الفصل الثاني عشر

اللغة … والفولكلور

من المفيد لجامع ودارس الفولكلور الاهتمام بدقائق — فونيمات — اللهجة أو اللغة، واللغة مثلها مثل الكائن البيولوجي الحي تخضع للتغيير، بل هي تتغير فعلًا وبأسرع مما نتصور، مثل ما يحدث للغات الحية من حولنا، فما بالنا بلغتنا العربية، التي لا نكف عن تمجيدها والتغني بجمالياتها ومحاسنها دون سلبياتها، وكأنها من المقدسات.

ودعاة الإبقاء على اللغة والنظر إليها كنوع من المحرمات أو التابو الذي لا يجب أبدًا مساسه، بل ومجرد مناقشته وإخضاعه للحتميات العلمية والحياتية التي نعيشها، وإلا وجب علينا أن نتفق، فهم — بحق — دعاة جمود.

فتغير الحياة وميكانيتها الجديدة في نقل الصور، يحدث بالقطع تغيراته بالنسبة لأدوات الاتصال جمعاء، وأخصها اللغة. وكما يقول عالم اللغويات ستيوارت فليكسنر كبير المشرفين على إعداد معجم — قاموس — راندوم هاوس للغة الإنكليزية، فإن الكلمات التي نستخدمها تتغير اليوم بسرعة أكبر ليس فقط بالنسبة للعامية، لكن بالنسبة لكل مستويات استخدام اللغة، وإن السرعة التي أصبحت تظهر بها الكلمات وتختفي قد تزايدت بشكل حاد، وما يصدق على اللغة الإنكليزية في هذا الشأن يصدق أيضًا على الفرنسية والروسية واليابانية، وبالطبع العربية.

ويرى فليكستر أن وليام شكسبير قد يبدو أميًا اليوم، فعلى أيامه لم يكن عدد كلمات اللغة المفهومة يتعدى ٢٥٠٠٠٠ كلمة، أما اليوم فالعدد يصل إلى ٤٥٠٠٠٠ كلمة. فبالنسبة إلى الإنكليزية استبدل حوالي ٢٠٠ ألف كلمة وربما أضعاف هذا العدد، على مدى القرون الأربعة المنصرمة، بل واستنادًا إلى آراء هذا اللغوي الكبير، فإن معدل التغيير داخل اللغة وتواصلها قد وصل إلى معدلات هائلة حقًّا، منذ ما بعد الحرب العظمى الأولى ١٩١٤ وذلك نتيجة لثورة المواصلات، وأخصها الراديو والتليفزيون.

بل إن التغيير لحق حتى مدلولات اللغة، فأصبحت كلمة «أسود» المهينة تعني القوة السوداء، بالإضافة إلى استخدامات الكلمات الخنافس، والضفادع، والجاموس البري، والثعالب، والكلاب السخنة وهكذا، ومما تستحدثه فرق الجاز والروك ومسارح الشوارع وغيرها، وتسجله أسطواناتها من كلمات كانت تعد خارجة أو ممجوجة لتصبح على الفور كلمات مشهورة جدًّا.

والملفت أن مثل هذا التغيير الموازي للسرعة الإلكترونية لا يلحقنا هنا في مصر والعالم العربي بشكل كافٍ.

كيف؟

فاللغة عندنا، ما تزال إلى أيامنا هذه مكبلة بالأساطير وأبنيتها اللغوية والأساطير تحكم حياتنا.

وكما تقول الآنسة لينا ماكليد، فإن آفة اللغة هي الأساطير.

وهناك مدرسة كاملة تعرف منذ منتصف القرن الماضي بالمدرسة الميثولوجية لدراسة الفولكلور، أو لاتخاذ الفولكلور — برمته — مجرد خلفية للتبحر في الأساطير، وذلك منذ يعقوب جريم ومن سار في فلكه من الدارسين الألمان، منهم مانهاردت وشفارتز والبيرت كون، وأعلاهم باعًا هنا هو الألماني الأصل الإنكليزي المعرفة والثقافة ماكس موللر.

ووصل بالبرت كون في استخدامه لهذا المنهج إلى حد بناء نظريته بكاملها (١٨١٢–١٨٨١) التي اكتملت في كتابه «أصل النار وشراب الآلهة» كعالم لغوي في كلا الألمانية والسنسكريتية، شارحًا أسطورة بروميثيوس اليونانية، وصلته بالكلمة أو الاسم السنسكريتي براماتياس.

وعندما تقدم بكون السن، وضع كتابه عن «مراحل نمو الأساطير» أو مراحل تطور تكوين الأساطير لغويًا.

وسار على نفس الدرب رواد هذه المدرسة اللغوية الميثولوجية عن الأصول — اللغوية — للأساطير، والميثولوجيا الدينية بعامة، مثل شفارتز، ورأس منتصف القرن الماضي ماكس موللر، في محاضراته في علم اللغة، والأساطير المقارنة، وهو في نظريته عن الأصل اللغوي للأساطير، وسماه بعلة اللغة ومرضها من كنايات ومترادفات واستعارات ومتشابهات … إلخ.

وطبعًا لا حاجة هنا إلى شرح لوغاريتمات وطلاسم لغتنا الجميلة — العربية — من نصب ورفع ومطلق، وكل ما يتصل بإعرابها نسبة إلى يعرب أبو العرب الساميين، ويُنسب له أنه أول من تكلم العربية وكان من فحول اللغويين الطبقيين المتبحرين في الإعراب، فهو القائل: «وليس جمع خيرًا من جمع ولكن جد خير من جد.»

وكما يقول العالم الأنثروبولوجي الروسي الأصل برونسلاف مالينوفسكي (كركوف ١٨٨٤، نيوهافن ١٠٤٢) فإن اللغة — أية لغة — لا تلعب فقط دور الحارس أو الحامي للأسطورة، بل إن اللغة هي في حد ذاتها لعبة الحكم والحفاظ على الأوضاع الطبقية الاجتماعية.

وبالطبع يذكرنا هذا، بمدى سيطرة مجموعة اللغات واللهجات — للعائلة — السامية التي انتهت وتبلورت في العربية — الفصحى — والعبرية، وكيف أنهما ما زالتا إلى اليوم مكبلتين، أو هما حارستين للتراث الأسطوري، أو الوهم كما يسميه كافكا، غير مدرك لدوره أو المصلحة المناطة به طبقيًّا.

كما يذكرنا هذا بمدى اكتمال روافد لغات العائلة السامية في الفصحى واتساع وقعتها، لدرجة أنهت بها عديد من الحضارات السامية وغير السامية، مثل الحضارة المصرية الفرعونية التي لا بد وأنها مرَّت بتغيرات كمية ربما منذ أواخر الدولة الوسطى، لحين دخول العرب مصر وسيادة العربية فيما بعد.

وكما هو معروف فقد أطلق الساميون واشتقوا من لغاتهم أسماءهم وأسماء أعلامهم وتقويماتهم، فتسمية الساميين نسبة إلى سام بن نوح، وأصله في العربية والعبرية سام أو شام أو شم.

كما أن جده الأعلى، الإنسان الأول آدم، نسبة إلى أرض أدوم، التي اكتشفتها منذ سنوات قليلة البعثات الحفرية العاملة في الأردن وبادية الشام.

ولفظة آدم تعني أديم الأرض، كما أنها تعني الإنسان — الأديم — القديم، وارتباطها باستمرار الحياة يعني الحاجة للطعام أو الأدام.١

أما زوجته حواء فيشير اسمها إلى الحياة والحيوات، وبما أن حواء كانت قد جلبت الخطيئة الأولى وما أعقبها من طرد من الفردوس أو جنة عدن نتيجة لتوحدها بالحية، وهي المخلوقة الوحيدة المستأثرة بالحياة والحيوات نتيجة لقدرتها على تجديد جلدها كما يرد في ملحمة جلجاميش الذي يدعوها ﺑ «أسد التراب»، بعد مخاطراته ورحلاته العبورية للحصول على ماء الحياة أو مية الحياة، أو نبات يعيد الشيخ إلى صباه، فكان أن سرقته الحية، وبهذا قدر للحية تغيير جلدها ونيل طيلة العمر — بدلًا من الإنسان القديم.

وطبعًا ترتب على طرد حواء من الجنة أو الفردوس عقابها الشهري الممثل في الحيض وسيادة الرجل الذكر عليها: «تكثيرًا أكثر أتعاب حملك، وبالوجع تلدين أطفالًا، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك.»

ثم ذلك العداء الأزلي الرباعي بين الرجل والمرأة والحية والشيطان: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.

وحواء هذه هي بذاتها إناثا أو إناث أو أنثى، كما وردت بنفس هذا الاسم منذ السومريين اللاساميين — ٤ آلاف عام قبل الميلاد — واكتمل اسمها في روافد اللغات السامية القديمة، إلى أن وصلنا اليوم نفس الاسم، بل والإدانة الاجتماعية — أنثى — على اعتبار أنها أدنى منزلة، وتعقلًا من الرجل كامرأة — أو مرة — أو أنثى «ناقصة عقل ودين» … إلخ.

مع ملاحظة أن أقدم أشكال العبادات البدائية تمثل عند عديد من مجتمعات العالم القديم، وما يزال محفوظًا إلى اليوم والآن في لغتنا الأسطورية مثل عبادة «الرحم» الخالق، ومنه كما أشرنا في جزء هذا الكتاب الأول، تواترت اشتقاقات العودة للرحم٢ في رحمة ومرحوم بل وحرام وتحريم، ثم أسماء الله الحسنى رحيم، رحمن … إلخ، وأسماؤنا عبد الرحمن، رحمة، رحيم، رحمى … إلخ.

أما فيما يتصل بإبليس أو الشيطان أو الجني الذي أغوى حواء، وعديد من الزوجات مثل «برهة» زوجة نوح التي أشعلت فلكه نارًا قبل أن يكتمل ٣١ مرة، ومثل «رحمة» زوجة النبي أيوب نبي الأدوميين حين استجابت بدورها لغواية الشيطان أو الجني.

فالجني كما هو واضح من الاشتقاق اللغوي، حارس الجنة، ومنه يتواتر الجنون، وهو عادة ما يسكن كشيطان شطئان البحار والمستنقعات وآبار الماء بل والرأس مسببًا الجنون، كما قالوا بأن الرأس مكمن الخطايا، وجاءت صياغته من مادة أعلى منزلة من تلك التي صِيغ منها الإنسان القديم، آدم من أديم الأرض أو طين العمق، فهو قد صِيغ من نار، على العكس الكامل من حواء، التي ترد في الأساطير الكنعانية الفينيقية أدنى منزلة من الرجل، حين خُلقت من الضلع السادس للرجل — آدم — أو إيل الكنعاني وهو إله الساميين الفينيقي الأصل المتجبر، الذي عرفه اليونان في كرونس، والذي تُنسب له عادة التضحية بالابن البكري بل والوحيد؛ حين ضحى بابنه الوحيد وسمي بالفعل «وحيد» عندما اجتاح الطاعون مدن الشام، فأحرق وحيده تشريفًا لأبيه أورانوس، وهي شعيرة وُجدت بكثرة مفزعة إلى أقصى مدى؛ أي بمئات الألوف المؤلفة، ويفسرها البعض بنوع من تحديد النسل البدائي أو الهمجي، بل وظلَّت سارية ومتأصلة إلى ما بعد مجيء الإسلام، وطبعًا ما تزال بقاياها سارية حتى وقت قريب، حتى فيما يتصل بوضع طفل أو نحره في أساس المنشآت الدينية، بل والتي دخلتها الآلية كماكينات الطحين، وربما يكون يوسف إدريس قد سمع أو أنه لحق مترادفاتها إلى أيامنا هذه.

بل إن الاسم المفضل لبطل السينما المصرية — خاصة فريد الأطرش وأنور وجدي وعبد الحليم حافظ — هو «وحيد» وهو أحد عوامل ترويج الفيلم المصري في الشام في الخمسينات.

أما في أساطير العرب واليهود فإن الله استخدم الرواسب الطفلية في صياغة حواء الأولى في الميثولجيا العربية والعبرية.

والأخت الثانية من بنات الله الثلاثة — اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى — فالعزى كانت النار، ومعناها في اللغات الكلدانية والبابلية النار، أما معناها في العبرية والعربية القديمة فهو الشدة أو القوة، إلى أن عُرفت إلى عزة ومشتقاتها فيما بعد، العزة، ويعزز وعزوة وعزة، وهو اسم أصبح يُطلق على جيل ما بعد ثورة يوليو من البنات، ربما كنتيجة لتشديد زعيمنا الراحل عبد الناصر في استخدامه وإطلاقه منذ ١٩٥٦.

أما شقيقتيها الأولى «اللات»، والثانية «مناة»، وهما أيضًا بالنسبة للعرب والعبريين من أصول سومرية وأكادية وبابلية، بأكثر من ألفي عام، فاللات تأنيث الله في اللغات السامية القديمة، كما أن الاسم منى أو مناة أو منوات، فله مترادفاته واشتقاقاته، منها منى، ومنية، ومنى، ومنها جبل منى إلى اليوم في السعودية.

وجمعها طبعًا منايا ومنوات، وهو ما لا يزال يغرق الشعر العربي إلى اليوم.

ومن بين أسماء الآلهة التي حفظتها اللغة وخاصة الفصحى اسم «بعل»، وهو اسم إله أو صنم، أصبح لقبًا بمعنى زوج أو سيد، وكان الساميون الأوائل وخلفاؤهم العرب والعبريون يلقبونه — بعد أن أطلقوه على كل مظاهر الطبيعة من حولهم — سيدنا، وهو ما لا يزال إلى اليوم بالنسبة لأنبيائنا وأضرحتنا ومزاراتنا.

وحين استقدم صنمه الكاهن الخرافي المداح الشاعر عمرو بن لحي الجرهمي، ونصبه حول الكعبة فيما قبل الإسلام، سماه هبل — بضم الهاء — أو هو بعل، وهو ما تواتر إلى هبل — بفتح الهاء — بعد أن حطم صنمه أو تمثاله المسلمون وتحولوا عن ديانته، فكان أن أصبح اليوم هَبَلًا، أو خيبة.

وبالنسبة للاسم «هاجر» الذي يرد في ملحمة أو مديحة سارة وهاجر، وهي الزوجة الثانية التي تزوجها الخليل إبراهيم — إيل — وأنجب منها إسماعيل أبو العرب الشماليين في نجد والحجاز، فيبدو أن مشتقات الاسم تواترت فيما بعد إلى هجرة «الزوج» للزوجة الثانية، أكثر من ارتباطه بالهجرة أي هجرة هاجر وابنها إسماعيل بكر إبراهيم إلى مكة أو أرض فاران، بعد أن غارت وطردتهما الضرة — أو الضارة — سارة، الآلهة الأم لقبائل إبراهيم المهاجرة.

لكن اسم هاجر يرتبط بكونها الزوجة المهجورة أو المضطهدة، سواء أكانت زوجة أو جارية، فعلى هذا تعارف على — أيتم — تصنيفها في الفولكلور العالمي؟

ومن اشتقاقات اسم هاجر، ما يزال يتواتر — نسائيًّا — تعبير أن فلانة زوجها هجرها، وأنها أصبحت هجارة أو هجالة أو مهجورة.

أما سارة، فينسب لها الرداء النسائي المعروف بالساري الهندي، ومشتقاته من يسر ومره، وسار وثائر وثأر.

ويُكنى عن الاسم إبراهيم، بأبو خليل، أي خليل الله أو صفي الله — إيل — بالسريانية؛ إبرا معناها صفي أو خليل، وإيل هو كبير الآلهة السامية إيل، ويرد بهذا الاسم فعلًا — كبير — في حفائر بيلومي، ورأس شمرا، وقرطاجنة، وكريت.

ولقد خلف كبير الآلهة السامية إيل هذا اسمه على كثير من الأماكن التي ما تزال مقدسة في سوريا ولبنان وفلسطين وإسرائيل ﺑ «بيتل» وتعرف بشكل مضغم أو «بيتول» ومنه تواتر تعريف مريم بالعذراء البتول، أي التي تنتمي إلى بيت إيل أو إيلات، ومن اسمه كما ذكرنا جاءت تسمية إسرائيل، وملائكة العرش وأسماء الأعلام العربية والعبرية والمسيحية، مثل صموئيل وجبرائيل وميخائيل أو ميكائيل (أنجلو) ودانيال أو دانييل، وسعدائيل وسعدية، ووائل، وكامل، وإميل … إلخ.

وكما أن «كبير» كانت تسمية لإله أو صنم فأصبحت صفة، كذلك «ملى» كانت اسمًا لإله أو صنم أو طوطم عند قبائل ثمود البائدة أو المندثرة فيما قبل الألف الثالث ق.م، وكانت أنثاه الإلهة أو الكاهنة — المومس — مولي عند العمونيين سكان عمان، ومن الاسم الأسطوري للإله أو الصنم أو الطوطم «ملك» تواترت بالضرورة ملكية، والملكية والتمليك والتوريث كانت الهدف الأول للعالم القديم، فهو «إما مُباع أو مُشترى»، بل إن هذه القبائل من عبدة القمر، قد حفظت لها اشتقاقاتها اللغوية اتخاذ صلات القرابة والرحم وأطوار العمر المختلفة من أسماء قمرية مثل: قمر، ونجم، وهلال، وعم، وجد، وكهل، وهي كلها كانت أسماء للآلهة القمرية منذ العرب البائدة في الجزيرة العربية، عند الآلاف المؤلفة من قبائلها وعشائرها التي عرفته باسمه السومري «س» واسم «شهر».

كذلك حفظت لهم روافد اللغات السامية تقديس جهة اليمين، التي أطلقوها ليس فقط على اليمين، بل على ما هو واقع على يمين القبلي؛ ولذلك شملت تسمية اليمن الشام بأسره، ومنها تواتر أهل اليمن واليمن والميمنة … إلخ.

ويذكر تيلور٣ أن تقديس الناحية أو القبلة التي يولي الناس وجوههم شطرها وهم يمارسون أعمالًا معينة لها أهميتها في حياتهم، ولهذه الطائفة من الشعائر رمزيتها الواضحة المميزة؛ نظرًا لارتباطها الوثيق بالشمس وبرحلتها اليومية من الشرق إلى الغرب، أي إنها شعائر توجيه مرتبطة بعبادة الشمس.

ومن هنا فمعظم الشعوب البدائية تؤمن بأن عالم الموتى يقع في الغرب وجهة أو تسمية الغرب، المشئومة أو التابو هذه، قد تكون متواترة أو مرتبطة بالغراب — النواحي — المشئوم أيضًا، والنطق الشائع عند رؤية الغراب هو: غرب؛ أي اذهب إلى الغرب.

وما أكثر الأسماء الأسطورية، أو أسماء الآلهة والأصنام والطواطم التي تواترت إلى أسماء أماكن وأعلام مثل: هيبة، ونسر الذي حُرف إلى نصر، وصفر، وجاد، وهامان، وهامام، وسعد، وسعدية، وود الذي تواتر إلى وداد، ونفيسة، وديان، وآمون أو أمين، وأدون أو أدونيس، وعوض، خلف، وسامي، نسبة إلى سام بن نوح، على عكس أخيه حام ابن اللعنة، أو «الخام» الأدنى منزلة.

•••

وكذلك تضمين اسم الإله أو الآلهة لبناته أو طائره أو طوطمه المقدس، مثل شجرة الجميزة — المقدسة — (شجرة صخور) والتي تُنسب إلى الإلهة المصرية الأم إيزيس التي تعارف عليها العرب باسم «إيزه» أي جم-إيزه؛ أي شجرة إيزه، ومثل ليمون أولى بمعنى ماء-آمون، وزيت-أون أو زيتون.

كما أن أسماء الآلهة والإلهات القديمة من شمسية وقمرية وطواطم، ما تزال تتواتر حولنا؛ مثل الإله القمري — القط — بس، إله مصر وغرب آسيا.

وكانت كعبة هذا الإله دبستس المعروفة إلى اليوم بالقرب من الزقازيق بوبسطة أو تل بس. ويذكر هردوت (القرن الرابع ق.م) احتفالات أو موالد «المصريين» بجميع أو بانثيون قطط بوبسطة، فقبل وصول الزوار إليها يعري النساء ثيابهن «والرجال يحتفلون بالعيد، ويقدمون أضحيات عظيمة، ويستهلكون من النبيذ أكثر مما يستهلكون في كل العام، ويبلغ عدد الزوار — وفقًا لقول أهل البلاد — أكثر من سبعمائة ألف من الرجال والنساء عدا الصبية».

وقد وُجدت تماثيل الإله بس، بأعداد هائلة في فينيقيا ومستعمراتها في جزر البحر الإيجي واليونان، وقرطاجنة في تونس.

كما يذكر هردوت أنه عندما كانت تموت قطة في منزل مصري، يحلق سكان المنزل حواجبهم فقط، أما عندما يموت لهم كلب فيحلقون شعر البدن كله حتى الرأس.

•••

ومن اسم الإله الابن اليتيم حورس — ورمزه العين الحارسة أو أن «العين عليها حارس»، ولا نزال إلى اليوم نقول حور العين أو حوراء العين … إلخ.

ومن اسم آلهة الإخصاب الجنسي للناس والبهائم عشتر، تواتر عشار وتعاشرة وعشرة وعشيرة.

كما أن من تسمية «فرج» المرأة، ما يتوحد مع الفرج والتفريج، والفرجة.

فرغم أن مشكلة المشاكل في اللغات القديمة هي المعنى، إلا أن لغتنا ما تزال حافظة لأصولها الأولى الطوطمية، أو الأنيمية الروحية، من ذلك كلمات تابوات، حرم وتحريم ومحرمات، وحرام — الحج — ومحروم، وحريم، وحرملك في العصر التركي والمملوكي.

ومثل شعيرة أو أشعار وارتباطها بالشعر وقدسيته عند الساميين والآريين على السواء.

فالآريون تسموا باسم شعب بهارات، نسبة إلى الهند أرض البهارات، وكذلك تسمت ملحمتهم العظيمة — ١٠٨ ألف بيت من أبيات الشعر الثمانية المقاطع — ملحمة الماها بهارتا أي أهل أو بلاد بهارات.

واستنادًا إلى نظرية سير ريتشارد تمثل بالنسبة للقوانين التي تحكم اللغة ومشتقاتها والإعراب الذي تخضعه قوانين وقواعد محددة في معظم اللغات العالمية منذ عام ١٨٩٩، فإن الاشتقاقات اللغوية تجيء تحت تأثير الاحتياجات النفسية أو العصبية، والمادية، والاجتماعية.

فالمعنى هو مشكلة المشاكل في اللغات القديمة، وكما يقول مالينوفسكي فإن معنى الكلمات يهدف إلى وظيفتها أو منفعتها أو استخداماتها، فقد اعتقد مالينوفسكي بأن هناك ارتباطًا كبيرًا فعلًا بين اللغة — السحرية أو الطوطمية — واشتقاقاتها، وأن بنائية اللسان والتركيبات اللغوية تؤدي فعلًا إلى احتياجات أو منافع عصبية، إلى جانب منفعيتها لذاتها، ومعنى هذا أن قراءة الرُّقى والتعاويذ، وترتيل النصوص الدينية والتجويد وأساليبه يلعب بالضرورة دورًا في أعصاب السامعين.

وكما يقول أرنست كاسيرر، فقد تتغير العادات والأفكار الدينية بمرور الزمن، أما كلمات هذه التراتيل وإيقاعها، فإنها تبقى بغير تغيير على الدوام، وعادة ما تُنشد دون فَهْم لها.

ويُلاحظ أن نصوص هذه التراتيل الشعائرية أو الدينية تحكم بنائية إعرابها برمتها، وليس العكس، ومن هنا تظل اللغة أسيرة قواعد أو بنائية النص الديني، بدلًا من أن يحدث العكس أيضًا.

وكما هو معروف فإن الترتيلة الدينية، هي الحارسة الأولى للأسطورة أو مجمل الأساطير.

وأرجع البعض هذا إلى عبادة الموتى، وتمثل حكم الأسلاف، الذين تعارف الساميون على عبادتهم، فكانوا يدفنون موتاهم من الأجداد معهم في نفس منازلهم، وتعاملوا مع جثثهم ورممهم بأساليب حياتية، يحادثونهم ويشكون لهم، ويعرون وجوههم مقبلين مستشيرين في كل الأمور وقبل اتخاذ أي قرار: زواج، حرب، هجرة، قتل، بيع، شراء … إلخ.

فالعرب والعبريون — خاصة — كانوا من أقدم عبدة «جثمان» الأسلاف أو التابوت، تابوت العهد، بل وربما كانت هناك اشتقاقية بين كلمة «تابو» أو الشيء المحرم أو الحرام وبين التابوات أو تابوت العهد، بمعنى أن كلمة تابو كلمة أو اشتقاق سامي، أكثر منه بولونزي، وهو على ما تعارف عليه جميع الأنثروبولوجيين الذين أرجعوا هذا التعريف إلى أصله البولونزي.

ولا يمكن تصور مدى الصراعات والحروب القبائلية الطاحنة لدرجة الإبادة في التنازع على جثمان آدم، أو رأس عيسو أو العيص بن إسحاق أو عصا شعيب وموسى ويوسف — وهي شارة سلفية — على طول تاريخهم الطوطمي.

بل إن كلمة حرب أو سنحارب، منحدرة إلى اليوم بنصها ومدلولها منذ أسرة أو مجموعة الملوك الآشوريين المحاربين القساة ملوك سوريا العليا الذين عُرفوا بنفس هذا الاسم — سنحاريب — وقادوا سلسلة من الحروب الطاحنة ضد الإمبراطورية الفارسية الإيرانية منذ أن هزمهم سنحاريب الأول في ٧٠٣ق.م، وتملك إيران ونصب ابنه سنحاريب الثاني بابل.

وتعارف الساميون من عرب وعبريين على تسمية فراعنة مصر، باسم عون أو فرعون، واعتبروهم خارج النسل السامي، وما تزال الآلاف الكثيرة جدًّا من حكايات وخرافات الأعوان تتواتر شفاهيًّا إلى أيامنا هذه على طول أقطار العالم العربي.

كذلك تعارف الساميون على تحقير ملوك العراق أو نماردة بابل، ووُجد اسم «بابل» في الآثار والمدونات التاريخية الفارسية الإيرانية، منذ أن هاجمها قورش في سنة ٦١٥ق.م.

وما يزال الاسم محفوظًا إلى اليوم في إحدى مقاطعات أو مديريات العراق المعروفة باسم نيمرود، وفيها كشف الحفري بولسين، آثار نيمرود وآشور المحفوظة بالمتحف البريطاني.

ويبدو أن الكريتيين والإيجيين اليونانيين عامة كانوا أول من اخترع الكفتة، فلقد تعارف على تسميتهم المصريون القدماء منذ الدولة الحديثة — الكفتيو.

ومن المعروف أن الفينيقيين الشوام قد استعمروهم منذ أقدم العصور — الألف الثالث ق.م — ويبدو أنهم قد تعلموا منهم عمل الكفتة؛ ولهذا تعارف الكتبة المصريون منذ العصر البطلمي على تسمية الفينيقيين أنفسهم بنفس الاسم «الكفتيو».

كما أنهم تعارفوا على تسمية إيطاليا وجنوب فرنسا باسم بلاد الغال، أو الغول، كما قد يكون الاسم تحريفًا لبلاد «العال» على اعتبار أن اللغات السامية القديمة لم تكن تستخدم التشكيل أو التنقيط، كذلك حُرفت حضارة أو عصر أرك — كما يسميها التوراة — إلى الوركاء، وكذلك حضارة ما قبل التاريخ المعروفة بسوس التي يرى البعض أنها أقدم حضارات آسيا الغربية.

ومع اتساع رقعة وحجم الانكباب على دراسة علم الإنسان الثقافي — الأنثروبولوجيا — باستخدام المناهج البنائية في السنوات القريبة، يبرز أول ما يبرز الاهتمام بدراسة اللغة، فاللغة مجموعة مترابطة من الأوضاع الكلامية التي تراعيها وتتوارثها جماعة معينة في الكلام، فالجماعة أو المجتمع أو البلدان التي تتكلم لغة معينة، مثل الفصحى أو عامياتها، يُعتبران معًا — الجماعة واللغة — من أهم ملامح البناء الاجتماعي؛ فهناك علاقة حميمة أو متكافئة بين البناء الاجتماعي واللغة، وذلك أن اللغة ما هي إلا نسق أو بنية، لها خصائصها العامة المشتركة، وتخضع لأبنية عقلية وقوانين اللغويات، بل إن مظاهر الزمن تخضع أيضًا إلى التحليل اللغوي، وهو ما لفت إليه تومبسون عن طريق القوانين التي وضعها وتوصل إليها وورف في دراسة اللغة في مجتمع الهوبي، والنتائج التي توصلت إليها الآنسة غلاديس ريتشارد عن قبائل النافاهو عام ١٩٥٠، وما أثبته نادل عن وجود علاقة بين النظم الدينية والكهنوتية والسحرية في مجتمع ما، وبين مظاهر نموه النفسي واللغوي، أو إشاراته — الكلامية — التي اتفق عليها «بالفونيمات»، والتي أمكن حصرها بدقة في حدود بضعة آلاف — مقطعًا أو فونيمًا.

ومن هنا يصبح من المفيد جدًّا اهتمام مراكز الفولكلور وهيئات جمع التراث، بملاحقة الأدوات والأجهزة التقنية المتقدمة التي أصبحت تُستخدم بالنسبة للتسجيلات والأبحاث اللغوية.

وإني لأتفق مع عبد الحميد حواس في أن حقول البحث في الفولكلور والأساطير عندنا على مستوى بلداننا العربية، وما تزال خصبة، خاصة من حيث هذا النسق اللغوي للعربية وأصولها وروافدها وما انتهت إليه، بمعنى أنه ما يزال من الميسور بالنسبة لنا في منطقتنا العربية التوصل إلى نتائج أقرب إلى الدقة العلمية، بشكل أسرع وأقل مشقة مما أصبحت تعانيه مجتمعات ما فوق التصنيع، في الغرب عامة.

بل إنه ليسرني أن أختم ملاحظاتي حول أهمية دراسة اللغة وإعادة التعرف على جذور لغتنا العربية، بالإشارة إلى بحث قصير أو فهرست نشر بمجلة «التراث الشعبي» العراقية بالعددين الثاني والثالث عام ١٩٧٥، حول أصول بابلية لكلمات عربية، متداولة، ليوسف داود عبد القادر، مستندًا على ظهور الطبعة الأخيرة لملحمة «أتراجاسس العراقية»، أو ملحمة الطوفان البابلية التي تُرجمت من البابلية إلى الإنكليزية عام ١٩٦٨، وتولى ترجمتها الأثريان الكبيران «جي لامبرت» و«ميلارد»، وألحقا بها فهرسًا بالكلمات البابلية التي وردت في نص الملحمة، رُتبت حسب حروف الساكنة، أو حسب جذور الكلمات بالنسبة إلى أصلها السامي.

وعن طريق مقارنة هذه الكلمات البابلية القديمة — ٤ آلاف عام — بما يشابهها من كلمات عربية فصحى أو عامية، يمكننا القول بأن أية محاولة لغوية لوضع معجم حديث للغة العربية لا تستند إلى دراسات مقارنة في اللغة السامية، ومنها العربية؛ ربما جاءت عقيمة لا مجدية.

بل إنه يمكن ملاحظة أن معظم ما نستخدمه في حياتنا اليومية الآن وفي هذا المكان، له أصوله البابلية والأكادية والكلدانية.

ومن ذلك: واو العطف، وابن، وآبو، ويوم، وعين، وعش، وأب، وعباب — الطوفان أو السيل — وأدان أو آذان بمعنى عيَّن وقتًا، والأذن، وأخذ، والأخير، وأكل، وإيل — أو الإله إيل — وعَلَى أو فوق، وبلد، وعليل، وأم، وعم، وهوم، وأنا، وأنا أكون، وزمان، وعسل، ويشير، وأقل، ورمان، وباب، وبعل — أوسع آلهة الشعوب السامية٤ أو الزوج أو رب الشيء ومالكه وأنثاه البعلة بمعنى ربة البيت، وبشع، وبيت، ويبكي، وبكر — بمعنى المولود الأول فاتح الرحم — وبانوا أو يبني، وبينو أي ابن، وبنيان، وبشرى، ويبرك، وجليل، ودق، ويدلي — ينزل أو يذل — ودم، ودمع، ويزكي، وذكر، وزمار، وذقن، أو لحية، وذَرِي أو محتقر، ويكسب، ويطرد، وكل أو جمع، وقرب، وقرص، كبس بمعنى ملء الشيء، وكرش، وقصد، وكتم، ولا، ولوى — لواه يلويه ليا — ولت بمعنى اللت والعجن، ولب بمعنى قلب أو لب الأشياء، وبيت، وميت، وملأ، وملك، ومن؟ وميا، ومر، ونون — أي السمكة النون — والحوت، ونهر، وقدم أو سم، وريش، ورب، ورجم، وركب، وصلة — أو قرابة ومنها صلة الرحم — وناس، ونشر، وزق — زقاق — ونبأ، ونحر، ونير أي الظلم، وبلل — أي تبلبل الألسنة — ودهر، وداس، وثان، وسرق، وذباب، وخلق، ونكر — أي أنكر وتجاهل … إلى آخر ما جاءت به هذه الملحمة البابلية من كلمات عربية فصحى أو عامية، ما تزال تعيش على ألسنة شعوبنا العربية، برغم الأربعة أو الخمسة آلاف عام التي تفصلنا عن البابليين.
١  يطلق على السمن المخزون، أدام في ريف مصر.
٢  وهو ما يكتمل فلسفيًّا اليوم في عدمية مسرح وفكر الكاتب الأيرلندي الأصل الفرنسي الثقافة صمويل بيكت.
٣  تيلور، أحمد أبو زيد، ص١٧٩.
٤  انظر موسوعة الفولكلور والأساطير العربية «ديانة البعليم» شوقي عبد الحكيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤