مقدمة

في القسم الأول من هذا الكتاب أردت التعرض بالدراسة لمحاولة رصد ملمح لأطلس عربي للأساطير والفولكلور؛ لذا آثرت من البداية التعرض للمشاكل والعراقيل التي تقف في وجه أي محاولة تجيء من منطلق الدراسة الشاملة لتراثنا الفولكلوري والأسطوري العربي، وموقعه من الرقعة الكونية.

وبالطبع هناك ندرة ملفتة للجهود المبذولة في هذا المجال أو الحقل على المستوى القومي، بصرف النظر عن الدراسات المفتقدة إلى المنهج، ويمكن القول سيول الدراسات الغيبية والمغلوطة وغير المدركة للمدى الذي قطعته حركة الدراسات السامية والتي يشكل عالمنا العربي الواسع رصيدها الأعظم.

ومن هنا جاء تركيزي على هذه المشاكل المتراكمة إلى اليوم للمعرفة بالأصول والمكونات الأولى لهذا التراث، سواء من حيث ضياع وافتقاد المدونات، أو من حيث تهافت المناهج الدراسية القومية، وسواء من منطلق إعادة التعرف على المنابت الأولى لجزئيات ومواضيع وعبارات وخصائص هذا التراث المتوارث المتراكم الحلقات تراكم الصخور الجيولوجية.

من ذلك تُوصل الدراسات الفولكلورية والأسطورية المقارنة إلى أن هناك أساسًا أسطوريًّا وفولكلوريًّا عقائديًّا ولاهوتيًّا مشتركًا لأغلب الشعوب العربية، بل السامية، منذ أكثر من ألفي عام ق.م، سواء فيما بين النهرين أو في الجزيرة العربية والشام ولبنان وفلسطين.

فمنابع الميثولوجيا العربية تضرب بجذورها على مدى ٦ آلاف عام، أي منذ السومريين غير الساميين.

وعلى هذا أفردت جزءًا خاصًّا للتعرف بهذه المنابع الأولى خلال وعبر حركة تنقلاتها وانتشارها، ما بين حضارة — لا سامية — مندثرة، لأخرى قادمة، وأصَّلت اكتمالها — لغويًّا — وبالتالي تراثيًّا اليوم.

كذلك كان من المفيد عمل إلمامة للتراث الأسطوري والفولكلوري لبؤرة العالم القديم في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن.

وكذا إلمامة للتراث العبري — السامي — ودور اليهود في تدوين هذا التراث، خاصة في مجموعة التلمودات، البابلي، أو الفلسطيني، أو الحجازي، بالإضافة إلى بقية المدونات من مقدسة، ومحظورة Apoeriha ومدى تجانسه، ولنقل توحده مع تراث عرب الجزيرة لما اصطلح على تسميتهم بالجاهليين.

وبالطبع كان من المفيد أيضًا التعرض لهؤلاء الجاهليين، ودورهم الحضاري، استنادًا إلى ما كشفت عنه نصوصهم الحفرية في اليمن وجنوب الجزيرة، وما سادهم من خرافات و«خزعبلات» الجن وقوى الطبيعة الخارقة التي ما تزال متواترة، تفتك في عضد العقل الغيبي والأسطوري العربي، بما يعوق كل محاولات الأخذ بشعارات «العقلنة» وبناء طاقات الإنسان العربي الذي أصبح يعاني أزمة حضارية محققة.

وأعقبت هذا الفصل، بدراسة مقارنة بين التراثين المتلازمين السوداني والمصري.

ثم اخترعت مجموعة — محددة — من المداخل أو الأنساق أو المنطلقات، كمقدمة لدراسة الفولكلور — متضمنًا الأساطير العربية — كأساسيات عامة لا غناء عنها لأي باحث في هذا الحقل، بل هي قد تكون ألزم للباحث الاجتماعي في علم وتاريخ الإنسان الثقافي — الأنثروبولجيا — بنفس درجة لزومها لجامع وباحث الفولكلور.

فلا خلاف على أن الذاكرة الشعبية الجماعية هي ما حفظت لنا هذا التراث المتواتر منذ طفولة البشرية الأولى، وهو الفولكلور، وللذاكرة الشعبية — تحت تأثير العادة والتوراث — حضورها وإعجازها لمن خبر التعامل معها، ذلك أنها مخزون متواتر الحلقات، تحفظ أدق دقائق شعائر وممارسات الولادة والموت الأولى أيامنا، بنفس درجة حفظها بما يصاحب التنفس والتثاؤب، وكل ما يتصل وصاحب الانتقال من النيئ والمطبوخ بالنسبة لمطبخ البخار العصري، كذلك فهي ذاتها الذاكرة الشعبية أو الشفهية التي أسهمت في الكشف عن الكثير من تراث البشرية التاريخي أو الحفري الأركبولوجي، وما من مكتشف أثري — مثلًا — لم يستهدِ ويَسْتَفِدْ من مخزون الحكايات الشعبية والحواديت وفابيولات الكنوز — المقابر — المدفونة، وعالم ما تحت الأرض، منذ د. فلاندرز بيتري الذي دأب على تأكيد أن هذه الخرافات التي كان يجمعها ويستمع إليها من فلاحي الفيوم والدلتا قادته إلى اكتشاف «كنوزه» من الآلاف المؤلفة من البرديات الأدبية والفولكلورية والتاريخية التي ينظر إليها اليوم بكل تقدير، والشيء نفسه أشار إليه ماريت، وماسبيرو، وكارتر مكتشف عصر توت عنخ آمون، وغيرهم من الرواد الأثريين الذين عملوا في حفائر ومكتشفات العالم العربي، خاصة بسوريا والعراق، أمثال: كلوديوس ريش، وسير هنري لايارد، اللذين استفادا حتى من «ألف ليلة وليلة»، والنصوص الشفهية لفلاحي العراق ﻟ «ألف ليلة وليلة» في مناطق أو مديريات الموصل، وجلجاميش، ونمرود، وبقية رحاب العراق.

كما أنه لا خلاف على أن اللغة هي حاملة التراث من فولكوري وثقافي؛ لذا وجب مراعاة جامع الفولكلور لدقائق اللهجات وطرق النطق والصوتيات، بالإضافة إلى علوم صناعتها.

كذلك ففي انقسام حياة أي شعب من الشعوب إلى مباح ومحظور، أو حلال وحرام، وهو ما تعارف عليه بالتابو؛ ما يدعو إلى تناوله بالدراسة، وهكذا بالنسبة لبقية الأنساق أو الأبنية المختارة موضوع هذا الكتاب مثل خصائص فولكلور القبيلة والحرب، وصراع الطعام والإدام والكلأ، سواء في الصحراء الليبية أو الأدومية بالأردن، أو في أغوار الجزيرة العربية المترامية.

•••

وقد يبدو للوهلة الأولى أنني إنما أهرب من حقل الدراسات الفولكلورية والأسطورية لحقل التاريخ الثقافي — الأنثروبولوجي — أو الأثنوغرافي بعامة، وبين المنهج التاريخي وحقل الدراسات التاريخية بعامة.

والنظر للفولكلور باعتباره «ماضٍ حي»، أو النظر إليه باعتباره ثقافة منحدرة، أو مجرد بقايا قديمة ومخلفات، تواصل توالدها الذاتي وفرض سلطانها تحت تأثير العادة والتوارث وغياب العقل في مجتمعات ما قبل العقل والعلم.

وهذا كما هو واضح يستلزم الاتجاه نحو علم الاجتماع، وبالتحديد نحو علم الاجتماع البنائي، وما يستتبعه هذا من تحليل بنائي، أي فهم الظاهرات والعلاقات الاجتماعية عن طريق الاستعانة بالنماذج الفولكلورية، سواء تلك التي توصلت إلى جمعها من أفواه الناس، وحافظت — قدر جهدي — على فونيماتها ولهجاتها وأساليب نطقها، ثم يلي هذا — بقدر الإمكان — محاولتي للتعرف على النبتة الأولى — الشفافية — على ضوء المدونة، وعلى ضوء مضاهاة هذه المواد من شفاهية ومدونة، لما أمكن التوصل إليه حفريًّا أو أركيولوجيًّا.

وهو على أية حال نوع من «الدراسة الشاملة لحالة واحدة»، وهو ما يفسر لنا وجود العلاقة الحميمة بين حاجة وتكاتف البناء الاجتماعي وعلم ما قبل التاريخ والآثار ونظريات الانتشارية مع عدم إغفال التأويلات السيكولوجية، والنزعة الوظيفية التي ترى في كل موتيف فولكلوري سواء أكان مثلًا أو ممارسة أو كلمة أو عملًا أو شعيرة — يخضع لنظام التابو — داخل أي مجتمع وجماعة، وله في النهاية دوره وهدفه الوظيفي لخدمة أغراض طبقية مباشرة ومحددة.

ولعلني حاولت جاهدًا الاستفادة من نتائج هذه المناهج سواء التاريخية الجغرافية أو الأنثروبولوجية أو الشمسية أو الوظيفية، أو التطورية، والديموقراطية؛ لدراسة فولكلور بلداننا — التي تتكلم العربية — عن طريق التعرض لمكوناته الرئيسية أو أنساقه أو منطلقاته؛ من لغة، وقرابة، وتابو، وذاكرة جمعية، وأنيمزم — روحانيات — على اعتبار أن مثل هذه البناءات أو الأنساق تلزم باحث الفولكلور، وإن كان أول من نبَّه إليها — بحق — هو الباحث الاجتماعي أو الأنثروبولوجي.

ولقد اعتادت الدراسات الأنثروبولوجية النظر للفولكلور لا باعتباره علمًا مستقلًّا، بل على أنه مجرد فنون كلامية أو فنون قول أو آداب شفوية أو الحكايات والأساطير الشعبية.

بل وصل الأمر ببعض دراسي الثقافة والنظم الاجتماعية والأنثروبولوجيين عامة إلى حد المغالاة بطرد «مصطلح» فولكلور وإخراجه من مجال العلوم الاجتماعية.

وظل هذا هو الحال السائد منذ أواخر القرن الثامن عشر والتاسع عشر، في ربط عجلة الدراسات الفولكلورية والأسطورية بالدراسات والاجتهادات الأدبية أو الفلسفية.

وهو موقف أميل إلى الخطأ؛ ذلك أن المغالطة تتوقف عند مجرد استبدال تسمية فولكلور، بالأنثرجرافيا كمصطلح جديد شائع داخل العلوم الاجتماعية، فإذا ما كانت الأنثوجرافيا هي دراسة الحضارة بعامة، أي كافة نواحي السلوك الإنساني؛ من لغة ومعتقدات ودين وفلسفة وشعائر وممارسات وفنون، بالإضافة إلى ما يعتري كل هذا من تحولات.

فهذا بذاته هو حقل الفولكلور والأساطير، بل إن هذا بذاته هو مفهوم تيلور في مؤلفه الهام عن الثقافة البدائية، وغوصه في حقول الخرافات والحكايات وخوارق الجان والمأثورات الشعبية، فرغم التوسع في استخدامه لمجالات الفولكلور إلا أنه لم يستخدم مصطلح فولكلور. ونفس الشيء يمكن ملاحظته بالنسبة لموسوعة فريزر «الغصن الذهبي» وموسوعة روبرتسون سميث عن «الأديان السامية»، وغيره وغيره من كلاسيكيات العلوم الاجتماعية أو الأنثروبولوجيا.

هذا برغم ما أبداه الفولكلور — كعلم — لحقل الدراسات الاجتماعية، ولعله من المفيد تصور مدى إسهام الفولكلور في إرساء وتقدم علم الاجتماع، منذ أن أرسى قوائمه دوركايم، وما تفرع منه مثل علمي الأنثروبولوجيا والأفثولوجيا، وهما العلمان اللذان يوليان اهتمامهما الرئيسي لدراسة علم الإنسان الثقافي، مشتملًا على كافة نواحي السلوك الإنساني، على اعتبار أن المجتمعات قد عاشت وواصلت استمرارها ونموها في ظل مختلف البيئات التاريخية، ومرَّت بمختلف التحولات، إلا أنها لم تتخلَّ كلية عن خصائصها الأولى، ولنقل طواطمها وتابواتها، التي تعرضنا لها بالدارسة، وكما أجمع علماء العصر الفيكتوري منذ ماكلينان، وروبرت سميث، وفريزر؛ أنها — أي الطوطمية — ما تزال تحيا وترتع — كرموز ذهنية بدائية — تحت مختلف الأشكال المتكاثرة لحياتنا الحديثة، فأنت تجدها اليوم في أعلام وشارات الدولة الحديثة يستشهد في سبيلها، كما تجدها تطل برأسها في شارات المحافظات، والمطبوعات، والأضرحة، والملابس والماركات والمطبخ الحديث … إلخ.

ولقد أغفلت التعرض بالدراسة لعلاقة الطوطمية بالفولكلور؛ بهدف إعادة التعرض لهذا الموضوع على حدة، خاصة وأن المناهج البنائية قد حققت بدراستها للطوطمية نتائج رياضية ملفتة، وبالتحديد ما توصل إليه العالم البنائي الفرنسي كلود ليفي شتراوس، الذي انصبت دراسته على علاقة الطوطمية بالظواهر، أو علم الظواهر. ففي رأيه أن الطوطمية كظاهرة حضارية، تجيء كاستجابة أو حتمية لظروف ومكونات طبيعية وبيئية، وأن هناك علاقة شعائرية أو دينية بين الإنسان وطوطمه، وكثيرًا ما تتمثل في الأشياء والمناهج المقدسة، ولها سلطاتها الملزمة، وأن نظم الزواج في المجتمع الطوطمي لا تخضع لإرادة الأفراد بقدر خضوعها للقرابة.

فمنذ عام ١٩٢٠ رصد فان جنيب ٤١ نمطًا مختلفًا للطوطمية في أستراليا وحدها، وأثبت أن الكثير منها ما يزال ساريًا، برغم أن جذورها الضاربة ترجع إلى الألف الثامن قبل الميلاد. فالطواطم ما هي إلا أرواح أسلاف تحيا في الخلفاء، محافظة على توارث أسماء القبائل الأمومية والأبوية، كما أثبت «جنيب» أن الطوطمية ما تزال تتحكم متسلطة على نظم الزواج والطلاق والميراث والقرابة، عند عديد من شعوب العالم خارج الغرب.

وفي طرح التساؤل عن علاقة الطوطمية بالحيوانية والنباتية، يشير شتراوس بأن الحيوان والنبات يمدان الإنسان بطعامه، والاحتياج للطعام يستلزم المكان — أو الوطن — في المفهوم البدائي، كما إن الحيوانات والطيور والنباتات — في بعض الحالات — تبدو أكثر قوًى من الإنسان، فالحيوانات قوية، والطيور — على رأسه ريشة — تطير محلقة في السماء، والسمك والحيوانات البحرية تعوم في أعماق البحار والمحيطات.

فشتراوس يسألنا منذ رادكليف براون، ويقدم تفسيراته المخالفة لتثقيفية فريزر، وأنيمزم١ تيلور، والبحث عن الأصول عند ماكلينان، وروبرت سميث، وأخيرًا توظيفية مالينوفسكي؛ فجميع هؤلاء قدموا تفسيراتهم عن البدائيين، لكن شتراوس ربط الطوطمية بالتخلف، حتى داخل مجتمعات ما فوق التصنيع.

•••

على أن علاقة الفولكلور واستقلاليته كعلم، بالأنثروبولوجيا، ليست بأكثر قربًا أو تطفلًا منها عن علاقة الأنثروبولوجيا — من جانب ثانٍ — بعلمي التاريخ وما قبل التاريخ.

ذلك أن الفوائد الكثيرة التي يسديها الفولكلور كعلم، لكلا علمي التاريخ وما قبل التاريخ، تتوازى أو قد تتساوى مع كمِّ استفادة الفولكلور والأساطير — بالتالي — من علم التاريخ.

وطبيعي أن يؤدي الأمر في تضافر هذه العلوم إلى كثير من النتائج المفيدة، لعل أبسطها أن أي نصٍّ شفاهي أو شعيرة أو ممارسة في حياتنا المعاصرة أمكن بالفعل رصدها وتجليلها إلى أدنى عناصرها أو إخضاعها للبحث والاستقصاء؛ من بحث مقارن، وأبحاث تاريخية، والتوصل في النهاية إلى منابتها الأولى، وهجراتها، وما صاحبها من تحولات خلال وعبر مختلف البيئات والعصور.

وإذا ما قصرنا الأمر على مجتمعاتنا وحضاراتنا العربية السامية، يمكن القول بأن الجسد الأكبر من أساطيرنا وفولكلورنا، أمكن العثور على قنوات منابعه الأولى عند السومريين اللاساميين الذين توارثهم الساميون الأوائل من بابليين وآشوريين — سوريين — وفينيقيين لبنانيين وعبريين وعرب من شبه الجزيرة، من شماليين وجنوبيين.

فما من شك في مدى الإفادة التي عمَّت الدراسات الفولكلورية — كعلم — من المكتشفات الحفرية التي أُجريت في مختلف بلدان عالمنا العربي؛ من سومرية لاسامية في العراق، لبابلية آشورية فيما بين وادي الرافدين، لفينيقية في لبنان وفلسطين، مثل مكتشفات رأس الشمرا في فلسطين أو أوغاريت في سوريا (اللاذقية) عام ١٩٢٩، ومكتشفات البحر الميت الهامة في إسرائيل، ومكتشفات بيبلوس الإغريقية أو جبيل بلبنان، ومكتشفات بعلبك، بالإضافة طبعًا إلى مئات المكتشفات والنصوص السومرية والبابلية والأكادية بالعراق، ومكتشفات الحفري جوزيف هالفي ود. أحمد فخري في اليمن والجنوب العربي … إلخ.

وفيما يتصل بالنظريات والمحكات التي يمكن أن ترسي الفولكلور كعلم، فيكفي بالطبع التقدم الكبير الذي قطعته بعض المناهج الكبرى من جغرافية وتاريخية، ومقارنة في كل مناشطه، من أحاجي وحكايات وملاحم وخوارق وأغانٍ وبالاد، ولعب أولاد، وممارسات، سواء على مستوى الجمع والتنميط أو التصنيف، أو البحث والاستقصاء بهدف تحديد كل جزئية أو فكرة أو تنميطة أو أيتم أو تضمينة؛ تأخذ مكانها في الترقيم على رقعة العالم الجمع.

وإذا ما أخذنا بضعة أمثلة، يمكن ملاحظة أن أساطير خلق العالم المتشابهة عند معظم الشعوب خاصة السامية وما يستتبعها من خلق الإنسان الأول أو القديم من أديم الأرض، أو طين العمق اللازب، أو الصلصال أو العلق، حين أرسل الله رسله الطوطمية — الحشرية — الثلاثة، لإحضار مادة الخلق، ونفخ فيها فخرج من دبره، وهي أفكار حُفظت في لعب الأطفال بالطين والعجين، عن طريق النفخ فيها، والنطق بنص سحري «كوك كوك».

وكيف أن فكرة الأطفال الموعودين، الذين يسبق مولدهم أو يصحبه مجموعة خوارق، لا يخلو منها بطل أسطوري أو ملحمي أو شعائري، منذ إيل وكرونس، حتى إبراهيم ويوسف وموسى ويونس وأدونيس وشعيب، والعشرات غيرهم، ممن تصادف تضميناتهم أي جامع ودارس فولكلور بالآلاف المؤلفة، ونفس الشيء لأفكار: الجارية المضطهدة — هاجر والعذراء — وأربعة أركان التابوت أو الدنيا أو العالم، أو ملائكة العرش الأربعة، وهم في معتقدنا الشعبي المصري والعربي الأقطاب الأربعة: قطب الغوص — أو الغوث، وقطب البلاوى، وقطب الرجال، وقطب المتولي.

فيكفي الفولكلور كعلم إنجاز مهامه، وهي كثيرة شائكة حقًّا. فباحث الفولكلور مثله مثل باحث علم الحشرات، عليه أن لا يتأفف من البحث والتشريح في حكايات ومأثورات الطيور والحشرات والهوام من ناموس لنمل لهداهد لجعارين لضفادع لديدان، خلفت حضارتها وأقوامها بنفس الاسم في حضارات عالمنا العربي؛ مثل الحميرية والكلبية، بشقيها العربي والعبري، «كالب» Kalep بالإضافة إلى حضارات «سوس» وديدان، وآلاف الحضارات الطوطمية الماثلة اليوم.
ولو أن النظرية أو التناول الذي يرى في الفولكلور — الآداب الشفاهية — نوعًا من التعبير «الفوقي» للطبقات المتوارثة صاحبة السلطة أو الأرستقراطية — الثقافية والحضارية — التي كانت تورثها وتبعث فيها بالانتشار وما يخدم مصالحها مورثة إياها جماهيرها، أو ما عرفها تونبي بالبروليتاريا الداخلية أو جماهيري الشغيلة، وهو الرأي الذي طرحه منذ منتصف الستينات أستاذنا المرحوم الدكتور مصطفى مشرفة.٢

وأجدني أميل إلى جانب الرأي المقابل للمدرسة الروسية المستهدفة البحث عن ملامح الاحتجاج والثورية «للمهانين المضطهدين»، برغم أن مثل هذا المدخل لا يحقق أقصى منافعه في حالة التعامل مع تراثنا المصري — العربي والعبري — السامي بعامة.

فما أندر آداب وفنون الاحتجاج والثورية في مثل هذا التراث الضاغط المتجبر، المتسق كل اتساق ممكن وعلى كافة أبنيته لخدمة أهدافه في التجهيل بمصالح جماهير المهانين المضطَهدين، وعلى كافة أبنيته؛ من كوزمولوجية قرابية وتشريعية تولي اهتمامها الأقصى لاتساق التواريث والتوارث والتراث بعامة، بما يحقق البنية الطبقية وتراكيبها.

•••

ولعل بداية تعرفي على حقل الفولكلور والأساطير صاحبت البداية التقليدية طبعًا؛ أي الشغف بجمع المواد الفولكلورية، سواء أكانت شفاهية أم مدونة تزخر بها وتفيض كتابات الكلاسيكيين العرب أمثال ابن الكلبي، ووهب بن منبه، والطبري، والمقريزي، وابن النديم، وابن إسحاق، وغيرهم.

فما أن بدأت تحقيق موادي التي جمعتها من شفاه فلاحي مصر على طول قرى مصر الوسطى في الفيوم والجيزة وبني سويف والمنيا؛ حتى هالني أن معظم — إن لم يكن كل — هذه المواد يمكن فعلًا تعقبها — خلال الزمان والمكان؛ أي على كلا المستويين التاريخي والجغرافي، وردُّها بالتالي لمنابتها وأصولها الأولى.

وإن معظم — إن لم يكن كل — فولكلور الشعب المصري ينتمي في مجمله لتراث البلدان العربية المتاخمة والمجاورة؛ أي إن هناك حقيقة عربية تتمثل أول ما تتمثل في هذا التراث المتجانس الواحد، الذي يلتقي تحت لوائه المصري القديم، جنبًا إلى جنب مع السوري — أو الآشوري — واليمني القحطاني مع العربي العدناني في السعودية.

بل إنه وبنفس هذا المنهج يتلقانا العالم من حولنا، على خرائط وأطالس الفولكلور العالمية، فلا تفرد هذه الأطالس دراسة مصر بمعزل عن العراق، ولا الشمال الإفريقي بمعزل عن دول الخليج العربي، وهكذا.

فلقد أصبحت حقيقة لا تقبل الجدل، يقول بها عديد من علماء وشرَّاح العالم القديم؛ وهي أنه لكي نتفهم ونستكشف دور الحضارة المصرية الفرعونية — بفولكلورها وأساطيرها — على الوجه الصحيح، يجب أن نتسلسل بادئين بدراسة حضارة وموروثات الشرق القديم عامة، والشرق الأدنى بشكل أخص — أو مجموعة الشعوب السامية في إطار حضارة البحر الأبيض.٣

ويتحمس لهذا الرأي كثير من العلماء؛ منهم: برستد وجوردن تشايلد وأرنولد توينبي، والعالم الأثري المصري أحمد فخري، والعالم العراقي الكبير د. جواد علي.

ففي الوقت الذي يجنح فيه توينبي إلى عدم جدوى البحث عن بقايا مصر القديمة خلال ثنايا مصر المعاصرة، يرى كل من د. برستد، ود. أحمد فخري؛ أنه من المحتم معرفة حضارة الشرق القديم مجتمعة، ثم الإفاضة أو التخصص في أي حضارة محددة من هذه الحضارات على حدة؛ مثل الحضارة المصرية أو القحطانية أو العبرية أو الكنعانية الفينيقية، وهكذا.

وهو ما حاولت — جاهدًا — الأخذ به والسير على هداه في محاولتي الدراسية هذه، المستهدفة تَعَرُّف ملامح وموروثات شرقنا القديم أو مجموعة الأقوام السامية؛ بقصد تحديد دور ومكان تراثنا المصري الفولكلوري منها.

ويمكن الجزم بأن الأخطاء أو المغالطات أو الغموض، الذي قد ينتاب أي حضارة مفردة منها؛ يؤثر في مجموع حضارات الشرق الأدنى القديم عامة.

ومعنى هذا أن ضياع المدونات التاريخية لبعض هذه الحضارات المتتاخمة يؤثر على بعضها الآخر، أي إن غموض وعدم وضوح الحضارات القبلية القديمة لشبه الجزيرة العربية بقسميها الشمالي الإسماعيلي العدناني الرعوي، في مكة والحجاز ونجد، والجنوبي القحطاني أو اليقطاني في اليمن والجنوب العربي؛ يؤثر مباشرة في الحضارة المصرية القديمة المجاورة تأثيرًا مباشرًا، وكذا يؤثر في حضارات الشام وفلسطين وما بين النهرين، وهكذا.

خلاصة القول أنه قد تعارف علماء الفولكلور والإنسانيات على النظر ودراسة عالمنا العربي كمنطقة متجانسة التراث، تُعرف بمنطقة الفولكلور والأساطير السامية، والسامية هنا تعريف لغوي — أثنولوجي — أكثر منه تعريف جنسي؛ بمعنى أنه يتمثل في الأصول اللغوية المتجانسة أو الواحدة التي تصل روافدها المبكرة إلى عشرات ومئات اللهجات، والتي اكتملت اليوم في العربية والعبرية وبعض السريانية.

فلقد اتفق علماء الأساطير والفولكلور على تقسيم قارة آسيا إلى خمس مناطق متجانسة التراث، أقربها إلينا منطقتان هما: منطقة الفولكلور والأساطير الآرية، وتضم الهند وفارس — إيران، ومنطقة الفولكلور والأساطير السامية، وهي تشمل الشرق الأدنى القديم، أو الشرق الأوسط المعاصر، أو مجموعة الشعوب التي انتهت إليها وتبلورت اللغات واللهجات السامية، التي اكتملت اليوم في العربية والعبرية.

وطبعًا كان لزامًا عليَّ التعرض بالدراسة لكلا التراثين العربي والعبري، بالإضافة إلى المؤثرات الآرية للهند وأواسط آسيا وفارس، وبالإضافة أيضًا للتراثين الهليني والروماني؛ نظرًا لدورهما المؤثر في مصر والعالم العربي عامة، ولوجود إمبراطوريتهما وبالتالي مؤثراتهما التراثية والحضارية قرابة ١٠٠٠ عام.

وعن هذا الطريق يمكن معرفة تراثنا المصري وإعادة تفهمه، ونفس الشيء بالنسبة لتراث الشعب الليبي والعراقي، وهكذا.

أي إن المدخل العلمي للوقوف على أدق خصائص الملامح المحلية لأي شعب من شعوبنا العربية؛ لن يكتمل إلا في إطار المعرفة الشاملة لخصائص المنطقة ككل متجانس، أقرب إلى التوحد منه إلى الاختلاف والتناقض.

فمعظم السِّيَر والملاحم والقصص الشعرية الطقوسية التي يجمعها جامع ودارس الفولكلور في مصر؛ يمكن أن يعثر على متنوعاتها زميله التونسي والعراقي والليبي في بلاده؛ مثل: سيف بن ذي يزن، وسيرة الهلالية أو بني هلال، وسير وملاحم التباعنة — جمع تبع — ومثل الزير سالم، وعزيزة ويونس، ويوسف وزليخة، وسارة وهاجر، والقميص — قميص النبي محمد، وزرقاء اليمامة، وبرافشن، وعلي الزيبق، والأمثرة ذات الهمة.

وكذا كل ما يتناقل شفاهيًّا عن قصص وحكايات الخلق والسقوط والطوفان واغتيال الأخ لأخيه، وكل ما يتصل بولادة وتربية الأنبياء الموعودين: إبراهيم، ويوسف، وموسى، وداود، وإدريس، ويونس، والخضر، وشعيب. أي يمكن الحصول على مترادفات وتنويعات هذه الأساطير والملاحم والقصص والبالاد والخرافات على طول العالم العربي.

كما أن من المفيد معرفة أن معظم هذه السير والملاحم والقصص الطقوسية هي في حقيقتها أشلاء أحداث تاريخية ومناسبات أُريد بها الحفظ والتذكير، كأعياد العيد الكبير والصغير وعاشوراء، والجمعة الحزينة، وبئر زمزم، وشم النسيم، وعديد من المناسبات التقويمية.

فهذه الملاحم والأناشيد الروائية يُنظر إليها كمدونات تاريخية «وهكذا دخلت في المؤرخات الأولى عناصر الملحمة والقصة الشعبية» كما يقول عالم ما قبل التاريخ جوردن تشايلد،٤ «بل إن الرواية الأدبية التقليدية العربية استفادت من الرواية الدينية والتاريخية، وما اصطنعته من ضوابط»،٥ كما يقول الدكتور عبد الحميد يونس.

ولعل المشكلة الرئيسية التي واجهتني في محاولة عمل إلمامة سريعة لتاريخ منطقتنا هذه التي نعيش أحداثها العنيفة المتجددة؛ تبلورت في غياب وجود تتابع تاريخي واضح إلى حد، أو هو متوازٍ مع تاريخ الشعب المصري أو العراقي القديم.

من ذلك افتقاد شبه الجزيرة العربية لتاريخها المبكر السابق على مجيء الإسلام، وهي الفترة التي يُطلق عليها اعتباطًا بالجاهلية، وإن كانت — هذه الجاهلية — تزدهر بالعديد من النشاطات الإبداعية الحضارية المرصودة أركيولوجيًّا أو علميًّا، تصل إلى قرابة ٤ آلاف عام قبل الميلاد. وللجنوب العربي في اليمن ودول الخليج حضارته وتراثه الأسطوري والعقلي — الموغل في القدم والعراقة.

وليكن واضحًا أنني لا أكتب تاريخًا بقدر ما أنا أبحث عنه محاولًا استخدامه لإرساء ضوابط ومحكات تراثية أو حضارية على قوائمها يمكن إرساء معالم تتابع تراثي، عصرًا إثر عصر، أو جيلًا إثر جيل، إن شَابَه شيئًا فهو أقرب إلى تتابع الصخور الرسوبية بعضها فوق بعض.

فكما هو مفهوم يصبح الفولكلور بلا قيمة تُذكر ما لم يتحدد تاريخه ومنبته الجغرافي، ومجراته، وما طرأ عليه من تغييرات خلال الزمان والمكان.

وعلى هذا أدت المناهج البنائية، التي موجزها تكاتف مجموعة علوم ذات أهداف ومستويات استراتيجية، في الكشف عن ظاهرة أو مجموعة ظواهر.

وبهذا أصبح لا غناء لعلمي الأساطير والفولكلور عن علمي التاريخ وما قبل التاريخ.

كما أصبح في مقدور علم الفولكلور إعادة إنارة وتوضيح المدونات التاريخية وإعادة ضبطها وتحريكها من أقدم مواقعها.

فما من إضافة كشفية أركيولوجية أو حفرية لم تسهم بشكل إيجابي في إعادة توضيح وتكامل جزئيات هذا التراث الهائل لشرقنا الأوسط، الذي وهب العالم أديانه الثلاثة الكبرى: اليهودية، والمسيحية، والإسلامية.

وما من إضافة — مدونةً كانت أو شفاهيةً — لم يترتب عليها دوام الهدف المستهدف — أصلًا — لتوالي البناء واستقامته.

وعلى هذا فالعلاقة وثيقة بين التاريخ وبين التراث الأسطوري والفولكلوري، أو بين الأنثوجرافيا وبين الأنثروبولوجيا الاجتماعية.

ويمكن اعتبار الدراسات الفولكلورية محتوية — أو متضمنة — الأساطير، أحد المركبات الهامة اليوم، في إعادة بناء تاريخ الجسد الحضاري لأي شعب أو مجموعة من الشعوب.

ففي مقدور مثل هذه الدراسات الجديدة الشابة، تلك التي تستهدف أول ما تستهدف إرساء أكبر قدر من التسامح القائم على الفهم، كما يقول أحد روادها الأوائل — سير جيمس فريزر — في نهاية موسوعته المعروفة بالغصن الذهبي البالغة ١٤ مجلدًا.

في مقدور الدراسات الموضوعية البعيدة عن محاولات نطح جدران التعصب؛ أن تعيد إرساء وتشكيل معالم تاريخ جليٍّ واضح لحضارات شرقنا العربي، الموغلة في العراقة.

على أن هذا التاريخ الثقافي أو الفكر سيكون مرتبطًا أشد الارتباط وأوثقه بحركة جماهير شعوب منطقتنا العربية أو السامية، وصراعاتها المستهدفة للتوحد والتجانس.

ومفهوم طبعًا أن مثل هذه العلوم الإنسانية قطعت مرحلة كبيرة من الرصد والجمع والتصنيف على مستوى العالم أجمع، وتوصلت إلى نتائج علمية وصلت إلى حد استخدام الأجهزة التكنولوجية؛ من عقول إليكترونية وآلات حاسبة، ومناهج رياضية، فأصبح هناك اليوم عقول إليكترونية متخصصة؛ في أفرع الفولكلور والأساطير المختلفة عقل إليكتروني متخصص في حكايات الحيوان، وآخر للزواحف، وثالث لخرافات الجان، ورابع للحشرات والهوام والنبات، وهكذا، وهو ما ينجز بتوسع في دول شمال أوروبا، وفرنسا وأيرلندا.

وما أحوجنا اليوم إلى الاستفادة من حركات «عقلنة» التراث التي تجري من حولنا بهدف مضاعفة التنمية؛ من مادية، وبشرية، وعقلية.

كما أنه ما أحوجنا — هنا في مصر — إلى قيادة حركة تنوير حقيقية ذات جذور، تبعث بإشعاعاتها على طول منطقتنا العربية وتُسهم بشكل علمي حقيقي في شعارات إعادة بناء الطاقات العقلية للإنسان المصري والعربي، استجابة لشعارات الدولة العلمانية، وإعادة بناء الإنسان الاشتراكي المصري الصاعد.

وكم سيكون مفجعًا أن تكتشف الأجيال القادمة مدى سيطرة الخرافات على العلم، ومدى تعنت الأساطير وجبروتها في الدفع والتحكم في حركة التاريخ، كما يقول فريزر.

شوقي عبد الحكيم
١  أي روحانيات.
٢  في تقديمه لأدب الفلاحين، شوقي عبد الحكيم، القاهرة ١٩٥٧.
٣  انتصار الحضارة، برستد، ترجمة أحمد فخري، ص٢.
٤  التاريخ، جوردن تشايلد، ترجمة عدلي برسوم، ص٦.
٥  الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي، د. عبد الحميد يونس، ص٨٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤