المتسولة

أحب باتريك بلاتشفورد روز، وصار ذلك الحب فكرة مترسخة بداخله، بل ومسيطرة عليه أيضًا. أما في نظر روز، فمثَّل ذلك الحب مفاجأة متواصلة لها. أراد باتريك الزواج بها، وكان ينتظرها لحين انتهائها من المحاضرات، ثم يتوجه إليها، ويسير بجوارها ليدرك وجودَه أيُّ مَن كانت تتحدث معه. وعند وجود أولئك الأصدقاء والزملاء حولها، لم يكن يتحدث، وإنما يحاول لفت انتباهها ليعبِّر بنظرة باردة متشككة عن شعوره إزاء حوارها مع أصدقائها. منح ذلك روز شعورًا بالإطراء، لكنه أصابها بالتوتر في الوقت نفسه. ذات مرة، أخطأت صديقة لها تُدعَى نانسي فولز في نطق اسم «مترنيخ» أمامه، فسأل روز فيما بعد: «كيف تصادقين أشخاصًا كهؤلاء؟»

ذهبت نانسي وروز لبيع دمائهما ذات مرة في مستشفى فيكتوريا، وحصلت كلٌّ منهما على خمسة عشر دولارًا أنفقتا أغلبها على أحذية للمساء، وصنادل فضية اللون تشبه ما تلبسها العاهرات. وتيقنًا منهما بأن التبرع بالدماء سيتسبب في خسارتهما بعض الوزن، تناولتا آيس كريم بالفواكه والمكسرات مزودًا بصوص الشوكولاتة الساخن في بوومرز. تُرى لماذا لم تستطع روز الدفاع عن نانسي أمام باتريك؟

كان باتريك في الرابعة والعشرين من عمره، وكان طالبًا بالدراسات العليا، ويخطط لأن يصير أستاذًا في التاريخ. كان طويلًا ونحيلًا وأشقر ووسيمًا، بالرغم من الوحمة الطويلة ذات اللون الأحمر الباهت التي كانت تتدلى كالدمعة على صدغه ووجنته. اعتذر باتريك عن هذه الوحمة، لكنه قال إنها تتلاشى مع تقدمه في العمر، وعند بلوغه الأربعين ستكون قد اختفت تمامًا. لم تكن تلك الوحمة هي السبب في طمس وسامته من وجهة نظر روز؛ (فثمة أمور أخرى طمستها أو على الأقل انتقصت منها؛ وكان عليها تذكير نفسها دومًا بوجودها.) اتسم باتريك بشيء من العصبية وسرعة الاهتياج والارتباك. كان صوته يتهدج عند توتره — كان على ما يبدو متوترًا دومًا عند وجوده مع روز — فكان يُسقط الأطباق والأكواب من على المائدة، ويسكب المشروبات وصحون الفول السوداني، وكأنه ممثل كوميدي. لكنه لم يكن كذلك؛ وكان ذلك أبعد ما يكون عما ينوي فعله؛ فقد انحدر من أسرة ثرية تعيش في مقاطعة كولومبيا البريطانية.

وصل باتريك ذات مرة مبكرًا لاصطحاب روز إلى السينما. لم يطرق الباب لعلمه بوصوله قبل موعده، فجلس على درجة السُّلم أمام منزل الدكتورة هينشو. كان ذلك في الشتاء، وقد خيم الظلام على المدينة، لكن كان هناك مصباح صغير بجوار الباب.

نادت الدكتورة هينشو على روز بصوت رقيق مبتهج: «يا إلهي، روز! تعالي انظري!» وأطلتا معًا من نافذة غرفة المكتب المظلمة. قالت الدكتورة هينشو بصوت حنون: «يا له من شاب مسكين!» كانت سيدة في السبعينيات من عمرها، عملت في السابق أستاذةً للغة الإنجليزية، واتسمت بدقتها وصعوبة إرضائها وحيويتها. عانت من العرج بإحدى ساقيها، ومع ذلك، كانت تميل برأسها، الذي تلف فوقه جدائل شعرها الأبيض، ميلًا فاتنًا كالفتيات الصغيرات.

وصفت الدكتورة هينشو باتريك بأنه مسكين لأنه كان مغرمًا، أو ربما أيضًا لأنه كان ذكرًا محكومًا عليه بالاندفاع والتخبط. بدا باتريك وهو يجلس في الخارج بهذا الشكل في ذلك الطقس البارد — حتى من تلك النافذة العالية — عنيدًا ومثيرًا للشفقة، حازمًا وتابعًا.

قالت الدكتورة هينشو: «إنه يحرس الباب! يا إلهي، روز!»

وفي إحدى المرات الأخرى قالت منزعجة: «كم أخشى أن يكون اختياره لتلك الفتاة اختيارًا خاطئًا!»

لم تحب روز ما قالته الدكتورة، لم تحب سخريتها من باتريك، لم تحب جلوس باتريك على درجات السُّلم على هذا النحو أيضًا؛ فقد استحق بذلك سخرية الآخرين منه. لقد كان أضعف شخص عرفته روز على الإطلاق، وكان هو من فعل ذلك بنفسه، فلم يكن يعلم أي شيء عن كيفية حماية نفسه. ومع ذلك، فقد كان مليئًا بالأحكام القاسية والغرور في الوقت نفسه.

•••

اعتادت الدكتورة هينشو أن تقول لروز: «أنتِ طالبة يا روز، ستهتمين بذلك»، ثم تقرأ بصوت عالٍ شيئًا ما كان مكتوبًا في الجريدة، أو الأرجح من مجلة «كانيديَن فورم» أو «أتلانتك مَنثلي». ترأست الدكتورة في السابق مجلس إدارة مدرسة المدينة، كما كانت أحد الأعضاء المؤسسين لحزب كندا الاشتراكي، وكانت لا تزال عضوًا في بعض اللجان، وتكتب للجرائد، وتقدم مقالات نقدية عن الكتب. عمل والداها في البعثات الطبية؛ ووُلِدت في الصين. كان منزلها صغيرًا ومثاليًّا؛ أرضيات ملمعة، سجاجيد براقة، صور لمناظر طبيعية وأوانٍ ومزهريات صينية، وحواجز خشبية سوداء منحوتة. لم تستطع روز الإعجاب بكل ذلك آنذاك، فلم يكن بوسعها في الواقع التمييز بين أشكال حيوانات اليشم الصغيرة الموضوعة على رف مدفأة الدكتورة هينشو وأدوات الزينة المعروضة في واجهة متجر المجوهرات في هانراتي، وإن كان بإمكانها الآن التمييز بين أيٍّ من هذه الأشياء وتلك التي كانت فلو تشتريها من متاجر السلع الرخيصة.

لم تستطع روز في الواقع اتخاذ قرار حاسم بشأن مدى إعجابها بالإقامة مع الدكتورة هينشو؛ فكانت تشعر أحيانًا بعدم الرغبة في ذلك؛ إذ كانت ستجلس في غرفة الطعام على مائدة العشاء واضعةً منديلًا من الكتان على ركبتيها لتناول الطعام من أطباق بيضاء أنيقة موضوعة على مفارش زرقاء. كان الطعام المُقدَّم على المائدة غير كافٍ لها على الدوام، ووجب عليها شراء الكعك المحلَّى المقلي وألواح الشوكولاتة، وإخفاؤها في غرفتها. أزعجها كذلك طائر الكناري المتأرجح على محطِّه بنافذة غرفة الطعام، وتوجيه الدكتورة هينشو لدفة الحديث دائمًا. تحدثت عن السياسة والكُتَّاب، وذكرت فرانك سكوت ودوروثي ليفساي، مشيرةً إلى ضرورة قراءة روز لأعمالهما. ينبغي على روز قراءة هذا، ينبغي عليها قراءة ذاك. قررت روز غاضبةً ألا تفعل ذلك؛ فقد كانت تقرأ لتوماس مان وتولستوي.

لم تسمع روز من قبل عن الطبقة العاملة قبل انتقالها للإقامة مع الدكتورة هينشو، وعند معرفتها بها نقلت تلك المعرفة إلى منزلها.

قالت فلو ذات مرة: «سيكون هذا آخر جزء من البلدة يصل إليه الصرف الصحي.»

فردت روز بفتور: «بالطبع، فهذا الجزء هو الذي تعيش فيه الطبقة العاملة.»

قالت فلو: «الطبقة العاملة؟! تتحدثين كما لو كان الناس هنا في يدهم ما يمكنهم فعله للحيلولة دون ذلك.»

كل ما أحدثه منزل الدكتورة هينشو شيئًا واحدًا؛ وهو القضاء على البساطة والأريحية المُسلَّم بهما في بلدة روز، فكانت العودة إلى تلك البلدة بمنزلة العودة لطرق الإضاءة القديمة. كانت فلو قد وضعت مصابيح فلورسنت في المتجر والمطبخ. كان هناك أيضًا مصباح طويل ينتصب على الأرض في أحد أركان المطبخ كانت فلو قد فازت به في لعبة البينجو؛ وكان ظله محاطًا دائمًا بشرائط سلوفان عريضة. أهم ما فعله منزل الدكتورة هينشو ومنزل فلو أحدهما في الآخر هو الانتقاص من قيمة كلٍّ منهما. ففي الغرف الرائعة بمنزل الدكتورة، كانت روز دائمًا ما تتذكر المعرفة غير الناضجة التي جمعتها في منزلها، كان الأمر أشبه بغُصَّة تقف في حلقها على الدوام. وفي منزلها، كان النظام والتغير اللذان شهدتهما في الأماكن الأخرى يكشفان مدى الفقر البائس والمخزي لهؤلاء الناس الذين لم يعتبروا أنفسهم فقراء قط. لم يقتصر الفقر على العوز والحرمان فحسب، كما اعتقدت الدكتورة هينشو، وإنما كان يعني أيضًا امتلاك أنابيب الإنارة القبيحة تلك والافتخار بها؛ يعني التحدث الدائم عن المال والحديث الحاقد عما اشتراه الآخرون من أشياء جديدة وإذا ما كانوا قد دفعوا ثمنها أم لا؛ يعني أيضا الغيرة والفخر بشيء مثل الستائر البلاستيكية الجديدة الشبيهة بالدانتيل التي اشترتها فلو لنافذة المنزل الأمامية؛ يعني أيضًا تعليق الملابس على المسامير خلف الأبواب والتمكن من سماع أي صوت يصدر من دورة المياه؛ يعني تزيين الحوائط بعبارات النصح الورعة والمبهجة، بل والإباحية أحيانًا:
الربُّ راعيَّ فلا يعوزني شيءٌ.
آمِن بالرب يسوع المسيح فتخلصْ أنت وأهل بيتك.
لماذا علقت فلو هذه العبارات بينما لم تكن بالمرأة المتدينة؟ هكذا فعل الآخرون؛ كانوا يعلقون هذه العبارات مثلما الرُزنامات.
هذا مطبخي وسأفعل به ما أشاء.
أكثر من شخصين في سرير واحد فعل خطير وغير قانوني.

كان بيلي بوب هو من جلب هذه العبارات. تُرى ما سيكون رأي باتريك إذا رآها؟ ما سيكون رأيه في قصص بيلي بوب وهو مَن أزعجه النطق الخاطئ للاسم «مترنيخ»؟

عمل بيلي بوب في متجر جزارة تايد، وكان أكثر ما يتحدث عنه حينذاك هو المهاجر البلجيكي الخارق الذي جاء للعمل في المتجر، وتسبَّب في توتر بيلي بوب بسبب غنائه الوقح للأغاني الفرنسية، وأفكاره الساذجة عن تحقيق النجاح في هذه البلدة وشرائه متجر الجزارة الخاص به.

قال له بيلي بوب ذات مرة: «لا تظن أنه بإمكانك المجيء إلى هنا وتحقيق ما لديك من أفكار. فأنت مَن يعمل لدينا. وإياك والظن بأن هذا الوضع سينعكس؛ ونصير نحن من نعمل لديك.» أخرس ذلك البلجيكي، هكذا قال بيلي بوب.

كان باتريك يطلب من روز من وقت لآخر الذهاب إلى بلدتها والالتقاء بأسرتها، خاصة وأنها لا تبعد سوى خمسين ميلًا فقط.

«لا يوجد هناك سوى زوجة أبي.»

«كم أنا سيئ الحظ لعدم تمكني من رؤية والدك.»

اندفعت روز في تقديم والدها لباتريك على أنه قارئ للتاريخ، ودارس هاوٍ. ولم تكذب في ذلك، لكنها لم تقدم صورة صادقة عن الوضع الحقيقي.

«هل زوجة والدك هي الوصية عليكِ؟»

فما كان من روز إلا أن قالت إنها لا تعلم.

«حسنًا، لا بد أن والدك قد حدَّد الوصيَّ عليكِ في وصيته. من يدير أملاكه؟»

أملاكه! ظنت روز أن الأملاك تعني الأراضي كتلك التي يملكها الناس في إنجلترا.

رأى باتريك في ظنها ذلك شيئًا من خفة الظل.

«كلا، أعني ما كان يملكه من أموال وأسهم وما إلى ذلك. ما تركه بعد وفاته.»

«لا أظن أنه ترك أي شيء.»

«بالله عليكِ! لا تكوني سخيفة.»

•••

في أحيان أخرى، كانت الدكتورة هينشو تقول لها: «حسنًا، أنتِ طالبة. لن تهتمي بذلك.» وتقصد غالبًا في هذه الأوقات حدثًا ما مُقامًا في الكلية؛ مثل تجمُّع رياضي، أو مباراة كرة قدم، أو حفل راقص. وتكون الدكتورة محقة عادةً في افتراضها؛ فروز لم تهتم بتلك الأمور، لكنها لم تحرص على الاعتراف بذلك؛ فهي لا تسعى لتعريف نفسها بهذا النحو ولا تستسيغ فعل ذلك.

عُلِّقت على حائط السُّلم داخل المنزل صور التخرج لجميع الفتيات الأخريات اللاتي حصلن على منح دراسية وعشن مع الدكتورة هينشو. صار أغلبهن معلمات، ثم أمهات. صارت إحداهن اختصاصية تغذية، واثنتان أمينتي مكتبة، وواحدة أستاذة للغة الإنجليزية مثل الدكتورة هينشو. لم تهتم روز بهيئتهن، أو امتنانهن المنعكس في ابتسامتهن الخجولة، أو أسنانهن الكبيرة، أو لفائف شعرهن العذراوية. بدا عليهن أنهن يفرضن عليها الورع. لم تكن من بينهن ممثلة، أو صحفية لامعة بإحدى المجلات. لم تصل أيٌّ منهن لنوعية الحياة التي أرادتها روز لنفسها؛ فقد أرادت أن تكون شخصية عامة. فكرت في أن تكون ممثلة، لكنها لم تحاول التمثيل قط، وكانت تخشى الاقتراب من الأعمال المسرحية بالكلية. علمت أيضًا أنها لا تستطيع الغناء أو الرقص، فودت حقًّا العزف على القيثارة، لكنها لم تملك أذنًا موسيقية. رغبت روز في أن يعرفها الناس ويحسدوها، في أن تكون رشيقة وذكية. وقالت للدكتورة هينشو ذات مرة لو أنها كانت رجلًا، لودت أن تعمل مراسلًا خارجيًّا.

فصاحت الدكتورة منزعجةً: «ينبغي عليك إذن تحقيق ذلك! المستقبل كله متاح أمام النساء. يجب عليك التركيز على اللغات، ودراسة العلوم السياسية والاقتصاد. ربما يمكنك أيضًا الحصول على وظيفة في الجريدة في الصيف. لدي بعض الأصدقاء هناك.»

خافت روز من فكرة العمل في الجريدة، وكرهت أيضًا دورة الاقتصاد التمهيدية؛ وبحثت عن وسيلة لإلغاء اشتراكها فيها. من الخطير الإفصاح عن مثل هذه الأفكار للدكتورة هينشو.

•••

كان انتقال روز للإقامة مع الدكتورة هينشو مصادفة؛ فالفتاة الأخرى التي اختيرت للإقامة معها أصيبت بالسل، وانتقلت بدلًا من ذلك إلى المصحة. ذهبت الدكتورة إلى مكتب الكلية في اليوم الثاني لتسجيل الطلاب للحصول على بعض أسماء طلاب السنة الأولى الحاصلين على منح دراسية.

وتصادف وجود روز في المكتب قبل وصول الدكتورة بفترة وجيزة لتسأل عن المكان الذي سيُعقَد فيه اجتماع طلاب المنح الدراسية؛ إذ كانت قد فقدت الإخطار الخاص بها. كان أمين صندوق الجامعة سيتحدث مع طلاب المنح الدراسية الجدد، مُطلِعًا إياهم على سبل جني المال والعيش بتكاليف زهيدة، وموضحًا لهم معايير الأداء العالية المتوقعة منهم لكي يستمر إمدادهم بالمال.

توصلت روز إلى رقم الغرفة، وصعدت السُّلم إلى الطابق الأول. اقتربت فتاة منها، وسألتها: «هل تبحثين عن الغرفة رقم ٣٠١٢ أنت أيضًا؟»

سارتا معًا، وأخبرت كلٌّ منهما الأخرى بتفاصيل منحتها الدراسية. لم يكن لدى روز مكان تقيم فيه بعد، وكانت تقيم في جمعية الشابات المسيحيات. لم تملك في الحقيقة ما يكفي من المال للعيش في ذلك المكان على الإطلاق. لقد حصلت على منحة دراسية لتغطية مصروفات الدراسة، وجائزة الريف لشراء الكتب، ومنحة مالية تبلغ ثلاثمائة دولار لتغطية مصروفات معيشتها؛ ولم تملك شيئًا عدا ذلك.

قالت الفتاة الأخرى: «سيتحتم عليك البحث عن وظيفة.» حصلت تلك الفتاة على منحة مالية أكبر لدراستها العلوم. «حيث يوجد المال، المال كله ينصب في العلوم.» هكذا قالت الفتاة بجدية، لكنها مع ذلك كانت تأمل في الحصول على وظيفة في الكافيتريا. كانت قد حصلت على غرفة في قبو أحد المنازل. أخذت روز تطرح عليها أسئلة من قبيل: «كم تدفعين في الغرفة؟ كم يتكلف طبق الطعام الساخن هنا؟» ورأسها غارق في الحسابات ويعتريها القلق.

كانت الفتاة تلف شعرها فوق رأسها، وترتدي بلوزة من قماش الكريب بهت لونها ولمعت بسبب الغسيل والكي. كان ثدياها كبيرين ومرتخيين. ارتدت على الأرجح صدرية وردية متسخة مثبتة من الجانبين، وكانت هناك رقعة حرشفية على إحدى وجنتيها.

قالت الفتاة: «لا بد أن هذا هو الاجتماع.»

كانت هناك نافذة صغيرة في الباب، تمكنتا من النظر عبرها لتشاهدا الطلاب الآخرين الحاصلين على المنح الدراسية الذين تجمَّعوا بالفعل وانتظروا الاجتماع. بدا لروز أنها رأت أربع أو خمس فتيات يشبهن تلك الفتاة الواقفة بجوارها في الرزانة وانحناء الظهر، وعددًا من الشباب ذوي مظهر صبياني وعيون لامعة وملامح توحي بالرضا عن النفس. بدا لها حينها أن القاعدة السائدة أن تبدو الفتيات الحاصلات على المنح الدراسية كما لو كنَّ في الأربعين من عمرهن والشباب في الثانية عشرة. من المستحيل، بالطبع، أن ينطبق ذلك على الجميع. ومن المستحيل أيضًا أن تتمكن روز بنظرة واحدة عبر الزجاج من ملاحظة آثار الإكزيما، وبقع الإبط، وقشرة الشعر، والرواسب المتعفنة على الأسنان، والغَمَص الجاف بأطراف العيون. فهذا ما تصورته فحسب. ومع ذلك، فلم تكن مخطئة في وجود شيء ما يغشاهم جميعًا؛ لقد غشيتهم بالفعل حالة رهيبة من التلهف والانقياد، وإلا فكيف يمكنهم تقديم كل هذه الإجابات الصحيحة والمُرضية؟ كيف يمكنهم تحقيق التميز لأنفسهم والوصول إلى هذا المكان؟ هذا ما فعلته روز أيضًا.

قالت للفتاة الأخرى: «سأذهب إلى دورة المياه.»

تصوَّرت روز نفسها وهي تعمل في الكافتيريا، وقد بدا جسدها الممتلئ بالفعل أكثر بدانة في الزي القطني الأخضر الموحَّد للكافتيريا، وقد تحوَّل وجهها للحمرة، وقسا شعرها نتيجة للحرارة. تخيلتْ تقديمها صحون اليخنة والدجاج المحمر لمن هم على درجة أقل من الذكاء ومستوى أعلى من الدخل، تصوَّرت نفسها محاصرة بطاولات تقديم الطعام، والزي الموحَّد، والعمل الشاق المحترم الذي لا يجب لأحد أن يخجل منه، ويظهر عليها الذكاء والفقر البادي للجميع. يمكن للشباب التأقلم مع ذلك … بالكاد. أما الفتيات، فهو وضع مهلك لهن. فقر الفتاة ليس بالأمر الجذاب، إلا إذا صاحبه جاذبية جنسية أو غباء. والذكاء ليس جذابًا أيضًا، إلا إذا ارتبط ببعض ملامح الأناقة والمنزلة الاجتماعية الرفيعة. هل كان ذلك صحيحًا؟ وهل كانت روز بالحماقة التي تجعلها تهتم بذلك؟ الإجابة في الحالتين هي «نعم».

عادت روز للطابق الأول حيث ازدحمت القاعات بالطلاب العاديين، الذين لم يحصلوا على منح دراسية ولم يكن من المنتظر منهم الحصول على الامتياز دومًا، والشعور بالامتنان والعيش بتكاليف زهيدة. تجولوا مرتبكين بمظهرهم البريء المثير للحسد حول موائد التسجيل، مرتدين ستراتهم البيضاء والأرجوانية الجديدة، وقبعات الطلاب المستجدين الأرجوانية. أخذوا يصيحون بعضهم لبعض بتذكيرات، ومعلومات ملتبسة، وإهانات حمقاء. سارت روز بينهم وبداخلها شعور مرير بتفوقها عليهم وقنوطها في الوقت نفسه. ظلت تنورة الطقم الأخضر الذي كانت ترتديه والمصنوع من المخمل المضلع تلتصق بساقيها أثناء سيرها. كانت خامة القماش خفيفة؛ ربما كان يجب عليها إنفاق مبلغ أكبر لشراء خامة أثقل. وفي تلك اللحظة، فكرت أيضًا في أن تفصيل السترة كان سيئًا بدوره، مع أنها بدت جيدة في المنزل. الطقم بأكمله صنعته خيَّاطة صديقة لفلو في هانراتي، وقد انصبَّ اهتمامها الأساسي في حياكته على ألا يُظهِر التصميم أي ملامح للجسد. طلبت منها روز تضييق التنورة، فقالت لها: «لا أظن أنك ترغبين في إظهار مؤخرتك، أليس كذلك؟» ولم تُرِد روز البوح بأنها لا تهتم.

من الأمور الأخرى التي قالتها لها الخياطة: «اعتقدتُ أنك بإنهاء المرحلة الثانوية ستحصلين على وظيفة وتساعدين فلو في نفقات المنزل.»

أوقفت إحدى السيدات روز أثناء سيرها في القاعة.

«ألست إحدى فتيات المنح الدراسية؟»

كانت سكرتيرة أمين عام الجامعة. ظنت روز أنها ستوبَّخ لعدم حضورها الاجتماع، وعزمت على القول بأنها شعرت ببعض التوعك. أعدَّت وجهها لتلك الكذبة، لكن السكرتيرة قالت لها: «تعالي معي الآن. ثمة شخص يرغب في لقائك.»

كانت الدكتورة هينشو تُحدِث جلبة محبوبة في المكتب. لقد أحبَّت الفتيات الفقيرات الألمعيات، لكنها كانت تفضلهن جميلات أيضًا.

قالت السكرتيرة لروز وهي تتقدمها في السير: «أظن أن ذلك قد يكون يوم حظك، إذا استطعت رسم تعبير أكثر لطفًا على وجهك.»

كرهت روز أن يطلب منها أحد ذلك، لكنها ابتسمت مطيعةً.

وفي غضون ساعة، نُقِلت إلى منزل الدكتورة هينشو، واستقرت فيه مع الحواجز الخشبية والمزهريات الصينية، وقيل لها إنها طالبة.

•••

حصلت روز على وظيفة في مكتبة الكلية بدلًا من الكافيتريا؛ إذ كانت الدكتورة هينشو صديقة لرئيس أمناء المكتبة. عملت روز بعد ظهيرة أيام السبت في قسم تخزين الكتب حيث تعيد الكتب لأماكنها. وكانت المكتبة تكاد تكون خالية في ذلك التوقيت بفصل الخريف، بسبب مباريات كرة القدم. أطلَّت النوافذ الضيقة للمكتبة على الحرم الجامعي المليء بالأشجار، وملعب كرة القدم، والمدينة الممتلئة طرقاتها بأوراق الأشجار المتساقطة، وتهادت أصوات الأغاني والصيحات إلى المكتبة.

لم تكن مباني الكلية قديمة على الإطلاق، لكنها صُمِّمت لتبدو كذلك؛ فكانت مبنية من الحجارة. وكان لمبنى كلية الآداب برج. أما المكتبة، فكانت نوافذها بابية مصمَّمة ربما لتصويب الأسهم منها. أكثر ما أعجب روز في المكتبة هو المباني والكتب، والنشاط الذي شهدته عادةً، وهو ما تلاشى في ذلك الوقت من العام، وارتكز حول ملعب كرة القدم الذي صدرت عنه تلك الضوضاء التي بدت في نظرها غير لائقة ومشتتة للذهن. كانت الهتافات والأغاني بلهاء، إذا ركز المرء في كلماتها. لماذا شيدوا تلك المباني المهيبة إذا كانوا سيغنون مثل هذه الأغاني؟

كانت روز بالحكمة التي تمنعها من التعبير عن هذه الآراء، وإذا قال لها أي شخص: «كم هو كريه أن تضطري للعمل أيام السبت، وألا تستطيعي حضور المباريات»، كانت توافقه الرأي بشدة.

في إحدى المرات، أمسك رجل ما بساقها العارية بين الجورب والتنورة. حدث ذلك في قسم الزراعة بالجزء السفلي من منطقة أرفف تخزين الكتب بالمكتبة. لم يملك أحد تصريحًا لدخول هذا المكان سوى أعضاء هيئة التدريس، وطلاب الدراسات العليا، والموظفين، لكن قد يستطيع أحدهم الدخول من نافذة الطابق الأرضي، إذا كان نحيلًا. كانت قد رأت رجلًا انحنى وهو يتفحص الكتب في رفٍّ أدنى بعيدًا عن مكانها بعض الشيء، وعندما مدت يدها لدفع أحد الكتب إلى مكانه، مر ذلك الرجل خلفها، وانحنى ليمسك بساقها، كل ذلك في حركة مباغتة سريعة وخفيفة، ثم اختفى. ظلت تشعر لفترة وجيزة بالمكان الذي غرس فيه أصابعه. لم تبدُ لها لمسة جنسية، وإنما كانت أشبه بالمزحة، لكنها مزحة غير ودودة على الإطلاق. سمعته روز وهو يركض هاربًا، أو شعرت به؛ فقد اهتزت الأرفف المعدنية، ثم توقفت عن الاهتزاز. لم يعد له أي صوت يدل عليه، فسارت باحثةً عنه بين أرفف التخزين وأركان القراءة. لكن ماذا إذا رأته، أو تعثرت به في أحد الأركان؟ ما الذي كانت تنوي فعله؟ لم تعرف. لقد شعرت فحسب بضرورة البحث عنه، كما لو كانت في لعبة صبيانية مثيرة. نظرت لربلة ساقها القوية المتوردة. ما أثار دهشتها هو ظهور شخص من حيث لا تعلم يرغب في معاقبتها وإصابتها على هذا النحو.

وُجد عادةً عدد قليل من طلاب الدراسات العليا في أركان القراءة، حتى بعد ظهيرة أيام السبت، لكن نادرًا ما وُجد فيها أساتذة في ذلك الوقت. بحثت روز في كل ركن، فوجدته فارغًا حتى وصلت إلى أحد الأشخاص في أحد أركان القراءة، أطلَّت برأسها بحرية، إذ لم تتوقع وجود أي شخص في ذلك الوقت، لكنها اعتذرت بعد ذلك عن هذا التصرف.

كان هناك شاب يحمل كتابًا على حجره، وحوله الكتب مترامية على الأرض، والأوراق تحيط به من كل جانب. سألته روز إن كان قد رأى أي شخص يركض بجواره، فأجابها بالنفي.

روت له ما حدث، لكن السبب لم يكن شعورها بالخوف أو الاشمئزاز، مثلما اعتقد هو بعد ذلك، وإنما رجع ذلك إلى ضرورة إخبارها شخصًا ما بما حدث؛ فقد كان موقفًا غريبًا. لم تكن متأهبة على الإطلاق لرد فعل ذلك الشاب؛ إذ تحول وجهه وعنقه للون الأحمر ليتداخل مع وحمة على جانب وجنته بالكامل. كان نحيلًا وأشقر. نهض عن كرسيه دون أن ينتبه للكتاب الموجود على حجره أو الأوراق المتناثرة أمامه، فسقط الكتاب بقوة على الأرض، واندفعت حزمة ضخمة من الأوراق عبر المكتب لتحرك زجاجة الحبر.

قال لها: «يا له من تصرف وضيع!»

فنبَّهته: «أمسِكْ زجاجة الحبر!» فمال ليلتقط الزجاجة، لكنها سقطت منه على الأرض. لحسن الحظ، كان الغطاء فوقها، ولم تنكسر.

«هل ألحق بكِ أي أذى؟»

«كلا، لم يفعل في الواقع.»

«تعالي معي إلى الأعلى. سوف نبلغ عما حدث.»

«لا، لا داعي.»

«لا يمكن أن يفلت بفعلته. يجب ألا يُسمَح بذلك.»

فقالت روز بارتياح: «ليس هناك من يمكننا إبلاغه بما حدث؛ فأمين المكتبة ينصرف في ظهيرة أيام السبت.»

فرد عليها بصوت عالٍ ومنفعل: «هذا فعل مثير للاشمئزاز.» ندمت روز في تلك اللحظات على إخبارها له بما حدث، وقالت له إنها مضطرة للعودة إلى العمل.

«هل أنتِ بخير؟»

«نعم.»

«سأكون هنا. فلتنادي عليَّ فقط إذا عاد.»

كان ذلك الشاب هو باتريك. لو أن روز كانت تحاول إيقاعه في غرامها، فما كانت لتختار وسيلة أفضل من تلك. كان يؤمن بالعديد من مفاهيم الشهامة، رغم أنه كان يتظاهر بسخريته منها من خلال نطق بعض الكلمات أو العبارات بنبرة تعجب، مثل: «الجنس اللطيف» أو «آنسة في ورطة». وبذهاب روز إليه في ركن القراءة بهذه القصة، جعلت من نفسها «آنسة في ورطة». ما كانت سخريته لتخدع أحدًا؛ فكان من الجلي أنه يتمنى العيش في عالم الفرسان والسيدات رفيعات الشأن، ونوبات الغضب، والإخلاص.

ظلت تراه في المكتبة كل سبت، والتقت به في كثير من الأحيان أثناء سيرها بأرجاء الحرم الجامعي أو في الكافتيريا. كان يلقي عليها التحية بكياسة واهتمام، متسائلًا عن حالها على نحو يشير إلى احتمال تعرضها لاعتداء آخر أو احتمال كونها لا تزال في مرحلة التعافي من الاعتداء الأول. وكان وجهه يتحول للحمرة الشديدة عند رؤيته لها، الأمر الذي ظنت روز أنه بسبب شعوره بالإحراج عند تذكره ما روته له، لكنها اكتشفت فيما بعد أن السبب وراء ذلك هو أنه كان مغرمًا بها.

توصل باتريك إلى اسمها ومكان إقامتها. اتصل بها هاتفيًّا في منزل الدكتورة هينشو، وطلب اصطحابها إلى السينما. في البداية، عندما قال لها عبر الهاتف: «أنا باتريك بلاتشفورد» لم تستطع تذكره، لكنها سرعان ما تعرَّفت على الصوت العالي المحزون والمرتعد. وافقت روز على طلبه، وكان من بين أسباب موافقتها ما قالته الدكتورة هينشو دومًا عن سعادتها لعدم إهدار روز وقتها في التسكع مع الشباب.

بعد أن بدأت روز في الخروج مع باتريك، سألته: «ألن يكون من المضحك إذا كنت أنت من أمسكت بساقي في المكتبة ذلك اليوم؟»

لكن باتريك لم يرَ ذلك مضحكًا، وأفزعه تفكيرها على هذا النحو.

قالت له إنها لا تقصد سوى المزاح، وإن ما عنته هو أن هذا الافتراض كان سيُحدِث تغييرًا هائلًا في القصة، كإحدى قصص سومرست موم أو أحد أفلام هيتشكوك. كانا قد شاهدا لتوهما فيلمًا له.

«أتعلم، لو كان هيتشكوك قد صنع فيلمًا عن موقف مشابه لذلك، لكنتَ لعبت أنت دور الرجل المتوحش النهم الذي أمسك بساقي، ويكون ذلك جانبًا من شخصيتك، والجانب الآخر هو الطالب الخجول.»

لم يعجبه ذلك أيضًا.

وسألها: «هل هذه صورتي في نظرك … طالب خجول؟» بدا لها أنه خفض صوته، واصطنع بعض نبرات الشكوى، ومال بذقنه إلى الداخل، كما لو كان يمزح. لكنه قلما مزح معها؛ فهو يرى أن المزاح ليس لائقًا عندما يكون المرء مغرمًا.

«لم أقل إنك طالب خجول أو ممسك للسيقان. إنها مجرد فكرة طرأت علي.»

فرد عليها بعد برهة قائلًا: «أظنني أفتقر في نظرك لملامح الرجولة.»

صُعِقت روز بهذه المجاهرة، وشعرت بالغضب. إنه يغامر؛ ألم يمر بأي موقف من قبل يعلِّمه عدم خوض مثل هذه المغامرات؟ لعله لم تبدُ عليه الرجولة بالفعل. علم باتريك أنها ستقول له شيئًا يطمئنه، لكنها لم ترغب في ذلك، وإنما رغبت في أن تقول له بتعقل: «حسنًا، أنت محق في ذلك.»

لكن ذلك سيكون منافيًا للحقيقة؛ فقد بدا ذكوريًّا في نظرها. والسبب هو خوضه مثل هذه المغامرات، والرجال وحدهم هم من يتسمون بهذا القدر من التسرع وكثرة المطالب.

قالت له في موقف آخر: «لقد أتينا من عالمين مختلفين؛ فأهلي فقراء، والمكان الذي يعيشون فيه مقلب نفايات في نظرك.» شعرت بقولها ذلك أنها إحدى شخصيات المسرحيات الدرامية.

بهذا الحديث، صارت روز هي المخادعة؛ إذ تتظاهر بذلك لترمي بنفسها تحت رحمته، لأنها بالطبع لم تتوقع منه التخلي عنها وعن طلب زواجها عندما علم بفقر أهلها وأنهم يعيشون في مقلب نفايات.

فكان رد باتريك عليها: «لكنني سعيد بفقرك. أنتِ جميلة حقًّا … جميلة كالفتاة المتسولة.»

«من؟»

«لوحة الملك كوفيتوا والفتاة المتسولة، ألا تعرفينها؟»

اعتاد باتريك اتباع حيلة، أو بالأحرى أسلوب — ليست حيلة، فباتريك لا علم له بالحيل — للتعبير عن التفاجؤ: ذلك التفاجؤ المشحون بالازدراء عندما يجهل الناس شيئًا يعلمه، وازدراء وتفاجؤ مماثلين عندما يحاولون معرفة شيء يجهله. فكانت كلٌّ من غطرسته وتواضعه مبالغًا فيهما على نحو غريب. أما الغطرسة، فتوصلت روز بمرور الوقت إلى أن سببها هو ثراء باتريك، مع أنه لم يتفاخر أبدًا بهذا الأمر في حد ذاته. وعندما التقت بأختيه، اكتشفت أنهما يتسمان بنفس السمات؛ إذ تحتقران أي شخص ليست لديه معلومات عن الخيل أو الإبحار، كما كان لهما نفس الشعور المزدري حيال أي شخص تنصبُّ معرفته في الموسيقى أو السياسة. فما كان يبرع فيه باتريك وأختاه عند وجودهم معًا هو إظهار الاحتقار والازدراء للآخرين. لكن أليس بيلي بوب بهذا القدر من السوء أيضًا عندما يتعلق الأمر بالغطرسة؟ أليست فلو كذلك؟ ربما. لكن ثمة فارقًا، وهو أن بيلي بوب وفلو لم يتمتعا بالحماية؛ فهناك أشياء تثير استفزازهم مثل المهاجر البلجيكي الفذ ومتحدثي الفرنسية في الراديو، والتغيرات المختلفة. أما باتريك وأختاه، فقد كانوا يتصرفون كما لو أنه من المستحيل استفزازهم بأي شيء. أصواتهم عند شجارهم على المائدة كانت طفولية على نحو مدهش؛ وطلباتهم للطعام الذي يحبونه، وحدة طباعهم عند رؤيتهم أي شيء على المائدة لا يحبونه، كلها سلوكيات أشبه بسلوكيات الأطفال. لم يضطر أيٌّ منهم أبدًا للخضوع لأي شخص، أو التجمل أمام الآخرين، أو انتظار أي استحسان من العالم، ولن يضطروا لذلك أبدًا أيضًا، وذلك لأنهم أثرياء.

لم تكن لدى روز أية فكرة في البداية عن مدى ثراء باتريك. لم يصدق أحد جهلها بذلك؛ فظن الجميع أنها ذكية وأجرت الحسابات عند الارتباط به، لكنها كانت أبعد ما يكون عن هذا النوع من الذكاء، لذلك لم تهتم في الواقع بظنون الآخرين فيها. واكتشفت فيما بعد أن الفتيات الأخريات كن يحاولن الوصول إليه، لكنهن لم يتمكَّن من ذلك مثلها. والفتيات الأكبر منها سنًّا العضوات في نادي الفتيات بالجامعة، اللاتي لم يلاحظنها من قبل قط، بدأن في النظر إليها بنوع من الحيرة والاحترام. حتى الدكتورة هينشو عندما رأت أن الأمور أكثر جدية مما اعتقدت، وجلست مع روز لتتحدث معها في هذا الشأن، افترضت أنها تضع أموال باتريك نصب عينيها.

فقالت لها بنبرة ساخرة وجادة في الوقت نفسه: «إنَّ لفت انتباه وريث إمبراطورية تجارية ليس بالأمر الهين. إنني لا أكره الثروة، بل إنني أتمنى أحيانًا لو امتلكت بعضًا منها.» (هل افترضت حقًّا أنها لا تملك ثروة؟) واستطردت قائلةً: «إنني موقنة بأنكِ ستحسنين استخدامها، لكن ماذا عن طموحاتك يا روز؟ ماذا عن دراساتك وشهادتك؟ هل ستنسين كل ذلك بهذه السرعة؟»

كانت هناك بعض المبالغة في تعبير «إمبراطورية تجارية» الذي استخدمته الدكتورة. امتلكت عائلة باتريك سلسلة من المتاجر الكبيرة في كولومبيا البريطانية، وكل ما قاله باتريك لروز هو أن والده يمتلك بعض المتاجر. وعندما قالت له إنهما ينتميان لعالمين مختلفين، كانت تظن أنه يعيش على الأرجح في منزل كبير مثل منازل الحي الذي تعيش فيه الدكتورة هينشو، وكانت تفكر أيضًا في أكثر التجار ثراءً في هانراتي، ولم تدرك مدى الانقلاب الذي حققته، لأن الانقلاب في نظرها كان أن يقع ابن الجزار أو ابن الصائغ في حبها؛ وكان الناس سيقولون إنها قد حققت نجاحًا إن حدث ذلك.

اطلعت روز على اللوحة بعد أن بحثت عنها في أحد كتب الفن في المكتبة، ودققت النظر في الفتاة المتسولة الوديعة والمثيرة بقدميها البيضاوين الخجولتين، واستسلامها الخنوع وامتنانها. أهكذا رأى باتريك روز؟ أهذا ما يمكن أن تكون عليه؟ سوف تحتاج إلى ذلك الملك بحدته وبشرته الداكنة وما اتسم به من براعة وهمجية، بالرغم من المشاعر الطاغية التي وقع أسيرًا لها. سيمكنه أن يشكِّلها كما يشاء في ظل ما يتمتع به من رغبة عارمة. ولن يكون هناك أي اعتذار معه، أو أي إحجام، أو تشكك مثل ذلك الذي يظهر في جميع التعاملات مع باتريك.

لم تستطع روز خذلان باتريك، لم تستطع فعل ذلك، ليس بسبب مقدار ما يملك من المال، وإنما بسبب مقدار ما يقدِّمه لها من حب لا يمكنها تجاهله. لقد شعرت بالأسف حياله وبضرورة مساعدته في التغلب على ذلك. كان الأمر أشبه بتقدمه نحوها وسط جمع من الناس، حاملًا شيئًا ضخمًا وبسيطًا ومبهرًا — ربما بيضة ضخمة مصنوعة من الفضة الخالصة؛ شيء هائل في وزنه ومشكوك في استخدامه — ويعطيه لها، أو بالأحرى يدفعه نحوها متوسلًا إياها رفع بعض الحمل عنه. وإذا ردَّته إليه، فكيف سيتحمله؟ لكن هذا التفسير أغفل شيئًا ما؛ وهو ما كانت روز تشتهيه، والذي لا يتمثل في الثروة، وإنما الحب إلى درجة العبادة. كان لزامًا أن يبهرها ما قدَّمه لها باتريك من ضخامةِ ووزنِ وبريقِ ما أسماه حبًّا (ولم تشكك هي في ذلك)، مع أنها لم تلتمسه أبدًا. ورأت روز أنها من الصعب أن تحصل على هذا العرض مجددًا. باتريك نفسه، بالرغم من حبه الشديد لها، كان يقر إقرارًا غير مباشر بحظها الحسن في هذه العلاقة.

اعتقدت روز دومًا في حدوث ذلك؛ أي في أن تنال إعجاب شخص ما ويقع في غرامها ويعييه هواها، لكنها في الوقت نفسه، اعتقدت أنه ما من أحد سيفعل ذلك، أو يرغب فيها على الإطلاق، وهذا ما بدا لها بالفعل حتى ذلك الحين. إن ما يجعل المرء مرغوبًا فيه ليس ما يفعله، وإنما ما يملكه، وكيف يمكن لأحد أن يعرف ما إذا كان يملك هذا الشيء أم لا؟ كانت روز تنظر لنفسها في المرآة، وتفكر: «زوجة … حبيبة»؛ تلك الكلمات الرقيقة الجميلة، كيف يمكن أن تنطبق عليها؟ لقد كانت معجزة؛ أو بالأحرى خطأ. كان ذلك ما حلمت به، وليس ما رغبت فيه.

أعياها الإرهاق والضيق والأرق. حاولت التفكير بإعجاب في باتريك. لقد كان وجهه النحيل ذو البشرة الناعمة الشقراء وسيمًا للغاية. لا بد أنه كان يتمتع بقدر من المعرفة أيضًا؛ فقد كان يصحح الأبحاث، ويشرف على الاختبارات، وينهي رسالته. فاحت منه أيضًا رائحة تبغ غليون وصوف خشن أحبَّتها روز. كان يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا. ما من فتاة أخرى تعرفها روز كان لديها صديق في هذا العمر.

وبعد هذه الأفكار، كانت تتذكره فجأة دون أي إنذار مسبق وهو يقول: «أعتقد أنني أفتقر في نظرك إلى ملامح الرجولة»، أو «هل تحبينني؟ هل تحبينني حقًّا؟» وهو ينظر إليها نظرة تدل على الخوف والتهديد. وعندما كانت تخبره أنها تحبه، كان يقول لها كم هو محظوظ، بل كم هما محظوظان! ويذكر أصدقاءه وفتياتهم، مقارنًا علاقات الحب بينهم مع توضيح أن العلاقة بينه هو وروز أفضل من هذه العلاقات. تسبَّب ذلك في ارتعاد روز من الغضب والتعاسة؛ لقد شعرت بالاشمئزاز من نفسها بقدر ما شعرت به منه، وشعرت بالاشمئزاز أيضًا من صورتهما معًا في تلك اللحظة، وهما يسيران عبر أحد متنزهات وسط المدينة المليئة بالثلج، ويدها موضوعة في يده … أو بالأحرى في جيبه. كانت هناك أفكار غاضبة وقاسية تصرخ بداخلها. وجب عليها فعل شيء ما، لئلا تخرج تلك الأفكار وتبدو عليها، فبدأت في مداعبته وتشويقه.

أمام الباب الخلفي لمنزل الدكتورة هينشو، قبَّلته، وحاولت إجباره على فتح فمه، وفعلت أشياء شائنة معه. شعرت عند تقبيله لها بنعومة شفتيه وخجل لسانه. تداعى بجسده عليها بدلًا من أن يمسك بها. لم تشعر بأية قوة فيه.

«كم أنتِ جميلة، وبشرتك جميلة، وحاجباك رائعان! أنت رقيقة جدًّا!»

سعدت روز بسماع هذه الكلمات، كانت أي فتاة ستسعد بذلك، لكن ردَّها جاء تحذيريًّا بأن قالت له: «لست رقيقة حقًّا كما تظن، فأنا ضخمة.»

«أنتِ لا تعلمين مدى حبي لك. ثمة كتاب عنوانه «الإلهة البيضاء»، كلما نظرت إلى عنوانه، تذكرتكِ.»

فابتعدت عنه، ثم انحنت وأمسكت بحفنة من الثلج المنجرف بجوار درجات السلم، ورمت بها على رأسه.

«إلهي الأبيض!»

فهز رأسه لإنزال الثلج، واغترفت هي المزيد منه ورمته عليه. لكنه لم يضحك، وإنما أدهشه التصرف وأزعجه. مسحت بعد ذلك الثلج من على حاجبيه ولعقته من على أذنيه. كانت تضحك رغم شعورها باليأس، وليس المرح. لم تعرف ما دفعها إلى فعل ذلك.

همس باتريك قائلًا لها: «الدكتورة هينشو!» كان من الممكن لصوته الشاعري الحنون الذي استخدمه للتحدث عنها بعاطفة جياشة أن يختفي تمامًا، ويتحول إلى احتجاج وحنق، دون أي درجات متوسطة بين الصوتين.

«سوف تسمعكِ الدكتورة هينشو!»

فقالت له روز على نحو حالم: «تقول الدكتورة هينشو إنك شاب جدير بالاحترام؛ أظن أنها مغرمة بك.» صدقت روز في ذلك؛ فقد كان ذلك هو ما قالته الدكتورة هينشو بالفعل عن باتريك. ولم تخطئ الدكتورة بدورها في هذا الوصف. لم يتحمل باتريك الأسلوب الذي تحدثت به روز. نفخت الثلج في شعره، وقالت له: «لِمَ لا تدخل وتفض بكارتها؟ أنا موقنة أنها لا تزال عذراء. هذه نافذتها. لم لا تذهب؟» فركت شعره، ثم أدخلت يدها في معطفه، وفركت مقدمة بنطاله، وقالت بحماس المنتصر: «أنت قوي! يا إلهي، باتريك! لديك الكثير لتقدمه للدكتورة هينشو!» لم يسبق لها قول شيء كهذا أبدًا، ولم تقترب من هذا النوع من السلوك قط من قبل.

قال باتريك لها منزعجًا: «اصمتي!» لكنها لم تستطع السكوت، ورفعت رأسها، وهمست بصوت عالٍ متظاهرةً بالنداء في اتجاه نافذة علوية بالمنزل: «يا دكتورة هينشو! تعالي وانظري ما يخبئه باتريك لكِ!» ومدت يدها متحرشة إلى سحَّاب بنطاله.

وجب على باتريك مصارعتها لإيقافها وإسكاتها. وضع يده على فمها، ودفعها بيده الأخرى بعيدًا عن سحَّاب بنطاله، فارتطمت أكمام معطفه الفضفاضة الضخمة بها كأجنحة مرفرفة. وما إن بدأ في مصارعتها حتى شعرت بالارتياح؛ فهذا ما أرادته منه، أن يصدر عنه أي فعل. لكن وجب عليها الاستمرار في مقاومته إلى أن أثبت أنه أقوى منها بالفعل. كانت تخشى من ألا يتمكن من ذلك.

لكنه تمكن، وأجبرها على الجثوم على ركبتيها أمامه ووجهها في الثلج. جذب ذراعيها للخلف وفرك وجهها في الثلج، ثم تركها، وكاد يفسد ما فعله.

«هل أنتِ بخير؟ أنا آسف، روز؟»

فوقفت مترنحةً، ودفعت بوجهها المغطى بالثلج في وجهه، فتراجع للخلف.

«قبِّلني! قبِّل الثلج! أنا أحبك!»

فسألها بتأثر: «أحقًّا تفعلين؟» وأزاح الثلج عن جانب فمها، وقبَّلها. سألها باندهاش مفهوم: «هل تحبينني فعلًا؟»

في تلك اللحظة، انعكس ضوء عليهما وعلى الثلج الذي وطأته أقدامهما، وسمعا صوت الدكتورة هينشو ينادي من فوقهما.

«روز! روز!»

نادت عليها بصوت صبور ومشجِّع كما لو كانت روز قد ضلت طريقها وسط ضباب قريب من المنزل وبحاجة لمن يرشدها إلى العودة.

•••

سألتها الدكتورة هينشو: «هل تحبينه يا روز؟ لا، فكري. هل تحبينه؟» كان صوتها مليئًا بالشك والجدية. أخذت روز نفسًا عميقًا وأجابت كما لو كانت روحها مليئة بمشاعر مطمئنة: «نعم، أحبُّه.»

«حسنًا، إذن.»

استيقظت روز في منتصف الليل، وتناولت بعض الشوكولاتة. اشتهت روز الحلوى، وكانت تفكر عادةً أثناء أي حصة دراسية أو فيلم سينمائي في كعك الشوكولاتة، أو البراوني أو أي نوع من أنواع الكعك التي كانت الدكتورة هينشو تجلبها من المخبز الأوروبي، والتي كانت ممتلئة بقطرات الشوكولاتة المرة الغنية التي تنسكب منها على الطبق. وكلما حاولت التفكير في علاقتها بباتريك، أو عزمت على اتخاذ قرار بشأن ما كانت تشعر به في الحقيقة، تدخَّل هذا الاشتهاء للحلوى في أفكارها.

بدأ وزنها يزيد، وظهرت بعض البثور بين حاجبيها.

كانت غرفة نومها باردة؛ إذ كانت فوق الجراج وبها نوافذ من ثلاث جهات. فيما عدا ذلك، كانت غرفة لطيفة، وكانت هناك بعض الصور المعلقة في أُطر أعلى السرير لسماوات وأطلال إغريقية التقطتها الدكتورة هينشو بنفسها أثناء رحلتها إلى بلدان البحر الأبيض المتوسط.

كانت تكتب آنذاك مقالًا عن مسرحيات ييتس، وكان من بين شخصيات إحدى هذه المسرحيات عروس شابة اختطفتها الجنيات بعيدًا مخلِّصةً إياها من زيجة يحكمها العقل لم تتحملها تلك الفتاة.

قرأت روز: «فتلهربي أيتها الطفلة البشرية …» وعيناها مملوءتان بالدموع ابتئاسًا على حالها، كما لو كانت هي تلك الفتاة البتول الخجولة الرقيقة الهاربة من الفلاحين مشوشي الفكر الذين حاصروها. لكن على أرض الواقع، كانت روز هي الفلاحة التي تصدم باتريك ذا المبادئ السامية، لكنه لم يحاول الهرب منها.

التقطت إحدى هذه الصور وشوهت ورق الحائط بكتابة مطلع قصيدة طرأت على ذهنها أثناء تناولها الشوكولاتة في السرير، ورياح متنزه جيبونز ترتطم بحوائط الجراج:

أهوج أحمله في رحمي
طفل أبوه مجنون …

ولم تُضِف أية كلمة لذلك قط، وتساءلت أحيانًا عما إذا كانت تقصد «أحمق»، بدلًا من «أهوج»، لكنها لم تحاول مسح هذه الكلمة أيضًا قط.

•••

عاش باتريك في إحدى الشقق مع طالبَيْن آخرين من طلاب الدراسات العليا. عاش حياة بسيطة، لم يمتلك سيارة أو ينتمي إلى أيٍّ من نوادي الأخوية. واتسمت ملابسه ببعض ملامح ملابس الأكاديميين العادية الرثة. وكان أصدقاؤه من أبناء المعلمين ورجال الدين. وقال لروز ذات مرة إن والده كاد يتبرأ منه لاختياره طريق العلم، وإنه لن يدخل عالم التجارة أبدًا.

عادا معًا ذات مرة إلى تلك الشقة في فترة ما بعد الظهيرة لعلمهما بعدم وجود الطالبَيْن الآخرين فيها. كانت الشقة باردة. خلعا ملابسهما سريعًا، ودخلا في سرير باتريك. تعلَّق أحدهما بالآخر، وهما يرتعشان ويقهقهان. كانت روز هي من تقهقه؛ فقد شعرت بضرورة أن تكون مرحة دائمًا. أفزعتها احتمالية عدم تمكنهما من المضاجعة، ومن تعرضهما لمهانة كبيرة، واتضاح مرير لصور الخداع والغش، لكنها في الواقع هي من اتسمت بهذا الخداع والغش. لم يكن باتريك محتالًا أبدًا. تمكن من مضاجعتها بالرغم من كم الإحراج الهائل والاعتذارات، ومرَّ بمراحل اندهش لها من اللهاث والتخبط إلى شعور بالارتياح والسكينة. أما روز، فلم تساعده؛ فبدلًا من أن تبدي استسلامًا صادقًا، أخذت تتحرك كثيرًا متظاهرةً برغبة زائفة وعاطفة ملتهبة مزيفة. وقد سعدت بإتمام الأمر؛ ما كان عليها أن تزيف ذلك. لقد فعلا ما فعله الآخرون، أو بالأحرى ما فعله المحبُّون. فكَّرت في الاحتفال بالحدث، وما خطر على ذهنها هو تناول شيء لذيذ، ربما آيس كريم بالفواكه والمكسرات في بوومرز، أو فطيرة تفاح بصوص القرفة الساخن. لم تكن متأهبة على الإطلاق لما كان يفكر فيه باتريك، وهو البقاء في مكانهما والمحاولة مرة أخرى.

وفي المرة الخامسة أو السادسة لالتقائهما، انطفأ حماسها ورغبتها تمامًا.

سألها باتريك: «ما الخطب؟»

فأجابته: «لا شيء!» ثم عادت لانتباهها وتوهجها مجددًا، لكنها ظلت تنسى ما كان يحدث بينهما، وتدخلت تطورات جديدة في تفكيرها، واضطرت في النهاية للاستسلام لذلك الصراع بداخلها، متجاهلة باتريك إلى حد ما. وعندما تمكنت من التركيز معه ثانية، غمرته بمشاعر الامتنان. لقد كانت ممتنة الآن فعلًا، ورغبت في أن يسامحها — بالرغم من عدم قدرتها على النطق بذلك — على امتنانها غير الصادق، وعلى سلوكها المتسلط، وشكوكها.

ما الذي يدفعها لهذا القدر من التشكك؟ أخذت تفكر في هذا السؤال بينما كانت مستلقية في السرير، بينما ذهب باتريك لإعداد بعض القهوة الفورية. أليس من الممكن أن تتفق مشاعرها مع ما تتظاهر به؟ إذا كانت هذه المفاجأة الجنسية ممكنة، أليس من الممكن أن يكون أي شيء آخر ممكنًا أيضًا؟ لم يساعدها باتريك كثيرًا؛ فأخلاقه الرفيعة وتحقيره من قدر نفسه، بالإضافة إلى توبيخه لها، كلها أمور كانت تثبط من عزيمتها. لكن أليس العيب الحقيقي فيها هي؟ ألم تفكر في أن أي شخص سيقع في حبها لا بد أن يكون معيبًا على نحو ميئوس منه، وأن يتضح لها في النهاية أنه أحمق؟ الأمر الذي دفعها لملاحظة أي شيء أحمق يتعلق بباتريك، بالرغم من ظنها أنها تبحث عن الجوانب المبهرة التي يبرع فيها. في تلك اللحظة، وهي مستلقية في غرفته وعلى سريره وبين كتبه وملابسه وفرشاة أحذيته وآلته الكاتبة، وصور الرسوم المتحركة المثبتة حولها — جلست في السرير لتنظر إليها، وقد كانت صورًا لطيفة للغاية. لا بد أنه كان يسمح ببعض المرح عندما لا تكون هي موجودة في المكان — رأته شخصًا جديرًا بالحب، وذكيًّا، بل وظريفًا أيضًا. ليس بطلًا، وليس أحمق في الوقت نفسه. ربما يمكنهما أن يكونا شخصين عاديين. تمنَّت فقط ألا يبدأ في شكرها وتحسسها والتغزل فيها عند عودته إلى الغرفة. لم تحب ذلك التغزل في الواقع، فقد كانت تحب فكرة التغزل فقط. على الجانب الآخر، لم تكن تحبه أيضًا أن ينتقدها ويصحح أخطاءها. ثمة أمور كثيرة عزم على تغييرها فيها.

لقد أحبها باتريك، لكن ما الذي أحبَّه فيها؟ ليس لكنتها التي كان يحاول جاهدًا تغييرها، مع أنها كانت تثور عليه وتتصرف على نحو غير عقلاني في كثير من الأحيان، موضحةً أنها تتحدث مثل الجميع، وليس في حديثها أية لكنة ريفية، بالرغم من كل الأدلة التي تثبت عكس ذلك. لم تكن جرأتها الجنسية المتوترة كذلك بالشيء الذي أحبه باتريك (فقد ارتاح لتأكده من عذريتها مثلما ارتاحت هي بتأكده من كفاءته في هذا الشأن). كان باستطاعتها إجفاله بكلمة بذيئة، أو لكنة متشدقة. كانت لا تكفُّ عن الحركة والتحدث، مدمرةً صورتها في نظره، لكنه مع ذلك نظر إلى ما بداخلها، متجاوزًا كل عناصر الإلهاء التي كانت تصنعها حول نفسها، وأحب الصورة المطيعة بعض الشيء فيها، والتي لم تكن هي نفسها تراها. عقد باتريك آمالًا كبيرة على روز؛ فلكنتها يمكن القضاء عليها، وأصدقاؤها يمكن الانتقاص من شأنهم والتخلص منهم، ووقاحتها يمكن إثناؤها عنها.

ماذا عن باقي خصالها؟ النشاط، والكسل، والغرور، والسخط، والطموح؟ لقد أخفتها كلها. لم يكن لدى باتريك أية فكرة عنها. وبالرغم من كل الشكوك التي انتابتها حياله، لم ترغب قط في جعله يكف عن حبه لها.

ذهبا معًا في رحلتين.

كانت الرحلة الأولى إلى كولومبيا البريطانية، واستقلا فيها القطار أثناء عطلة عيد الفصح. أرسل والدا باتريك المال له لشراء تذكرته، ودفع هو تذكرة روز مستهلكًا كل ما لديه من مال في البنك ومقترضًا من أحد زميليه في السكن. وطلب منها ألا تخبر والديه بأنها لم تدفع ثمن تذكرتها، ورأت في ذلك أنه يطلب منها إخفاء فقرها عن والديه. لم يكن باتريك يعلم أي شيء عن ملابس السيدات، وإلا ما كان ليعتقد أن إخفاء فقر روز أمر ممكن، لكنها فعلت كل ما باستطاعتها في هذا الشأن؛ فاقترضت من الدكتورة هينشو معطف المطر الخاص بها والمناسب للطقس الساحلي. كان طويلًا بعض الشيء، لكنه فيما عدا ذلك كان ملائمًا لها بسبب ذوق الدكتورة هينشو الشبابي الأنيق. باعت، أيضًا، المزيد من الدم لتشتري كنزة صوفية ناعمة الوبر بلون الخوخ، كانت غير مهندمة على الإطلاق، وبدت فيها كفتاة ريفية تحاول التأنق. اعتادت روز إدراك هذه الأمور بعد شرائها للملابس، وليس قبله.

عاش والدا باتريك في جزيرة فانكوفر القريبة من سيدني. نحو نصف فدان من المرج الأخضر المُشَذَّب — أخضر في منتصف الشتاء؛ بدا منتصف مارس لروز كمنتصف الشتاء — منحدر نحو حائط صخري وشاطئ ضيق كثير الحصى وماء مالح. كان المنزل نصفه من الحجارة، والنصف الآخر من الجص والخشب. بُني المنزل على الطراز التيودوري، إلى جانب طرز أخرى. كانت جميع نوافذ الغرف كغرفة المعيشة، وغرفة الطعام، والمُختلى، مطلة على البحر. ونظرًا للرياح العاتية التي كانت تهبُّ على الشاطئ أحيانًا، كانت هذه النوافذ مصنوعة من ألواح الزجاج السميك — هذا ما افترضته روز — مثل نوافذ معرض السيارات في هانراتي. وحائط غرفة الطعام المواجه للبحر كان مصنوعًا كله من النوافذ المعقوفة للخارج ببروز بسيط، ما يجعلك تشعر عند الإطلال منها على الخارج بأنك تنظر عبر قعر زجاجة. كان البوفيه أيضًا معقوفًا للخارج ومطليًّا بطلاء لامع، وبدا ضخمًا كالقارب. كانت الضخامة — ولا سيما السُّمك — ملحوظة في كل مكان. المناشف والسجاجيد ومقابض السكاكين والشوك، كلها كانت سميكة. خيَّم، كذلك، صمت مطبق على المكان الذي زخر بقدر هائل من الترف وعدم الارتياح. بعد يوم أو نحو ذلك من وجود روز هناك، أصابها إحباط شديد جعلها تشعر بالوهن في معصميها وكاحليها، فوجدت مشقة في الإمساك بالسكين والشوكة؛ كما صعب عليها للغاية تقطيع اللحم البقري المشوي متقن الصنع ومضغه؛ وشعرت بانقطاع أنفاسها عند تسلقها السلالم. لم تعرف من قبل قط كيف يمكن لبعض الأماكن أن تتسبب في اختناق المرء لدرجة يشعر معها بأنه سيفقد حياته. لم تعرف ذلك بالرغم من كثرة الأماكن السيئة التي دخلتها من قبل.

في صبيحة أول يوم لها في المنزل، اصطحبتها والدة باتريك للتمشية في الأرض المحيطة بالمنزل، وأشارت أثناء ذلك إلى دفيئة النباتات الزجاجية، والكوخ الذي عاش فيه «الزوجان». كان كوخًا ساحرًا تتدلى من فوقه أشجار اللبلاب ويحتوي على نوافذ بمصراعين. كان أكبر من منزل الدكتورة هينشو. وكان «الزوجان» — وهما الخادمان — أكثر رقة في حديثهما، وأكثر تعقلًا واحترامًا من أي شخص يمكن أن تتذكره روز في هانراتي، وبالطبع أرقى في هذه الجوانب من أسرة باتريك.

أرتها والدة باتريك حديقة الزهور المحيطة بالمطبخ. كان هناك الكثير من الحوائط الحجرية المنخفضة.

وقالت لها: «لقد بنى باتريك كل هذه الحوائط.» كانت تشرح كل شيء بنوع من اللامبالاة التي تقترب من النفور.

فردَّت روز بصوت مليء بثقة زائفة، وتلهُّف، وحماس غير لائق: «إذن، فهو اسكتلندي بحق.» كان باتريك اسكتلنديًّا بالفعل، بالرغم من اسمه؛ إذ تعودُ أصول أسرة بلاتشفورد إلى جلاسجو. واستطردت روز قائلةً: «أليس أفضل عمال العمارة الحجرية اسكتلنديين؟» (كانت قد تعلمت مؤخرًا نطق كلمة اسكتلنديين على النحو الصحيح.) «لعل أسلافه عملوا بهذه المهنة.»

انكمشت خوفًا بعد ذلك لتفكر فيما بذلته من جهد، وادعائها السلاسة في الحديث والابتهاج، الأمر الذي تماشى مع الملابس الرخيصة المقلدة التي كانت ترتديها.

قالت والدة باتريك: «لا، لا أظن أن أسلافه كانوا من عمال العمارة الحجرية.» كان يشع منها شيء أشبه بالضباب؛ لقد كان الاستهانة والاستنكار والجزع. ظنت روز أنها ربما تكون قد استاءت مما قالته عن عمل أسرة زوجها بمهنة يدوية، لكنها عندما تعرفت عليها أكثر — أو بالأحرى لاحظتها فترة أطول؛ إذ كان من المستحيل التعرف عليها بشكل أفضل — أدركت أنها كانت تبغض أي شيء تخيُّلي أو تكهُّني أو افتراضي في الحديث، هذا فضلًا بالطبع عن كرهها لثرثرة روز. فأي اهتمام يتجاوز الاعتبار الواقعي للموضوع المعني — مثل الطعام أو الطقس أو الدعوات أو الأثاث أو الخدم — يبدو في نظرها سلوكًا سيئًا وخطيرًا ودالًّا على سوء الخلق. فمن الجيد النطق بعبارات مثل: «الطقس اليوم دافئ»، وليس «هذا اليوم يذكرني بما اعتدنا فعله من …» لقد كرهت تذكر الناس لأي شيء.

كانت الطفلة الوحيدة لأحد أقطاب صناعة الأخشاب الأوائل في جزيرة فانكوفر، وقد وُلِدت في إحدى المستوطنات الشمالية المندثرة، لكن كلما حاول باتريك دفعها للتحدث عن الماضي، وكلما سألها عن أبسط المعلومات — مثل البواخر التي كانت تظهر على الساحل، والعام الذي ترك الناس فيه المستوطنة، وأي طريق كان أول خط سكة حديد لنقل الأخشاب — كانت ترد عليه في حنق: «لا أعلم. كيف لي أن أعلم؟» وكان هذا الحنق أقوى نبرة يمكن ملاحظتها في حديثها.

لم يكترث والد باتريك أيضًا بهذا الاهتمام بالماضي؛ فالكثير من جوانب شخصية باتريك — بل أغلبها — بدا صادمًا له.

صاح فيه على المائدة: «لماذا تريد معرفة كل ذلك؟» كان رجلًا قصيرًا عريض المنكبين متورد الوجه شرسًا على نحو مذهل. كان باتريك يشبه والدته، التي اتسمت بطول القامة والشعر الأشقر والأناقة في أبسط صورها الممكنة، كما لو كان أسلوبها وملابسها وأدوات زينتها منتقاة للتعبير عن الحيادية بشكل مثالي.

قال باتريك بصوت غاضب يوحي بالغرور، لكنه متهدج وعصبي في الوقت نفسه: «لأنني مهتم بالتاريخ.»

فقلَّدته أخته ماريون على الفور ساخرةً منه ومن تهدُّج صوته، وعقَّبت: «لأنني مهتم بالتاريخ!»

كانت الأختان جوان وماريون أصغر سنًّا من باتريك، وأكبر من روز، لكنهما على عكس باتريك، لم تُظهرَا أي نوع من العصبية، أو عدم الرضا عن النفس. وقد سألتا روز في مرة سابقة أثناء تناول الطعام:

«هل تركبين الخيول؟»

«كلا.»

«هل تبحرين؟»

«كلا.»

«هل تلعبين التنس؟ الجولف؟ تنس الريشة؟»

«كلا، كلا، كلا.»

فقال والدهما: «لعلها مثقفة عبقرية مثل باتريك.» فبدأ باتريك في التحدث بصوت عالٍ عن المنح الدراسية والجوائز التي حصلت عليها روز، ما أصابها بالهلع والإحراج. ما الذي كان يطمح فيه؟ هل افتقر لأي نوع من البصيرة، ما جعله يعتقد أن هذا التفاخر سيجعله يتغلب عليهم، ويجلب عليه أي شيء آخر غير الازدراء؟ كان من الواضح أن الأسرة متفقة في اعتراضها على باتريك، وصيحاته المتفاخرة، وبغضه للرياضة والتليفزيون، واهتماماته الثقافية. لكن هذا التحالف كان مؤقتًا فقط؛ فبُغض الأب لابنتيه كان أقل فقط عند مقارنته ببغضه لباتريك. لقد كان ينتقدهما بشدة أيضًا عندما تسنح له الفرصة لذلك. كان يسخر من مقدار الوقت الذي تقضيانه في ممارسة الألعاب، ويشكو من تكلفة المعدات والقوارب والخيول التي تمتلكانها. هذا فضلًا عن التشاجر معًا حول موضوعات ملتبسة متعلقة بالنقاط المحرزة في المباريات والاقتراضات والخسائر. شكا الجميع أيضًا للأم من الطعام، مع أنه كان وفيرًا وشهيًّا. أما الأم، فكان حديثها مقتضبًا قدر المستطاع مع الجميع، ولم تستطع روز لومها في ذلك في الحقيقة؛ فهي لم تتصور قط اجتماع هذا القدر من التشاحن الحقيقي في مكان واحد. كان بيلي بوب متعصبًا ومتذمرًا؛ وفلو كانت متلونة، وظالمة، ومولعة بالنميمة؛ واعتاد والدها في حياته إصدار الأحكام القاسية والاستنكار الدائم، لكن مقارنةً بأسرة باتريك، اتسم جميع قوم روز بالبهجة وخفة الدم.

سألت روز باتريك: «هل هذا حالهم دائمًا؟ هل أنا السبب في ذلك؟ أنا لا أروق لهم.»

فأجابها باتريك بشيء من الرضا: «أنت لا تروقين لهم لأنني اخترتُكِ.»

استلقيا على الشاطئ المليء بالصخور بعد حلول الظلام، وهما يرتديان معطفي المطر. تعانقا وقبَّل أحدهما الآخر، وحاولا ما هو أكثر من ذلك، لكن على نحو غير مريح، ودون جدوى. خلَّفت الطحالب البحرية بعض البقع على معطف الدكتورة هينشو الذي ارتدته روز. قال باتريك: «أعرفتِ لماذا أحتاج إليكِ؟ إنني في أمس الحاجة إليكِ!»

•••

اصطحبت روز باتريك إلى هانراتي، ولم يقلَّ الأمر سوءًا عما تصورت، فتحملت فلو عناء تحضير وجبة من شرائح البطاطس، واللفت، والسجق الريفي الكبير الذي جلبه لها بيلي بوب من متجر الجزارة كهدية خاصة. مقت باتريك الطعام ذا القوام الخشن، ولم يحاول التظاهر بأنه يتناوله. فُرِشت الطاولة بمفرش بلاستيكي، وتناولوا الطعام في إضاءة مصباح الفلورسنت. كانت قطعة الزينة الموضوعة في منتصف الطاولة جديدة، ومنتقاة خصوصًا لهذه المناسبة. كانت عبارة عن بجعة بلاستيكية ذات لون أخضر مائل للصفرة، بها شقوق في الجناحين حُشِرت فيها مناديل ورقية ملونة مطوية. وعند تذكير بيلي بوب بأخذ أحد المناديل، نخر رافضًا. وفيما عدا ذلك، كان سلوكه حسنًا على نحو بائس. فقد وصلت إليه — أو على الأصح وصلت إليه وإلى فلو — أنباء عن الفوز الذي حققته روز، ونقل هذه الأنباء القوم الأعلى منهما شأنًا في هانراتي؛ لولا ذلك، ما كانا ليصدقا هذه الأنباء. فزبائن متجر الجزارة من السيدات — السيدات الرائعات؛ زوجة طبيب الأسنان وزوجة الطبيب البيطري — أخبرن بيلي بوب عن أنهن سمعن أن روز انتقت لنفسها رفيقًا مليونيرًا أو ابن مليونير. وعلمت روز أن بيلي بوب سيعود للعمل في اليوم التالي محملًا بقصص عن المليونير أو ابن المليونير، ستركز جميعها على سلوكه — أي سلوك بيلي بوب — الصريح والجريء في هذا الموقف.

«لقد استضفناه وقدَّمنا له بعض السجق. ولم نهتم من أين أتى!»

علمت روز أيضًا أن فلو سيكون لها تعليقاتها بدورها، وأنها لن تغفل عن عصبية باتريك، وستتمكن من محاكاة صوته ويديه كثيرتي الحركة اللتين تسببتا في سقوط زجاجة الكتشاب أثناء العشاء. لكن في الوقت الحالي وأثناء تناول الطعام، جلس كلاهما منحنيًا بظهره على المائدة على نحو بائس. حاولت روز بدء الحديث؛ فتحدثت بابتهاج وتكلف، كما لو كانت محاوِرة في أحد البرامج وتحاول إقناع بعض الأشخاص المحليين البسطاء بالتحدث. شعرت بالخجل على عدة مستويات لم يمكنها حصرها؛ فقد خجلت من الطعام والبجعة ومفرش الطاولة البلاستيكي؛ خجلت من باتريك، المتغطرس الكئيب، الذي عبس وجهه متفاجئًا عندما مررت له فلو علبة أعواد الأسنان؛ خجلت من فلو لجبنها ونفاقها وادعاءاتها؛ وفوق كل ذلك خجلت من نفسها؛ فلم تستطع حتى التحدث والظهور بمظهر يخلو من التكلف بأي شكل من الأشكال. ومع وجود باتريك، لم تستطع التراجع في لكنتها للتحدث بلكنة أشبه بلكنة فلو وبيلي بوب وأهل هانراتي. لكنها صارت تسمعها بأذنيها الآن. واتضح لها أنها لا تتضمن اختلافًا في النطق فحسب، وإنما أيضًا أسلوبًا مختلفًا تمامًا في الكلام يجعله يبدو كالصياح؛ إذ تبدو الكلمات منفصلة ومُفخَّمة ليتمكن الناس من قذف بعضهم البعض بها. كان حديث الناس أشبه بسطور مقتبسة من الروايات الكوميدية الريفية المبتذلة. وبرؤية ذلك من منظور باتريك، وسماعه بأذنيه، شعرت روز أيضًا بضرورة الاندهاش.

حاولت جذب الحاضرين للحديث عن التاريخ المحلي، وبعض الأمور التي اعتقدت أن باتريك قد يهتم بها؛ فبدأت فلو في التحدث بالفعل، فلا يمكنها أن تظل صامتة كل هذا الوقت، أيًّا كانت هواجسها، واتخذت المحادثة منحًى أبعد ما يكون عن أي شيء نوته روز.

قالت فلو: «الخط الذي عشت به عندما كنت صغيرة السن كان أسوأ مكان على الإطلاق للانتحار.»

أوضحت روز لباتريك: «الخط هو أحد الطرق الريفية.» ساورتها الشكوك بشأن ما سيلي ذلك، وكانت محقة في شكوكها؛ إذ بدأ باتريك يستمع لقصة الرجل الذي شق رقبته بنفسه من الأذن للأذن، والرجل الذي أطلق النار على نفسه، لكنه لم يمت، فأعاد تعبئة السلاح وأطلق النار مجددًا ليتمكن في النهاية من قتل نفسه بالفعل، والرجل الذي شنق نفسه باستخدام سلسلة مشابهة للسلاسل المستخدمة في الجرارات. لذا، كان من العجيب أن رأسه لم ينفصل عن جسده.

أخطأت فلو في نطق بعض الكلمات أثناء حديثها.

واصلت الحديث بعد ذلك عن امرأة لم تنتحر، لكنها توفيت في منزلها، ولم يكتشف أحد ذلك إلا بعد أسبوع من وفاتها. كان ذلك في فصل الصيف. وطلبت من باتريك تصور الأمر. كل ذلك حدث في إطار خمسة أميال فحسب من المكان الذي وُلِدت فيه. كانت تستعرض أدلة على ما تقوله فحسب، ولا تحاول إفزاع باتريك، على الأقل بقدر يتجاوز ما هو مقبول اجتماعيًّا. لم تقصد أيضًا إرباكه. لكن كيف يمكنه إدراك ذلك؟

قال باتريك لروز عند مغادرتهما هانراتي على متن الحافلة: «لقد كنتِ محقة. إنه مقلب نفايات بالفعل. لا ريب أنكِ سعيدة بهروبك من هنا.»

شعرت روز على الفور أنه ما كان ينبغي أن يقول لها ذلك.

أضاف باتريك: «ليست هذه بالطبع والدتكِ الحقيقية. فأنا على يقين أن والديك لا يمكن أن يكونا على هذه الشاكلة.» لم يرُق لروز قول ذلك أيضًا، مع أن ذلك أيضًا هو رأيها. فقد رأت أنه يحاول منحها خلفية اجتماعية أكثر رقيًّا، ربما كمنازل أصدقائه الفقراء: بعض الكتب، صينية شاي، بياضات خضعت للإصلاحات، ذوق جيد في الملابس؛ وأشخاص مثقفون فخورون ومتعبون. فكرت روز غاضبةً في مدى جُبنه، لكنها كانت تعلم أنها أيضًا تتسم بالجبن؛ فهي لا تعرف كيف تتعايش مع قومها أو مطبخ منزلها أو أي شيء آخر ذي صلة. بعد عدة أعوام، ستتعلم كيف تستخدم هذه الأمور، وستتمكن من إمتاع أصحاب التفكير السليم أو ترهيبهم في حفلات العشاء بمنحهم لمحات عن المنزل الذي عاشت فيه قديمًا. لكنها في تلك اللحظة شعرت بالارتباك والتعاسة.

مع ذلك، بدأت روز تشعر بالولاء؛ فبعد أن تيقنت من هروبها من ذلك المكان، تكونت طبقة أكثر قوة من الولاء والحماية حول كل ذكرى لديها، وحول المتجر والبلدة، حول الريف غير المميز ذي الطابع الفاتر والشجيرات الصغيرة. وصارت تقارن هذه الذكريات سرًّا برؤية باتريك للجبال والمحيط وقصره المبني من الحجارة والأخشاب، ووجدت أن ولاءها اتسم بقدر أكبر من الفخر والعناد مقارنة بولاء باتريك.

لكن اتضح لها بعد ذلك أنه لن يتخلى عن أي من هذه الأشياء.

•••

قدَّم لها باتريك خاتمًا ماسيًّا، وصرَّح لها بتخليه عن طموحه في أن يصير مؤرخًا من أجلها، وأنه سوف يعمل مع والده.

قالت له إنها اعتقدت أنه يكره عمل والده. فأجابها بأنه لا يستطيع تحمُّل ما يفرضه هذا الموقف عليه من أعباء بعد أن صار لديه الآن زوجة ينبغي عليه إعالتها.

اعتبر والد باتريك أن رغبة ابنه في الزواج — حتى وإن كانت الزوجة هي روز — علامة على تعقُّله. امتزجت في تلك الأسرة مسحات من الكرم بكل ما لديهم من سوء النوايا؛ فعندما علم والده بقراره، عرض عليه في الحال وظيفة في أحد متاجره، وشراء منزل له ولعروسه. لم يستطع باتريك رفض هذا العرض، شأنه شأن روز في عدم قدرتها على رفض عرض الزواج، وكلاهما كانت أسبابه غير مادية.

سألته روز: «هل سنسكن في منزل مثل منزل والديك؟» إذ شعرت بضرورة بدء حياتهما بعيدًا عن ذلك النمط.

«حسنًا، ربما ليس في البداية. فلن يكون …»

«لا أرغب في منزل كمنزلهما! لا أرغب في العيش بهذا الشكل!»

«سوف نعيش كما تشائين، ونسكن في أي منزل تفضلينه.»

شريطة ألا يكون مقلب نفايات، هكذا فكرت روز بخبث.

كانت الفتيات، اللاتي لا تكاد روز تعرفهن، يوقفنها ويطلبن منها مشاهدة الخاتم، ويبدين إعجابهن به، ويتمنين لها السعادة. وعند عودتها لهانراتي في إحدى عطلات نهاية الأسبوع — لكن وحدها في تلك المرة، الأمر الذي شكرت عليه الرب — التقت بزوجة طبيب الأسنان في الشارع الرئيسي.

«يا إلهي، روز! يا له من أمر رائع! متى ستعودين هنا ثانيةً؟ ترغب السيدات في القرية في دعوتك إلى تناول الشاي معهن!»

لم يسبق لهذه المرأة أن تحدثت مع روز، ولم تعكس أي شيء يدل على أنها تعرفها من قبل. صارت الطرق تتفتح أمام روز الآن، والعراقيل تتلاشى. وأسوأ ما في الأمر وأكثره خزيًا أن روز، بدلًا من أن تقاطع زوجة طبيب الأسنان، تورَّد وجهها وأظهرت خاتمها متململة وهي توافق على دعوة السيدة معبرة عن إعجابها بالفكرة. وعندما كان الناس يتحدثون عن مدى السعادة التي من المفترض أن تشعر بها، كانت تفكر في أنها سعيدة بالفعل. كان الأمر بهذه البساطة؛ إذ تحولت إلى فتاة مخطوبة في الحال دون أي عناء وبريق الألماس في يديها. سألها الناس عن المكان الذي ستسكن فيه، وأجابت: «كولومبيا البريطانية!» فكان ذلك يضفي مزيدًا من السحر على القصة. وكانوا يسألونها: «هل المكان جميل حقًّا هناك؟ ألا يحل الشتاء هناك أبدًا؟

وكانت تجيبهم: «نعم، جميل! لا، لا يوجد شتاء!»

•••

استيقظت روز مبكرًا، وارتدت ملابسها، وخرجت من الباب الجانبي لجراج منزل الدكتورة هينشو. كان الوقت مبكرًا للغاية، ولم تكن هناك أية حافلات، فمشت في المدينة وصولًا إلى شقة باتريك، وعبرت المتنزه. وعند النصب التذكاري للحرب في جنوب أفريقيا، شاهدت كلبين يثبان ويلعبان وامرأة عجوزًا تراقبهما ممسكةً بلجاميهما. كانت الشمس قد أشرقت لتوها، ولمعت أشعتها على جلد الكلبين الشاحبين. بلل الندى العشب، وتفتحت زهور النرجس.

فتح باتريك الباب، أشعث، ناعسًا مقطب الجبين، مرتديًا بيجامته المخططة باللونين الرمادي والكستنائي.

«روز! ما الأمر؟»

لم تستطع النطق. جذبها إلى داخل الشقة، فطوَّقته بذراعيها، وخبأت وجهها في صدره، ثم قالت بصوت مسرحي: «أرجوك يا باتريك … أرجوك لا تتزوجني.»

«هل أنتِ مريضة؟ ما الخطب؟»

فكررت ما قالته، لكن بقدر أقل من اليقين: «أرجوك لا تتزوجني.»

«أنتِ مجنونة.»

لم تلمه على هذا التفكير؛ فقد بدا صوتها غير طبيعي على الإطلاق، ومتملقًا، وسخيفًا. وبمجرد أن فتح لها الباب، ووقفت أمامه على حقيقته بعينيه الناعستين وبيجامته، رأت أن ما أتت لفعله كان أمرًا جللًا ومستحيلًا. كان عليها أن تشرح له كل شيء، لكنها بالطبع لم تفعل. لم تستطع أن تجعله يرى احتياجها لقول ما تريد أن تقوله. لم تجد نبرة الصوت وتعبير الوجه اللذين يساعدانها.

سألها باتريك: «هل هناك ما يضايقك؟ ماذا حدث؟»

«لا شيء.»

«كيف وصلتِ إلى هنا؟»

«سيرًا على الأقدام.»

كانت تقاوم رغبتها في الذهاب إلى دورة المياه؛ إذ بدا لها أنها إذا ذهبت، فسيضعف ذلك من قوة المسألة التي جاءت لمناقشتها، لكنها اضطرت لذلك، بعد أن قالت لباتريك: «انتظر دقيقة، سأذهب إلى دورة المياه.»

وعندما خرجت، وجدت باتريك وقد أعمل الغلَّاية الكهربائية، وصب القهوة الفورية. بدا رقيقًا ومتحيرًا.

قال لها: «لم أَفِق من نومي بعد. والآن، اجلسي. أولًا، هل أنت في فترة ما قبل الحيض؟»

فأجابته بالنفي، لكنها أدركت مرتاعةً أنها كذلك بالفعل، وأن بإمكانه تبين ذلك، لأنهما كانا قلقين الشهر الماضي.

«حسنًا، إذا لم تكوني كذلك، وما من شيء تسبب في إزعاجك، فما سبب كل ذلك؟»

فردت: «لا أرغب في الزواج.» متراجعةً عن العبارة القاسية: «لا أرغب في الزواج منك.»

«متى توصلت إلى هذا القرار؟»

«منذ فترة طويلة. هذا الصباح.»

كانا يتحدثان همسًا. نظرت روز في الساعة التي تخطت السابعة بدقائق قليلة.

«متى سيستيقظ رفيقاك؟»

«الساعة الثامنة تقريبًا.»

توجهت روز إلى الثلاجة قائلةً: «هل هناك من حليب للقهوة؟»

فقال باتريك: «افتحي الباب بهدوء.» لكن تحذيره جاء متأخرًا.

فردت بنبرتها الساذجة الغريبة: «آسفة.»

«لقد خرجنا للتمشية الليلة الماضية، وكان كل شيء على ما يرام. وهذا الصباح، تأتين لتخبريني بأنك لا ترغبين في الزواج. لماذا؟»

«ليست لدي رغبة في ذلك. لا أريد أن أتزوج وحسب.»

«فماذا إذن تريدين؟»

«لا أعلم.»

ظل باتريك يحدق فيها متجهمًا وهو يشرب القهوة. وبالرغم من اعتياده التضرع لها قائلًا: «هل تحبينني؟ هل تفعلين حقًّا؟» فلم يطرح هذا الموضوع الآن.

«حسنًا، أنا أعلم.»

«ماذا؟»

«أعلم من تحدَّث معكِ.»

«لم يتحدث أحد معي.»

«بل هذا ما حدث. إنها الدكتورة هينشو.»

«كلا.»

«إن آراء بعض الناس عنها ليست جيدة؛ فهم يعتقدون أنها تؤثر على الفتيات اللاتي يعشن معها، ولا تحب أن يكون لهن أصدقاء من الشباب، أليس كذلك؟ هذا ما قلتِهِ لي أنتِ أيضًا. إنها لا تحب أن يعشن حياة طبيعية.»

«لا، ليس هذا هو السبب.»

«ما الذي قالته لكِ، يا روز؟»

فأجابت وقد شرعت في البكاء: «لم تقل أي شيء.»

«هل أنتِ متأكدة؟»

«يا إلهي، باتريك! أنصت إليَّ أرجوك. لا يمكنني الزواج بك أرجوك. لا أعرف لماذا، لكنني لا أستطيع. أرجوك، أنا آسفة، صدقني لا يمكنني.» أخذت تهذر أمامه، وتبكي. فطلب منها أن تهدأ: «ستوقظينهما!» ثم رفعها — أو جذبها — من على كرسي المطبخ، واصطحبها إلى غرفته حيث جلست على السرير، وأغلق الباب. وطوت ذراعيها على بطنها، وأخذت تتأرجح جيئة وذهابًا.

«ما الخطب يا روز؟ أأنتِ مريضة؟!»

«يصعب عليَّ إخبارك وحسب.»

«إخباري بماذا؟»

«ما أخبرتُك به لتوي!»

«أعني هل اكتشفتِ إصابتك بالسل أو شيء من هذا القبيل؟»

«كلا!»

سألها مشجعًا لها على الإجابة: «هل هناك شيء في عائلتك لم تخبريني به؟ جنون مثلًا؟»

فأجابته: «كلا!» وأخذت تهتز وتبكي.

«ما الأمر إذن؟»

ردت: «لا أحبك! لا أحبك! لا أحبك!» ثم سقطت على السرير وأخفت رأسها في الوسادة. «أنا آسفة، آسفة حقًّا. الأمر خارج عن إرادتي.»

وبعد لحظات، قال باتريك: «حسنًا، إذا كنتِ لا تحبينني، فهذا أمر واقع. ولن أجبرك على أن تفعلي.» بدا صوته متأزمًا وناقمًا، الأمر الذي ناقض عقلانية حديثه. «إنني فقط أتساءل عما إذا كنتِ تعلمين ما ترغبين فيه حقًّا. لا أظن أنك تعلمين. لا أظن أن لديك أية فكرة عما ترغبين فيه. فأنت فقط تمرين بحالة نفسية سيئة.»

استدارت روز وقالت: «ليس لزامًا عليَّ أن أعرف ما أرغب فيه.» شعرت بالراحة عند قولها ذلك. استدارت واستطردت: «لم أحبك قط.»

«اخفضي صوتك، سوف توقظينهما. يجب أن نتوقف عن ذلك.»

«لم أحبك قط، لم أرغب في ذلك يومًا. لقد كان خطأ.»

«حسنًا، حسنًا. لقد أوضحتِ وجهة نظرك.»

«لماذا ينبغي عليَّ أن أحبك؟ لماذا تتصرف كما لو أنني من المفترض أن أعاني من مشكلة ما إذا لم أحبك؟ أنت تحتقرني. تحتقر عائلتي، والماضي الذي عشته، وتعتقد أنك تقدم لي معروفًا عظيمًا …»

قال باتريك: «لقد وقعتُ في غرامك، ولا أحتقرك يا روز. بل على العكس، أنا أعبدك.»

قالت روز: «بل أنت جبان، ومتفاخر.» نهضت عن السرير والسعادة تملؤها بعد أن قالت ذلك. شعرت بالحماس. ثمة أمور أخرى ستقولها، أمور رهيبة.

«أنت لا تعلم حتى كيف تمارس الحب. لقد أردتُ دومًا التخلص من هذه العلاقة منذ بدايتها، لكنني شعرت بالأسف عليك. لا تنتبه إلى طريقك، ودائما ما تُسقط الأشياء من حولك، لمجرد أنك لا تكترث بملاحظة أي شيء. أنت دومًا مشغول الذهن، ومتفاخر. هذا أمر سخيف للغاية، فأنت لا تعرف حتى كيف تتفاخر على نحو صحيح. وإذا أردت التأثير في الناس، ما كنت لتفعل ذلك أبدًا. فما تفعله يجعلهم يسخرون منك!»

جلس باتريك على السرير ونظر إليها منصتًا لكل ما تقوله. أرادت تسديد اللكمات له، وقول أشياء أكثر سوءًا وقبحًا وقسوة. التقطت نفسًا، وأدخلت الهواء إلى رئتيها لتحول دون التعبير عما كان يعتريها بالداخل.

قالت بشراسة: «لا أرغب في رؤيتك ثانيةً أبدًا!» لكنها استدارت عند وصولها للباب، وقالت بصوت طبيعي نادم: «وداعًا.»

•••

أرسل لها باتريك رسالة قال فيها: «لا أفهم ما حدث في ذلك اليوم، وأرغب في التحدث معك بشأنه، لكنني أعتقد أنه ينبغي علينا الانتظار أسبوعين لا يرى فيهما أحدنا الآخر، ولا نتحدث؛ لنتبين حقيقة مشاعرنا بنهاية تلك الفترة.»

نسيت روز تمامًا إرجاع الخاتم له، وعندما خرجت من المبنى الذي توجد فيه شقته ذلك الصباح، كانت لا تزال ترتديه. لم تستطع العودة إلى الداخل، وأيضًا كان الخاتم قيمًا للغاية بحيث لا يمكن إرساله بالبريد، فاستمرت في ارتدائه ولم تخلعه، وكان السبب الرئيسي في ذلك هو عدم رغبتها في إخبار الدكتورة هينشو بما حدث. وشعرت بالارتياح عند تلقيها رسالة باتريك؛ إذ رأت أن بإمكانها إرجاع الخاتم إليه عندما تلتقيه.

فكَّرت فيما قاله باتريك عن الدكتورة هينشو. لا ريب أن ثمة جانبًا من الحقيقة فيما قاله، وإلا لماذا عزفت تمامًا عن إخبارها بانفصالها عن باتريك، وما هو سبب عدم رغبتها في مواجهة موافقة الدكتورة العقلانية على هذا القرار، وتلقِّي تهانيها المتحفظة التي تكشف ارتياحها؟

فكان ما قالته للدكتورة هينشو أنها ستمتنع عن رؤية باتريك أثناء استعدادها للامتحانات. ولاحظت روز ارتياح الدكتورة هينشو لذلك.

أخفت عن الجميع ما حدث، فلم تكن الدكتورة هينشو وحدها هي من لا ترغب روز في معرفتها بالأمر؛ فلم ترغب روز أن يتوقف الآخرون عن حسدهم لها؛ لقد كانت خبرة جديدة تمامًا عليها.

حاولت التفكير فيما ستفعله، لم يكن من الممكن أن تستمر في الإقامة بمنزل الدكتورة هينشو. كان من الواضح أنها إذا هربت من باتريك، فينبغي عليها الهروب من الدكتورة هينشو أيضًا. ولم ترغب كذلك في الاستمرار بالكلية مع أشخاص يعلمون بانفصالها عن خطيبها، ومع أولئك الفتيات اللاتي سيهنئنها الآن ويخبرنها أنهن علمن من البداية أن علاقتها بباتريك مجرد صدفة. ستضطر إذن للبحث عن وظيفة.

كان رئيس أمناء المكتبة قد عرض عليها وظيفة في فصل الصيف، لكن ربما تكون الدكتورة هينشو وراء هذا الاقتراح، وقد لا يستمر هذا العرض عند تركها المنزل. وعلمت أنها بدلًا من المذاكرة استعدادًا للامتحانات، سيتحتم عليها الذهاب إلى وسط المدينة لتتقدم للعمل كموظفة حفظ الملفات في مكاتب التأمين، أو في شركة التليفونات، أو في المتاجر الكبيرة. أخافتها الفكرة، وواصلت الاستذكار. كان ذلك هو الشيء الوحيد الذي تجيده حقًّا؛ فهي في النهاية طالبة حاصلة على منحة دراسية.

بعد ظهيرة يوم السبت، وبينما كانت تعمل في المكتبة، رأت باتريك. لم تكن مصادفة؛ وإنما ذهبت إلى الطابق السفلي محاوِلةً عدم إحداث أية ضجة عند نزولها على السلالم المعدنية الحلزونية. وجدت لنفسها مكانًا في منطقة تخزين الكتب، في ظلام شبه تام، لتتفقد ركن القراءة الذي اعتاد الجلوس فيه. نظرت، ولم تستطع رؤية وجهه، لكنها رأت عنقه الطويل الوردي، وقميصه القديم المنقوش بالمربعات الذي اعتاد ارتداءه أيام السبت. عنقه الطويل، وكتفاه النحيلتان. لم يعد يزعجها أو يخيفها؛ لقد تحررت منه، وصار بإمكانها النظر إليه مثلما تنظر إلى أي شخص آخر. كان بإمكانها أن تشعر نحوه بالتقدير؛ فقد أحسن التصرف. لم يحاول إثارة شفقتها، ولم يزعجها، ولم يتحرش بها بالخطابات والمكالمات الهاتفية المثيرة للشفقة. لم يذهب إلى منزل الدكتورة هينشو ويجلس أمام الباب. لقد كان شخصًا جديرًا بالاحترام، ولن يعلم أبدًا مدى تقديرها لذلك، وشعورها بالامتنان له. اعتراها في تلك اللحظة شعور بالخجل من كل ما قالته له، فلم يكن صحيحًا، أغلبه لم يكن كذلك؛ فقد كان يعرف كيف يمارس الحب. تأثرت عند رؤيتها له وحزنت، ورق قلبها، وشعرت بالشوق له. أرادت أن تمنحه شيئًا ما، وتمنَّت أن تمحو تعاسته.

تشكَّلت في ذهنها صورة مقنعة لنفسها وهي تركض برقَّة نحو الركن الذي يجلس به باتريك، وترتمي عليه لتطوِّقه بذراعيها من الخلف، معيدةً له كل شيء سلبته منه. لكن هل سيقبل ذلك منها؟ هل لا يزال يرغب في ذلك؟ تخيلتهما وهما يضحكان ويبكيان ويفسران ما حدث ويسامح كل منهما الآخر. «أحبكَ. أحبكَ حقًّا. سيكون كل شيء على ما يرام الآن. ما قلته كان بشعًا، ولم أكن أقصده. كانت نوبة من الجنون. أحبكَ.» كان ذلك إغراءً كبيرًا لها؛ ولا يمكنها مقاومته. شعرت بالرغبة في الاندفاع، بيد أنها لم تستطع أن تحدد ما إذا كان هذا الاندفاع أشبه بالسقوط من أعلى جرف أم الولوج إلى فراش دافئ من الزهور والأعشاب الجميلة.

لم تتمكن روز من مقاومة هذا الإغراء في النهاية، وفعلت ما تخيلته.

•••

عندما عادت روز بذهنها إلى هذه اللحظة من حياتها وتحدثت عنها — إذ مرت بمرحلة يمر بها أغلب الناس في يومنا هذا، يُفصحون فيها بحرية عن أكثر القرارات خصوصية في حياتهم لأصدقائهم أو أحبائهم أو لغرباء تعرفوا عليهم في حفلات وربما لن يروهم ثانيةً مطلقًا، والذين يفعلون ذلك بدورهم أيضًا — قالت إن عاطفة الصداقة تغلَّبت عليها، ولم تستطع مقاومة رؤيته جالسًا أمامها بعنقه المكشوف المنحني. وأوضحت أكثر أنها الرغبة. قالت إنها ركضت نحوه، وتعلَّقت به، وقضت على شكوكه، وقبَّلته، وبكت، وعادت إليه لأنها لم تعلم كيف تعيش دون حبه ودون وعده لها برعايتها؛ لقد كانت خائفة من العالم ولم تستطع التفكير في أي خطة أخرى لحياتها. وعندما كانت تنظر للحياة من منظور اقتصادي، أو كانت مع أشخاص يفعلون ذلك، كانت تقول إن أبناء الطبقة الوسطى فقط هم من يملكون حرية الاختيار، وأنها لو كانت تملك ثمن تذكرة القطار إلى تورونتو، لكانت حياتها قد تغيرت.

لكنها كانت تقول أحيانًا بعد ذلك إن كل ذلك ليس سوى هراء. ولم يكن إحياء باتريك وبث السعادة فيه من جديد سوى ادعاء وخيلاء. كانت تريد معرفة ما إذا كانت ستتمكن من ذلك أم لا. لم تستطع مقاومة هذا الاختبار لقوتها. وأوضحت فيما بعد أنها دفعت ثمن ذلك؛ فقالت إنها تزوجت من باتريك لعشرة أعوام، وطوال هذه المدة، ظلت مشاهد الانفصال الأول والمصالحة بينهما تتكرر على نحو دوري، وبدا أنها تعيد على مسامعه كل ما قالته في المرة الأولى، وكل ما امتنعت عن قوله وقتها، وغير ذلك الكثير مما خطر لها. تمنَّت لو أنها لم تخبر الناس (لكنها تظن أنها فعلت) بأنها اعتادت ضرب رأسها في عمود السرير، وألقت ذات مرة وعاء مرق اللحم من نافذة غرفة الطعام؛ وما كان منها إلا أن شعرت بالخوف والاشمئزاز الشديد مما فعلته واستلقت على السرير مرتعدةً ترجو من باتريك أن يسامحها. وكان يفعل. كانت أحيانًا تهاجمه، وفي أحيان أخرى كان يضربها. وفي الصباح التالي يستيقظان مبكرًا ويعدَّان فطورًا خاصًّا ويجلسان لتناول اللحم المقدد والبيض ويشربان القهوة المصفاة، منهكين ومتحيرين، ويتعامل كل منهما مع الآخر بلطف خجول.

سألها الآخرون: «ما السبب وراء ردود الأفعال هذه في نظرك؟»

«هل تعتقدين أنه ينبغي أن يحصل الزوجان على إجازة؟ إجازة أحدهما من الآخر؟ إجازة يقضيانها وحدهما؟»

وكانت تجيبهم بأنها اكتشفت أن مثل هذه الجهود كانت زائفة ومضيعة للوقت، لكنها محاولات تنجح في وقتها فقط. وبعد أن يهدآ، كانا يقولان إن أغلب الناس يمرون على الأرجح بمثل هذه الأمور في زيجاتهم، وكانا يعرفان بالطبع أغلب من كانوا يمرون بذلك. ولم ينفصلا إلا بعد وقوع قدر كافٍ من الضرر، أو بالأحرى عند الوصول إلى ضرر كاد يكون قاتلًا. وربما كان سبب عدم انفصالهما هو الانتظار حتى حصلت روز على وظيفة، وصارت تجني مالها الخاص، وهو ما يمكن اعتباره سببًا طبيعيًّا في النهاية.

ما لم تفصح عنه لأحد قط وما لم تكشفه لأحد هو أنها فكرت أحيانًا في أن سبب انفصالها عن باتريك لم يكن الشفقة أو الرغبة أو الجبن أو الادعاء، وإنما شيء مختلف تمامًا، كالرغبة في السعادة. لم تستطع الإفضاء بذلك، مقارنةً بكل ما أفصحت عنه من أمور أخرى. بدا الأمر غريبًا؛ ولم تستطع تبريره. لم تكن تعني أنهما تمتعا بأوقات طبيعية مثالية في زواجهما، استمتعا فيها معًا بلصق ورق الحائط والإجازات والوجبات والتسوق والقلق عند مرض ابنتهما، وإنما ما عنته هو أنه في بعض الأحيان كانت تفاجئهما السعادة — أو بالأحرى احتمالية السعادة — دون سبب أو سابق إنذار، وكانا يختلفان كليةً في تلك الأوقات، كما لو كان هناك روز وباتريك آخران يتسمان بالبراءة وطيبة القلب، يكادان يكونان غير مرئيَّيْن، مختبئَيْن خلف شخصياتهما المعتادة. لعل ذلك كان باتريك الذي رأته في ركن القراءة بعد أن تحررت منه؛ تلك الشخصية التي لا يراها باتريك نفسه. كان عليها تركه هناك.

•••

عرفت روز أن تلك كانت نظرتها له؛ وقد عرفتها لأن الموقف تكرر. كانت في مطار تورونتو في منتصف الليل. حدث ذلك بعد تسعة أعوام من طلاقها من باتريك. وقد أصبحت مشهورة آنذاك، وصار وجهها معروفًا للعديد من الناس في هذا البلد. فكانت تقدم برنامجًا تليفزيونيًّا استضافت فيه سياسيين وممثلين وكتَّاب وشخصيات مهمة والعديد من الأشخاص العاديين ممن كانت لهم مشكلات مع الحكومة أو الشرطة أو النقابة، وكانت تستضيف أيضًا أشخاصًا شاهدوا أشياء غريبة، مثل أطباق طائرة، أو وحوش بحرية، أو أشخاصًا حققوا إنجازات متميزة، أو احتفظوا ببعض التقاليد العتيقة.

كانت وحدها في المطار، لم يكن هناك أحد بانتظارها. وقد وصلت لتوها على متن رحلة متأخرة من يلونايف. كانت مرهقة ومتسخة. رأت باتريك واقفًا موليها ظهره عند المقهى. كان يرتدي معطفًا واقيًا من المطر، وبدا أثقل وزنًا من المعتاد، لكنها تعرفت عليه في الحال، واعتراها نفس الشعور بارتباطها بذلك الشخص، وأنه بإمكانهما أن يعثر أحدهما على الآخر ويثق به، بحيلة معينة سحرية، لكنها ممكنة. ولتحقيق ذلك كله، كان عليها التوجه نحوه ولمس كتفه، ومباغتته بما يسعده.

لم تفعل ذلك بالطبع، لكنها توقفت. ظلت متسمرة في مكانها إلى أن استدار باتريك متوجهًا إلى إحدى الطاولات البلاستيكية الصغيرة والمقاعد المنحنية المجمعة أمام المقهى. اختفت منه ملامح النحول والمظهر الأكاديمي الرث والتسلط المفرط. فقد صقل مظهره، وامتلأ جسمه، ليصير رجلًا أنيقًا، ومقبولًا، ومسئولًا، وقانعًا بعض الشيء. اختفت كذلك الوحمة التي كانت على وجهه. أخذت تفكر في مدى الإجهاد والحزن الذي بدا عليها بالتأكيد، وهي ترتدي معطفها المجعد الواقي من المطر، وشعرها الطويل الذي ظهرت به الخصل البيضاء وهو منسدل للأمام حول وجهها، وآثار المسكرة تلطخ أسفل عينيها.

رمقها باتريك بنظرة قطَّب فيها جبينه، نظرة تدل على كره حقيقي وتحذير شرس، نظرة طفولية ومتفاخرة، لكنها مدروسة في الوقت نفسه. كانت انفجارًا موقوتًا من الاشمئزاز والنفور. صعب عليها تصديق ذلك، لكنها رأت ذلك بعينها.

أحيانًا، عندما كانت روز تتحدث مع شخص ما أمام كاميرات التليفزيون، كانت تشعر برغبة مَن أمامها في العبوس. راودها ذلك الشعور مع الناس بكافة صورهم، مع الساسة المهرة، والأساقفة الليبراليين، مع العاملين في المساعدات الإنسانية، ومع ربات البيوت اللاتي شهدن كوارث طبيعية، والعمَّال الذين أجروا عمليات إنقاذ بطولية أو حُرِموا ظلمًا من معاشات الإعاقة الخاصة بهم. كانوا يتوقون لتدمير أنفسهم، أو تقطيب جبينهم، أو التلفظ بكلمة بذيئة. أكان هذا الوجه هو ما أراد الجميع الإفصاح عنه؟ هل كان موجهًا لشخص ما، أو للجميع؟ لكنهم لن يفعلوا ذلك؛ لن تسنح لهم الفرصة. يتطلب الأمر ظروفًا خاصة؛ مكانًا غير عادي، في منتصف الليل، عناء مرتبكًا مشوشًا، وظهورًا هذيانيًّا مفاجئًا لعدوك الحقيقي.

في تلك اللحظة، ركضت مرتعدةً مبتعدة في الرواق الطويل متعدد الألوان. لقد رأت باتريك، وهو أيضًا رآها، وقطب جبينه في وجهها، لكنها لم تتمكن في الواقع من فهم كيف يمكن أن تكون هي عدوته، كيف يمكن لأي شخص أن يكره روز إلى هذا الحد، وهي التي كانت في هذه اللحظة مستعدة للاقتراب بنيتها الصافية، واعترافها بالإرهاق المرتسم على ابتسامتها، وإيمانها المتحفظ بالمكاشفة المتحضرة؟

لقد استطاع باتريك أن يكرهها هذا الكره، استطاع ذلك فعلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤