام لسياوخش — مثلًا — تشغل صفحاتٍ كثيرة جدًّا. وهذا الظمأ إلى الدم يتجلَّى حتى نجِد الرجل الوقور جوذرز يشرب دم بيران أطيبِ أعدائه نفسًا.»

هذا الوصف المُعجب الذي يصِفه «نلدكه» لا ينقضُ ما يرى في الشاهنامة من عيوب، كتكرار صُوَر قليلة من التشبيهات في مواضع كثيرة، وكالإطالة المُملَّة، في وصف تعبئة الجيوش وقتالها، وتكرار هذا في وقائع مُتعاقبة، كما يصِف المبارزة بين عشرةٍ مِن قوَّاد الإيرانيين وعشرةٍ من قوَّاد التوارنيين، ويُسمِّي كل قِرنين ويصِف مُبارزتهما وِلاء.١٢
وأنقُل هنا الواقعة التي أشار إليها نلدكه في آخِر الفقرة التي ترجمتُها عنه، لتكون نموذجًا من قصص الشاهنامة على اختلاف ما بين النَّظم والنثر، والتفصيل والإجمال!١٣

مبارزة جوذرز وبيران وقتل جوذرز له.

«فزحَفَ البهلوانان أحدُهما إلى صاحبه، وتقاتلًا زمانًا طويلًا، تارة بالسيوف، وأخرى بالرماح، ومرَّة بالخناجر، وأخرى بالعَمَد، حتى كلَّ كلٌّ منهما وملَّ. فترامَيا فأصابَ جوذرز فرسَ بيران بنشابةٍ خرقت التَّجفاف، ومرقَتْ فيه، فانقلب على بيران فانكسرَتْ يُمنى يدَيه؛ فتقلَّب في التراب، ثم وثب وعَدَا هاربًا نحوَ جبلٍ هناك، فارتقى فيه وهو يرجو ألَّا يتبَعَهُ جوذرز. فنظر إليه جوذرز فأذرى دمعَهُ واستشعر الخشية من تصاريف الأيام، علمًا منه بأن الدنيا غدَّارة، دأبُها الجفاء، وعادتها الغدْر وقلة الوفاء.

فصاح به وقال:

أيها البهلوان المَذكور! مالك تفرُّ بين يدَيَّ راجلًا؟ أما زعمتَ أنك لا ترى لنفسك مُساجلًا؟ أين ذلك الفيلق الجرَّار؟ ما بالك لا يعنيك منهم أحد؟ أين عُدَّتك وشوكتُك، وأين بطشُك وقوَّتك؟ لقد أدبرَتِ السعادة عنك، وانكسفتْ شمس أفراسياب بما حدَث بك. وإذا بلغ بك الحال إلى هذا فينبغي لك أن تسأل الأمان حتى أحملك حيًّا إلى الملك كيخسرو، فإنك شيخ مثلي أشيَبُ الرأس، وقد رقَّ قلبي عليك ولستُ أريد قتلك.

بيران: «حاشاي من هذا، ومن أنْ أُذلَّ لأحد من الأنام. إني لم أُولَد إلَّا للحِمام، فلا أحبُّ أن أموت إلا مَيتة الكرام.

فترجَّل جوذرز، ورفع الترس فوق رأسِه، وصعد إِليه. فرَماه بيران بمِزراقٍ كان معه فأصاب عضد جوذرز، ومرَق منه. فاستشاط جوذرز عند ذلك ورماه بمِزراقٍ في ظهره فنفذ من كبدِه، ففار الدم إلى فمه، ووقع إلى الأرض يتغرغر بحشائشه حتى قضى نحبَه. فصعد إليه جوذرز، وغرَفَ من دمِهِ غرفةً وتشرَّبها تشفِّيًا لسياوخش وأولاده (أولاد جوذرز) السبعين. وهمَّ بأن يحتزَّ رأسه فأدركتْهُ رقَّة منعتْهُ من ذلك، فتركه وغرَزَ عَلَمه عند رأسه ليحمي وجهه من حرِّ الشمس. وركب وعاد إلى عسكره والدم يفيض من عضُدِه فيضًا.»

فانظر إلى التفصيل فيما وقع بين المُتبارزين، وهي مبارزة القائدين بعد مبارزة عشرين من الأبطال. ثم انظُر ما أنطق به الفردوسي جوذرز حين رأى قِرْنه قد أُصيب فرسُه وانكسرت يُمناه، فقد جعله يَعتبِر ويذكُر غِيَر الدهر وتقلُّبه. وهذا ديدن الفردوسي في كل الوقائع. ثم تراه لم يُحاول تحقير عدوِّ الإيرانيين بيران فيجعله يؤثِر الموت على الأسْر، وجعل جوذرز يغلبه برميةِ سهمٍ أصابت فرسَه بعد أن أعجزَهُ أن يغلبه بالسيف والرمح والخنجر والعمود. ثم جعله يشرَب من دمِهِ انتقامًا، ثم يرقُّ له فلا يقطع رأسه، ويَحمي رأسه من الشمس بعلَمه.

هذا مثال منثور مُجمَل من قصص هذا الكتاب. وفيما يلي مثال ترجمته نظمًا، وهو يصِف ما فعلَتْه أم سهراب حينما جاء الخبر بأنَّ ابنها قُتل بيد أبيه رستم:

وتوارانُ دوَّت بهذا الخبر
بَمصرع سُهرابها المنتظَر
لَملْك سِمِنجان١٤ جاءوا سراعا
فقدَّ عليه الثيابَ التياعا
وأُخبِرت الأمُّ أنَّ البطل
بسيف أبيه أتاه الأجَل
فمزَّقت الدرعَ أظفارُها
وشُقَّت من الحزن أستارُها
تئنُّ وتجأر جُهد الحزين
وينتابها الموت في كل حين
تلفُّ أصابعها بالشَّعَر
فتَجتزُّ من أصلهن الطُّرَر
وتُذري على الخدِّ دمع الدم
وتكبو وتنهضُ في المأتمِ
تعضُّ على الكفِّ في يأسِها
وتذرو التراب على رأسِها
تقول: بنيَّ وروحي! تُرى
بأية أرضٍ طواك الثَّري؟
منحتُ الطريق ضياء البصر
عن ابني ورستم أبغي الخبر
حسِبتُك جاوزتَ سهلًا وصعبًا
وطوَّفتَ في الأرض شرقًا وغربًا
وجئتَ أباك وحُمَّ الُّلقى
فأقبلتَ نحوي تحثُّ الخُطى
وما خلتُ أنَّ الأبَ المِسعرا
يُحطِّم في صدرِك الخنجرا
ألم يرحَمِ القامة الهائلة
ووجهك والوَفرة السائلة
وذاك الشَّطاط — أما يرحمُ —
يُمزِّقه بالظُّبى رستمُ!

إلى أن يقول:

وجاءت إلى تاجِهِ تلتدِم
دمُ القلب في دمعِها ينسجِم
وجاءت إلى طرفه الطائر
إلى زينة الزَّمن الناضِر
فلزَّت إلى رأسه صدرَها
يرى الناس في عجبٍ أمرَها
تُقبِّل جبهتَه جهدَها
وتُدني لحافِرِه خدَّها
وجاءت لحُلَّته في كمَدْ
تُعانقها كابنِها المُفتَقَدْ
وجاءت إلى السيف والمِقمعة١٥
خليفَيه في حَومة المعمعة
وجاءت إلى درعِهِ والشليل
إلى القَوس والسَّمهري الطويل
وبالتُّرس جاءت ولُحْم الذهبْ
تصكُّ بها رأسَها المُستلَبْ
ووهق ثمانين في الأذرعِ
تغلُّ بها جيدَها لا تعي
وبالخُود جاءت وبالخوشَنِ
تُهيب بليثِ الوغى المِطعَنِ
وثارت تُجرِّد من سيفِهِ
تجزُّ السبيبةَ من طرفِهِ

… إلخ.

وتتبيَّن قُدرة الشاعر وجَلَده في القِصص الطويلة كقصة سهراب ورستم، وهي ستمائة وثمانون بيتًا، وقصة رستم واسفنديار وهي تسعون وستمائة وألف بيت.

كما تتبيَّن مهارة الشاعر وحُسن احتياله في المواقف الحرجة، فهو يحتال لتقاتُل رستم وابنه سهراب الذي خرج من بلد أُمِّهِ ليلقى أباه. وهو يحمل على عضدِه خرزة أعطاها رستم أمَّهُ لِتُعلقها على عضده فيعرِفه بها، ثم يلتقي الابن والأب في معارك عدَّة، وتتعاقب الحوادث ولا يعرِف الأب ابنه إلَّا بعدَ أن يصرَعَهُ ويضربه بخنجرِه ضربةً قاتلة. والشاعر في هذا كلِّه يحتال ويتلطَّف ليجعل القصة مُمكنة عقلًا.

وأحرج من هذا موقف الشاعر في حرب رستم واسفنديار. رستم بطل إيران الذي كفلَ لها النصر على أعدائها، وأنقذَها من كل كارثة أكثر من ثلاثمائة سنة. واسفنديار ابن الملك كشتاسب البطل الناشئ، بل دين زرادشت الذي أشبَه رستم في وقائع كثير. وتنتهي الحوادث بالتقاء البطلَين في الحرب، ولا تريد القصة أن تجحَدَ تاريخ البطل القديم المُتوَّج بمآثر العصور المتطاولة، ولا أن تغضَّ من بطولة اسفنديار ابن الملك، وبطل الدين الجديد. وهذه خلاصة مجملة جدًّا:

كشتاسب وعدَ ابنه اسفنديار أن يُفوِّض إليه المُلك إذا انتصر في بعض الحروب، ففعل واستنجز أباه الوعد. ويريد كشتاسب أن يُحرِّضه على حرب رستم البطل القديم لأنه اغترَّ بنفسه وأقام في وطنه، ولم يُبالِ بالملك كشتاسب. ويُعظِّم اسفنديار رستم ويُثني عليه، فيأبى أبوه إلَّا أن يُسيِّرَه إليه؛ فيخرج البطل كارهًا حرب البطل؛ فهذا أول تَحيُّل في القصة.

وسار اسفنديار إلى زابلستان مواطن رستم، وأرسل ابنه بهمَن يدعو رستم إلى طاعة الملك، ويُخبره أنَّ الملك أقسم في غضبه أن يأتيه رستم مُقيَّدًا.

فيُجيب رستم ذاكرًا مآثره وماضيه في خدمة الملوك، ويدعو اسفنديار إلى ضيافته وعدًا بأن يَسير معه إلى الملك.

ويتلاقى البطلان على الودِّ والتصافي، فيستضيف رستم اسفنديار، فيعتذِر بأنَّ الملك لم يأذن له في المُقام، ويدعوه إلى أن يبرَّ يمين الملك.

وانتهى الأمر إلى أن احترَبَ البطلان، وكانت سهام اسفنديار الملكية تنال رستم، ولا تصِل سهام رستم إلى اسفنديار، جرح رستم ورخشُه (فرسه).

فاستعان زال أبو رستم بالعَنقاء — وهي التي ربَّت زالًا رضيعًا — فأبرأت رستم والرَّخش من الجراح، وأعطته غُصنًا من الطوفاء يتَّخذه سهمًا يرمي به اسفنديار.

ثم يذهب رستم إلى اسفنديار ويتضرَّع إليه ليكفَّ عن حربه فيأبى، فيرمِيَه بالسهم فيُصيب حدقتَه.

ويتوجَّع رستُم لما أصاب اسفنديار، ويعترِف اسفنديار أنَّ الذي قتلَهُ هو أبوه الملك كشتاسب الذي ألجأه إلى حرب رستم. ثم يُوصي إلى رستم بولده بهمن ليُربيه، ويتعاهدان على هذا.

وهكذا تنتهي القصة، والقارئ لا يدري مَن الغالب ومن المغلوب، وإذا البطلان بريئان من جناية هذا القتال، كلاهما مُكرَهٌ عليه، وكلاهما لم يجد منه بدًّا.١٦ وقد قتل رستم اسفنديار وهو يُحبُّه كما قَتَل بروتس قيصر.

(ب) الشاهنامة والملاحِم الأخرى

الشاهنامة سجِلُّ ما وعته الروايات الفارسية من تاريخٍ وأساطير منذ أقدم العصور إلى الفتح الإسلامي. وقد جُمِعت ونُظمِّت لتكون تاريخًا للقوم. وهي مُرتَّبة ترتيب التاريخ، تتناول أربع دُوَل، تتدرَّج من الخُرافات إلى التاريخ حتى تنتهي بالدولة الساسانية والفتح الإسلامي، ويستمر القصص فيها ٣٨٧٢ سنة.

فهي ليست قصة واحدة كالإلياذة والأوذيسية والمهايهارتا والراما يانا والإنيادة وغيرها، ولكنها تحتوي على قصصٍ حماسية أو غرامية، كل واحدة منها تُشبه هذه الملاحم ويمكن فصلُها من الشاهنامة؛ مثل: حرب بني أفريدون أو حرب كيكاوس والجن في مازندران، أو قصة سهراب ورستم، من القصص الحماسية. ومثل: قصة زال وروذابه، وبيزن ومنيزه من قصص الحُب.

وكذلك يظهر القاصُّ — وهو الشاعر — في أثناء الفصول، واعظًا أو شاكيًا، لأنه يجِد فُرَجًا بين القصص يظهر فيها، لا كالقصص الأُخرى التي يختفي فيها القاصُّ في القَصَص كله.

وهذا مَثل مِن تحدُّث الفردوسي عن نفسه أثناء المنظومة:

شكوى الفردوسي من الدهر

أيا فلكًا دائرًا عاليًا
غدوتَ على كِبَري زارِيا
حدَبتَ عليَّ وعمري قشيبٌ
وأنحيتَ بالذُّلِّ حين المَشيب
ويَذوي على الدهر كلُّ نضير
وكالشَّوك يُصبح مسُّ الحرير
حنى الدهر سَرو الرياض السَّوي
وأطفأ ذاك السراج البَهي
وقد كنتَ كالأمِّ لي مُكرمًا
وها أنا ذا منك أبكي دمًا
وما إن وَفيتَ ولم تحلُم
فويلاهُ من صرفِك المُظلمِ
فليتَكَ لم ترَني ناشئًا
وليتَك لم تنقلِبْ شانئًا
إذا حُمَّ تَركي هذا الظلام
أبثُّ شكاتي لربِّ الأنام
سأشكو إلى الله هذا العذاب
برأسي ممَّا جنيتَ التراب
رأى الدهر ضَعفي حين الكِبَر
فأضعفَ لي إثمَهُ واكفَهَر

•••

فردَّ الجواب إليَّ الفلك
كفى أيها الشيخ ما أجهلَك
لماذا تَرُدَّ إليَّ الأمور
أهذي الشكاةُ شكاةُ البصير؟
ومن لي بأوْجٍ تبوَّأتهُ
لك العقل بالعِلم روَّأتُهُ
طعامٌ ونوم وعيش رغدْ
وحكمُك بين الهوى والرَّشَدْ
ومالي يدان بهذا الخطرْ
ولا الشمس تدري بذا والقمرْ
فسل عن سبيلك ربَّ السبيلِ
وربَّ الدُّجى والضُّحى والأصيلِ
أجل واحدٌ ظاهر لا ينامُ
ولا بدء في فعلِهِ أو ختامُ
وإني في الخلق بعض العبيد
أوجه وجهي حيث يُريد
وما إن أطعتُ سوى حَتمِهِ
ولا أعرف الوجهَ عن حكمِهِ
إلى الله سِرْ وعليه اتَّكلْ
وسَلْ راضيًا خيرَ من قد سُئِلْ
فما غيرُه قد أدار الفلك
وأذكى مَصابيحه في الحلَكْ

(ﺟ) القصص الحماسية بعد الشاهنامة

كلفَ الناس بالشاهنامة، وأنشدوها في محافلهم، وعاشروا أبطالها وأُعجبوا بهم؛ فاتَّجَهَ كثير من الشعراء إلى نظْم القصص القديمة التي أغفلها الفردوسي أو لم يعرفها، فنظَموا قصصًا مُعظمها يدور حول أبطال الشاهنامة أو ذوي قرابتهم ولا سيما أُسرة رستم التي لها المكانة الأولى في بطولة الشاهنامة.١٧

(د) القصص الغرامية

ونظم الفردوسي بعد الشاهنامة قصة يوسف وزُليخا، وهي قصة قرآنية أراد الشاعر أن يُكفِّر بنظمِها عن نظمِه أساطير القدماء في الشاهنامة؛ يعلن هو هذا في مقدمة القصة. ويقول الفردوسي إنه قد سبقَه إلى نظمِها شاعران: أبو المؤيد البلخي والبختياري.

كان نظم هذه القصة بدءَ سلسلة أخرى من القصص الفارسية، هي قصص ليست حماسية، ولكنها غرامية أو تاريخية أو فلسفية وأخلاقية، يُخالطها نزعات من الزهد والتصوُّف، وتغلب عليها هذه النزعات أحيانًا فتُدخلها في التصوُّف الذي يأتي حديثه من بعد.

نظَم الشاعر عمعق البخاري — من شعراء القرن الخامس — قصة يوسف وزليخا أيضًا. ثُمَّ نظمها عبد الرحمن الجامي الصُّوفي العظيم — من شعراء القرن التاسع — ونظمها آخرون من بعد.

وقد نظَم الشاعر العُنصري (المتوفَّى سنة ٤٣١ﻫ، وهو مُعاصر للفردوسي، وأحد كبار الشعراء الذين عاشوا في حماية السلطان محمود الغزنوي) قصة وامق وعذراء، وهي قصة قديمة كتبَها سهل بن هارون بالعربية. ويُروى أنها نُظِمت بالفارسية في عهد بني طاهر أي في القرن الثالث الهجري. ثم نظمها من بعد فصيحي الجرجاني — من شعراء القرن الخامس — وكثير من الشعراء المُتأخِّرين في عهد الصفويين والقاجارِيِّين.

وقصة أخرى من قصص الغرام الفارسية القديمة نظمَها خير الدين الجرجاني — شاعر السلطان طغرلبك — في القرن الخامس، وهي قصة ويسن ورامين.

ومن القصص التي أُولع بها الشعراء فنظموها مرَّات، قصة خسرو وشيرين (كسرى برويز وحظيَّتُه شيرين)، نظمها الشاعر العظيم نظامي وتبِعَه شعراء.

ثم القصة العربية الخالِصة، قصة ليلى والمجنون، نظمَها نظامي، ثم الأمير خسرو الدهلوي (المُتوفَّى سنة ٨٢٥ﻫ) أحد شعراء الفارسية في الهند، ثم عبد الرحمن الجامي، ثم مكتبي الشيرازي (المُتوفَّى سنة ٨٩٥ﻫ) ونامي من شعراء القرن الثاني عشر.

وقد انتهت الصَّنعة والإحكام والدقة في هذا الضرب من القصص إلى نظامي الكنجوى (المُتوفَّى في حدود سنة ٦٠٠ﻫ) وقد نظم منظوماتٍ خمسًا، منها أربعٌ قصصية، هي خسرو وشيرين، وليلى والمجنون، وقصة بهرام، وقصة إسكندر. وقد كلفَ بعض الشعراء من بعدِه بأن يكونوا أصحاب «خمسة» أيضًا.

ولا يتَّسِع المجال هنا لترجمة نماذج من هذه القصص فأكتَفي بهذا الإجمال.

(٧-٢) شعراء الصوفية

التصوُّف ليس فلسفةً محدودة المسائل، ولا مذهبًا بين المعالِم، يجتمع الذاهبون فيه على رأيٍ واحد في الفكر، وخطة واحدة في الفعل، بل الصوفيون يكرهون الحدود، وينفِرون من القيود، وقد قالوا: إنَّ الطرُق إلى الله كعدد أنفس بني آدم، يَعنُون أنَّ لكل نفسٍ طريقَها إلى الله، ولكن مع هذا قد اجتمعت من أقوال الصوفية وأفعالهم على مرِّ الزمان آراء وأفعال تُعدُّ من قواعد مذهبهم ويُسمِّي الناس من يرى هذه الآراء، أو يفعل هذه الأفعال «صوفيًّا».

وقد كثُرت تعريفات التصوُّف والصوف، لأن المُعرِّفين لم يحاولوا الحدَّ المنطقي الجامع، ولكن نظَرَ كل واحدٍ إلى وصفٍ مُستحسَن فعرَّف التصوف به، أو غلب عليه حال من أحوالهم فآثره على غيره. وقد جاء في رسالة القشيري تعريفات منها:

قال الجُنيد: التصوُّف هو أن يُميتك الحقُّ عنك ويُحييك به.

وقال عمرو بن عثمان الملكي: أن يكون العبدُ في كل وقتٍ بما هو أولى به في الوقت.

وقال رويم. استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد.

وقال معروف الكرخي: الأخذ بالحقائق واليأس ممَّا في أيدي الخلائق.

وقال الشبلي: الجلوس مع الله بلا هَمٍّ.

ومن التعريفات ما يُنظَر فيه إلى جانب العمل، كقول أبي محمد الجريري وقد سُئل عن التصوف:

الدخول في كل خُلقٍ سني، والخروج من كل خُلق دَني.

وقول رويم: التصوف يُبنى على ثلاث خصال: التمسُّك بالفقر والافتقار، والتحقُّق بالبذل والإيثار، وترْك التعرُّض والاختيار … إلخ.

وقال سمنون: هو ألَّا تملك شيئًا، ولا يملِكُك شيء.

وأرى أن العارف بتاريخ القوم وأحوال أئمتهم لا يبعُد أن يعرِّف التصوُّف تعريفًا مُجملًا بأنه فِكر وذِكر وعمَل يُراد بها الفناء في الله تعالى.

ثُم الناظر في تاريخ التصوُّف الإسلامي يجِد فيه ثلاث مراحل:
  • الأولى: التعبُّد والزُّهد والخوف الشديد من الجزاء. وهذا نجِده في سيرة الحسَن البصري وسُفيان الثوري، وأمثالهما.
  • والمرحلة الثانية: ذكرتُ فيها المعرفة والمحبَّة، كما نجد في أقوال معروف الكرخي، وبِشر الحافي، والسرِّيُّ السَّقطي وأمثالهم. قال الجُنيد سألني السريُّ يومًا عن المحبَّة: فقلت، قال قوم الموافقة، وقال قوم الإيثار. وقال قوم كذا وكذا. فأخذ السري جلدةَ ذراعِهِ ومدَّها فلم تمتد. ثم قال: وعزَّتِهِ تعالى لو قلتُ إن هذه الجلدة يبستْ على هذا العَظْم من محبَّتِهِ لصدَقْتُ.

    وممَّن أكثرَ الكلام في المعرفة ذو النون المصري.

  • والمرحلة الثالثة: مرحلة الفناء التي أدَّت إلى القول بوحدة الوجود. ومن أوائل المُتكلِّمين في الفناء الجُنيد، والشِّبلي. ومِن المُفرِطين فيها المَغلوبين على أقوالهم أبو يزيد البسطامي. وفي كتاب اللُّمَع لأبي نصر السرَّاج صورة مما لَقِيَه الجنيد من العناء في تأويل أقوال أبي يزيد.

وقد اتَّضحت هذه النزعات على مرِّ الزمان، وشُرِحت ووُضِعت فيها المؤلَّفات، واختلفتْ فيها المناهج والأقوال.

وانقسم الناس منذ القرن الثالث إلى أهل الصَّحو الحافظين أقوالهم وأفعالهم، وأهل السُّكرِ الذين يَغلبهم الوجْدُ على أنفسهم.

وليس يتَّسع المجال لإجمال الكلام في هذا الموضوع بله تفصيله.

وإنما أردتُ أن أقدِّم هذه اللَّمحة قبل الكلام على شعراء الصوفية في اللغة الفارسية. وفي شعرهم تتجلَّى هذه المراحل الثلاث، ولكن اهتمامهم بالزُّهد والتعبُّد قليل، وحديث المعرفة والعِشق والوجد والفناء يفيض به شِعرهم في صُوَرٍ لا تُعَد، بين الحقيقة والمجاز، والتصريح والكتابة، والوضوح والخفاء. وقد كثُر حديثهم عن الحبيب والوجه والطُّرَّة والعين، والخمر والكأس والساقي، ونحو هذا حتى صار لهم لغةٌ خاصَّة يَعرِفون هم ما يُريدون بها. وقد فسَّر كثيرًا منها محمود الشبستري في كتابه كلشن راز (حديقة السِّر).

ومع هذه المعاني ألوفٌ من المعاني النفسية والآفاقيَّة، هي أسمى ما أحسَّه الإنسان في نفسه أو أدرَكَه في العالَم مشاهدةً أو سماعًا، مما يتصل بمقاصد الإنسان وما يلقاه في سبيله إلى هذه المقاصد. والخُلاصة أن النفس الإنسانية مُصوَّرة في جمالها وقُبحها، وسمُوِّها وإسفافها، وحُبها وبُغضها، وسعادتها وشقائها، وفي نزعاتها العُليا إلى عالَمِها وإلى الله مُبدئها ومُنتهاها.

والقصص والتمثيل له من اهتمامهم نصيب كبير، فالقصص الطويلة والقصص الصغيرة المستقلة، أو التي تأتي في ثنايا القصص الكبيرة، والتمثيل والإشارة إلى القصص والحوادث، أظهر ما يراه قارئ الشعر الصوفي.

ويحسُن — على ضِيق المجال — أن أُبين تصور الصوفية لوحدة الوجود، فهي النغمة الشائعة في أناشيدهم، والفكرة المُستكنَّة وراء أبلغ أشعارهم.

وحدة الوجود نبع يَفيض فيُخرج الشجر المُختلف، والزهر المُتعدد، والعشب الشتيت؛ صور متعددة مختلفة الأشكال والألوان ووراءها هذه الفكرة.

وخُلاصة ما تنمُّ عنه أشعارهم فيها أنه ليس في العالَم كلِّه إلا وجود واحد، هو الوجود الحقُّ المُطلق، وهو الخير المَحض والجمال المحض. وقد تجلَّى هذا الوجود المطلق فصدَر عنه العالم؛ أراد هذا الجمال أن يُعرَف، وأول صفات الجمال التجلِّي أو كما قال أفلوطين: «الكمال يقتضي الظهور.» وفي ذلك يروي الصوفية هذا الحديث القدسي: «كنتُ كنزًا مَخفيًّا فأردتُ أن أُعرَف فخلقتُ الخلق فبي عرفوني.» وما أكثر ما يُشير شعراء الصوفية إلى هذا الحديث.

وهذا العالَم ليس وجودًا، بل هو عدَم ظهر كالخيال في المرآة أو أشعة الشمس في الماء.

وفي هذا يروي الصوفية أثرًا آخَر، «كان الله ولا شيء معه. وهو الآن على ما عليه كان.»

وقد تنزَّل الفَيض عن الله في مراتِب حتى بلغ عالَم المادة، ثم ترقَّت المادة فصارت نباتًا، ثم حيوانًا، ثم إنسانًا كاملًا، وهو الحلقة التي تصِل العالم بالوجود المُطلَق مرةً أُخرى.

الإنسان خُلاصة العالم، وهو العالم الأصغر الذي انطوى فيه العالَم الأكبر:

وتزعم أنك جُرمٌ صغير
وفيك انطوى العالَم الأكبرُ

وهو وجدان العالَم الشاعر بنفسه وبالله وهو صِلة المادة أو العدَم بالموجود المُطلق، فهو مركَّب من وجودٍ وعدَم، من رُوح ومادة.

والرُّوح من عالَم الغيب، وهي في حنينٍ دائم إلى عالَمِها. وغاية الصُّوفي في هذه الحياة أن يُيسِّر للروح النجاة، وأنْ يُخلِّصها من هذا التقفُّص، ويُحرِّرها من كل علاقةٍ حتى تتصِل بالله. والطريق إلى النجاة هذه هي الرياضات والمُجاهدات التي تُحرر الروح من الأهواء والشهوات، وتُطلقها من القيود، وتُرجعها وجودًا مُطلقًا غير محدود بزمانٍ أو مكان أو مَيلٍ أو هوى.

ولهم في هذا الطريق مراحِل وأودية يقطَعُها السالك بهداية المُرشِد حتى يبلُغ غايته. فيفنى ثم يُوجَد في الفناء، وتلك حال وراء المعرفة والعقل يتَّحِد فيها العاشق والمعشوق.

والعشق هو النار التي تنفي كلَّ خَبَث، وتُطهِّر مِن كل دنَس، وهو أجرأ من العقل وأقدَرُ منه على مباشرة الأهوال واقتحامها.

يقول العطار: «العاشق من يمضي كالنار مُضطرمًا سريعًا أبيًّا، يحرِق مئات العالَم ولا يُبالي طرفةَ عين … العشق نار، والعقل دُخان، فإذا جاء العِشق ولَّى العقل هربًا.»

ويقول جلال الدين: «العِشق أن تنظُر إلى السماوات، وتُمزِّق كل لحظة مائة حجاب، وأول خطواته أن تهجُر الحياة.»

ويقول حافظ: «كم في الطريق إلى منزل ليلى من أهوال وأخطار، شرط أول خطوة أن تكون المجنون.»

ويقول الجامي: «العِشق يُنغَّم ألحانًا من وراء حجاب. فأين العاشق ليسمَع، إن له في كل نفَسٍ نغمة جديدة، وفي كل آنٍ لحنًا عجيبًا. كل العالَم أصداء نغماته، فمن ذا الذي استمع لهذا الصَّدى الدائم؟ تلك أسرار يُفشيها العالَم، وكيف تحفظ الأصداء أسرارًا! إنَّ سرَّه على لسان كل ذرة، فاستمِع أنت فما أنا بنمَّام.»

ويتَّصِل بعقيدتهم في الوحدة إعظامهم الحقيقة العُليا التي تُجاهد النفس لمعرفتها، واحتقارِهم الأشكال والصُّوَر التي يختلف بها الناس:

«ليست وجوه الاثنتَين وسبعين ملَّةً إلا إلى هذه السُّدَّة، عالَم حائر وليس فيه ضال.»

«أطلبُك تارةً في الكعبة، وتارةً في الدير، أعني أُفتِّش عنك في بيتٍ بعد بيت.»

بل يقول بعضهم:

«إنَّ الإيمان والفِكر يُتركان في صفِّ النِّعال حين يقصد الإنسان هذه الحضرة، كما يخلع المُصلي نعلَيه، وكما خلع موسى نعلَيه في الوادي المقدس.»

تطوُّر الشعر الصوفي وكبار شعرائه: في شِعر الفردوسي، وشِعر المُعاصرين لُمَع من التصوُّف جاءت أثناء الموضوعات الأخرى ولا سيما القِصص الدينية مثل قصة يوسف وزليخا. ولكنَّ أحد مُعاصري الفردوسي قصر شعره على التصوُّف فلم ينظُم في غيره، فكان أول شاعرٍ صُوفي. وقد اختار هذا الشاعر للإبانة عن أفكاره ضربًا من النظم قصيرًا هو الرُّباعيات، فكان من أوائل الناظمين فيها، وكانت كلُّ رباعية تحوي فكرةً من أفكاره تَسير بها مَسير الأمثال، فتُذيع الفكرة والصورة التي اختيرت لها، أي التصوُّف والرُّباعيات.

أبو سعيد: ذلكم الشاعر هو أبو سعيد بن أبي الخير من بلدةٍ مهنا في خرسان (٣٥٧–٤٤٠ﻫ)، وكان مُعاصرًا للشيخ الرئيس ابن سينا. ويُروى أنهما التقيا فلمَّا افترقا قال أبو سعيد: «هو يعرِف ما أرى.» وقال ابن سينا: «هو يرى ما أعرفه.» فإن صحَّت الرواية أو لم تَصِح فهي إشارة إلى ما بين الصوفية والفلاسفة من فرْق. الأوَّلون يُحاولون الكشف والمشاهدة، والآخرون يعتمدون على العقل والتفكير.

ويُعتبَر أبو سعيد أول من صاغ الفكرة الصوفية في الصور الشعرية التي شاعت في أقوال الصوفية من بعدِه.

تُعزى إليه هذه الرباعية العربية:

يا من بك حاجتي ورُوحي بيدَيك
عن غيرك أعرضتُ وأقبلتُ عليك
مالي عمل صالح أستظهِر به
قد جئتُكَ راجيًا، توكلت عليك

ومن رباعياته الفارسية ما ترجمته:

يا من وجهُهُ قمرٌ يضيء العالَم، ووصلُه في كل قلبٍ تَمنٍّ دائم؛
ويلي إن كنتَ مع غيري خيرًا منك معي، وإنْ كنتُ مع كلِّ إنسانٍ مِثلي، فويل بني آدم.

•••

الغازي للظفر بالشهادة يعمل، لا يدري أنَّ العاشق منه أفضل.
كيف يُشبِه هذا ذاك يوم القيامة، هذا قتيل العدو وذاك بيد الصديق يُقتَل.

•••

«كل سير في طريقك جميل، وكل توجُّهٍ إلى ذراك جميل.»
«ووجهُك بكل عينٍ تراك جميل، واسمُك بكل لسانٍ يذكرك جميل.»

•••

«جسمي كله ألَم، وعيني كلها دَمْع من أجلك، وإنما يُعاش بغير جسمٍ في عشقك.»
«لم يبقَ منِّي أثر، فما هذا العشق؟ صرتُ كُلِّي معشوقًا فمن العاشق لك.»

•••

«منذ أحسستُ في قلبي نارًا، حسبتُ النظر إلى الجنة عارًا.»
«ولو رأيتُ الجنة ولم أرك، لعددتُ هذه الجنة نارًا.»

الأنصاري: ثم ظهر في هُراة الشيخ عبد الله الأنصاري (٣٩٦–٤٨١ﻫ) وقد كتب كتبًا منثورةً في التصوف، منها طبقات الصوفية، وله ديوان ومناجاة منثورة، هي من أجمل ما وَعى النثر الفارسي. وهذه نُبَذ منها:

«إلهي أمامي خطر، وليس خلفي طريق، خُذ بيدي، فمالي إلَّا فضلك والتوفيق.»

إلهي في رءوسنا خمارك، وفي قلوبنا أسرارك، وعلى ألسنتنا أشعارك، إذا طلبْنا فإنما نطلُب رضاك، وإذا قُلنا فإنما نُرتِّل ثناك. إلهي، كلُّ إنسان مُفلس ممَّا ليس عنده، وأنا مُفلس مما عندي، لا حدَّ لفضلك، ولا لسانَ لشكرك. إلهي، ليست الجنة بدونك دار سرور، وكيف بغَير محبَّتك الحرية والحبور. إلهي امنحنا عينًا لا ترى سواك، وهبْنا قلبًا لا يختار إلَّا تقواك. إلهي إنْ سألتَ فليس لنا حجَّة، وإن وزنتَ فليس لدَينا سلعة، وإن أحرقتَ فما فينا طاقة، نحن مُفلسون مُعدِمون، ومن زينة الطاعة عاطِلون، وإليك فقراء مُحتاجون. إلهي، أنت حاضر فماذا أطلب، وأنت ناظر فماذا أقول؟ إلهي، كلُّ الناس يرجون أن ينظروا إليك، وعبد الله يرجو أن تنظُر إليه. إلهي، لك الجمال، وقبيحٌ ما سواك، والزُّهاد يشترون الجنة بتقواك. إلهي، ليلُ الفراق مُظلم رهيب، ولكنَّ القلبَ يوقِن أنَّ صبح الوصال قريب. إلهي، أنت ألقيتَ في حِجر آدم دُرَّ الاصطفاء، وأنت نثرتَ على فَرْق إبليس تُراب الشقاء، نقول تأدُّبًا فعلْنا الشرَّ لا أنت، والحقُّ أنك الذي فتنت. إلهي، عندك نار الفراق، فلماذا تبغي في جهنم الإحراق.

سنائي: ثم جاء على آثار هؤلاء الشاعر الكبير الذي يُعدُّ طليعة أئمة الشعراء الصوفية، وهو مجد الدين سنائي الغزنوي المُتوفَّى سنة ٥٤٥ﻫ. وقد قال جلال الدين الرومي: «كان العطار وجهًا، وكان سنائي عينَيه، وجئنا على أثر سنائي والعطَّار.»١٨ فما زال الناس يَجمعون الثلاثة في أحاديثهم وكتابتهم لقول جلال الدين هذا.

ولسنائي أوَّل مثنوي مُطوَّل في التصوف، وهو كتاب تعليمي اسمه «حديقة الحقائق» نظمه سنة ٥٢٥ﻫ.

وممَّا يُختار من آراء سنائي قوله:

«رجعتُ عن كل ما قلتُ حين لم أجد في الألفاظ معاني، ولا للمعاني ألفاظًا.»١٩ وهو خُلاصة ما يقوله الصوفية حين يحسُّون العجز عن الإبانة عمَّا في أنفسهم من الوجد أو الإدراك الخفي.

ومن عجيب أقواله أبيات أحسَبُه يريد أن يُبين فيها أن الرُّقِيَّ في عالَم المادة أو عالم الرُّوح بطيء جدًّا لا بدَّ له من جهادٍ طويل وزمنٍ مديد، وذلك قوله:

«ألَم الدَّين ألَم عجيب، كلَّما مرضتَ فيه كنتَ كالشمع صحَّتُه أن يُقطَع عنقُه.٢٠

كيف يبلغ الإنسان غايتَهُ في هذا الطريق بالقول واللسان؟ لا بدَّ من ألَمٍ يُذيب الصبر، ورجُل مِقدام.

تمضي القرون حتى يصير الطفل بلُطف طبيعته عاقلًا كاملًا أو فاضلًا فصيحًا.

وتمضي السنون ليصير الحجَر في حرِّ الشمس لعْلًا في بدخشان أو عقيقًا في اليمن.٢١
وتمضي الشهور لتصير قبضة صوفٍ من ظهر شاةٍ خرقة لصُوفي أو رسنًا لحمار.٢٢

وتمضي الأسابيع لتخرج قطعة قُطن من الماء والطين فتصير حُلَّة لجميل أو كفنًا لشهيد.

وتمضي الأيام في انتظارٍ بعد انتظار ليَصير المطر في جَوف الصدَف دُرًّا في عدَن.

ولا بدَّ من صِدقٍ وإخلاص، واستقامة، وطول عمر لتُخرج قرن رجلًا قرينًا للحق.٢٣

لا تمكن الاستقامة على طريق التوحيد بقبلتَين، فاختر إما رضا الحبيب وإما هوى النفس.»

ويظهر أنَّ الشاعر أراد أن يُبين أنَّ الكمال ليس يسيرًا، ولكنه يقتضي جهادًا وزمنًا طويلًا. وينبغي ألَّا يُبالي القارئ بذِكر القرون والسنين والشهور … إلخ، فإن حبَّ الشاعر أن يذكُر مقادير الزمان كلَّها أخلَّ بالفكرة بعض الإخلال.

العطار: مهَّد هؤلاء الطريق للشاعر العميق الفيَّاض، شاعر الحُب الإلهي، الذي كانت أقواله تُسمَّى «سوط السالكين»؛ وهو فريد الدين العطار النيسابوري المُتوفَّى في أوائل القرن السابع.

نظم هذا الشاعر العظيم زُهاء أربعين منظومة طويلة وقصيرة، أسْيَرُها بندنامه (كتاب النصائح)، ومنطق الطير.

فأما الأولى فمنظومة أخلاقية دينية اتُّخذت للتأديب، وتُرجِمت إلى العربية والتركية.

منطق الطير: وأما منطق الطير فهو الكتاب الذي ضمِن للعطار الصِّيت والخلود. منظومة فيها زُهاء أربعة آلاف وستمائة بيت في بحر الرمل والقافية المزدوجة (المَثنوي)، لها مُقدِّمة في التحميد والصلاة على الرسول ومدح الخلفاء الراشدين تستغرِق ستمائة بيت، ثم يقصُّ الشاعر قصته في خمسٍ وأربعين مقالة وخاتمة. وخلاصة هذه القصة العجيبة:

إنَّ الطير اجتمعت فتشاكَتْ ما هي فيه من التفرُّق والفوضى، وأنها ليس لها رئيس يجمَع كلمتَها على حين لا تخلو أمَّة من ملِك.

الهُدهد : خَبرتُ الدهر، واعتزلتُ الناس، وجهدتُ في طلب الحق، وصحبتُ سليمان، وطوَّفتُ في الأرض سهْلِها وحَزنِها، ودانيها وقاصيها، وعرفتُ أنَّ لنا ملكًا ولكني عجزتُ عن المسير إليه وحدي، فإنْ تعاونَّا استطعْنا أن نبلُغ مكانه. ملِكُنا اسمُه السيمرغ، وراء جبل اسمُه قاف، هو منَّا قريب، ونحن بعيدون. هو في حرَم جلاله، لا يُحيط البيان بوصفِه، ودونه آلاف من الحُجُب.
وأول العهد به أنه كان طائرًا في ظلماتِ الليل في سماء الصِّين، فسقطتْ من جناحه ريشة، فقامت قيامة الأمم تَعجُّبًا من ألوانها العجيبة. ألم تسمعوا الأثر: اطلُبوا العِلم ولو في الصين؟ ولولا أن ظهر نقش هذه الريشة في هذا العالَم ما ظهر طائر منكنَّ.

(فلمَّا سمعت الطير مقال الهدهد هاجَها الشَّوق إلى السيمرغ وأزمعت الرحيل إليه، ثم ذكرتْ ما في الطريق من أهوالٍ فأخذ كثيرٌ منها يعتذِر.)

البلبل : أنا إمام العاشقين، أفعَمتُ القلوب وجدًا بأغاريدي؛ فكيف أُطيق فراق حبيبي الورد؟
الببغاء : حسبي ما قاسيت. إنَّ جمال هذا الريش أغرى الناس بي فحبَسُوني فقاسَيتُ الغمَّ الطويل والألم المُمِضَّ. على أني لا أستطيع الطيران تحت جناح السيمرغ.
الطاووس : كنتُ مع آدم في الجنة فطُردتُ منها، وكلُّ همِّي أن أرجع إليها، ولستُ أطيق مصاحبة السيمرغ.
البط : ألفتُ الطهارة، ولزمتُ الماء، وزهدتُ فيما عند غيري، ولستُ أستطيع مفارقة الماء والعَيش على اليَبَس.
الحجَل : وأنا أَلِفتُ الجبال، وسكنتُ إليها، فكيف أستطيع أن أبرحَها؟
الصعوة : أنَّى لي أنا الصغيرة الضعيفة، أن أسلُك هذه السبيل إلى ذلك المقصِد؟
البازي : تعلمون مكاني من أيدي الملوك، ولا أودُّ أن أترك هذه المكانة.
الهدهد : لا آلوكُنَّ نصحًا، ولستُ أبغي إلا الخير، كيف تعتذرنَ بما ألفتُنَّ وتترُكنَ هذا المطلب الخطير؟ إن العزم والصبر يهوِّنان كل صعب، ويُقرِّبان كل بعيد.
الطير : كيف نقطع هذه الطريق الشاقَّة البعيدة؟ وما الذي يصِلنا بهذا الملك العظيم؟ (وتكثُر الأسئلة).
الهدهد : ما هذا التواني في الطلب، والركون إلى الدَّعة، والوجَل من لقاء الشدائد؟ تزوَّدن بكفاء هذا الطلَب من الهمَّة والعزم والتجلُّد. وأما صِلة الطير بالسيمرغ فقد تجلَّى كالشمس من وراء الحجب فوقعتْ على الأرض آلاف الظلال؛ فأنتنَّ هذه الظلال أيَّتُها الطير.
إنَّ العشق إذا صدَقَ استسهل العاشِق كلَّ صعبٍ في سبيله، واقتحم كلَّ عقبةٍ إلى حبيبه.

(وهنا يستطرد الشاعر إلى قصة الشيخ صنعان الذي أخرجه العشق من دِينه، ونصحه تلاميذه فلم يُجدِ النصح، حتى أدركَهُ لطف الله. وهي قصة عجيبة في مائتي بيت.)

هاجَتِ الطير شوقًا إلى السيمرغ، وأجمعتْ على المسير إليه، وعلى أن يُقْرَع بينها ليتولَّى أحدُها الإمارة في الطريق، فأصابت القرعة الهدهد. فوضع التاجَ على رأسِه وتقدَّم، واجتمعتْ إليه أسراب الطير فأوفى بها على طريقٍ مُوحِشة.

طائر : ما لهذه الطريق مُقفِرة مُوحشة مُخيفة؟
الهدهد : إنَّ الناس تجنَّبوها إشفاقًا وخوفًا. أما سمعتَ قصة أبي يزيد البسطامي حين خرج إلى البريَّة في ليلةٍ مقمرة والناس نيام، فراقَهُ جمال الليل وتهويده، وعجِبَ كيف حلَّت هذه البرية من السالكين. فسمع مُناديًا يُناديه: إنَّ الملك لا يأذن لكلِّ أحدٍ أن يسلُك طريقه، وإنَّ عِزَّتنا أبعدت السائلين عن بابِنا.
وسارتِ الطيرُ فرأت طريقًا ولا غاية، وألَمًا ولا دواء. هنالك تهبُّ ريح الاستغناء فينحني لها ظهر السماء،٢٤ هنالك صحراء لا يُعبأ فيها بطاووس الفلَك فكيف بِطَير هذه الدنيا؟
الطير : أيها الهدهد، إنك طوَّفتَ في الآفاق، وعرفت كلَّ شيءٍ فارْقَ المِنبَر لنسألك عمَّا حاك في صدورنا، فلا بدَّ أن تنفي الرِّيبة عن قلوبنا.

(فصعد البلبل المنبر وغرَّد بعضُ الطير تغريدًا أذهل الطيور. ثم تواترت الأسئلة.)

طائر : أخبِرْني أيها الإمام، كيف فضَلْتَنا جميعًا، وما هذا التفاوت بيننا وبينك؟
الهدهد : نلتُ هذه الدولة بنظرةٍ من الملك؛ إنها دولة لا تُنال بالطاعة، فكم أطاع إبليس! لستُ أهوِّن أمر الطاعة فعليك بها، ولا تفتُر عنها ساعة، ولكن لا تُقدِّمها ثمنًا. أمضِ عمرك في الطاعة حتى تُصيبك نظرةٌ من سليمان.

(ثم سُئل الهدهد عشرين سؤالًا أجاب عنها مُسهِبًا مُفصِّلًا ضاربًا الأمثال، وكان السؤال التاسع عشر والعشرون كما يأتي.)

طائر : ما الهدية اللائقة بتلك الحضرة التي نقصد إليها؟
الهدهد : لا تحمِل معك شيئًا، فهنالك كلُّ شيء، ليس خيرًا لك من العشق والطاعة.
طائر : كم فرسخًا مسافة هذه الطريق، وما الذي نَلقاه فيها؟
الهدهد : أمامنا سبعة أودية لا نعرِف مسافاتها، فإنَّ أحدًا لم يرجِع منها فيُحدِّث عن طُولها؛ أمامنا أودية الطلَب، والعشق، والمعرفة، والاستغناء، والتوحيد، والحيرة، والفقر، والفناء.

ويصِف الهدهد هذه الأودية وصفًا هائلًا مُسهبًا حتى يبلُغ الوادي السابع، فيقول إنه وادي الدهشة، والصُّم والبُكم والذهول. هناك آلاف من الظلال تُمحى في ضوء الشمس. إذا ماج البحر المُحيط، فكيف يبقى النقش على صفحة الماء، ولكن كل من فقدَ نفسه في هذا البحر فهو في فناءٍ وسلام أبدًا. ويضرب الهدهد أمثالًا منها:

إنَّ الفَرَاش اجتمع ليلةً وأجمع على طلَب الشمعة، واقترح أن يذهب بعضُه ليراها ويصِفها، فذهبتْ فراشة إلى قصرٍ ينبعث منه نور الشمعة، فرجعت تصِف الشمعة لأخواتها. قالت فراشة خبيرة: مالك بالشَّمعة عِلم. فانبعثَتْ فراشة أخرى حتى أتت مَوضِع الشمعة، فاقتربت ثُم اقتربت، حتي آلَمَها حرُّ النار، فرجعت تصِف ما عرفت من أسرار الشمعة. قالت الفراشة العارِفة أيَّتها الأخت: ما هذا إلَّا الذي سمِعنا من قبل. فانطلقَتْ ثالثة سَكرى من الشوق راقصة، مرفوقة حتى ألقَتْ نفسها في لهبِ الشمعة أحاطت بها النار فاحمرَّت كاللَّهَب ثم رجعت. فلمَّا رآها الخبير في ضوء النار ولونها، قالت أجل: لقد عرفَتْ هذه الشمعة، إنما يُدْرَك الحبيب بالفناء فيه.

ولمَّا فرغ الهدهد من مقاله جزِعت الطير، وعرفت أنها لا طاقة لها بهذا السفر، ومات بعضُها في مكانه فرقًا. ثم سارت الأسراب، فلقِيَت ما لا يُوصَف من الهول، وهلك أكثرُها في الطريق، فمنها غارِق في البحر، ومنها ضالٌّ في الفيافي، ومنها هالك عطشًا على قُنَنِ الجبال، ومنها مُحترِق في وهَج الشمس، وبعضها ساقط إعياء، وبعضها شغلتْهُ عجائب الطريق فوقف، وبعضها وجدَ ما يلهو به فركن إلى الدَّعة وآثر العافية، وبعضها أصابته مُصيبة أخرى.

لم يبلُغ الغاية من هذه الآلاف المؤلَّفة، إلا ثلاثون طائرًا (سي مُرغ). بلغت الغاية، وقد أشرفَتْ على الهلاك ألَمًا وإعياءً؛ فماذا وجدنَ هناك؟ وجدنَ ما لا يُدرِکه العقل، ولا يناله الوصف؛ رأینَ برْق الاستغناء يُومِض فيحرق مئات العوالِم في لمحة؛ رأینَ آلاف الشموس والكواكب حائرة كالذرَّات. قال بعض الطير لبعض: وا أسفاه على ما تحمَّلنا من مشاقِّ السفر. إنَّ مائة فلَكٍ هنا كذرَّةٍ من التراب، فما وجودنا وما عدَمُنا في هذه الحضرة؟

وبَقِينَ في حسرة وحزن حتى خرج حاجب العزة:

الحاجب : أيَّتها الحائرات المُضنَيات! من أين جئتنَّ، ولماذا أقبلتُنَّ؟ وما اسمُكُنَّ؟ وماذا سمعتُن، ومن أخبرَكن أن قبضةً من الريش والعظم مِثلكن تقدِر على شيء؟
الطير : جئنا هنا ليكون السيمرغ ملِكَنا. وقد طال علينا الطريق؛ کنا آلافًا فما بقِيَ منَّا إلا ثلاثون. جئنا من بعيد، راجياتٍ أن يؤذنَ لنا في هذه الحضرة. جئنا لعلَّ الملك يرضى أعمالَنا فتنالنا منه نظرة.
الحاجب : أيَّتها الحائرات! ما أنتن؟ ما وجودکنَّ وعدَمكن في حضرة الملك المُطلق الباقي، إنَّ مئات العوالم لا تزِن شعرةً أمام هذا الباب. هلُمَّ فارجعنَ أيَّتُها المسكينات.
الطير : إنَّ هواننا على هذا الباب عِز، وسنبقى هنا نحترِق كالفراش في النار، ولن نيأس من رحمة الملك.

فخرج حاجب الرحمة، وفتح لهنَّ الباب وتقدَّمهنَّ يرفع مئاتٍ من الحجب كلَّ لمحة؛ فانبعث النور في الأرجاء، وبدا عالَم التجلِّي، وأُجلِست الطير على أرائك القُرب. ثُم أُعطيَ كلُّ طائرٍ ورقة، فقرأ فيها ما قدَّم من عمل، فغُشي عليه خجلًا، ثم مُحِيَت الأعمال وأُنسِیَت فلم تَذكُر الطير شيئًا.

ثم أضاءت شمس القُرب مُحرقةً كل رُوح فرأينَ السيمرغ حينئذٍ، وما أعجب ما رأين! كنَّ إذا نظرنَ إلى السيمرغ، رأینَ سي مُرغ (ثلاثين طائرًا) وإذا نظرنَ إلى سي مرغ (الثلاثين طائرًا) رأين السيمرغ. وإذا نظرنَ إلى أنفسهنَّ والسيمرغ معًا؛ رأين السيمرغ وحدَه. فأخذتهنَّ الحيرة، وسألنَ فقيل لهنَّ: إنَّ هذه الحضرة مرآة، فمن جاءها لا يرى إلَّا نفسَه، جئتنَّ سی مرغ (ثلاثين طائرًا) فرأيتنَّ السيمرغ. كيف تُدرِكنا الأبصار، كيف تنال الثريَّا عين النملة؟ ليس الأمر كما رأيتنَّ وعلِمتنَّ، ولا كما قُلتنَّ أو سِمعتنَّ، ولكن قد خرجتنَّ من أنفسكن؛ فها هنا مكانكُنَّ، فامَّحَينَ وضاع الظلُّ في الشمس.

فلمَّا مضى مائة آلاف من القرون — القرون التي لا زمان لها — أُرجعت الطير الفانية إلى أنفسها. فلمَّا رجعت إلى أنفسها بغير أنفسها، رجعت إلى البقاء بعد الفناء.»

(٧-٣) مولانا جلال الدين الرومي

استبحر الشعر الصوفي، وفاض بمنظومات سنائي والعطار ومن حذا حذوَهما حتى القرن السابع، فَوُلِد في أوائله أكبر شعراء التصوُّف وفلاسفته ومُعلِّميه وشيوخه، محمد بن محمد بن الحسين البكري البلخي المعروف باسم مولانا جلال الدين الرومي.

رحل أبوه بهاء الدين من بلخ وجلال الدين في الرابعة من عمره، وانتهى به التطويف في الأقطار الإسلامية إلى آسيا الصُّغرى (بلاد الروم) ونشأ بها جلال الدين وعاش فيها فسُمِّيَ «الرومي». وإليه تُنسَب طائفة «المولوية» الصوفية.

ولا يتَّسع المقال للكلام في تاريخ مولانا، ولا في تفصيل الكلام في شعره ومذهبه الصوفي والفلسفي. فحسْبُنا هذه الكلمة:

ترك جلال الدين أثرَين خالدَين على الدهر: المَثنوي، والديوان.

(أ) المثنوي

منظومة صوفية في بحر الرمَل والقافية المزدوجة (المثنوي)، فيها خمسة وعشرون ألفَ بيتٍ وسبعمائة، في ستة أجزاء، وقد صدر كل جزءٍ بمقدِّمة منثورة منها ثلاث مُقدِّمات عربية.

والشاعر فيها مُعلِّم مختلف الأساليب، ينتقِل من تفسير آية أو شرح حدیث إلى ضرب مثل، وينصح ويَعِظ وينتقل بتلاميذه من فنٍّ إلى فن، وكل هذا موصول بذِكر الله والفناء فيه.

والقصص شائع في ثنايا المنظومة، وفصولها لا ينفصِل بعضها من بعض، بل يؤدي الاستطراد من فصلٍ إلى فصل. وربما يبدأ القصة ثم يستطرِد إلى قصة أخرى، ثم يرجِع ليُتمَّ الأولى على النسَق المعروف في كتاب كليلة ودمنة. ويأخذ القصة القصيرة يتوسَّل بها إلى مقاصده فيطول بها البيان حتى تصير حوادث القصة ضئيلة خفيفة في البيان الذي يبتغيه.

وهو قويُّ البيان فيَّاض الخيال، رائع التصوير، يَضَع المعنى الواحد في صُوَرٍ مختلفة، ويسوق المثَل إثر المثل، والمعاني تأتيه أرسالًا، والمعاني تواتيه انثيالًا، وبحر الرمل يُجاريه رهوًا مُسترسلًا حتى ينظُم حول القصة الصغيرة مئات الأبيات، ويصِل بها ما يشاء من الآراء والنصائح والعِبَر. فقصة الوحوش والأسد والأرنب التي أهلكتْهُ من قصص كليلة ودمنة، نظَم فيها زُهاء خمسمائة بيت، وأخرج منها جدالًا طويلًا بين الأسد والوحوش في الاختيار والجبر.

وقلْبُ الشاعر مُفعم بالعشق الإلهي، مُستغرق به؛ فكل بحث يُذكِّر به، وكل فكر يؤدي إليه، فتراه يبدأ القصة التي تحسَبُها بعيدةً كل البعدِ من العشق والفناء، فإذا هو ينتهي إلى هذه المعاني ويغُوص فيها، ويغلبُه الوجدُ بين الحين والحين فيرتمي في البحر الذي لا يعرِف سابحُه أو غریقه ساحلًا. تلكُم قِبلته أنَّى توجَّه، وغايته حينما سار، ومقصد تصريحه وكناياته، ومرمى نفيه وإثباته:

«أنا غريق العشق الذي غرِق فيه عِشق الأوَّلين والآخِرين. إذا ذَكرتُ الشَّفة فإنما أريد شَفة البحر (شاطئ البحر). وإذا قلتُ لا فإنما مُرادي إلا (يعني إذا نفى فإنما يبغي الإثبات كما في لا إله إلا الله).»

هذا البيان وهذا الفيض، وهذه الحرفة، وهذا الوجد، كل هؤلاء تقصر عن الإبانة عما في نفسه، فيشكو هذا العجز في الحين بعد الحين، ويقف حائرًا صائحًا: إنَّ الذي أُحسُّه وراء الحروف والأصوات بل وراء الأسماء والأفهام. «ما الحرف فتفكِّر فيه، إنه الشوك على جدار البستان، إني أمحَقُ القول والحرْفَ والصوت لأُناجيك بغير هذه الثلاثة.»

وقد افتتح المثنوي بمُقدِّمة في الناي، وهو رمز الروح التي نحنُّ إلى عالمها وتنُوح، وقد أُولع به المولوية واستعانوا به في أذكاره:

وأول الكتاب:

استمع للنايِ غنَّى وحكى
شفَّهُ الوجد وهَدْرًا فشكا:
مُذ نأى الغاب، وكان الوطنا
ملأ الناس أَنِينِي شجَنا
أين صدْرٌ من فِراقٍ مُزِّقا
كي أبُثَّ الوجدَ فيه حُرَقا
مَن تُشرِّده النوى من أصلِهِ
يبتغي الرُّجعى لمعنى وصلِهِ
كل نادٍ قد رآني ناديًا
كل قومٍ تَخِذوني صاحبًا
ظنَّ كلٌّ أنني خير سمير
ليس يَدري أيَّ سرٍّ في الضمير
إنَّ سرِّي في أنيني قد ظهر
غير أنَّ الأُذْن كلَّت والبصر
إنَّ صوت الناي نار لا هواء
كل من لم يصْلَها فهو هباء
هي نار العشق في الناي تثور
وهي نار العشق في الخمْر تفُور
حدَّث النايُ بأهوال الطريق
وعن المَجنون صَبًّا لا يُفيق
أهلُ هذا الحسِّ مَن لا حسَّ لهْ
أرهِفِ السمع لهذي المُعضِلة
ضلَّت الأيام في آلامِنا
ليس إلَّا النار في أيَّامِنا

إلى أن يقول:

ومِن العشق، وأنَّى يحمل؟
رقصَ الطُّور وخفَّ الجبل
عشق الطورُ أجل قد عشِقا
فهوى إذ خرَّ موسى صعِقا
لو تسنَّى من نديمٍ لي فمُ
قلت، كالناي، حديثًا أكتمُ
صمتَ البلبل عن ألحانه
حين غاب الورد عن بُستانه

… إلخ.

وتتخلَّل المثنوي أحيانًا أبيات أو أشطار عربية، منها هذه الأبيات:

عنَّ لي يا مُنيتي لحن النشُور
ابرکي يا ناقتي، تمَّ السرور
ابلَعي يا أرض دمعي قد كفى
اشرَبي يا نفس وردًا قد صفا
عُدتَ يا عيدي إلينا مرحبًا
نِعمَ ما روَّحت يا ريح الصَّبا

(ب) الديوان

وأما الديوان فقد سمَّاه «دیوان شمس تبریز» باسم أستاذه في التصوُّف وصديقه شمس الدين التبريزي. وليس الديوان منظومة مُتَّحِدة البحر والقافية كالمثنوي، ولكنه قصائد مختلفة الأوزان والقوافي متقاربة الموضوع. وهي فيض من العشق والفناء وغيرها من المعاني العالية في نحو ستةٍ وأربعين ألفَ بيت.

وهو في معانيه وألفاظه وأساليبه أدخلُ في معاني الشعر وصنعتِهِ من المثنوي. جلال الدين في المثنوي أستاذ صُوفي حکیم شاعر، وفي الديوان شاعر صوفي.

(ﺟ) مثال من آراء جلال الدين وأقواله

شرح جلال الدين آراءه في المسائل الدينية والصوفية والفلسفية والأخلاقية، وصوَّر عواطفه وإلهاماته في المثنوي والديوان، في أكثر من سبعين ألف بيت؛ فعسير على الباحث أن يُفضِّل مذهبَه ولو في مسألة واحدة من المسائل الكبرى، وحسب المُعرِّف بمذهب جلال الدين وشعره أن يعرِض أمثلة مُجملة مُتفرقة.

العالم والله: أجملْنا في أول الكلام عن الشعر الصوفي رأي الصوفية في صِلة العالَم بالإنسان وبالله، وعن وحدة الوجود والفناء، وجلال الدين يتحدَّث كثيرًا عن حالٍ تَزول فيها الاثنينية، وتُمحى «أنا» و«أنت»، ويذكُر إلى جانب هذا تطوُّر العالَم وارتقاءه من مادة إلى نباتٍ إلى حيوان إلى إنسان إلى ملك، إلى الفناء في الله.

يقول في الجزء الثالث من المثنوي في قصة وكيل صدر بخاري على لسان العاشق الذي لا يُبالي بالموت، وهذه ترجمة تكاد تكون لفظية:

صرت، إذ متُّ جمادًا، ناميًا
مِتُّ نَبتًا صرت حيًّا ساعيًا
متُّ حَيْوانَ إذا بي بشَرُ
كيف أخشى الموت ماذا أحذَرُ؟
ثم أغدو مَیتًا بين البشر
طائرًا في ملَكٍ لا أستقِر
ليس لي إلَّا مَسيرٌ نحوَه
«كل شيءٍ هالك إلا وجهه»٢٥
ثم أفنى، والفنا كالأرغنون
منشدي؛ إنَّا إليه راجعون

ويقول في الديوان:

قد وضع أمامك منذ جئتَ إلى الوجود سُلَّم للنجاة؛ كنتُ جمادًا فصرتُ نباتًا ثم صرتُ حيوانًا فكيف خَفِيَ عليك هذا، ثم صرتَ إنسانًا ذا عقلٍ وعِلمٍ وإيمان، انظُر كيف أزهَرَ هذا الجسم الترابي، وإذا جاوزتَ الإنسان صرت — ولا ريب — ملكًا فتترُك هذه الأرض إلى السماء.

جاوز الملكية كذلك، وادخُل في ذلك اليم، لتَصير قطرتك بحرًا هو مائة بحر.

الروح: يتَّفِق الصوفية على أن الرُّوح من عالمٍ آخَر امتحنت بهذا السجن الأرضي، وهي في حنينٍ دائم إلى عالَمِها تسمع كلَّ حينٍ من عالَمِها نداء «ارجعي».٢٦

يقول جلال الدين في الديوان:

«نسمع الصوت كلَّ حين، من شمال ويمين، ها نحن أولاء ذاهبون إلى الفلك، لقد كنَّا من قبل في الفلك، وكنا أصدقاء الملك، وسنعود فتلك دِیارنا.

بل نحن أعلى من الفلك، وأسمى عن الملك. فلماذا لا نجُوزهما. ألا إنَّ منزلنا الكبرياء.٢٧ أین عالَم التراب من هذا الجوهر الطاهر؟ سنعود وإنْ هبطنا، فما هذا لنا بمُقام … جاء موج «ألست»٢٨ فحطَّم سفينة القالب (البدن) وإذا حُطِّمت السفينة فقد حان اللقاء.»

الجبر والاختيار: ليس جلال الدين من دُعاة الاستسلام والخضوع للحوادث، والتنحِّي عن مُعترك الحياة، بل يدعو إلى العمل الدائم، والجهاد المُستمر، ويعلَم الإنسان أنه حرٌّ وُضِع على هذه الأرض ليکدَّ ویکدَح.

ومن نماذج كلامه في الجبر والاختيار مُحاورة بين الأسد والوحوش في قصة أخذها من كتاب كليلة ودمنة.

الوحوش: أي شيءٍ خير من التسليم؟ كم فارٍّ من البلاء إلى البلاء، وكم هاربٍ من الثعبان إلى التِّنين، وكم احتال الإنسان فكانت حِيلته شَرَكَه، وأقفل الباب والعدو في الدار. وكذلك كانت حيلة فرعون: قتل آلاف الأطفال، الذي يخشاه في داره. إنَّ أبصارنا كليلة ينبغي أن تفنى في بصَرِ الحبيب. نِعْم العِوَض عن أبصارنا بصَرُه. إنَّ في بصرِه كلَّ ما نبغي، ألا ترى الطفل يُحمَل على عُنق أبيه، فإذا اعتمد على رجلَيه وُكِل إلى نفسه فوقع في الكَبَد والعناء. وكذلك كانت أرواح الخلْق قبل أن تُخلَق الأيدي والأرجُل، طائرةً في صفاء؛ فلمَّا أمرت بالهبوط لبِثَتْ في سجنٍ من الحِرص والغمِّ. نحن أطفال رُضَّع وقد قيل: الخلق عِیال الله. والذي يقول المَطَر من السماء قادر على أن يُعطي الخُبز والماء.

الأسد: نعم ولكن ربَّ العباد نصَب أمامنا سُلَّمًا، فعلَينا أن نصعَد فيه درجةً بعد درجة، ما الجبرية إلا غفلة. إنَّ لك رِجْلين فكيف تجعل نفسك زَمِنًا وإنَّ لك يدَين فكيف تجحَدُها، إذا أعطى السيِّدُ عبدَه فأسًا فقد أعلَمَه ما يُريد بغیر قول. أليستِ اليدُ كالفأس؟

فافهم إشاراته فإنها عباراته … إنَّ السعيَ شُكرُ نِعَمه، والجبرية كُفرُها. الجبرية نَوم في الطريق، نومٌ بين قُطَّاع الطُّرق. کیف يأمَن الطائر إذا عطَّل جناحَيه؟ إن أردتَ التوكل فاعمَل. ازرع ثُمَّ اتَّكِل على الخلَّاق … إلخ.

وينتهي الحوار بما يريد جلال الدين من فلج المُحتج للاختيار، ودحْض حجَّة الداعين إلى التسليم.

والحياة في رأي جلال الدين جهادٌ دائم. يقول في المَثنوي، في قصة التاجر والبَبْغاء من الجزء الأول:

«الغريق يجتهد، ويرمي يدَه إلى كلِّ عُشبة يبغي النجاة، والحبيب (الله) يجب هذا اضطراب، وإن الاجتهاد سُدًى خير من النوم. الملك نفسه ليس فارغًا من العمل؛ ألم يقُل الرحمن: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ؟»

وينبغي ألا يصدَّ الإنسانَ عن السعي ما يلقى من آلامٍ وأحزان؛ فالألم وسيلة اللذَّة، بل الألم واللذَّة كِلاهما محبوب.

«كيف يضحك المرج إن لم يَبكِ المطر؟ وهل ينال الطفل اللبنَ بغَير بكاء؟»

العناء أجدى والكدُّ أنفع، ورجل الطريق أو رجُل الله يلقى الخير والشر واللذَّة والألَم راضيًا مُقْدِمًا، مُوقنًا أنه يكمل بالآلام حتى يبلُغ غايته. يقول في المَثنوي:

«إن مكروهَهُ محبوب في نفسي، وروحي فدًى للحبيب المُعذِّب قلبي. أنا أعشق نَصَبي وألَمي في رضاه … إنَّ الدموع التي تُمطِرها العين دُرَر يحسَبُها الناس ماء … إني عاشق قَهْره ولطفه، فاعجبْ لعاشق الضدَّين! أُقسِم لئن جاوزت هذا الشوك إلى البُستان لأنوحنَّ نواح البلبل؛ فاعجَبْ لبلبلٍ يفغر فاهُ ليأكل الشوك والورد معًا! أيُّ بلبل هو؟ إنه تِنِّين ناري يُحبِّب العشق إليه كل مكروه.»

بل يرى جلال الدين أن أنين الأرواح المجاهدة مناجاةٌ دائمة ورُقي مُستمر:

«منه كل حينٍ مائة صرخة، ومن الله مائة رسالة. منه يا ربِّ مرَّة، ومن الله سبعون لبَّيك. وله كل لمحةٍ معراج، ولرأسه مائة تاج، صورتُه على الأرض ورُوحه في لا مكان.»

تِلكم قطرةٌ من بحر جلال الدين، وشرارة من نارِه، وشعاعٌ من نورِه.

وما تزال الأرواح الكبيرة تَستضيء بحِكمة جلال الدين، وتقبس من نارِه في البلاد التي عُنِيت بمعرفة مذهبه وقراءة شعره.

(٧-٤) ضروب الشعر الأخرى

نظم الفرس في الموضوعات المعروفة في الأدب العربي: المدح والهجاء والغزل والرثاء والوصف، ولا سيما وصف الرياض والمياه، وفي الأخلاق والحِكَم.

ولستُ أجد حاجة إلى الكلام في هذه الأضرب، ووصف منهجهم فيها فهي في جُملتها صُوَر ممَّا في الشعر العربي — لا سيما الشعر العربي المُعاصر للشعر الفارسي، شعر القرن الرابع وما بعدَه — مع حساب ما في شعراء الفُرس من نزوعٍ إلى الإكثار والغُلوِّ.

ولكنَّ الشعر الأخلاقي جدير أن يُخصَّ بكلمةٍ بعد هذا الإجمال:

شعر الأخلاق والحِكَم يأتي كثيرًا في ثنايا قصائد المدح والرثاء كما نعهد في الشعر العربي، ويتخلَّل المنظومات المُطوَّلة في الفارسية، مثل منظومات نظامي والجامي، ولا سيما منظومات التصوُّف كحديقة «الحقائق»، ومثنوي جلال الدين ومنظومات ناصر خسرو، ولكن شاعرًا فارسيًّا عظيمًا يستحقُّ أن يُذكَر وحدَه في هذا الضرب من الشعر، شعر الأخلاق والتهذيب، وهو: الشيخ سعدي الشيرازي المُتوفَّى سنة ٦٩١ﻫ.

سلك سعدي في الأدب طرائق مختلفة حتى الهزل؛ فقد نظم فيه، على تقواه ووَرَعِه، وله فيه قِطع سمَّاها «الخبيثات». وله «غزلیَّات» سمَّاها الطيبات، بزَّ فيها كبار الشعراء حتى عُدَّ من أجلها أحد أنبياء الشعر الثلاثة، في أبياتٍ مأثورة بين الأدباء؛ وهم الفردوسي في القصص، والأنواري في القصائد، والسعدي في الغزل.

ثم امتاز سعدي بالتعليم الأخلاقي، يتجلَّى في شعره الدعوة إلى الرحمة والبر والعدل، والاتِّعاظ بِعِبَر الزمان، وغِيَر الدهر.

طوَّف الشيخ في الأقطار زُهاء ثلاثين سنة. ذهب إلى بلاد الهند والأفغان والترك، وإلى الحجاز والشام، وآسيا الصغرى، ويُقال إنه ذهب إلى إفريقية الشمالية: مصر وغيرها.

وكان يُسافر في زيِّ الدراويش، ويُخالط الناس جميعًا فقراءهم وأغنياءهم، وعلماءهم وجهَّالهم، وخيارَهم وأشرارهم. نراه في قصص الكلستان والبستان تارة حاجًّا يَتبع إحدى القوافل ماشيًا، وتارة مُعلمًا في كشغر، وتارة أسيرًا في أيدي الفرنج في الشام، وأُخرى في معبدٍ من معابد الهند، وحينًا مُعتكفًا في جامع بني أمية، وحينًا واعظًا في مسجد بعلبك.

وقد شهد الكوارث الكبرى التي أصابت البلاد الإسلامية على أيدي التتار ورثى بغداد. ثم أوى إلى بلدِه شیراز، وقد بقِيَت في معزلٍ من طوفان الحوادث بالصُّلح بين أمرائها والتتار. وهنالك خلا بنفسه وبتجارب الأقطار الشاسعة، والسنين الكثيرة، ووضع زبدةَ معارفه وتجاربه وصورةَ أخلاقه وعواطفه، في كتابَيه البستان والسكلستان.

والأول منظوم كلُّه في البحر المُتقارب والقافية المزدوجة (المثنوي)، وفيه زُهاء ألف بيتٍ نظمَها سنة ٦٥٥ﻫ وضمَّنها عشرة أبواب:

العدل والإنصاف والملك – الإحسان – العشق – التواضع – الرضا – القناعة – التربية – الشكر على العافية – التوبة – المناجاة.

والكتاب الثاني منثور تتخلَّله أبيات وقِطع في ثمانية أبواب.

والبستان کله دَعوة خالِصة للخُلق الجميل، ولا سيما الرحمة والإحسان والإيثار، وهو في هذا إنساني يُشفِق على الناس جميعًا لا يخصُّ قبيلًا دون قبيل. وكأنَّ أبياته هذه كانت شعاره في كلامه كله:

بنو آدم جسد واحد
إلى عنصر واحد عائد٢٩
إذا مسَّ عضوًا أليمُ السقام
فسائرُ أعضائه لا تَنام
إذا أنت للناس لم تألَمِ
فكيف تَسمَّيتَ بالآدمي؟

وهذه أمثلة من حكايات البستان القصيرة:

١

سمع أحد كبراء العراق مسكينًا تحت قصرِه يقول: أسعِف القائمين على الأبواب، فإنك مثلهم قائم على باب، خلِّص هذه القلوب من أوجاعها يُخلَّص قلبك من أوجاعه. إنَّ اضطراب قلوب العالمين يثلُّ عروش المالِكين. أنت تَقِيلُ في حرَمِك سعيدًا، والغريب يذوب في الهجير وحيدًا، من لم يستطع أن ينال من المَلِك عدلَه، فقد كفل الله أن يأخُذ له حقَّه.

٢

سمعت أن جمشيد السعيد، كتب بحجَرٍ على رأس ينبوع: كم مرَّ أمثالنا على هذه العين، ثم ذهبوا في لمحة عين. قد ملَكْنا العالم بالشجاعة اغتصابًا، ولكن لم نأخُذْه معنا إلى القبر. إنْ ظفرتَ بعدوِّك فلا تنتقِم منه؛ فحسبُه ما نزل به، لَأنَّ يعيش عدوُّك أمامك ضعيفًا، خير لك من أن تَبُوء بدمِهِ قتيلًا.

٣

شبَّت النار ليلةً من آهات الخلق، فأحرقت نِصف بغداد. فقال أحد الناس، في هذا الدخان واللهب: الحمد لله لم يُصِب دُکَّاننا شر. قال شيخٌ مُجرِّب: أنت لا تُبالي بغير نفسك أيها الأحمق، ولا يُهمُّك أن تحترق مدينة إذا لم يحترق بيتُك. لا يشبع — وقد ربط الجائعون على بطونهم الأحجار — إلَّا من استحجَرَ قلبه. كيف يهنأ الغنيُّ بلقمةٍ وهو يرى الفقير يقتات دموعَه؟ وكيف يَصحُّ من يرى مريضًا يتلوَّى من الآلام؟ إنَّ ذا القلب الرحيم لا ينام إذا بلغ المنزل حتى يلحق به المُتخلِّفون في الطريق، وإنَّ قلوب الملوك ليبهَظُها الهمُّ حين ترى حمارًا سقط بحِملِه في الطين. حسْب أهل السعادة كلمة واحدة من مقال سعدي. وحسبُك أن تعرف أنك إذا زرعتَ الشوك لا تجني الياسمين.

حاکى کثيرٌ من الشعراء بستان سعدي؛ کتب نزارهي القوهي (المتوفَّى سنة ٧٢٠ﻫ) دستور نامه، وكتب كاتبي (المُتوفَّى ٨٣٨ﻫ) ده باب (عشرة أبواب) وكتب هراتي (المُتوفَّى سنة ٩٦١ﻫ) کلزار.

(٨) النثر

لا يَرْجُ القارئ أن يجد وراء هذا العنوان فصلًا في النثر الفارسي مُطولًا كالفصل الذي تناول الشعر؛ فليس في النثر الفارسي ما يستحقُّ الإطالة والتفصيل في مثل هذا الفصل الذي عقدناه للأدب الفارسي کله.

سمعتُ شاعرًا تركيًّا كبيرًا يجيد اللغة الفارسية يقول ليس للفُرس نثر. فعجبتُ من قوله، وما زلتُ أفكر فيه كلَّما سنحتِ الفرصة. وقد سألتُ فيه العلَّامة محمد بن عبد الوهاب القزويني في باريس سنة ١٣٥٦ﻫ/١٩٣٨م، ففكَّر قليلًا ثم قال: ما فكرتُ في هذا الأمر. أو قال قريبًا من هذا.

ولا رَيبَ أن للفُرس نثرًا كثيرًا قيِّمًا، ولكن نثر الفُرس لا يُقاس من حيث مكانته في تاريخ الأدب، وتصويره حضارة الأمَّة، والإبانة عن آراء الكبار من أدبائها ومُفكريها؛ لا يُقاس في شيءٍ من هذا بالشعر الفارسي؛ فقد كانت الأمة أقربَ بعواطفها وخیالاتها إلى الشعر، فأطالت فيه وتفنَّنت حتى غنِيَت به عن النثر أو کادت، فعندها تاریخ منظوم، وقصَص منظوم، ومنظومات طويلة في موضوعات شتَّی.

ثم النثر الفارسي لا يُقاس بالنثر العربي صورةً أو معنًى، وإن حاكاه في كثيرٍ من الموضوعات والأساليب.

في النثر الفارسي تاریخ ورسائل ومقامات، ومن التاريخ الرحلات والتراجم:
  • (١)
    فأما التاريخ فأوسع جوانب النثر الفارسي؛ حوَتِ الفارسية — منذ تُرجِم تاريخ الطبري من العربية أيام الدولة السامانية إلى هذا العصر — كتُبًا كثيرةً في التاريخ العام والتاريخ الخاص، وأعظمها ما كُتب في عهد التتار الأبلخانيِّين الذين تسلَّطوا على إيران بين سنتي ٦٥٤ﻫ و٧٤٤ﻫ، وهي:
    • (أ)

      تاريخ جهانكشاه (أي تاريخ فاتح العالَم وهو جنكيزخان) أتمَّه عطا ملك الجويني سنة ٦٥٨ﻫ.

    • (ب)

      وجامع التواريخ لرشيد الدين المُتوفَّى سنة ٧١٨ﻫ، وهو قِسمان في تاريخ المغول، والتاريخ العام. وهو من أجمَعِ الكتُب وأصحِّها. استعان مؤلِّفُه بجماعةٍ من أممٍ مختلفة ليأخذ الأخبار من مصادرها، وأكمَلَهُ في أوائل القرن الثامن الهجري. وله نسخة عربية معروفة.

    • (جـ)

      تاريخ وصاف لعبد الله الشيرازي المُلقَّب «وصاف الحضرة» وهو تكملة لتاريخ جهانكشاه، فرَغ من تأليفه سنة ٧١١ﻫ، وقدَّمه للسلطان أُلجايْتو (٧٠٣–٧١٦ﻫ). وهو تاريخ عُنِي فيه المؤلف كلَّ العناية بالصناعة اللفظية، فكان بدعةً سيئة في أسلوب التاريخ من بعد. وقد سمَّاه: «تجزية الأمصار، وتزجية الأعصار»، وهذه التَّسمية مِثال من صناعته اللفظية.

    • (د)

      تاريخ كزيده، أي التاريخ المُختار لحمد الله القزويني المعروف بالمُستوفي، أتمَّه سنة ٧٣٠ﻫ، وقدَّمَه للوزير غيَّاث الدين بن رشيد الدين مؤلِّف جامع التواريخ.

    وقد كُتب في التاريخ من بعدُ كتُبٌ كثيرة من أعظمها:

    روضة الصفا في سِيَر الأنبياء والملوك والخلفا، لِمير خواند المتوفَّى سنة ٩٠٣ﻫ، كتبَه بإشارة الوزير الشاعر الصالح مير عليشير نوائي، وهو تاريخ عام لعصور الجاهلية والإسلام إلى عصر المؤلِّف.

    وكتاب حبيب السِّيَر في أخبار أفراد البشَر، لغيَّاث الدين ابن مؤلِّف الكتاب السابق، لخَّصَه من كتاب أبيه في عهد الشاه إسماعيل الصفوي، وأتمَّهُ سنة ٩٢٧ﻫ.

    وتكثُر كذلك تواريخ الأقاليم، مثل تاريخ طبرستان، وأصفهان وشيراز وقُم، ويزد، وششتر … إلخ.

  • (٢)

    ومن كُتب التراجم تذكرة الأولياء للشاعر الصوفي فريد الدين العطار من شعراء القرن السابع، ونفحات الأُنس للشيخ عبد الرحمن الجامي من شعراء القرن التاسع. وهما في تراجم الصوفية. ومن تراجم الشعراء لُباب الألباب لمحمد عوفي الذي ذكرناه في مقدِّمة الفصل، وهو أقدَمُ كتابٍ فارسي في تراجم الشعراء. وقد عُنِي العلماء والأدباء من بعدُ بكتابه تراجِم أو «تذاكر» كما يُسمِّيها مؤلفو الفُرس، فأخرجوا تراجم لطبقاتٍ مختلفة مثل تذكِرة الشعراء لدولت شاه أتمَّهُ سنة ٨٩٢ﻫ وآنشكده للطيف علي، وتذكرة الشعراء لسام ميرزا ابن الشاه إسماعيل الصفوي ومن أحدَثِها مخزن الغرائب المؤلَّف في القرن الثالث عشر الهجري. وهو يحتوي على نحو ثلاثة آلاف ترجمة، ومعجم الفصحاء، ورياض العارفين لرضا قلي خان مؤدِّب مُظفَّر الدين شاه أحد الملوك القاجاريين.

  • (٣)

    وأَذيَعُ المقامات عند الفرس؛ مقامات القاضي حميد الدين المُتوفَّى سنة ٥٥٩ﻫ، وهي ثلاث وعشرون مقامة حاكى فيها مقامات الحريري.

  • (٤)

    ومن القصص المنثور ترجمة كليلة ودمنة لنصر الله بن عبد الحميد في القرن الخامس، وترجمة حسين بن علي الواعظ الكاشفي التي سمَّاها «أنوار سيلى» في القرن التاسع.

    ومن القصص الصغيرة التي يُعنى فيها بالبلاغة والمَوعظة أكثر مِن القصص كتابُ كلستان للشيخ سعدي، وبهارستان للجامي.

    ولا ننس هذه الحكايات القصيرة في الموضوعات المختلفة التي فاضَ بها الأدب الفارسي.

    وقد جُمِعت في كُتبٍ منها «جامع الحكايات ولامع الروايات»، جمال الدين العوفي. وقد ترجمَهُ ابن عربشاه إلى التركية بأمر السلطان مراد الثاني العثماني.

هذه نظرة عاجِلة جامعة في الأدب الفارسي أرجو أن تكون مُعرِّفة بهذا الأدب بعض التعريف، كما أرجو أن يتلُوها أبحاث واسعة في هذا الأدب الواسع إن شاء الله.

(تم الجزء الأول من قصة الأدب في العالم.)
(ويتلوه الجزء الثاني في عصر النهضة.)
١  العمدة، باب الإنشاد، آخِر الجزء الثاني.
٢  المعجم، ص٨٩.
٣  وبنده در كتاب خانة سربل بازارجة بخارا ديوان أو ديده اسب. ودر مطالعه آورده است وأز أنجا أشعار نوشته وياد كرفته. أز آن جمله اين است إلخ، لباب الألباب، ج١، ص١٩، ط براون.
٤  قيل لسعيد بن المُسيَّب إنَّ قومًا بالعراق يكرهون الشعر، فقال: نسكوا نسكًا أعجميًّا. فهل يدلُّ قول سعيد على أنه قد عُرف عن العجم إذ ذاك كراهة الشعر؟
٥  منه نسخة مخطوطة في فيينا، وهي أقدم مخطوط فارسي. كتُب سنة ٤٤٧ﻫ.
٦  يُرجَع في تفصيل هذا إلى الترجمة العربية للشاهنامة.
٧ 
كر سري يابد بعالم كس بنيكو شاعري
رودكى را بر سر آن شاعران زيبد سرى
شعراورامن شمردم سيزده ره صدهزار
هم فزون آيدأ كرجونان كه بايد بشمري
«وإذا نال الرياسة أحد بجَودة الشعر فالرُّودكي جدير برياسة الشعراء. قد عددتُ شعره فاذا هو مائة ألف ثلاث عشرة مرة، بل يزيد إذا عُدَّ كما ينبغي.»
٨  ترجمة الأبيات:
يهبُّ نسيم جيحون دومًا ويأتي شذا الأحبَّاء دومًا
رمل جيحون وحزونة طريقه تمسُّ قدَمي مسَّ الحرير دومًا
ماء جيحون من السرور بِوجْه الجيب يفيض إلى حيازيم جيادِنا دومًا
افرحي بخارا واخلُدي فانَّ الأمير إليك يؤئوب دومًا
إن الآمير قمر وبخارا سماء والقمر يسري في السماء دومًا
وإنَّ الأمير سَرو وبخارًا بستان والسَّرو يختال في البستان دومًا
٩  وصف المطر والربيع كثيرٌ في الشعر العربي، فلا نُسلِّم للمؤلف دعواه إلَّا أن يريد مناظر أمطار الهند وغاباته، أو يُريد أن شعراء الفارسية والأُردية أطالوا فيها أكثرَ من شعراء العربية.
١٠  أما التصوُّف فلا نجادل فيه، وأمَّا الفلسفة، ولا سيما الحِكمة فلا تقبَل فيها هذه الدعوى.
١١  الحماسة الإيرانية Persian Epic لنلدكه، ص٨١.
١٢  الترجمة العربية ج١، ص٢٦٢.
١٣  الترجمة العربية، ج١، ص٢٦٣.
١٤  هو جد سهراب لأُمِّه.
١٥  المقمعة: قضيب من حديد يضرب به، وتُسمَّى العمود والدبوس والجرز (تعريب كرز).
١٦  انظر خُلاصة القصة في الترجمة العربية، ج١، ص٣٥١.
١٧  انظر المدخل إلى الترجمة العربية للشاهنامة، ص٩٣.
١٨ 
عطار روى بود وسنائي دو جشم أو
ما أزبي عطار وسنائي آمديم
١٩ 
باز كشتم زانكه كفتم زانكه نيست
در سخن معنى ودر معنى سخن
٢٠  يعني أن الشمعة إذا قلَّ ضوءها قُطع رأسها لتطول قتيلتُها فيقوى ضوءها.
٢١  بدخشان في تركستان معروفة ببعض الأحجار النفيسة كاليمن.
٢٢  كلمة صُوفي تأتي أحيانًا في كلام شعراء الصوفية وصفًا للمُتعبدِ الواقف عند المظاهر فهي ذمٌّ لا مدح.
٢٣  يُشير إلى أويس القرني أحد الأولياء.
٢٤  يتخيَّل شعراء الصوفية أنَّ السماء مُنحنية خضوعًا أو ركوعًا، ويشبِّهون الفَلَك بالطاووس.
٢٥  هذه آية وضعَها جلال الدين کما هي في شطر، بتسکين الكاف وكسرِها لالتقاء الساکنین.
٢٦  إشارة إلى الآية: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً.
٢٧  يعني صاحب الكبرياء؛ أي الله تعالى كما جاء في القرآن: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
٢٨  إشارة إلى الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى فيوم ألسْتُ عند الصوفية هو يوم العهد الأول بين الله والإنسان.
٢٩  هذه ترجمة أبياته السائرة:
بنی آدم أعضای بکد یکرند
که در آفرینش زیك كوهرند
جو عضوی بدرد آوردر وزکار
دكر عضوهارا نما ند قرار
توكز محنت دیكران بی غمي
نشاید که نامت تهند آدمي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤