عبث

وقعت روز في غرام كليفورد خلال حفلٍ أقامه كليفورد وجوسلين بحضور باتريك وروز. كانا قد مضى على زواجهما في هذا الوقت ثلاث سنوات بينما كان زواج كليفورد وجوسلين قد تجاوز ذلك بعام أو أكثر قليلًا.

كان كليفورد وجوسلين يقيمان لبعض الوقت في منطقة تقع أقصى غرب فانكوفر، في واحد من تلك الأكواخ الصيفية المصطفَّة على الشوارع المتعرِّجة القصيرة الواقعة بين الطريق السريع والبحر، وقد تصادف أن كان مهيئًا لقضاء الشتاء. أقيم الحفل في ليلة ممطرة من شهر مارس، وكانت روز متوترة لحضوره. كانت تشعر بالضيق بينما تمضي السيارة بهما عبر غرب فانكوفر، وراحت تشاهد مصابيح النيون وقطرات الماء تتساقط منها في البِرَك الصغيرة الموحِلة المنتشرة على الطريق، وتُنصت للصوت المَقيت لماسحات الزجاج الأمامي. وبعد ذلك كانت غالبًا ما تنظر للخلف لترى نفسها جالسة بجوار باتريك وهي ترتدي بلوزتها السوداء مكشوفة الصدر وتنورتها المخملية السوداء، وتمنَّت لو أنهما كانتا الرداء المناسب. كانت تتمنى لو كانا في طريقهما إلى السينما. لم يكن لديها أدنى فكرة أن حياتها سوف تتبدل.

كان باتريك متوترًا أيضًا وإن لم يكن ليعترف بذلك؛ فقد كانت الحياة الاجتماعية لغزًا محيرًا، وغالبًا ما كانت شيئًا مَقيتًا لكليهما. ووصلا إلى فانكوفر دون أن يكون لهما معرفة بأحد. كانا يسايران الرَّكب فحسب. لم تكن روز تعلم ما إذا كانا حقًّا يتُوقان لوجود الأصدقاء، أم حتى يعتقدان ببساطة أن وجودهم أمر ضروري. لقد كانا يتأنَّقان ويخرجان لزيارة الآخرين، أو يرتبان غرفة المعيشة في انتظار مَن دَعَوْهُم لزيارتهما. وفي بعض الأحيان كانا يتَّبعان أنماطًا ثابتة للزيارة؛ فكانوا يتناولون بعض كئوس الشراب خلال تلك الأمسيات، وفي حوالي الحادية عشرة أو الحادية عشرة والنصف — وهو الوقت الذي بالكاد كان يأتي سريعًا بما يكفي — تتوجه روز نحو المطبخ وتُعِدُّ القهوة وبعض المأكولات. كانت المأكولات التي تعدها في العادة تقتصر على شرائح الخبز المحمص، تعلوها شريحة من الطماطم، ثم شريحة من الجبن ثم بعضٌ من اللحم المقدَّد، وكانت تقوم بشيِّها وتُمسكها معًا بعود أسنان. لم يكن بوسعها التفكير في أي شيء سوى ذلك.

كان من الأسهل لهما إقامة صداقات مع الأشخاص الذين يحبهم باتريك عن أولئك الذين تحبهم روز؛ لِما كان لروز من قدرة كبيرة على التأقلُم، أو ربما الخداع، بينما كان باتريك بالكاد قادرًا على التأقلُم على الإطلاق. إلا أن الصديقين في هذه الحالة — حالة كليفورد وجوسلين — كانا أصدقاء روز، أو بالأحرى كانت جوسلين صديقة لروز. كانت جوسلين وروز تعرفان أن عليهما ألا تحاولا الترتيب لزيارات زوجية؛ فقد كان باتريك لا يحب كليفورد دون أن يعرفه لأن كليفورد كان عازف كمان، ولا شك أن كليفورد بدوره لم يكن محبًّا لباتريك لأنه كان يعمل في أحد فروع متجر عائلته الكبير. وفي تلك الأيام كانت الحواجز بين الناس لا تزال قوية ووثيقة، الحواجز بين مدعي الفن والعاملين في التجارة، بين النساء والرجال.

لم تكن روز على معرفة بأي من أصدقاء جوسلين، ولكنها أدركت أنهم موسيقيون وصحافيون ومحاضِرون في الجامعة، بل كان من ضمنهم سيدة تعمل كاتبة كان لها رواية تم تشخيصها في الراديو. فتوقَّعت أن يكونوا أذكياء، وظرفاء، وساخرين بلا شك؛ فكان يبدو لها أنها طَوال الوقت تجلس مع باتريك في غرف المعيشة، متبادِلين الزيارات مع الآخرين، وأنهم أناس بارعون ومرحون بحق، يحق لهم النظر إليها بازدراء، يحيون حياة غير تقليدية ويقيمون حفلات غير اعتيادية في مكان آخر. والآن جاءت الفرصة للتواجد مع هؤلاء الناس، ولكن معدتها كانت مضطربة رفضًا لذلك، ويديها تتصببان عرقًا.

•••

التقت جوسلين بروز في عنبر الولادة بمستشفى نورث فانكوفر العام. كان أول شيء رأته روز لدى عودتها إلى عنبر الولادة بعد أن وضعت آنا هو جوسلين جالسة في فراشها تقرأ كتاب يوميات أندريه جيد. كانت روز تعرف الكتاب من ألوانه، حيث كانت قد رأته على حامل الكتب والجرائد في الصيدلية؛ فقد كان جيد على قائمة الكُتَّاب الذين تنوي قراءة أعمالهم؛ فكانت في ذلك الوقت لا تقرأ إلا لكبار الكتاب.

كان الشيء المدهش والمريح الذي لاحظته روز على الفور بشأن جوسلين هو مظهرها الذي بدا وكأنها طالبة؛ إذ إنها لم تسمح لنفسها بالتأثُّر كثيرًا بجو جناح الولادة الذي كانت قابعة بداخله، فقد كان لجوسلين جدائل سوداء طويلة، ووجه شديد الشحوب، ونظارات سميكة، دون أدنى مسحة من الجمال، وهيئتها تنبئ بتركيزها فيما تفعله بارتياح.

في الفراش المجاور لفراش جوسلين كانت هناك امرأة تصف ترتيب خزانة مطبخها لأخريات، ولم تكد تنسى أن تخبرهن أين تحتفظ بشيء ما — كالأرز أو السكر البني — إلا وكانت تضطر لإعادة الكَرَّةِ من جديد، وتتأكد من أن مَن يستمعون إليها يتابعونها جيدًا بقول: «تذكرن على الرف الأعلى إلى اليمين بجوار الموقد أحتفظ بعلب الحساء وليس الحساء المعلب؛ فأنا أحتفظ بالحساء المعلب أسفل المنضدة مع السلع المعلبة بجوار ذلك اﻟ…»

كانت النساء الأخريات يحاولن مقاطعتها لكي يَصِفْنَ كيف يحتفظن بالأشياء، ولكن دون جدوى، أو لم يستطعن مواصلة الحديث طويلًا. كانت جوسلين جالسة تقرأ وتعبث بطرف إحدى جدائلها بين أصابعها وكأنها جالسة في مكتبة داخل الكلية، أو تعد ورقة بحثية، ولم يستطع عالَم هؤلاء النساء أن يوقفها بتاتًا. وكانت روز تتمنى لو تمكنت من ذلك هي الأخرى.

كانت لا تزال تعاني من الدوار من أثر الوضع، وكلما أغلقت عينيها كانت ترى شيئًا أشبه بالكسوف في شكل كرة كبيرة سوداء يحيط بها حلقة من النار. كان ذلك هو رأس الطفل يعتصره الألم في اللحظة التي سبقت دفعها له إلى خارج أحشائها. ووسط هذه الصورة، تداخلت كلمات أرفف مطابخ النساء الثرثارات أسفل الثقل الرهيب للعُلب والصناديق، ولكنها كانت تستطيع أن تفتح عينيها لترى جوسلين وجدائلها السوداء تنسدل على رداء المستشفى الأبيض وكأنها صورة بالأبيض والأسود. كانت جوسلين هي الشخص الوحيد الذي رأته يبدو هادئًا وجادًّا بما يكفي لمواكبة الموقف.

سرعان ما نهضت جوسلين من فراشها لتكشف عن ساقين طويلتين بيضاوين غير حليقتين، وبطن لا تزال مترهلة من أثر الحمل. ارتدت روبًا للحمام مخططًا، وبدلًا من استعمال رباط له استعانت برابطة عنق رجالية لتُحكمه حول خصرها، وراحت تدب بقدميها الحافيتين على مشمع أرضية المستشفى. فجاءتها إحدى الممرضات مسرعة منبهة إياها أن ترتدي خفًّا.

«ليس معي خف.»

فقالت الممرضة بفظاظة: «أمعك حذاء؟»

«آه نعم، معي حذاء.»

وعادت جوسلين إلى الخزانة المعدنية الصغيرة بجوار فراشها وأخرجت حذاءً جلديًّا كبيرًا بلا كعب كان متسخًا وباليًا، ومشت محدِثة نفس الضوضاء الشنيعة الوقحة كما فعلت من قبل.

كانت روز تتوق للتعرُّف عليها.

في اليوم التالي أخرجت روز كتابها الخاص لتقرأه. كان رواية «البيوريتاني الأخير» للكاتب جورج سانتايانا، ولكن لسوء الحظ كانت نسخة مكتبية، فكان العنوان على الغلاف ممسوحًا وباهتًا؛ ومن ثَمَّ كان مستحيلًا أن تُعجب جوسلين بما تقرؤه روز مثلما أُعجِبت روز بما تقرؤه جوسلين. ولم تعلم روز كيف يمكنها أن تدفعها للحديث معها.

كانت السيدة التي تتحدث عن خزانات مطبخها تتحدث الآن عن كيفية استخدامها للمكنسة الكهربائية، وتقول إن من المهم للغاية استخدام جميع الملحقات؛ لأن لكل منها غرضًا، كما أنه يكفي أنها قد دفعت مقابلها، ولكن العديد من الناس لا يستخدمونها. وراحت تصِف كيف تنظف ستائر غرفة معيشتها، فقالت امرأة أخرى إنها قد حاولت القيام بذلك ولكن القماش كان يتجعَّد. فقالت السيدة المتسلِّطة إن ذلك بسبب أنها لم تقُم بالأمر بالشكل الصحيح.

في تلك الأثناء ضبطت روز عينَيْ جوسلين تنظران صوب زاوية كتابها.

قالت بنبرة هادئة: «أتمنى لو كنت تقومين بتلميع مقابض موقدك.»

قالت جوسلين: «بالتأكيد أفعل.»

«هل تقومين بتلميعها كل يوم؟»

«اعتدت أن ألمِّعها مرتين يوميًّا، ولكن أما وقد جاء المولود الجديد فلا أعرف إن كنت سأجد وقتًا لذلك.»

«وهل تستخدمين ذلك الملمِّع الخاص بمفاتيح الموقد؟»

«بالتأكيد. وأستخدم أيضًا تلك المناشف الخاصة بمفاتيح الموقد التي تأتي في تلك العلبة الخاصة.»

«رائع. بعض الناس لا يفعلون ذلك.»

«بعض الناس يستخدمون أي شيء.»

«مناشف الأطباق القديمة.»

«المناديل القماشية القديمة.»

«المناديل القديمة.»

وسرعان ما تفتحت براعم صداقتهما بعد ذلك. كانت واحدة من تلك الصداقات الحميمة الوارفة كتلك التي تنمو في المؤسسات: كالمدارس، أو المعسكرات، أو في غياهب السجون. كانتا تسيران معًا عبر ردهات المستشفى غير مكترثات لكلام الممرضات، وكانتا مصدر ضيق وحيرة للنساء الأخريات. وقد أصبحتا مثل طالبات المدارس المهووسات من أثر ما كانت تقرؤه بصوت عالٍ إحداهما للأخرى. لم تقرآ لجيد أو سانتيانا، بل كانتا تقرآن نسخًا من «ترو لاف» و«برسونال رومانسيز» وجدتاها في غرفة الانتظار.

قالت روز: «يُذكر هنا أن بإمكانك شراء بطانات للسيقان، ولكن لا أعرف كيف ستخفينها، أعتقد أنك ستربطينها حول ساقيك، أو ربما فقط توضع داخل الجوارب، ولكن ألا تعتقدين أنها ستظهر؟»

فقالت جوسلين: «حول ساقيك؟ تربطينها حول ساقيك؟ تقصدين بطانات لتحسين شكل السيقان؟! ظننتك تتحدثين عن سيقان اصطناعية. سيقان اصطناعية!»

كان بإمكان أي شيء كهذا أن يثير ضحكاتهما.

«سيقان اصطناعية!»

«حلمات اصطناعية، أرداف اصطناعية، سيقان اصطناعية.»

«ترى فيمَ سيفكرون بعد ذلك؟»

كانت سيدة المكنسة الكهربائية تقول إنهما كثيرًا ما تتدخلان في شئون الأخريات وتُفسدان أحاديثهن، ولم تكن تعرف ما المضحك إلى هذا الحد في الكلام البذيء. وقالت إنهما إذا لم تتوقفا عن أسلوبهما هذا في التعامل، فإن حليب الرضاعة سوف يفسد.

قالت جوسلين: «كنت أتساءل إذا كان حليب الرضاعة لديَّ ربما قد فسد، إن لونه مقزز بشكل شنيع.»

تساءلت روز: «ما لونه؟»

«حسنًا، أزرق نوعًا ما.»

«يا إلهي! ربما يكون حبرًا!»

كانت سيدة المكنسة الكهربائية تقول إنها سوف تخبر الممرضة أنهما تتفوهان بالسباب والشتائم. كانت تردد أنها ليست متزمتة ولكنها تتساءل ما إذا كانتا تصلحان لأن تكونا أمَّين. كيف ستتمكن جوسلين من غسل الحفاضات في حين أن بإمكان أي شخص أن يرى أنها لم تقُم قط بغسل ثوبها الخاص؟

قالت جوسلين إنها تنوي استخدام الطحالب للقيام بذلك لكونها من أصول هندية.

فقالت السيدة: «أستطيع أن أصدق هذا.»

بعد ذلك راحت جوسلين وروز تستهلان العديد من التعليقات والملاحظات بعبارة: «أنا لست متزمتة ولكن.»

«أنا لست متزمتة ولكن هلَّا ألقيت نظرة على هذا البودنج!»

«أنا لست متزمتة ولكن يبدو وكأن هذا الطفل أسنانه مكتملة.»

وقالت عنهما الممرضة: ألم يحِن الوقت بعد لكي ينضجا؟

وبينما كانتا تسيران عبر الردهات، روت جوسلين لروز أنها في الخامسة والعشرين من عمرها، وأنها ستُطلِق على مولودها الجديد اسم آدم، وأن لها ابنًا آخر في المنزل يبلغ من العمر عامين يُدعى جيروم، وأن زوجها يُدعى كليفورد، وأنه يتخذ من العزف على الكمان مهنة له. كان يعزف في أوركسترا فانكوفر السيمفوني. كانوا أسرة فقيرة. كانت جوسلين من ماساتشوستس والتحقت بويلسلي كوليدج، وكان والدها طبيبًا نفسانيًّا ووالدتها طبيبة أطفال. فيما أخبرت روز جوسلين أنها قد جاءت من بلدة صغيرة في أونتاريو، وأن باتريك من جزيرة فانكوفر، وأن والديه لم يوافقا على زواجهما.

قالت روز بنبرة مبالغة: «الجميع في البلدة التي جئت منها يقولون Yez بدلًا من You بمعنى أنت؟
«نستخدمها كجمع لكلمة You

«آه. مثل بروكلين وجيمس جويس. لحساب منَ يعمل باتريك؟»

«في متجر عائلته؛ فعائلته تملك متجرًا كبيرًا متعدد الأقسام.»

«إذن ألستما موسرَيْن الآن؟ أعني ألستما موسرين بالقدر الذي يجعلك في غنى عن التواجد في عنبر للولادة؟»

«لقد أنفقنا كل أموالنا على منزل كان باتريك يرغب فيه.»

«ألم يكن لديك رغبة فيه أنت أيضًا؟»

«ليس بقدر رغبته.»

كان ذلك شيئًا لم تبُح به روز قط من قبل.

ومضتا تتعمقان في مزيد من المكاشفات العشوائية.

كانت جوسلين تكره والدتها؛ فقد أجبرتها والدتها على أن تنام في غرفة ذات ستائر من القماش القطني الخفيف الأبيض وشجعتها على جمع البط. وببلوغها الثالثة عشرة، كانت جوسلين تمتلك — ربما — أكبر مجموعة في العالم من البط المطاطي، والبط المصنوع من الفخار، والبط الخشبي، وصور البط، والمنسوجات المطرزة برسوم البط. وقامت أيضًا بتأليف ما وصفتها بأنها قصة سابقة لأوانها بشكل بشع بعنوان «المغامرات الكبرى الرائعة للبطة أوليفر العظيمة»، والتي قامت والدتها بالفعل بطباعتها وتوزيعها على الأصدقاء والأقارب في أعياد الكريسماس.

«إنها من الأشخاص الذين يغطون كل شيء بنوع من النفاق والتملُّق البغيض وتصبغ به كل شيء؛ فهي لا تتحدث بصوت طبيعي قط، ولَعُوبٌ متصنِّعة الخجل بشكل غاية في البذاءة. وبالطبع تحظى بنجاح عظيم كطبيبة أطفال. إن لديها كل تلك الأسماء الصغيرة المزيَّفة لجميع أجزاء جسدك.»

أدركت روز — التي كانت ستسعد بالستائر التي تحدثت عنها جوسلين — الخطوط الرفيعة، أو طرق الإهانة الموجودة في عالم جوسلين الذي بدا كعالم أقل غلظة وأكثر استدامة من عالمها. كانت تشك فيما إذا كان بإمكانها أن تخبر جوسلين عن هانراتي، ولكنها بدأت في المحاولة. راحت تتحدث عن فلو وعن المتجر بشكل عام دون تطرُّق إلى التفاصيل، وتلقي الضوء على فقرها. في الواقع لم تكن مضطرة لذلك؛ فقد كانت حقائق طفولتها الصحيحة بها من الدهشة ما يكفي بالنسبة لجوسلين، والأهم من ذلك أنها كانت مثار حسد من جانبها.

قالت جوسلين: «يبدو هذا أكثر واقعية. أعلم أنها رؤية رومانسية من جانبي.»

تحدثتا عن طموحات الشباب (فقد كانتا تؤمنان حقًّا بأن الشباب قد ولَّى)، فقالت روز إنها كانت ترغب في أن تكون ممثلةً على الرغم من أنها كانت أجبن بكثير من أن تقف على خشبة مسرح. أما جوسلين، فأرادت أن تكون كاتبة، ولكنها كانت تشعُرُ بالخجل من ذلك على أثر ذكريات قصة البطة العظيمة.

قالت: «بعدها قابلت كليفورد. وعندما رأيت قدر موهبته الحقيقية، أدركت أنني ربما أُهدِر وقتي بمحاولة الكتابة، وأن من الأفضل لي أن أرعاه وأهتم به، أو أي شيء آخر أفعله من أجله. إنه موهوب بحق. أحيانًا ما يكون شخصًا وضيعًا، ولكنه يُفلت بذلك لأنه موهوب حقًّا.»

قالت روز بحزم يشوبه الغيرة: «أظن أن تلك فكرة رومانسية حالمة أن يكون لزامًا أن يُفلت الموهوبون بأفعالهم.»

«حقًّا؟ ولكن الفنانين العظام طالما كانوا يفلتون.»

«ليس النساء.»

«ولكن النساء عادة لَسن فنانات عظيمات، ليس بنفس الدرجة.»

كانت تلك هي أفكار معظم النساء الشابات اللاتي يحظين بمستوى تعليم راقٍ وعلى قدر من الوعي، بل وأولئك غير التقليديات أو المتطرفات سياسيًّا في ذلك الوقت. ولعلَّ من بين أسباب عدم مشاركة روز لهن في الرأي أنها لم تكن على قدر وافر من التعليم والثقافة. وقد قالت لها جوسلين في مرحلة لاحقة من صداقتهما إن من أحد الأسباب التي جعلتها ترى أن الحديث معها مشوِّق من بداية صداقتهما هو أن روز تملك أفكارًا ولكنها غير مثقَّفة. وقد اندهشت روز من هذا؛ ما جعلها تذكر الكلية التي كانت ملتحقة بها في غرب أونتاريو. حينها رأت روز الندم على وجه جوسلين التي تراجعت في ارتباك وغاب عنها فجأة صراحتها البادية دومًا على وجهها — على غير عادتها تمامًا — وأردفت جوسلين أن ذلك هو ما كانت تقصده بالضبط.

بعد اختلاف الآراء بشأن الفنانين، وبشأن الرجال والنساء في مجال الفن، ألقت روز نظرة متأنية على كليفورد حين كان يأتي للزيارة في المساء. رأته إنسانًا شاحب اللون، يطلق العِنان لأهوائه وله مظهر عصابي يوحي بالاضطراب. ومع مزيد من الاكتشافات بشأن ما تبذله جوسلين من براعة، وجهد، وطاقة بدنية بحتة (إذ كانت هي من يتولى إصلاح الصنابير الراشحة، وتسليك البالوعات المسدودة) في هذه الزيجة، أيقنت أن جوسلين تضيع نفسها، وأنها ترتكب خطأً. وراودها شعور بأن جوسلين لم تكن ترى جدوى في زواج روز من باتريك أيضًا.

•••

في البداية سار الحفل بيُسر أكثر ممَّا توقعته روز؛ فقد كانت تخشى أن يكون تأنُّقُها مبالغًا فيه؛ كانت توَدُّ لو ارتدت بنطال مصارع الثيران الخاص بها، ولكن باتريك لم يكن لِيَقبل ذلك مطلقًا. ولكن القليل فقط من الفتيات هن من كُنَّ يرتدين البناطيل الفضفاضة، أما البقية فكن يرتدين الجوارب الشفافة، ويضعن أقراطًا وثيابًا مثلها تمامًا. وكما في أي تجمُّع للنساء الشابات في ذلك الوقت، كانت هناك ثلاث أو أربع نساء ممَّن كان يبدو عليهن الحمل بشكل واضح، وكان معظم الرجال يرتدون بذلات، وقمصان، ورابطات عنق مثل باتريك؛ ما أشعر روز بالارتياح؛ إذ إنها أرادت أن يكون باتريك مندمجًا في الحفل، وأرادته أيضًا أن يتقبل الحاضرين هناك، وأن يقتنع بأنهم جميعًا ليسوا مخلوقات غريبة الأطوار. حين كان باتريك طالبًا، كان يصطحبها لحضور الحفلات الموسيقية والمسرحيات ولم يكن يبدو متشككًا بشكل مفرط فيمن كانوا يشاركون فيها، بل كان في الحقيقة يفضِّل هذه الأشياء؛ لأنها كانت مكروهةً من قبل عائلته، وفي ذلك الوقت — الوقت الذي اختار فيه روز — كان يمر بمرحلة تمرُّدٍ قصيرة ضد عائلته. ذات مرة اصطحب باتريك روز إلى تورونتو وجلسا في قاعة المعبد الصيني بالمتحف يشاهدان رسوم الفريسكو على الجدران، وروى لها باتريك كيف أنها جُلِبَتْ على هيئة قطع صغيرة من إقليم شانشي، كان يبدو في غاية الفخر بما يملك من معرفة، وفي ذات الوقت متواضعًا بشكل مميَّز يذيب القلوب؛ إذ اعترف بأنه قد اكتسب كل هذه المعلومات في إحدى الرحلات. أما الآراء القاسية التي كوَّنها، والاتهامات التي كان يكيلها بالجملة للآخرين، فلم تبدأ إلا منذ أن خرج للعمل؛ فصار الفن الحديث خداعًا، والمسرح التجريبي بذيئًا. وكان لدى باتريك طريقة خاصة متصنعة وازدرائية لنطق تعبير «الفن الطليعي»، جاعلًا الكلمات تبدو مصطنَعة بشكل مثير للاشمئزاز. وقد كانت كذلك بالنسبة لروز؛ فبشكلٍ ما كانت تستطيع أن تدرك ما يعنيه؛ فكان بإمكانها أن ترى جوانب عديدة للأمور، فيما لم يكن باتريك يعاني تلك المشكلة.

وفيما عدا بعض المشاجرات الكبيرة التي كانت تنشب بشكل دوري، كانت في منتهى الوداعة والانصياع مع باتريك؛ إذ كانت تحاول أن تَظَلَّ محبوبةً لديه. ولم يكن ذلك بالأمر السهل؛ فحتى قبل أن يتزوَّجا كان معتادًا أن يعطيها محاضرات من التوبيخ في رَدٍّ على سؤال بسيط أو ملاحظة تافهة. في تلك الأيام كانت أحيانًا ما توجِّه له سؤالًا ما على أمل أن يباهي ببعضٍ من معرفته الفائقة التي قد تثير إعجابها، ولكنها عادة ما كانت تشعر بالندم على السؤال؛ إذ كانت الإجابة تأتي مسهَبة للغاية يشوبها نبرة تعنيف وتوبيخ، إلى جانب أن المعلومات لم تكن فَذَّةً لهذه الدرجة. كانت تريد أن تبدي إعجابها به واحترامها له، فيما كان يبدو أشبه بمغامرة على وشك خوضها.

بعد ذلك فكرت أنها تحترم باتريك بالفعل، ولكن ليس بالطريقة التي كان يريدها هو، وأنها تحبه بالفعل ولكن ليس بالطريقة التي أرادها أن تحبه بها. ولم تكن تعرف ماهية هذه الطريقة، وهي التي كانت تعتقد أنها تعرف شيئًا عنه، وتعتقد أنها تعرف أنه لم يكن يرغب حقًّا في أن يكون على الشاكلة التي يُقحم نفسه إليها بحماس. ربما كان يمكن تسمية تلك الغطرسة احترامًا، وهذا الاستعلاء حبًّا. ولم يكن من شأن ذلك أن يحقق له السعادة.

كان بعض الرجال يرتدون الجينز والكنزات ذات الياقة الضيقة أو القمصان القطنية الواسعة، وكان كليفورد واحدًا من هؤلاء، وكان كل ما يرتديه أسود اللون. كانت تلك هي فترة انتشار ثقافة البِيت في سان فرانسيسكو. كانت جوسلين تتصل بروز عبر الهاتف وتقرأ عليها قصيدة «عواء». كانت بشرة كليفورد تبدو في غاية الاسمرار مع ثيابه السوداء، وكان شعره طويلًا مقارنة بما كان سائدًا في تلك الفترة، ولونه فاتحًا مثل قطعة قطن لم تُبيَّض، فيما كان لون عينيه فاتحًا للغاية، حيث كان لونهما أزرق لامعًا مائلًا للرمادي. وبدا لروز وكأنه ضئيل الحجم وهادئ كالقطط، وبه بعض ملامح الأنوثة، وهو ما جعلها تتمنى ألا يصيب باتريك بإحباط شديد.

كان هناك جعة وكوكتيل نبيذ للشراب، وكانت جوسلين — الطاهية الرائعة — تقلِّب قدرًا من الجمبالايا. توجهت روز إلى المرحاض لكي تفصل نفسها عن باتريك الذي بدا راغبًا في أن يكون ملازمًا لها كظلها (كانت تعتقد أنه يتقمص دور كلب الحراسة، ونسيت أن ذلك قد يكون خجلًا منه). وحين خرجت بدأ في التحرُّك. احتست روز ثلاث كئوس من النبيذ في تتابُع سريع، وتم تقديمها للسيدة التي قامت بتأليف المسرحية التي أذيعت في الراديو. وفوجئت روز حين رأت أن هذه السيدة كانت واحدة من أكثر الأشخاص المتواجدين في الغرفة كآبة وأقل من يبدو عليهم ملامح الثقة.

أخبرتها روز قائلة: «لقد أعجبتني مسرحيتك.» ولكنها في الواقع كانت تجدها غامضة، فيما كان باتريك يراها مقزِّزة ومثيرة للاشمئزاز؛ فقد كانت في ظاهرها تدور حول امرأة التهمت أطفالها. كانت روز تعلم أن ذلك ضرب من الرمزية، ولكنها لم تستطع أن تعرف إلامَ ترمز.

قالت السيدة: «آه، لكن الإنتاج كان في غاية البشاعة!» وفي غمرة حرجها، وحماسها ولهفتها للحديث عن مسرحيتها، أصاب روز منها بعض رذاذ النبيذ. «لقد جعلوها حرفية للغاية. لقد خشيت أن تبدو مخيفة ووحشية وقد كنتُ أقصد أن تكون ذات معنى مرهف، لقد قصدت أن أجعلها مختلفة تمامًا عن الشكل الذي أخرجوها به.» وشرعت تخبر روز بكل خطأ ارتُكِب في الإنتاج، من التوزيع الخاطئ للأدوار، واقتطاع أهم السطور، بل وأكثرها أهمية على الإطلاق. شعرت روز بكبرياء وفخر بينما كانت تستمع إلى هذه التفاصيل، وكانت تحاول أن تزيل آثار رذاذ الخمر دون أن يلحظ أحد.

قالت السيدة: «ولكنك تستوعبين ما قصدته؟»

«آه نعم!»

صبَّ كليفورد كأسًا أخرى من النبيذ وابتسم لها.

«تبدين لذيذة.»

بدت كلمة لذيذة كلمة غريبة الاستخدام بالنسبة لكليفورد. ربما كان ثملًا، أو ربما لكراهيته للحفلات كليةً مثلما قالت عنه جوسلين، أراد أن يتقمَّص دورًا ما؛ ربما أراد أن يقال عنه إنه الرجل الذي يخبر فتاة أنها تبدو لذيذة. ربما كان ماهرًا في التنكُّر وتقمُّص الأدوار، مثلما كانت روز تعتقد أنها نفسها بدأت تجيد ذلك. ومضت تتحدث إلى الكاتبة وإلى رجل يقوم بتدريس الأدب الإنجليزي خلال القرن السابع عشر. ربما كانت هي أيضًا فقيرة وماهرة، متطرفة ووقحة كما يعرف أي شخص.

في الردهة الضيقة كان هناك رجل وفتاة يتعانقان بحرارة، وكلما أراد أحد أن يمر عبر هذه الردهة، يُضطر العاشقان للابتعاد، ولكنهما كانا يواصلان تبادل النظرات فيما بينهما، ولم يكونا حتى يُغلقان فميهما. كان منظر هذين الفمين المفتوحين المبتلَّيْن يجعل روز ترتجف، فلم يسبق أن عانقها أحد بهذا الشكل في حياتها، ولم ينفغر فوها بهذا الشكل من قبل. فقد كان باتريك يرى التقبيل على الطريقة الفرنسية شيئًا مقززًا.

كان هناك رجل أصلع ضئيل الحجم متمركز خارج باب المرحاض يقبِّل أية فتاة تخرج منه قائلًا: «مرحبًا يا عزيزتي، أنا في غاية السعادة لأنك استطعت الحضور، وفي غاية السعادة لرحيلك.»

قالت الكاتبة: «إن سيريل إنسان بشع، إنه يعتقد أن عليه أن يحاول التصرف وكأنه شاعر. ولا يستطيع التفكير في شيء سوى التسكع حول المرحاض ومضايقة الآخرين. إنه يعتقد أنه وقح.»

قالت روز: «هل هو شاعر؟»

قال محاضِر الأدب الإنجليزي: «لقد أخبرني أنه أحرق كل قصائده.»

قالت روز: «يا له من سلوك متفاخر!» وقد سُرَّت من نفسها لقولها هذا، وسرَّت منهم لضحكهم.

وبدأ مُحاضِر الأدب الإنجليزي في التفكير في توريات على طريقة قصص توم سويفتي.

قالت الكاتبة في حسرة: «لا أستطيع التفكير في هذه الأشياء مطلقًا؛ فأنا أهتم باللغة بشكل مبالغ.»

انطلقت أصوات عالية من غرفة المعيشة، وميَّزت روز صوت باتريك يتعالى ويتعالى طاغيًا على أصوات الآخرين جميعًا. فهَمَّت بفتح فمها لتقول شيئًا، أيَّ شيء للتغطية عليه — فقد أدركت أن كارثة ما على وشك الحدوث — ولكن في تلك اللحظة جاء رجل طويل القامة ذو شعر مجعَّد وطلَّة بشوشة يقطع طريقه عبر الردهة، فاصلًا بين العاشقَيْن ذوي العاطفة المشبوبة دون سابق إنذار، ورافعًا يده لجذب انتباه الحضور.

قال الرجل لجميع من في المطبخ: «أنصتوا لهذا. يوجد في غرفة المعيشة رجل لن تصدقوا حديثه قط. فلتنصتوا.»

لا بد أن حوارًا عن الهنود كان دائرًا في غرفة المعيشة، وها هو باتريك الآن قد أخذ دفَّته في الحوار.

قال باتريك: «فلتأخذوهم بعيدًا، فلتأخذوهم بعيدًا عن آبائهم بمجرد أن يُولدوا وضعوهم في بيئة متحضرة وعلِّموهم وسوف يشبُّون صالحين كالبيض يومًا ما.» لا شك أنه كان يعتقد أنه يعبِّر عن آراء متحررة. ولو أنهم كانوا يعتقدون أن ذلك شيء رائع، فقد كان ينبغي أن يستعينوا به يوم إعدام آل روزنبرج، أو محاكمة ألجر هيس، أو في حالات الضرورة في التجارب النووية.

قالت إحدى الفتيات بلطف: «حسنًا، تعلمون، إنها ثقافتهم.»

فقال باتريك: «إن ثقافتهم مكتوب عليها الفناء … ثقافة مفلسة.» كانت تلك كلمة من الكلمات التي كان يُكثِر من استخدامها في الوقت الحالي، وكان بإمكانه استخدام بضع كلمات، وكليشيهات، وعبارات افتتاحية — من بينها عبارة «إعادة تقييم شامل» — باستمتاع وحُجة صاعقة لدرجة تجعلك تعتقد أنه مبتكرها، أو تعتقد على الأقل أن استخدامه لها قد منحها ثقلًا ورونقًا.

قال باتريك: «إنهم يريدون أن يكونوا متحضِّرين. الأشخاص الأكثر ذكاء يرغبون في ذلك.»

فقالت الفتاة بوقار متحفِّظ لم يدركه باتريك: «حسنًا، ربما لا يعتبرون أنفسهم غير متحضرين بالمعنى الدقيق للكلمة.»

«بعض الناس يحتاجون إلى دفعة.»

دفعت النبرات المشوبة بالرضا الذاتي والنقد الناضج الرجلَ المتواجد بالمطبخ للاستسلام وهز رأسه في سرور وعدم تصديق قائلًا: «لا بد أنه من الساسة المؤيِّدين لحزب الائتمان الاجتماعي.»

وفي الواقع أن باتريك قد صَوَّتَ بالفعل لحزب الائتمان الاجتماعي.

كان يقول: «نعم، حسنًا، سواء أعجَبَنا ذلك أم لم يُعجبنا، لا بد وأن يُشَدُّوا إلى القرن العشرين حتى ولو رغمًا عنهم.»

كرر أحدهم: «رغمًا عنهم؟!»

فقال باتريك الذي لا يرى غضاضة في ترديد أي شيء مجددًا: «نعم يُشدُّون رغمًا عنهم للدخول إلى القرن العشرين.»

«يا له من تعبير مثير، وإنساني أيضًا.»

ألن يفهم الآن أنه قد أُحرِج، وتم استدراجه وتَعرَّض للسخرية؟ ولكن باتريك بعد ما تعرض له من إحراج لم يسعُهُ سوى أن يصبح أكثر صخبًا. ولم يعُد بإمكان روز أن تسمع أكثر من ذلك، فتوجهت إلى الممر الخلفي الذي كان مكتظًّا بالأحذية الطويلة، والمعاطف، والزجاجات، وأحواض الاستحمام، ولعب الأطفال التي قامت جوسلين وكليفورد بإزاحتها بعيدًا من أجل الحفل. وحمدًا لله أنه كان خاليًا من الناس. خرجت روز من الباب الخلفي ووقفت غاضبة ترتجف في الليل البارد المطير. كانت مشاعرها مختلطة مثلما يمكن أن يحدث لأي شخص في مكانها. كانت تشعر بالمهانة والخزي من باتريك، ولكنها كانت تعلم أن أسلوبه هو أكثر ما أشعَرها بالمهانة؛ الأمر الذي جعل الشك يتسرَّب إليها في أن بداخلها شيئًا فاسدًا وعابثًا. لقد كان غضبها أيضًا من هؤلاء الآخرين الأكثر براعة ومهارة، أو على الأقل الأسرع بكثير منه. كانت تريد أن تكون أفكارها عنهم سيئة. ما الذي يهتمون به بشأن الهنود حقًّا؟ ربما لو أُتيحت لباتريك الفرصة للتصرُّف بشكل دَمِثٍ نحو أحد الهنود لتفوَّق عليهم. كان هذا احتمالًا بعيدًا، ولكنها كانت مضطرَّةً لتصديقه. لقد كان باتريك شخصًا صالحًا. صحيح أن آراءه ليست سديدة، ولكنه شخص صالح في ذاته؛ فقد كانت روز تعتقد أن باتريك في جوهره بسيط ونقي وجدير بالثقة، ولكن كيف لها أن تكتشفه وتلمسه، لتُطمئن نفسها وبالطبع ليس لكشفه للآخرين؟

سمعت الباب الخلفي يُغلق، وخشيت أن تكون جوسلين قد خرجت تبحث عنها. لم تكن جوسلين بالشخص الذي يستطيع الإيمان بجوهر باتريك؛ فقد كانت تراه متغطرسًا وعنيدًا وسخيفًا في جوهره.

لم تكن جوسلين، بل كان كليفورد. لم تشأ روز أن تخبره بأي شيء. نظرت إليه دون ترحيب وهي ثمِلة بعض الشيء، وكئيبة، ومبللة الوجه من أثر المطر، ولكنه طوَّقها بذراعيه وأخذ يهزها.

«آه يا روز، يا حبيبتي. لا عليك يا روز.»

كان هذا هو كليفورد.

ظلا على مدى خمس دقائق أو نحو ذلك يتبادلان القبلات، ويغمغمان، ويرتجفان، ويتضامَّان، ويتلامسان، ليعودا بعد ذلك إلى الحفل من الباب الأمامي حيث كان سيريل هناك. قال لهما: «أهلا، أين كنتما؟»

أجابه كليفورد بفتور: «نسير تحت المطر.» قالها بنفس الصوت الرشيق وربما العدائي الذي خاطب به روز قائلًا لها إنها لذيذة. لقد توقف استدراج باتريك، وصار الحوار أكثر حرية، وثمالة، واستهتارًا. كانت جوسلين تقدم الجمبالايا، فذهبت روز إلى دورة المياه لتجفف شعرها وتضع أحمر شفاه على شفتيها اللتين جُرِّدَتَا ممَّا عليهما من أحمر الشفاه. لقد تحولت، لتصبح غير قابلة للتأثُّر بأي شيء. كان أول شخص قابلته لدى خروجها هو باتريك. كانت لديها رغبة في أن تُشعِره بالسعادة. ولم تعبأ بما قاله أو ما سوف يقوله.

قالت ذلك بصوت خافت لَعُوبٍ تستخدمه في بعض الأحيان عندما تشعر ببعض التساهل في الحديث معه: «لا أعتقد أننا قد التقينا من قبلُ يا سيدي. ولكن يمكنك أن تقبِّل يدي.»

قال باتريك بحماس قوي: «لصياحي الصاخب.» واعتصرها وقبَّلها بتمطق مرتفع على وجنتها؛ فقد كان دائمًا يتمطق بشفتيه حين يقبِّل. ودائمًا ما كان مرفقاه يتوغلان في مكان ما من جسدها ويؤلمانها.

قالت روز: «أتستمتع بوقتك؟»

«لا بأس، لا بأس.»

وبالطبع ظلت طوال ما تبقى من الأمسية تمارس لعبة النظر إلى كليفورد بينما تتظاهر بأنها لا ترقبه، وبدا لها أنه يفعل نفس الشيء، والتقت أعينهما بضع مرات دون أي تعبير يُذكر، في رسالة واضحة تمام الوضوح تزلزل كيانها. وصارت تراه بشكل مختلف الآن؛ فجسده الذي كان يبدو ضئيلًا وضعيفًا بَدَا في عينيها الآن رشيقًا مفعمًا بالطاقة؛ كان أشبه بجسد حيوان الوشق أو الفهد. لقد اكتسب كليفورد سُمرَته من رياضة التزلج التي يمارسها؛ فقد كان يتسلق جبال سيمور ويمارس التزلج هناك. هواية مكلِّفة، ولكنها هواية شعرت جوسلين أنه لا يمكن حرمانه منها؛ لما كان يعانيه من مشكلات بشأن صورته الاجتماعية؛ صورته الذكورية كعازف كمان في هذا المجتمع، أو هكذا قالت جوسلين. كانت جوسلين قد أخبرت روز بكل شيء عن خلفية كليفورد: والده المريض بالتهاب المفاصل، متجر البقالة الصغير الكائن في بلدة شمال نيويورك، في الحي الفقير المليء بالقسوة. وتحدثت أيضًا عن مشكلاته في طفولته؛ عن الموهبة غير اللائقة، عن والديه اللذين لم يمنحاه العطف، ورفاق المدرسة المتهكِّمين. قالت جوسلين إن طفولته قد خلَّفت بداخله شعورًا بالمرارة، ولكن روز لم تعُد تعتقد أن جوسلين لها الكلمة الأخيرة على كليفورد.

•••

أُقِيمَ الحفل ليلة أحد أيام الجمعة. دق جرس الهاتف في صباح اليوم التالي، بينما كان باتريك وآنا على المائدة يتناولان البيض.

قال كليفورد: «كيف حالك؟»

«بخير.»

«أردت أن أُهاتفك. اعتقدت أنكِ قد تظنين أنني كنت ثملًا فقط أو شيئًا من هذا القبيل. إنني لم أكن كذلك.»

«أوه، كلا.»

«لقد قضيتُ الليل بأَسْرِهِ أفكر فيك، بل كنت أفكر فيك قبل ذلك أيضًا.»

«نعم.» كان المطبخ يدور من حولها، وكان المشهد بأكمله أمامها، مشهد باتريك وآنا على المائدة، وإبريق القهوة الذي تساقطت قطرات منها على جانبه، وبرطمان المربى، كل شيء كاد ينفجر من فرط البهجة والفرصة والخطر. كان فم روز جافًّا تمامًا حتى إنها بالكاد استطاعت أن تتكلم.

قالت: «إنه يوم جميل. ربما نتسلق أنا وآنا وباتريك الجبل.»

«هل باتريك بالمنزل؟»

«أجل.»

«يا إلهي! إنه لغباء مني. لقد نسيت أنني الوحيد الذي يعمل يوم السبت. فأنا هنا في بروفة.»

«أجل.»

«هل يمكنك التظاهر بأن المتصل شخص آخر؟ تظاهري أنها جوسلين.»

«بالتأكيد.»

قال كليفورد: «أحبك يا روز.» ثم أغلق الخط.

قال باتريك: «من كان على الهاتف؟»

«إنها جوسلين.»

«وهل يجب أن تتصل حين أكون بالمنزل؟»

«لقد نَسِيَتْ. إن كليفورد في بروفة لذا نَسِيَتْ أن الآخرين في إجازة اليوم من العمل.» شعرت روز بسعادة وبهجة وهي تنطق اسم كليفورد. يبدو وكأن ممارسة الخداع والكتمان قد أصبحا أمرًا في غاية السهولة والتلقائية بالنسبة لها؛ وقد يكون ذلك متعة في حد ذاته.

قالت روز في محاولة لعدم الخروج عن الموضوع: «لم أكن أعرف أنهم يضطرون للعمل أيام السبت. لا بد أنهم يعملون لساعات طويلة للغاية.»

«إنهم لا يعملون لساعات أطول من الأشخاص العاديين، كل ما في الأمر اختلاف في توزيع وقت العمل. إنه لا يبدو قادرًا على العمل كثيرًا.»

«من المفترض أن يكون جيدًا للغاية، أقصد كعازف كمان.»

«إنه يبدو شخصًا أحمق.»

«أتعتقد ذلك؟»

«ألا تعتقدين ذلك؟»

«أعتقد أنني لم أدرس شخصيته مطلقًا.»

•••

اتصلت جوسلين في يوم الاثنين وقالت إنها لا تعرف لِمَ تقيم الحفلات؛ إذ كانت لا تزال تخوض وسط الفوضى.

«ألم يساعدك كليفورد في التنظيف؟»

«أنت تمزحين. إنني أكاد لا أراه طوال عطلته الأسبوعية؛ فقد كان لديه بروفة يوم السبت وكان يعزف بالأمس. إنه يقول إن الحفلات فكرتي أنا؛ لذا فبإمكاني التعامل مع توابعها. وهذا صحيح. فأنا أصاب بنوبات الشوق للتجمعات، والحفلات هي العلاج الوحيد لها. لقد كان باتريك مثيرًا للاهتمام.»

«نعم، للغاية.»

«إنه نمط ساحر من الشخصيات حقًّا، أليس كذلك؟»

«هناك الكثير والكثير مثله، ربما فقط لا تتاح لك الفرصة للقائهم.»

«تعسًا لي!»

كان هذا الحوار كأي حوار آخر لها مع جوسلين؛ فقد كانت حواراتهما وصداقتهما تسير دائمًا في نفس الاتجاه، ولم تكن روز تشعر بأنها مقيدة بأي قدر من الولاء لجوسلين؛ لأنها قد قسمت كليفورد إلى نصفين؛ فكان هناك كليفورد الذي عرفته جوسلين، وهو نفس الشخص الذي طالما قدَّمته جوسلين إلى روز، وكان هناك أيضًا كليفورد الذي عرفته روز الآن. كانت تعتقد أن جوسلين ربما كانت مخطئة بشأنه، والمثال على ذلك عندما قالت لها إن طفولته قد خلَّفت لديه شعورًا بالمرارة. فما وصفته جوسلين بأنه مرارة بدا لروز شيئًا أكثر تعقيدًا وأكثر اعتيادًا؛ إنه فقط المألوف لأية طبقة، من ضجر، ولين، ومراوغة، ودناءة. وقد كانت تلك أمورًا مألوفة بالنسبة للطبقة التي جاء منها كليفورد وكذا طبقة روز. أما جوسلين، فقد كانت معزولة بطرق ما؛ مما جعلها صارمة وبريئة. لقد كانت تشبه باتريك في عدة نواحٍ.

من تلك اللحظة فصاعدا صارت روز تنظر إلى كليفورد وإلى نفسها باعتبارهما نوعًا واحدًا من الناس، وإلى جوسلين وباتريك كنوع آخر مختلف، رغم ما بدا من اختلافهما بشدة، ورغم نفور كليهما من الآخر. فقد كانا شخصين متكاملين لا يحيط بهما أي غموض، وكانا يأخذان الحياة بجدية مطلقة. وبالمقارنة بهما، كان كليفورد وروز مثالين على نوعية الأشخاص المراوِغة شديدة الدهاء.

لو أن جوسلين وقعت في غرام رجل متزوج، ماذا كانت ستفعل؟ ربما كانت ستطلب عقد مؤتمر حتى قبل أن تلمس يديه، وكانت ستدعو إليه كليفورد، والرجل ذاته، وزوجة الرجل، وربما طبيب جوسلين النفساني (على الرغم من رفضها لعائلتها، كانت جوسلين تعتقد أن الذهاب إلى طبيب نفساني أمر ينبغي على الجميع أداؤه أثناء مراحل التطور أو التأقلُم في الحياة، وكانت جوسلين نفسها تذهب إلى أحدهم مرة واحدة أسبوعيًّا). كانت جوسلين ستفكر في العواقب، وكانت ستواجه الأمور بشكل مباشر؛ فهي لا تحاول أبدًا أن تختلس متعتها؛ إذ لم تتعلم اختلاس الأشياء قط. وكان ذلك ما يجعل وقوعها في حب رجل آخر أمرًا مستبعدًا؛ فلم تكن بالشخص الشَّرِه، ولم يكن باتريك شرهًا كذلك، على الأقل فيما يتعلق بالحب.

إذا كانت مشاعر الحب تجاه باتريك جاءت لإدراكها شيئًا جيدًا وبريئًا بداخله؛ فإن مشاعر الحب تجاه كليفورد كانت شيئًا مختلفًا تمامًا. لم تكن روز مضطرة للاعتقاد بأن كليفورد شخص جيد، وكانت تعلم بالتأكيد أنه لم يكن بريئًا أو ساذجًا. ولم يكن مهمًّا بالنسبة لها أي مصارحة بشأن ازدواجيته أو قسوته تجاه آخرين سواها. إذن ماذا أحبت فيه؟ وماذا كانت تريد منه؟ لقد أرادت الخداع، أرادت سرًّا متوهجًا، أرادت احتفاءات يملؤها الحب والحنان بالرغبة، أرادت تأجُّجًا دائمًا للفجور. كل ذلك بعد خمس دقائق تحت المطر قضتها معه.

•••

بعد نحو ستة أشهر من ذلك الحفل ظلت روز مستيقظة طوال الليل. كان باتريك نائمًا بجوارها في منزلهما المبني من الحجر وخشب الأرز في ضاحية تسمى كابيلانو هايتس بجانب جبل جراوس. وفي الليلة التالية كان مقرَّرًا أن يكون كليفورد هو من سينام بجوارها، في باول ريفر حيث كان يعزف مع الأوركسترا الجوال. لم يكن بإمكانها أن تصدِّق أن هذا سيحدث بالفعل. لقد وضعت كل ثقتها في الحدث، ولكنها لم تستطع أن تضعه وسط ترتيب الأشياء الذي كانت تعرفه.

لم يُقدِم روز وكليفورد على مدار كل هذه الأشهر على ممارسة الحب معًا، ولم يمارسا الحب في أي مكان آخر أيضًا. كان الموقف هكذا: لم يكن جوسلين وكليفورد يملكان سيارة، بينما كان لدى باتريك وروز واحدة، ولكن روز لم تكن تقودها. كان عمل كليفورد يتيح له ميزة العمل لساعات غير منتظمة، ولكن كيف كان له أن يرى روز؟ هل يستطيع استقلال الحافلة عبر جسر لايونز جيت، ثم يسير في وضح النهار عبر شارع الضاحية الذي تقطن فيه مارًّا بنوافذ الجيران؟ هل يمكن أن تستعين روز بجليسة أطفال وتَدَّعِي أنها ذاهبة لزيارة طبيب الأسنان، وتستقل الحافلة إلى البلدة، وتقابل كليفورد في أحد المطاعم، وتذهب معه لغرفة في أحد الفنادق؟ ولكنهما لم يكونا يعرفان لأي فندق يذهبان، ويخشيان إذا ذهبا بدون أمتعة أن يتضح أمرهما في الطريق، أو يتم الإبلاغ عنهما لدى شرطة مكافحة الرذيلة ويُحتجزان في مركز الشرطة بينما يتم استدعاء جوسلين وباتريك للحضور لاستلامهما، إلى جانب أنه لم يكن بحوزتهما مال كافٍ.

غير أن روز قد ذهبت إلى فانكوفر، مستخدمة عُذر طبيب الأسنان، وجلسا في أحد المقاهي جنبًا إلى جنب في سقيفة خلفية وأخذَا يتبادلان القبلات والمداعبات جهارًا في مكان يتردد عليه طلاب وزملاء كليفورد من الموسيقيين، يا لها من مجازفة! وبينما كانت روز تستقل الحافلة في طريقها إلى المنزل راحت تنظر عبر ثوبها إلى قطرات العرق المتقطرة بين ثدييها وكادت يغشى عليها من تألُّقها وبهائها، وكذلك من فكرة المجازفة التي أخذاها. في إحدى المرات الأخرى، بعد ظهيرة يوم شديد الحرارة في شهر أغسطس، انتظرت في أحد الأزقة خلف المسرح الذي كان كليفورد يؤدي فيه البروفة، واختبأت وسط الظلال ثم تشبثت به في هُيام لم يشبعها. رأيا بابًا مفتوحًا فتسللا إلى الداخل. كانت هناك صناديق متراصة في كل مكان حولهما، وكانا يبحثان عن مكان يأويان إليه عندما تحدث إليهما أحد الرجال.

«هل يمكنني القيام بأي شيء من أجلكما؟»

كانا قد دخلا المخزن الخلفي لمحل لبيع الأحذية. كان صوت الرجل باردًا مرعبًا. وأخذت الأفكار المخيفة تتوالى: شرطة الآداب! مركز الشرطة! وكان رداء روز قد انفك حتى الخصر.

ذات مرة كان اللقاء في أحد المتنزهات حيث كانت غالبًا ما تصطحب آنا وتدفعها على الأراجيح. جلسا على أحد المقاعد وقد تشابكت يداهما أسفل تنورة روز القطنية الفضفاضة. كانت أصابعهما متشابكة معًا وراحا يعتصرانها بقوة مؤلمة، إلى أن فاجأتهما آنا حين ظهرت من خلف المقعد وصاحت قائلة: «بوو! لقد أمسكت بكما!» فامتقع وجه كليفورد متحولًا إلى شحوب كارثي. وفي الطريق إلى المنزل قالت روز لآنا: «كان هذا مضحكًا حين قفزت من خلف المقعد. كنت أظن أنك لا تزالين على الأرجوحة.»

قالت آنا: «أعرف ذلك.»

«ماذا قصدت بأنك أمسكت بنا؟»

فقالت آنا: «لقد أمسكت بكما بالفعل.» وضحكت بصوت عالٍ بطريقة بدت لروز متطاولة وذكية بشكل مثير للانزعاج.

قالت روز بنبرة ابتهاج: «هل تَوَدِّين تناول الآيس كريم؟ أنا أود!» وفي خضم أفكار الابتزاز والمساومات التي دارت في عقلها، جال بخاطرها أن آنا سوف تجتر تلك الذكرى السيئة لطبيبها النفسي بعد عشرين عامًا من الآن؛ فقد جعلتها هذه الحادثة مهزوزة وسقيمة وتساءلت إن كانت قد أثَّرت على حب كليفورد لها، لقد حدث ذلك بالفعل، ولكن لفترة مؤقتة فقط.

•••

بمجرد بزوغ أول خيط من خيوط الضوء، نهضت من فراشها لمشاهدة النهار لترى إن كان اليوم مناسبًا للسفر جوًّا. كانت السماء صافية، دون أي أثر للضباب الذي يتسبب غالبًا في الهبوط الاضطراري للطائرات في هذا الوقت من العام. لم يعلم أحد سوى كليفورد بذهابها إلى باول ريفر؛ فقد ظلَّا يخططان للأمر على مدى ستة أسابيع منذ أن عَلِمَا بأنه سيسافر في جولة. كان باتريك يعتقد أنها ستذهب إلى فيكتوريا، حيث كان لها صديقة تعرَّفت عليها في الكلية، وظلت على مدار الأسابيع القليلة الماضية تدَّعي بأنها عادت مجددًا للتواصل مع هذه الصديقة. وقد قالت إنها ستعود ليلة الغد. كان اليوم هو السبت ما يعني أن باتريك كان بالمنزل للاعتناء بآنا.

دخلت إلى غرفة الطعام لمراجعة النقود التي ادَّخرتها من شيكات الإعانات الأسرية التي تحصُل عليها من الدولة. كانت تحتفظ بها في قاع طبق المافِن الفضي. ثلاثة عشر دولارًا. كانت تنوي إضافتها لما أعطاها إياه باتريك للسفر إلى فيكتوريا. طالما كان باتريك يعطيها نقودًا حين تطلب، ولكنه كان يرغب في معرفة المبلغ الذي تحتاج إليه وفيما ستُنفقه. ذات مرة بينما كانا يسيران معًا بالخارج، أرادت الدخول إلى الصيدلية، وطلبت منه نقودًا، فقال باتريك بجِدِّيَّة لم تتجاوز الحد المعتاد منه: «لماذا؟» وبدأت روز في البكاء؛ لأنها كانت ستشتري هُلامًا مهبليًّا. أما الآن، فربما تكون قد ضحكت. وقد تضحك إذا ما حدث معها هذا الموقف الآن، فمنذ أن وقعت في حب كليفورد، لم تتشاجر قَطُّ مع باتريك.

قامت مرة أخرى بحساب النقود التي ستحتاج إليها: تذكرة الطائرة، نقود من أجل حافلة المطار التي ستستقلها من فانكوفر، ومن أجل الحافلة، أو ربما سينبغي عليها أن تستقل سيارة أجرة للذهاب إلى باول ريفر، مع فائض من أجل الطعام والقهوة. وكان كليفورد سيتكفل بنفقات الفندق. ملأتها الفكرة بإحساس من الراحة الجنسية والاستسلام، على الرغم من علمها بأن جيروم كان بحاجة إلى نظارة جديدة، وأن آدم بحاجة إلى حذاء عالٍ من المطاط. راحت تفكر في ذلك الفراش المحايد الناعم الوثير الموجود بالفعل في انتظار قدومهما. منذ زمن طويل حين كانت فتاة صغيرة (هي الآن في الثالثة والعشرين)، كثيرًا ما كانت تذهب بخيالها إلى الأسرَّة المؤجَّرة المملة ذات الألوان الحادة والأبواب المغلقة، بما يتضمنه ذلك من الأمنيات المترفة، وها هي الآن تعاود الكَرَّة مجددًا، على الرغم من أن التفكير في أي شيء يتعلق بالجنس ظل لفترة — فيما بين قبل الزواج وبعده — يثير حنقها، مثلما كان الفن الحديث يثير سخط باتريك.

راحت روز تجول عبر أرجاء المنزل بهدوء تخطط ليومها في سلسلة من الإجراءات. سوف تأخذ حمامًا، ثم تضع الزيت والبودرة، وتضع مانع الحمل والهلام المهبلي في حقيبتها. ولم تنسَ النقود، والماسكرا، وكريم الوجه، وأحمر الشفاه. اعتلت درجتي السلم المؤديتين إلى غرفة المعيشة. كانت جدران غرفة المعيشة خضراء طحلبية، وكانت المدفأة بيضاء، فيما كانت الستائر وأغطية المقاعد مزيَّنة بنقوش حريرية من أوراق الشجر بألوان الرمادي والأخضر والأصفر على خلفية بيضاء. وعلى رَفِّ المدفأة كانت هناك مزهريتان من ماركة ويدجوود بلون أبيض وحلقة من أوراق الشجر الخضراء. وكان باتريك مغرمًا بشدة بهاتين المزهريتين، حتى إنه في بعض الأحيان بمجرد عودته من العمل يتوجه مباشرة إلى غرفة المعيشة ويعدل وضعهما قليلًا على رف المدفأة؛ ظنًّا منه بوجود خلل في التناسق الذي وضعتا به.

«هل عبث أحد بهاتين المزهريتين؟»

«بالطبع. بمجرد أن غادرت إلى العمل هرعت نحوهما وبدلت موضعهما.»

«لقد كنت أقصد آنا. فأنت لا تدعيها تلمسهما، أليس كذلك؟»

لم يكن باتريك يحب أن يسمعها تشير إلى المزهريتين بأي طريقة تهكُّمية؛ فقد كان يعتقد أنها لم تكن تُقدِّر قيمة المنزل. لم يكن يعلم، ولكنه ربما استطاع أن يخمن ما قالته لجوسلين في أول مرة جاءت فيها هنا، وكانتا تقفان حيثما كانت روز تقف الآن تجولان بناظريهما في غرفة المعيشة.

«إنه حلم الأناقة لوريث المتجر الكبير.»

حتى جوسلين بدت خجولة من ذلك الغش؛ فلم يكن ذلك صحيحًا تمامًا. لقد كان باتريك يحلم بالمزيد والمزيد من الأناقة. ولم يكن صحيحًا فيما تضمنه ذلك من إِشارات إلى أن المنزل كان من اختيار باتريك بمفرده، وأن روز لطالما كانت غير آبِهة به. لقد كان اختيار باتريك بالفعل، ولكن في وقت من الأوقات كان هناك الكثير من الأشياء تعجبها؛ فقد اعتادت أن تتسلَّق وتلمع الكريستالات الزجاجية المتدلية من ثُرَيَّا غرفة الطعام، مستخدمة قطعة من القماش مغموسة في محلول من الماء وصودا الخبيز. لقد كانت تحب تلك الثريا؛ إذ كان لكريستالاتها المتدلية ضوء أزرق أرجواني فاتح. ولكن الناس الذين كانوا يحوزون إعجابها لم يكن لديهم نجف في غرف الطعام خاصتهم. وكان من غير المحتمل أن يكون لديهم غرف طعام من الأساس. وإذا كان لديهم، فكانوا يكتفون بشموع بيضاء رفيعة مثبَّتة في حامل للشموع من المعدِن الأسود المصنوع في إحدى الدول الإسكندنافية. أو ربما كانوا ليستعينون بشموع سميكة موضوعة في زجاجات النبيذ محمَّلة بقطرات من الشمع الملون. لقد كان الناس الذين تُكِنُّ لهم الإعجاب أفقر منها لا محالة؛ لذا بدَا من قبيل السخرية غير المقبولة منها — بعد أن قضت طيلة حياتها في مكان يخجل فيه الجميع من فقرهم — أن تكون مضطرة الآن أن تشعر بالأسف والحرج من كونها في الحالة المضادة، في ظل وجود شخص مثل جوسلين، على سبيل المثال، يمكن أن تقول عبارة مثل «رفاهية الطبقة المتوسطة» بنبرة غاية في القسوة والازدراء.

ولكنها لو لم تكن قد احتكَّت بالآخرين، ولو لم تكن قد تعلمت من جوسلين، ترى هل كانت ستظل على حبها للمنزل؟ كلا. كانت حتمًا ستشعر بالسخط والبغض تجاهه على أيَّة حال. فحين كان الناس يأتون لزيارتهما لأول مرة، كان باتريك دائمًا ما يصطحبهم في جولة عبر المنزل، مشيرًا إلى النجفة، ومرحاض الضيوف ذي الإضاءة المخفيَّة، بجوار الباب الأمامي، وخزانات الملابس والأبواب المزودة بفتحات تهوية والمفتوحة على الفناء. لقد كان فخورًا بهذا المنزل وكله لهفة لجذب الأنظار للسمات الصغيرة التي تمنحه التميُّز، وكأن هو من نشأ فقيرًا وليس روز. كانت روز تنزعج من هذه الجولات منذ البداية، وكانت تتبعه في صمت أو تصدر تعليقات استنكارية لم تكن تعجب باتريك. وبعد فترة تمكث في المطبخ، ولكن يظل بإمكانها سماع صوت باتريك، وكانت تعرف مسبقًا كل شيء سوف يقوله. كانت تعرف أنه سيزيح ستائر غرفة الطعام ويشير إلى النافورة الصغيرة المضيئة — التي تتخذ شكل نافورة نبتون مزينة بورقة التين — التي كان يضعها في الحديقة، ثم يقول: «والآن ها هو الحل الذي ابتكرناه لهوس الضواحي بحمامات السباحة.»

•••

بعد أن انتهت من حمامها أخذت زجاجة اعتقدت أنها زجاجة زيت الأطفال لتسكبها على جسدها. سال السائل الشفاف على صدرها وبطنها مصيبًا إياها بحرقة ولسعة، فنظرت إلى الملصق على الزجاجة لتكتشف أنه لم يكن زيت الأطفال، وإنما مزيل طلاء الأظافر؛ فجعلت تزيله وتغمر نفسها بالماء البارد وتجفف باستماتة وهي تفكر في بشرتها وما لحق بها من دمار، والمستشفى؛ راحت تفكر في ترقيع الجلد، في الندوب، في العقاب.

كانت آنا تخربِش على باب المرحاض في نعاس ولكن بإلحاح؛ فقد أغلقته روز من أجل هذه الاستعدادات، على الرغم من أنها كانت عادة ما لا تغلقه حين تأخذ حمامًا. وسمحت لآنا بالدخول.

قالت آنا وهي تحاول الصعود على المرحاض: «إن صدرك أحمر تمامًا.» عثرت روز على زيت الأطفال وحاولت أن تهدئ بشرتها به، ولكنها استخدمت قدرًا كبيرًا منه ما أدى إلى بقع زيتية على حمالة صدرها الجديدة.

•••

كانت تعتقد أن كليفورد قد يكتب لها أثناء رحلته، ولكنه لم يفعل. كل ما فعله هو أنه اتصل بها من برينس جورج وكان يبدو مشغولًا قائلًا:

«متى تصلين إلى باول ريفر؟»

«في الرابعة.»

«حسنًا، استقلِّي الحافلة أو أيًّا ما كان متوافرًا في البلدة. هل ذهبتِ إلى هناك من قبلُ؟»

«لا.»

«ولا أنا. لا أعرف سوى اسم الفندق الذي ستقيمين فيه. لا يمكنك الانتظار هناك.»

«ما رأيك في محطة الحافلة؟ فلكل بلدة محطة للحافلات.»

«حسنًا، عند محطة الحافلات. سوف آخذكِ من هناك في حوالي الخامسة على الأرجح، ويمكننا أن ننقلك إلى فندق آخر. أتمنى من الله أن يكون هناك أكثر من فندق، اتفقنا إذن.»

كان يدَّعي أمام أعضاء الأوركسترا الآخرين أنه سيقضي الليلة مع أصدقاء في باول ريفر.

قالت روز: «يمكنني الذهاب والاستماع إليك وأنت تعزف، أليس كذلك؟»

«بالتأكيد.»

«لن أكون ظاهرة للعيان تمامًا، سوف أجلس في المؤخرة وسأتنكر في شكل سيدة عجوز؛ فأنا أحب أن أستمع إلى عزفك.»

«اتفقنا.»

«هل تمانع؟»

«كلا.»

«كليفورد.»

«أجل؟»

«أما زلت تريدني أن آتي؟»

«أوه روز.»

««أعرف. إن صوتك فقط يوحي لي غير ذلك.»

«أنا في بهو الفندق وهم بانتظاري، ومن المفترض أنني أتحدث إلى جوسلين.»

«حسنًا. أعرف ذلك. سوف آتي.»

«باول ريفر. محطة الحافلات. الخامسة مساء.»

كانت هذه المكالمة مختلفة عن أحاديثهما الهاتفية المعتادة التي عادة ما تكون شجية وسخيفة، أو يثير كل منهما الآخر بحيث لا يستطيعان الحديث على الإطلاق.

«هناك صوت نفَس ثقيل.»

«أعرف.»

«لنتحدث عن شيء آخر.»

«ماذا هناك أيضًا؟»

«هل الجو ضبابي عندكَ أيضًا؟»

«أجل. هل هناك ضباب أيضًا عندكِ؟»

«أجل. أتسمع صوت صافرة الضباب؟»

«أجل.»

«أليس صوتًا مزعجا؟»

«في الواقع أنا لا أنزعج منه. فأنا أحبه نوعًا ما.»

«جوسلين لا تحبه. أتعلمين كيف تصفه؟ إنها تقول إنه صوت ملل كوني.»

كانا في البداية يتجنبان الحديث عن جوسلين وباتريك تمامًا، بعد ذلك صارا يتحدثان عنهما بأسلوب صارم وحادٍّ، وكأنهما أبوان يجب خداعهما والاحتيال عليهما، أما الآن، فصار بإمكانهما الحديث عنهما بأسلوب لطيف يقارب الإعجاب، وكأنهما ابناهما.

•••

لم تكن هناك محطة للحافلات في باول ريفر؛ فاستقلَّت روز ليموزين المطار مع أربعة ركاب آخرين، جميعهم رجال، وأخبرت السائق بأنها تريد الذهاب إلى محطة الحافلات.

«أتعلمين أين تقع؟»

قالت: «كلا.» وشعرت وكأنهم جميعًا يرقبونها.

«أكنتِ تريدين أن تستقلي حافلة؟»

«لا.»

«أتريدين فقط الذهاب إلى محطة الحافلات؟»

«كان مقررًا أن أقابل شخصًا ما هناك.»

قال أحد الركاب: «لم أكن أعلم حتى بوجود محطة للحافلات هنا.»

فقال السائق: «حسب علمي لا يوجد أية محطة هنا. يوجد الآن حافلة تتجه إلى فانكوفر صباحًا وتعود ليلًا وتتوقف عند دار المسنين، أو بالأصح دار جامعي الحطب القدامى. تلك هي المحطة التي تتوقف عندها. كل ما يمكنني فعله هو أن أوصلك إلى هناك. أيوافقك هذا؟»

فقالت روز إن ذلك سيكون رائعًا، ثم شعرت بأن عليها المضي في شرح الأمر.

«لقد رتبت مع صديقتي للقائها هناك؛ لأننا لم يسعنا التفكير في مكان آخر للقاء؛ فنحن لا نعرف باول ريفر مطلقًا، وفكرنا فقط أن كل بلدة لها محطة للحافلات!»

فكَّرت أنها ربما أخطأت بقولها «صديقتي»، ربما كان عليها أن تقول «زوجي»؛ فما قالته قد يجعلهم يتساءلون ماذا تفعل هي وصديقتها هنا إذا لم يكن أي منهما يعرف البلدة.

«صديقتي تعزف في فريق الأوركسترا الذي يقيم حفلًا هنا الليلة. إنها تعزف على الكمان.»

أشاح الجميع بنظرهم عنها وكأن ذلك هو ما تستحقه أية كذبة. كانت تحاول أن تتذكر إذا ما كان هناك عازفات للكمان. ماذا لو سألوها عن اسمها؟

أنزلها السائق أمام مبنى خشبي طويل من طابقين ذوي طلاء متقشر.

«أعتقد أن بإمكانكِ دخول البناية الزجاجية هناك في النهاية؛ فالحافلة تقلهم من هنا على أية حال.»

كانت هناك طاولة بلياردو في البناية الزجاجية ولم يكن هناك أحد يلعب عليها. كان هناك بعض المسنين يلعبون الشطرنج بينما اكتفى آخرون بالمشاهدة. فكرت روز أن تشرح لهم سبب وجودها ولكنها قررت ألا تفعل؛ فقد بَدَوْا غير عابئين بذلك، وكان في ذلك رحمة لها؛ فقد أرهقها ما قدمته من إيضاحات في الليموزين.

كانت ساعة المبنى تشير إلى الرابعة وعشر دقائق، ففكرت أن تضيع الوقت المتبقي حتى حلول الخامسة بالتجول عبر البلدة.

وما إن خرجت من المبنى حتى لاحظت رائحة كريهة، وساورها القلق ظنًّا منها أنها قد تكون مصدر هذه الرائحة، فأخرجت زجاجة العطر ذات الكرة الدوارة التي اشترتها في مطار فانكوفر — منفقة مالًا لا تستطيع توفيره في المعتاد — وجعلت تفرك بها رسغيها وعنقها، ولكن ظلت الرائحة دون أن تزول، وفي النهاية أدركت أنها قادمة من مطاحن لُبِّ الورق. كان من الصعب التجول عبر أنحاء البلدة؛ نظرًا لانحدار شوارعها الشديد، ولعدم وجود أرصفة في الكثير من الأماكن. ولم يكن هناك مكان للتسكُّع وإضاعة الوقت. ظنت أن الناس يحملقون فيها لإدراكهم أنها غريبة عن البلدة، وراح مجموعة من الرجال يستقلون سيارة يصيحون نحوها، بعد أن رأوا انعكاس صورتها على واجهات أحد المحال، وأدركوا أنها تبدو كما لو كانت ترغب في إثارة نظرات الناس وصيحاتهم؛ فقد كانت ترتدي بنطالًا مخمليًّا أسود على طراز بنطال مصارع الثيران القصير، وكنزة سوداء ضيقة ذات ياقة عالية، وسترة باللون البيج تسدلها حول كتفيها على الرغم من الرياح الباردة. صارت تنجذب الآن لارتداء الملابس المثيرة وهي التي كانت يومًا ما لا تختار سوى التنورات الطويلة والألوان الهادئة، والكنزات المصنوعة من الصوف الوبري ذات الطراز الطفولي، وفتحات العنق المطرَّزة بنتوءات مستديرة. وكانت الملابس الداخلية الجديدة التي ترتديها في تلك اللحظة من الدانتيل الأسود والنايلون الوردي. وكانت قد زينت عينيها في غرفة الانتظار بالمطار بالماسكرا الكثيفة، ومحدِّد العيون أسود اللون، وظل العيون الفضي، فيما كان أحمر الشفاه أقرب للأبيض. كان كل ذلك يتماشى مع الموضة السائدة في تلك السنوات؛ ولذلك بدا أقل غرابة مما بدا لاحقًا، ولكنه كان مزعجًا ولافتًا بما يكفي. كانت الثقة التي حملت بها هذا التنكُّر متذبذبة إلى حد كبير؛ فهي لم تكن لتجرؤ على الظهور به أمام باتريك أو جوسلين؛ فعندما كانت تذهب لزيارة جوسلين، كانت دائمًا ما ترتدي أوسع ما لديها من سراويل وكنزات. ومع ذلك عندما كانت جوسلين تفتح لها الباب كانت تقول: «مرحبًا بالسيدة مثيرة!» بنبرة سخرية ودودة. فجوسلين ذاتها كانت قد أصبحت شعثاء المظهر بشكل لافت، فلم تكن ترتدي سوى ملابس كليفورد القديمة؛ فكانت ترتدي سراويله القديمة التي لم تكن تُغلق عليها؛ لأن بطنها لم تعُد كما كانت بعد أن وضعت آدم، وكذا قمصانه القطنية البيضاء المهترئة التي كان كليفورد يرتديها يومًا ما من أجل العُروض. كانت جوسلين فيما يبدو ترى أن مسألة الحفاظ على الرشاقة والتزين بالمساحيق ومحاولة الظهور بمظهر مغرٍ بأي شكل مضحكة إلى حدٍّ مَقيت، ولا تستحق حتى الازدراء؛ كانت بالنسبة لها أقرب لحديث تنظيف الستائر بالمكنسة. كانت تقول إن مشاعر كليفورد لا تختلف على أي حال؛ فقد كان كليفورد، على حد تعبير جوسلين، ينجذب لغياب الحيل ومظاهر التزيُّن الأنثوية؛ فكان يحب السيقان غير الحليقة والإبط المشعر، وروائح الجسم الطبيعية. وراحت روز تتساءل إذا كان كليفورد قد قال هذا حقًّا، ولماذا؟ هل من منطلق الشفقة، أم الود وحسن المعاشرة، أم على سبيل المزاح؟

وجدت روز مكتبة عامة فدخلت وجعلت تتطلع إلى عناوين الكتب، إلا أنها لم تستطع الانتباه إليها؛ فقد كان هناك صوت معوِّق نوعًا ما — وإن لم يكن كريهًا — يسري عبر رأسها وجسدها. وفي الخامسة إلا الثلث عادت إلى المبنى الزجاجي وجلست تنتظر.

كانت لا تزال تنتظر بينما عقارب الساعة تشير إلى السادسة وعشر دقائق. أخذت تعد الدولارات بحقيبتها. كان معها دولار وثلاثة وستون سنتًا. لم يكن بإمكانها الذهاب إلى أي فندق، ولم تكن تعتقد أنهم سيتركونها تقضي الليل في المبنى الزجاجي. لم يكن بوسعها فعل أي شيء إلا الدعاء بأن يستطيع كليفورد الوصول إليها، ولكنها لم تكُن تعتقد أنه سيفعل. ربما تغيَّر الجدول تمامًا، وقد يكون استُدعِيَ للمنزل لأن أحد الطفلين مريض، ربما يكون قد تعرض لكسر في رسغه ولم يستطع العزف على الكمان. كانت باول ريفر مكانًا مقيتًا وليست سوى سراب كريه الرائحة يُستدرج إليه المسافرون من مرتكبي الجرائم لتوقيع عقوبات عليهم. لم تكن مندهشة في الواقع؛ فقد قفزت القفزة التي لم يكن يجب القيام بها، وكان هذا هو ما آلت إليه.

قبل أن يدخل المسنون لتناول العشاء سألتهم عمَّا إذا كانوا قد علموا بأمر حفل موسيقي يقام الليلة في قاعة المدرسة الثانوية، فأجابوا بالنفي على مضض.

«لم نسمع مطلقًا بأنهم يقيمون حفلات هنا.»

أخبرتهم بأن زوجها يعزف في الأوركسترا، وأنه في رحلة قادمة من فانكوفر، وأنها قد سافرت لمقابلته، وكان من المفترض أن تقابله هنا.

هنا؟

فقال أحد المسنين بأسلوب خبيث ذي مغزى: «ربما يكون قد ضلَّ طريقه. ربما يكون قد ضل طريقه، أليس كذلك؟ دائمًا ما يضل الأزواج الطريق.»

كان الظلام قد عَمَّ بالخارج؛ فقد كان ذلك في شهر أكتوبر، وكان المكان أبعد شمالًا من فانكوفر. حاولت أن تفكر ماذا تفعل. كان الشيء الوحيد الذي خطر لها هو أن تتظاهر بأنها قد فقدت الوعي ثم تدَّعي فقدان الذاكرة. ولكن هل كان ذلك لينطلي على باتريك من الأساس؟ سوف تُضطر لأن تقول إنها لا تتذكر ماذا كانت تفعل في باول ريفر، وسوف تُضطر لأن تقول إنها لا تتذكر أيًّا مما قالته في السيارة الليموزين، ولا تعرف شيئًا عن الأوركسترا، وسوف تضطر لإقناع رجال الشرطة والأطباء، وسوف يُكتب عن الحادثة في الصحف. رباه، أين كليفورد؟ لماذا هجرها؟ هل وقع حادث على الطريق؟ فكرت أن عليها تمزيق قصاصة الورق التي احتفظت بها في حقيبتها والتي دوَّنت عليها تعليماته. وفكرت أنه من الأفضل أن تتخلص من مانع الحمل أيضًا.

كانت تتفقد حقيبتها عندما توقَّفت شاحنة بالخارج. فكرت أنها لا بد وأن تكون سيارة الشرطة؛ فقد خطر لها أن المسنين قد اتصلوا بالشرطة وأبلغوا عنها كشخص مشتبه فيه.

ترجَّل كليفورد من الشاحنة وتقدم مسرعًا نحو درجات المبنى الزجاجي. واستغرقت لحظات لتتعرف عليه.

•••

تناولا الجعة والبرجر في فندق غير ذلك الذي أقام فيه أعضاء الأوركسترا. كانت يدا روز ترتعشان ما جعل الجعة تنسكب على الطاولة. قال كليفورد إنه كانت هناك بروفة لم يحسب حسابها، ثم ظل لمدة نصف ساعة يبحث عن محطة الحافلة.

«أعتقد أن فكرة محطة الحافلة لم تكن بالفكرة الذكية.»

كانت يده ممتدة على الطاولة، فجعل يمسح الجعة بفوطة المائدة، ثم وضع يده على يديها، وراحت تفكر في ذلك كثيرًا فيما بعد.

«من الأفضل أن نحجز لكِ هنا.»

«ألن نقيم هنا معًا؟»

«من الأفضل أن تقيمي هنا بمفردك.»

قالت روز: «منذ أن وطأتُ بقدمي هنا وكل شيء يبدو في غاية الغرابة. لقد كان إحساسًا مشئومًا. كنت أشعر بأن الجميع يعرفون بأمرنا.» وشرعت تروي له بأسلوب تمنَّت لو كان ممتعًا عن سائق الليموزين، والركاب الآخرين، والمسنين في دار جامعي الحطب: «كم شعرتُ بالارتياح حين ظهرتَ، يا له من شعور عصيب بالارتياح! لقد كنت ارتعش من الخوف.» وراحت تخبره عن خطتها بتصنُّع فقدان الذاكرة وإدراكها أن من الأفضل أن تتخلص من مانع الحمل الخاص بها. فضحك، ولكنه لم يكن ضحكًا بدافع الابتهاج حسبما رأت؛ فقد بدا لها أنه قد زم شفتيه في اشمئزاز أو نفور عندما تحدثت عن مانع الحمل.

قالت في عجالة: «ولكن كل شيء جميل الآن.» كانت تلك هي أطول محادثة دارت بينهما وجهًا لوجه على الإطلاق.

فقال: «إنها فقط مشاعر الذنب التي بداخلك، وهي مشاعر طبيعية.»

راح يمسِّد على يدها، وحاولت هي أن تفرك بإصبعها على عِرق نبضه كما اعتادا أن يفعلا، ولكنه سحب يده.

•••

بعد نصف ساعة وجدت نفسها تقول: «أما زلتَ لا تمانع ذهابي إلى الحفل؟»

«أما زلتِ تريدين الذهاب؟»

«وهل من شيء آخر للقيام به؟»

وهزَّت كتفيها وهي تقول ذلك. كان جفناها متدليين، وشفتاها ممتلئتين ومضمومتين. كانت تمارس نوعًا من المحاكاة، ربما لباربرا ستانويك في ظروف مماثلة. بالطبع لم تكن تقصد التقليد، بل كانت تحاول إيجاد طريقة ما لتبدو في غاية السحر، بل في غاية الترفُّع والسحر بما يدفعه لتغيير رأيه.

«المشكلة هي أنني مضطر للعودة بالشاحنة؛ لأن عليَّ اصطحاب الزملاء الآخرين.»

«بإمكاني السير. أخبرني فقط بالمكان.»

«أخشى أن المكان مرتفع عن هنا.»

«لن يضيرني ذلك في شيء.»

«روز، ذلك أفضل كثيرًا. أفضل كثيرًا حقًّا.»

«إذا كنتَ ترى ذلك.» ولم تستطع هز كتفيها مرة أخرى. كانت لا تزال تعتقد أن هناك طريقة ما حتمًا لقلب الأمور والبدء من جديد. تبدأ من جديد لتصحِّح أي خطأ ارتكبتْهُ قولًا أو فعلًا، لتمحو حقيقة وقوع أي من ذلك. ولكنها قد وقعت بالفعل في خطأ السؤال عمَّا تكون قد فعلته أو قالته خطأ، وقال لها لا شيء. لا شيء. لقد قال إنها لا علاقة لها بالأمر. كان الابتعاد عن المنزل لمدة شهر هو ما جعله يرى كل شيء بصورة مختلفة: جوسلين، الطفلين، الضرر.

قال: «كان ذلك عبثًا فقط.»

كان قد قصَّر شعره مثلما لم ترَهُ من قبل مطلقًا، وتلاشت سمرة بشرته. كان يبدو حقًّا وكأنه قد انسلخ من جسده، ذلك الجسد الذي كان يتحرق شوقًا لجسدها، ليعود مرة أخرى ذلك الزوج الشاب الشاحب الوفي الذي يشعر بواجباته، برغم عصبيته، الذي رأته في أثناء زياراته لجوسلين في عنبر الولادة.

«أي عبث تقصد؟»

«ما نفعله. إنه ليس بالشيء الكبير المهم، بل مجرد عبث عادي.»

«لقد اتصلتَ بي من برينس جورج.» في تلك اللحظة اختفت باربرا ستانويك، وسمعت روز نفسها تشرع في الأنين.

«أعرف أنني فعلت.» كان يتحدث بنبرة زوج ضاق ذرعًا بالإلحاح والشكوى.

«هل كان هذا شعورك حينذاك؟»

«نعم ولا. لقد وضعنا كل الخطط. ألم يكن الأمر ليصبح أسوأ لو كنتُ قد أخبرتك عبر الهاتف؟»

«ماذا تعني بالعبث؟»

«تبًّا يا روز.»

«ماذا تقصد؟»

«تعرفين ماذا أقصد. لو أننا قد استمررنا في هذا، ما الفائدة التي ستعود على أيٍّ منَّا في ظنك يا روز؟ حقيقةً؟»

قالت روز: «كلينا. كانت الفائدة ستعود على كلينا.»

«كلا. بل كان سينتهي بجلبة كبيرة.»

«لمرة واحدة فقط.»

«كلا.»

«لقد قلت مرة واحدة فقط. قلت إننا سنجعلها ذكرى بدلًا من أن تبقى مجرد حلم في خيالنا.»

«رباه. يبدو أنني قد تفوهت بالكثير من الهراء.»

كان يقول إن لسانها أشبه بحيَّة حارة الدماء، ولكنها حية جميلة، وإن حلمتيها أشبه بثمار التوت. ولم يكن ليعبأ بتذكيره بما قال.

افتتاحية لروسلان ولودميلا: جلينكا.

مقطوعة سيرينادا للوتريات: تشايكوفسكي.

السيمفونية السادسة لبيتهوفن، السيمفونية الرعوية: الحركة الأولى.

المولدو: سميتانا.

افتتاحية ويليام تِل: روسيني.

لم تستطع سماع أيٍّ من هذه المقطوعات الموسيقية لمدة طويلة دون أن تجتاحها نوبة من الخزي، وكان ذلك بمثابة جدار كامل ينهار فوقها وتختنق بركامه.

•••

قبيل مغادرة كليفورد لرحلته، كانت جوسلين قد اتصلت بروز وأخبرتها أن جليسة الأطفال لم تستطع المجيء. كان ذلك هو اليوم الذي كانت تذهب فيه لطبيبها النفساني. فعرضت روز أن تأتي وتعتني بآدم وجيروم، وكانت قد فعلت ذلك من قبلُ، فقطعت الرحلة إلى هناك مستقلة ثلاث حافلات وبصحبتها آنا.

كانت التدفئة في منزل جوسلين تتم عن طريق موقد يعمل بالزيت في المطبخ، ومدفأة حجرية ضخمة في غرفة المعيشة الصغيرة. كان موقد الزيت مغطًّى ببقع الزيت، فيما كانت قشور البرتقال وثفل القهوة والحطب المحروق والرماد متساقطة من المدفأة. لم يكن هناك قبو ولا مجفف ملابس. كان الجو ممطرًا وكانت أرفف السقف والأرفف المتحركة مكسوَّةً بالملاءات المبتلة الضاربة إلى الرمادي والحفاضات والمناشف الخشنة. لم يكن هناك غسالة ملابس أيضًا، وكانت جوسلين قد غسلت تلك الملاءات في حوض الاستحمام.

قال باتريك الذي كانت روز تخبره أحيانًا بأشياء تعرف أنه سيُحب سماعها فيما يبدو عدم وفاء منها: «لا تملك غسالة ولا مجففًا، ولكنها تذهب إلى طبيب نفساني.»

قالت روز: «لا بد وأنها مصابة بالجنون.» ما أثار ضحكاته.

ولكن باتريك لم يكن يحب أن تذهب لرعاية طفلَي جوسلين.

«لا شك أنك طوع بنانها. غريب أنك لا تذهبين لتنظيف أرضيات منزلها.»

والواقع أن روز قد فعلت ذلك بالفعل.

في وجود جوسلين، كان للفوضى التي تعم المنزل طابع خاص مؤثر، ولكن عندما انصرفت أصبحت لا تطاق. بدأت روز العمل وبحوزتها سكين تكشط به طبقات طعام الأطفال المتراكمة على كراسي المطبخ، وتلمِّع قدر القهوة، وتمسح الأرضية. وكانت تخصص بعض الوقت للبحث والتقصي؛ فكانت تدخل إلى غرفة النوم — إذ كان عليها مراقبة جيروم الذي كان طفلًا أكبر من سنه ومثيرًا للإزعاج — وتلقي نظرة على جوارب كليفورد وملابسه الداخلية التي كانت تختلط جميعًا بحمالات الرضاعة القديمة الخاصة بجوسلين وأربطة جواربها المهترئة. كانت تنظر لترى ما إذا كان قد وضع أسطوانة على القرص الدوار، متسائلة إن كان هذا شيئًا من شأنه أن يدفعه للتفكير فيها.

ووجدت أسطوانة لتيليمان. من غير المحتمل أنها تذكره بها، ولكنها أدارتها لتسمع ما كان يسمعه. احتست القهوة ممَّا اعتقدت أنه فنجانه المتسخ الذي احتسى فيه قهوة الصباح. وقامت بتغطية إناء الأرز الإسباني الذي تناول منه عشاءه ليلة أمس. راحت تقتفي كل أثر لوجوده (لم يكن يستخدم ماكينة حلاقة كهربائية، بل كان يستخدم صابون حلاقة تقليدي يوضع في إناء خشبي)، ولكنها كانت تعتقد أن حياته في هذا المنزل، منزل جوسلين، كانت محض تظاهر وانتظار، مثلما كانت حياتها في منزل باتريك.

حين عادت جوسلين إلى المنزل شعرت روز بأن عليها الاعتذار عن أعمال النظافة التي قامت بها، واتفقت معها جوسلين — التي كانت في حاجة ماسة لأن تخبرها عن مشاجرتها مع طبيبها النفساني الذي ذكَّرها بوالدتها — في الرأي في أن ذلك الهوس الذي يجتاح روز بشأن النظافة المنزلية لهو بالتأكيد ضرب من الهوس الوضيع، ويا حبَّذا لو ذهبت هي نفسها إلى طبيب نفساني إذا أرادت أن تتخلص منه. كانت تمزح، ولكن بينما كانت تستقل الحافلة عائدة إلى المنزل، وقد انتابت آنا نوبة غضب ولم تُعِد أيَّ شيء للعشاء من أجل باتريك، راحت روز تتساءل عن السبب وراء أنها تبدو دائمًا على الجانب الخطأ من الأمور؛ فتجد نفسها محل استهجان من الجيران لأنها لا تُولي اهتمامًا كافيًا بالأعمال المنزلية، فيما تؤنبها جوسلين لعدم احتمالها بما يكفي للفوضى الطبيعية ورفضها للحياة. لقد كانت تفكر في الحب، ليس الحب المخلص تجاه الزوج، وإنما الحب الجنوني الداعر، مثلما لم تكن جوسلين وجيرانها. وقد استغلت ذلك لتصالح نفسها على كل شيء: تتصالح على سبيل المثال مع تقلُّب باتريك في الفراش مُصدِرًا صوتًا لغطيط يشبه نقيق الدجاج قليلًا ممَّا كان يعني أنها قد تحللت من كل مثالبها ونقائصها في اللحظة الراهنة؛ إذ كان يفترض بهما أن يمارسا الحب معًا.

•••

لم تؤتِ كلمات كليفورد التي نمت من التعقل والأخلاقيات أيَّ تأثير مع روز على الإطلاق، فكانت ترى أنه قد خدعها. فلم يكن التعقُّل والأخلاق القويمة هما مطلبها منه. راحت تشاهده في قاعة مدرسة باول ريفر الثانوية. شاهدته وهو يعزف على الكمان وقد كسا وجهه تعبير بائس ولكنه منتبه، كانت يومًا ترى أنه موجَّه لها. لم تكن تعرف كيف لها أن تعيش بدونه.

وفي منتصف الليل اتصلت به من الفندق الذي تقيم به.

«أرجوك، تحدث إليَّ.»

قال كليفورد بعد لحظة من الصمت: «لا بأس، لا بأس يا جوس.»

لا بد وأنه كان لديه رفيق في الغرفة ربما يكون رنين الهاتف قد أيقظه؛ فقد كان يتظاهر بأنه يتحدث إلى جوسلين. أو ربما كان في غاية النعاس إلى حد الاعتقاد بأن جوسلين هي من كانت تحادثه.

«كليفورد، إنه أنا.»

قال كليفور: «لا بأس. هوِّني عليك. فلتذهبي للنوم.»

وأغلق الخط.

•••

يعيش جوسلين وكليفورد الآن في تورونتو، إذ غادرهما الفقر؛ فقد صار كليفورد عازفًا ناجحًا وصار اسمه يظهر على أغلفة الأسطوانات ويُسمع عبر موجات الراديو. وظهر وجهه، والأكثر يداه، على شاشة التليفزيون وهو يعزف على كمانه. أما جوسلين، فاتبعت حمية غذائية وصار لها جسد ممشوق، وقامت بقَصِّ شعرها وصار له شكل أنيق؛ فهو مفروق من المنتصف ومرفوع عن وجهها، مع خصلة بيضاء نقية تخرج من كل صدغ.

إنهما يعيشان في منزل كبير من الطوب على حافة أحد الأودية. يوجد في الفناء الخلفي مآكل للطيور، وقاما بتركيب جهاز ساونا، حيث يجلس كليفورد لفترة طويلة من الوقت اعتقادًا منه أنه سوف يَقِيهِ شر الإصابة بالتهاب المفاصل مثل والده؛ فالتهاب المفاصل هو أكثر ما يخيفه في حياته.

اعتادت روز أن تراهما في بعض الأحيان، فكانت تعيش في الريف، بمفردها، حيث كانت تعمل بالتدريس في إحدى الكليات الأهلية، وودت أن يكون لديها مكان للمبيت فيه حتى الصباح حين تأتي إلى تورونتو. وكان يبدو أنهما يسعدان باستضافتها؛ فقد كانا يقولان إنها أقدم صديقة لهما.

في إحدى المرات حين كانت روز في زيارة لهما، روت لها جوسلين قصة عن آدم. كان لآدم شقة في قبو المنزل، فيما كان جيروم يعيش في وسط المدينة مع صديقته. أما آدم، فكان يُحضر فتياته هنا.

قالت جوسلين: «كنت أقرأ في المعتكَف بينما كان كليفورد بالخارج، وإذ بي أسمع صوت هذه الفتاة من شقة آدم وهي تقول لا! لا. إن الجلبة التي تصدر من شقته تصل مباشرة إلى المعتكَف، وقد نبهناه إلى ذلك، واعتقدنا أنه سيشعر بالحرج …»

قال كليفورد: «لم أكن أعتقد أنه سيُحرج.»

«ولكنه اكتفى بقول إن علينا فقط أن ندير مشغِّل الأسطوانات. ومن ثَمَ ظللت أسمع تلك الفتاة المجهولة المسكينة وهي تصرخ وتحتج، ولم أعرف ماذا أفعل. أعتقد أن هذه المواقف جديدة حقًّا، فلا يوجد لها سوابق، أيفترض بكِ أن تمنعي ابنك من اغتصاب إحدى الفتيات إذا كان هذا هو ما يفعله تحت عينيك أو على الأقل تحت قدميك؟ وأخيرًا نزلتُ إلى الطابق السفلي وجعلت أُخرج جميع عصي التزحلق من الخزانة الواقعة في ظهر غرفة نومه، وبقيت هناك أضرب بتلك العصي، معتقدة أنني سأقول إنني سأقوم بتلميعها. ولكننا كنا في شهر يوليو. ولم يقل لي آدم أي شيء. أتمنى لو غادر المنزل.»

حكت روز عما كان لدى باتريك من مال، وكيف أنه قد تزوج امرأة عاقلة تفوقه ثراء، قامت بتجهيز غرفة معيشة مبهرة بالمرايا والمخمل الباهت ومنحوتة من السلك تشبه قفص طيور لعينًا؛ فلم يعد باتريك يعارض الفن الحديث.

قالت روز لجوسلين: «بالطبع لم يعُد نفس المنزل. أتساءل ماذا فعَلت بالمزهريتين الويدجوود؟»

«ربما يكون لديها غرفة غسيل سخيفة. حيث تضع مبيض الملابس في إحدى المزهريتين، ومسحوق الغسيل في الأخرى.»

«إنهما موضوعتان في تناسق رائع على الرف.»

ولكن وخزات الشعور بالذنب القديمة عادت تنتاب روز.

«ما زال حبي لباتريك كما هو.»

قالت جوسلين: «لماذا؟»

«إنه أكثر لطفًا من معظم الناس.»

قالت جوسلين: «هذا سخف. أراهن أنه لا يحبك.»

قالت روز: «هذا صحيح.» وشرعت تخبرهم عن رحلتها على متن الحافلة. كانت تلك واحدة من المرات التي لم تكن تقود سيارتها فيها؛ نظرًا لوجود الكثير من الأعطال بها، ولم يكن باستطاعتها تحمُّل تكاليف إصلاحها.

«راح الرجل الجالس في المقعد المقابل يخبرني كيف أنه اعتاد قيادة الشاحنات الكبيرة، وقال إننا لم نَرَ قَطُّ شاحنات في هذا البلد مثل تلك الموجودة في الولايات المتحدة.» وبدأت تتحدث بلكنتها الريفية: «في «الويلايات» المتحدة لديهم تلك الطرق الخاصة التي نسميها طرقًا رئيسية ذات بوابات لسداد قيمة المرور، ولا يُسمح سوى للشاحنات بالسير عليها. والخدمات متوافرة على هذه الطرق من طرف البلاد إلى الطرف الآخر، وهذا هو ما يجعل معظم الناس لا يرونها قط. وهي ضخمة للغاية حتى إن حجم الكابينة يعادل نصف حجم حافلة، ويكون لها سائق وسائق مساعد وسائق آخر وسائق مساعد آخر يخلدان للنوم. كما يتوافر بها مرحاض ومطبخ وأسرَّة وكل شيء. وهي تسير بسرعة ثمانين أو تسعين ميلًا في الساعة؛ نظرًا لعدم وجود حَدٍّ للسرعة على الطرق الرئيسية المخصصة لها.»

فقال كليفورد: «إنكِ شخص في غاية الغرابة لكونك ما زلت تعيشين هناك.»

قالت جوسلين: «دعكَ من الشاحنات، ودعك من الميثولوجيا القديمة، كليفورد يريد أن يتركني مرة أخرى.»

جلسوا يحتسون الشراب ويتحدثون عمَّا يجب أن يفعله جوسلين وكليفورد. ولم يكن ذلك بالحوار غير المألوف. ما الذي يريده كليفورد حقًّا؟ هل يرغب حقًّا في الانفصال عن جوسلين أم أنه يريد شيئًا بعيد المنال؟ هل يمر بأزمة منتصف العمر؟

قال كليفورد لروز: «لا تكوني سخيفة هكذا.» وكانت هي من قال أزمة منتصف العمر، وأردف قائلًا: «إنني أمر بها منذ أن كنتُ في الخامسة والعشرين؛ فقد كنت أرغب في الخروج منذ أن دخلت.»

قالت جوسلين: «جديد على كليفورد أن يقول هذا.» واتجهت إلى المطبخ لإحضار بعض الجبن والعنب، ثم صاحت من المطبخ قائلة: «جديد عليه أن يفشي ما بداخله ويقول ذلك.» وفي تلك الأثناء تحاشت روز النظر إلى كليفورد؛ ليس لأن بينهما أي أسرار، ولكن لأنه بدَا من التأدب واللياقة تجاه جوسلين ألا ينظر أحدهما إلى الآخر وهي خارج الغرفة.

قالت جوسلين وقد عادت حاملة صحنًا به الجبن والعنب في يد وزجاجة من شراب الجين في اليد الأخرى: «ما يحدث الآن هو أن كليفورد أصبح صريحًا للغاية. لقد اعتاد أن يتذمر ويثور وتخرج منه هراءات أخرى لا علاقة لها بالمشكلة الحقيقية. أما الآن، فها هو يصرح بالحقيقة الكبرى الملتهبة دون أي رتوش. إنها حقًّا مكاشفة شاملة.»

واجهت روز بعض الصعوبة في فهم لهجتها. شعرت وكأن الحياة في الريف قد جعلتها أكثر بطئًا في الفهم. هل كان حديث جوسلين من قبيل السخرية؟ هل كانت تتهكم؟ لا لم تكن كذلك.

قال كليفورد بابتسامة عريضة: «دعيني أخبرك بالحقيقة.» كان يشرب الجعة من الزجاجة؛ فقد كان يعتقد أن الجعة أفضل له من شراب الجين: «حقيقي تمامًا أنني أردت الخروج منذ أن دخلت، وصحيح أيضًا أنني أردت الدخول وأردت البقاء. أردت الزواج منك وأردتك زوجة لي، ولكني لم أعُد أطيق هذا الزواج ولا أن أكون زوجًا لك. إنه تناقض ثابت.»

قالت روز: «يبدو أنك تعيش في جحيم.»

«لم أقل ذلك. أنا فقط أوضِّح أنها ليست أزمة منتصف العمر.»

قالت روز: «حسنًا ربما كان ذلك مبالغة في التبسيط.» ولكن على الرغم من ذلك، مضت تتحدث بلهجة صارمة وبالأسلوب العقلاني الريفي العملي الذي كانت تتبناه في تلك اللحظة، وكان كل ما سمعاه يخص كليفورد. ما الذي يريده كليفورد حقًّا؟ ما الذي كان يحتاج إليه؟ هل كان بحاجة إلى استوديو؟ هل كان بحاجة إلى إجازة؟ هل كان بحاجة للسفر إلى أوروبا بمفرده؟ ما الذي جعله يعتقد — والكلام على لسانها — أنه كان من الممكن أن تظل جوسلين منشغلة بسعادته إلى ما لا نهاية؟ إن جوسلين ليست والدته لتفعل ذلك.

قالت موجِّهة حديثها إلى جوسلين: «وهذا خطؤك؛ لأنك لم تخبريه بأن عليه أن يتحرك في اتجاه تحقيق ما يريد أو يصمت. لا تبالي بما يريده حقًّا. فليرحل أو يصمت. هذا كل ما ينبغي أن تخبريه به.» ثم قالت موجِّهة الحديث إلى كليفورد بفظاظة مستعارة: «فلتصمت أو ترحل. أستميحك عذرًا لصراحتي المفرطة، أو بالأحرى عدوانيتي الصريحة.»

لم يكن في إقدامها على إظهار العدوانية في نبرتها أية مخاطرة على الإطلاق، وكانت تعرف ذلك؛ فقد كانت ستخاطر لو بدت رقيقة وغير مبالية؛ فالأسلوب الذي كانت تتحدث به في تلك اللحظة كان دليلًا على أنها صديقة حقيقية لهما وأنها تأخذهما على محمل الجد. وقد كانت كذلك بدرجة ما.

قالت جوسلين على سبيل التجربة: «إنها محقة أيها الحقير الداعر. فلترحل أو تصمت.»

حين اتصلت جوسلين بروز، قبل سنوات، لتقرأ عليها قصيدة «عواء»، لم تستطع التلفُّظ بكلمة «داعر»، على الرغم من جرأتها المعهودة في الحديث. حاولت أن ترغم نفسها على قولها، ثم قالت: «آه، هذه حماقة، ولكن لا أستطيع قولها. سوف أضطر لقول «وغد» بدلًا منها. سوف تعرفين ما أعنيه حين أقول وغد، أليس كذلك؟»

قال كليفورد: «ولكنها قالت إنه خطؤك. تريدين أن تلعبي دور الأم. تريدين أن تكوني الرشيدة الناضجة. تريدين أنت تكوني الصابرة على المعاناة.»

قالت جوسلين: «اهدأ. ربما. ربما، نعم. ربما أكون كذلك بالفعل.»

قال كليفورد بابتسامته العريضة الناعمة: «أراهن أنكِ عندما كنتِ في المدرسة كنت تتعلقين بأولئك الأطفال ممَّن لديهم مشكلات؛ أولئك الأطفال المساكين، أو الذين يعانون من حَبِّ الشباب، أو يرتدون ثيابًا رثة بشعة، أو يعانون من إعاقات كلامية. أراهن أنكِ كنتِ تضطهدين أولئك الأطفال المساكين بإظهارك المودة والملاطفة نحوهم.»

التقطت جوسلين سكين الجبن ولوَّحت به في وجهه.

«فلتأخذ أنت حذرك. فأنت لم تُصَبْ بحَب الشباب أو إعاقة كلامية، بل تحظى بالوسامة إلى حدٍّ مثير للغثيان. وموهوب. ومحظوظ.»

قال كليفورد بتغنُّج مبالغ: «إن لدي مشكلات شبه مستعصية في التوافق مع دور الرجل الناضج. الطبيب النفساني يقول ذلك.»

«لا أصدقك؛ فالأطباء النفسانيون لا يقولون أي شيء من قبيل كلمة شبه مستعصٍ تلك، ولا يستخدمون هذه الاصطلاحات، ولا يصدرون تلك الأحكام. لا أصدقك يا كليفورد.»

«حسنًا، أنا حقًّا لا أتردد على أي طبيب نفساني، بل أذهب إلى دور السينما القذرة في شارع يونج.»

وانطلق كليفورد للجلوس في الساونا.

شاهدته روز وهو يغادر الغرفة. كان يرتدي بنطالًا من الجينز وتي شيرت كُتب عليه عبارة «أنا أمرُّ من هنا وحسب». كان خصره وفخذاه نحيلين كطفل في الثانية عشرة، وكان شعره الرمادي قصيرًا للغاية بشكل يُظهِر جمجمته. هل كانت هذه التسريحة السائدة بين الموسيقيين هذه الأيام في الوقت الذي كان الشعر الكثيف واللحية سمة الساسة والمحاسِبين، أم كان هذا انحرافًا تفرَّد به كليفورد؟ كانت سمرته تبدو مصطنَعة وكأنها من كريم الأساس التجميلي، على الرغم من أنها كانت طبيعية تمامًا. كان هناك لمحة من التصنُّع والتكلُّف فيه ككل، بما بدا عليه من تألُّق زائف، ونحول، وميل للتهكُّم والاستهزاء. كان هناك لمحة من الخلاعة في نحوله وابتسامته العذبة المصطنعة.

قالت لجوسلين: «أهو بخير؟ إنه يبدو نحيلًا بشكل بشع.»

«يريد أن يبدو بهذا الشكل. إنه لا يأكل سوى الزبادي والخبز الأسمر.»

قالت روز: «لا يمكن أبدًا أن تنفصلا؛ لأن منزلكما غاية في الجمال.» واضطجعت على السجادة المعقوفة. كان لغرفة المعيشة جدران بيضاء، وستائر بيضاء سميكة، وأثاث قديم من خشب الصنوبر، ولوحات كبيرة بألوان مشرقة، وسجاد معقوف. وعلى منضدة قصيرة مستديرة عند مستوى مرفقها وُضع إناء من الأحجار المصقولة لكي يلتقطها الضيوف لتمريرها عبر أصابعهم. كانت هذه الأحجار من شواطئ فانكوفر، ومن ساندي كوف والخليج الإنجليزي وكيتسيلانو وأمبلسايد ودونداريف؛ حيث كان جيروم وآدم قد جمعاها منذ زمن طويل.

•••

غادرت جوسلين وكليفورد كولومبيا البريطانية بعد فترة قصير من عودة كليفورد من جولته الإقليمية، فتوجها إلى مونتريال، ثم إلى هاليفاكس، ومنها إلى تورونتو. كان يبدو أنهما بالكاد يتذكران فانكوفر. ذات مرة حاولا تذكُّر اسم الشارع الذي كانا يسكُنَان فيه، وكانت روز هي من اضْطُرَّتْ لتذكيرهما به. حين كانت روز تعيش في كابيلانو هايتس اعتادت أن تأخذ الكثير من الوقت لتتذكر أسماء الأماكن في أونتاريو حيث عاشت؛ وفاءً منها لذلك المكان القديم الذي ضم المناظر الطبيعية الجميلة. الآن وقد أصبحت تعيش في أونتاريو صارت تبذل نفس الجهد في تذكر أشياء عن فانكوفر، مُمْعِنَةً التفكير لاستيضاح تفاصيل كانت في حَدِّ ذاتها تفاصيل عادية للغاية. فحاولت، على سبيل المثال، أن تتذكر أين كان الراكب ينتظر حافلة باسيفيك ستيدج، حين يكون متوجهًا من شمال فانكوفر إلى غربها، فتخيلت نفسها تصعد على متن تلك الحافلة الخضراء القديمة في حوالي الساعة الواحدة — لنقل، في أحد أيام فصل الربيع — في طريقها إلى منزل جوسلين لرعاية طفليها، وبصحبتها آنا في معطف المطر الأصفر وقبعة المطر. تخيَّلت المطر البارد، والمساحة الممتدة المليئة بالمستنقعات في الطريق نحو غرب فانكوفر حيث تقف الآن المراكز التجارية والبنايات الشاهقة. استطاعت أن ترى بعينَي رأسها الشوارع، والمنازل، وطريق سيفواي القديم، فندق سانت ماوس، أشجار الغابة الكثيفة الملتفة، المكان الذي يترجل منه الركاب من الحافلة عند المتجر الصغير، اللافتة الإعلانية لسجائر بلاك كات، نداوة شجر الأرز بينما كانت تسير عبر الغابة صوب منزل جوسلين، السكون الذي يسود مع بداية فترة ما بعد الظهيرة، وقت القيلولة، النساء الشابات وهن يحتسين القهوة بينما يطللن من النوافذ المطيرة، الأزواج المتقاعدين وهم يقومون بتمشية كلابهم، آثار الأقدام على تراب الأرض السميك، الزعفران، وبراعم زهور النرجس البري، والبصيلات الباردة وهي تتفتح وتزدهر، ذلك الاختلاف الشديد للهواء بالقرب من البحر، النباتات التي تتساقط منها قطرات الندى، السكون، آنا وهي تجذب يدها، منزل جوسلين الصيفي الخشبي بلونه البني يلوح في الأفق، عبء الخوف والغموض الثقيل وهو يتضاءل بينما كانت تقترب من ذلك المنزل.

ثمة أشياء أخرى لم تكن حريصة على تذكرها بنفس الدرجة.

كانت تبكي وهي على متن الطائرة متوارية خلف نظارتها الشمسية طوال الرحلة عائدة من باول ريفر. كانت تبكي أثناء جلوسها في غرفة الانتظار بمطار فانكوفر، ولم تستطع كبح دموعها والعودة إلى باتريك. كان جالسًا بجوارها شرطي بملابس ملكية فتح سترته ليُظهر لها شارته الشرطية، وسألها إذا ما كان بإمكانه القيام بأي شيء من أجلها. لا بد أن أحدًا قد استدعاه. هالها أن تكون لافتة للأنظار إلى هذا الحد، فما كان منها إلا أن فرَّت إلى مرحاض السيدات. لم تفكر في أن تعزي نفسها بكأس من الشراب، ولم تفكر في البحث عن الحانة، فلم تكن آنذاك معتادة على الذهاب إلى الحانات. ولم تأخذ قرصًا مهدئًا؛ فلم يكن معها أية مهدئات، ولا تعرف أي شيء عنها. ربما لم تكن مثل هذه الأشياء متوافرة.

المعاناة. ماذا كانت تعني المعاناة؟ الضياع التام، الذي لا يعكس أية حظوة أو مفخرة. حزن مشين إلى أقصى الحدود. الكرامة المهشَّمة والخيال المحطم على صخرة السخرية. كان الأمر وكأنها قد أخذت معولًا وحطمت به إصبع قدمها الكبيرة عن عمد. هكذا كان اعتقادها في بعض الأحيان. وفي أحيان أخرى ترى أن ما حدث كان ضروريًّا؛ فقد كان بداية الدمار والتغيرات، بداية الطريق الذي أدى بها إلى حيث هي الآن، بدلًا من منزل باتريك. جعجعة بلا طحن، هكذا عادة الحياة.

لم يستطع باتريك أن يتحدث عندما أخبرته، ولم يكن لديه محاضرة وعظية جاهزة ليلقيها عليها. ظل صامتًا لفترة طويلة، ولكنه كان يتعقبها في أرجاء المنزل فيما ظلت هي تُبَرِّر موقفها وتشكو. كان الأمر وكأنه يريدها أن تستمر في الحديث، على الرغم من أنه لم يستطع تصديق ما كانت تقوله؛ لأن الأمر كان سيزداد سوءًا لو أنها توقفت عن الكلام.

لم تخبره الحقيقة كاملة؛ فقد قالت إنها قد «أقامت علاقة» مع كليفورد، ومن خلال هذه المكاشفة منحت نفسها نوعًا من الارتياح الباهت بطريقة غير مباشرة، اخترقته نظرة باتريك وصمته في تلك اللحظة، وإن كان لم يدمَّر تمامًا. بدا مثل هذه الحزن الذي خيَّم على وجهه بكل صراحة وكأنه في غير وقته وغير ملائم وظلم من جانبه.

بعدها دَقَّ جرس الهاتف، واعتقدت أنه سيكون كليفورد وقد تغيرت مشاعره، لكنه لم يكن كليفورد، بل كان رجلًا كانت قد قابلته في حفل جوسلين. قال إنه يقوم بإخراج مسرحية إذاعية، وكان بحاجة إلى فتاة ريفية، وكان قد تذكر لكنتها الريفية.

ليس كليفورد.

لم تكن لتفضل التفكير في أي من هذا؛ فهي تفضل أن ترى بعض المشاهد الصغيرة للحياة اليومية المفقودة من خلال مشاهد أشجار الأرز تتساقط منها حبات الندى، وشجيرات التوت البري الأحمر، والاخضرار القاتم المتزايد للغابات الممطرة التي تطل عليها عبر النافذة ذات الإطارات المعدنية، معطف آنا الأصفر المقاوم للمطر، الدخان المتصاعد من مدفأة جوسلين ذات الرائحة الكريهة.

•••

قالت جوسلين لروز: «أترغبين في رؤية الأشياء السخيفة التي كنت أشتريها؟» واصطحبتها إلى الطابق العلوي، فأرتها تنورة مطرَّزة وبلوزة من الستان الأحمر القاني، وبيجامة من الحرير الأصفر، وفستانًا طويلًا من نسيج محبوك خشن لا شكل له من أيرلندا.

«إنني أنفق أموالًا طائلة. أقصد ما كنت أعتقد يومًا ما أنها أموال طائلة. لقد استغرق مني الأمر وقتًا طويلًا. بل استغرق من كلينا وقتًا طويلًا لكي نستطيع إنفاق المال، فلم نكن نستطيع أن نحمل أنفسنا على ذلك. لقد كنا نحتقر من يمتلكون تليفزيونًا ملونًا. أتعرفين شيئًا، إن التليفزيون الملوَّن رائع! نحن الآن نجلس حوله ونقول: ما الذي نرغب في اقتنائه؟ ربما واحد من أفران التوستر الصغيرة للمنزل الصيفي. ربما أرغب في اقتناء مجفِّف للشعر. كل تلك الأشياء التي عرفها الجميع منذ سنوات، ولكن كنا نعتقد أننا أصلح من أن نقتنيها. لقد صرنا يقول أحدنا للآخر: أتدري ماذا نحن؟ نحن شخصيات استهلاكية! ولا بأس في ذلك!

وليس فقط اللوحات والأسطوانات والكتب، فلطالما كنا نعرف أنها أشياء لا بأس منها. التليفزيون الملوَّن! مجففات الشعر! محمصات الوافل!»

فصاحت روز مبتهجة: «أقفاص طيور بجهاز تحكم عن بعد!»

«تلك هي الفكرة.»

«المناشف الساخنة.»

«يا غبية، تقصدين حوامل المناشف الكهربائية! إنها رائعة.»

«سكاكين تقطيع اللحم الكهربائية، فرش أسنان كهربائية، أعواد أسنان كهربائية.»

«بعض هذه الأشياء ليست بالسوء الذي تبدو عليه. حقًّا ليست سيئة.»

•••

في إحدى المرات الأخرى التي جاءت فيها روز كان كليفورد وجوسلين يقيمان حفلًا، وعندما غادر الجميع جلس الثلاثة؛ جوسلين وكليفورد وروز، على أرضية غرفة المعيشة، وهم ثمالى نوعًا ما، وفي حالة من الاسترخاء الشديد. سار الحفل على ما يرام، وشعرت روز بشهوة سحيقة تدفعها الرغبة تتحرك بداخلها، ربما ذكرى شهوة من الماضي. وقالت جوسلين إنها لا ترغب في النوم.

قالت روز: «ماذا يمكن أن نفعل؟ لا يجب أن نشرب أكثر من ذلك.»

فقال كليفورد: «يمكننا أن نمارس الحب.»

فقالت جوسلين وروز في نفس اللحظة: «حقًّا؟» ثم شبكتا أصابعهما الصغيرة معًا وقالتا: «الدخان ينطلق عبر المدخنة.»

بعدها جردهما كليفورد من ملابسهما. لم ترتعدا من البرد؛ إذ كانت نيران المدفأة تلف الغرفة بالدفء. وظل كليفورد ينقل اهتمامه من واحدة إلى الأخرى بشكل رقيق، وتجرَّد من ملابسه هو الآخر. كانت مشاعر روز تتأرجح ما بين الاستغراب وعدم التصديق، فلم تكن ترغب في ذلك، رغم شعورها بالإثارة، حتى انتهى بها الأمر إلى أن شعرت بالذهول والحزن. وعلى الرغم من أن كليفورد كان يداعب كلتيهما في البداية، سرعان ما وقع اختياره عليها في النهاية ليمارس معها الحب سريعًا على السجادة المعقوفة غير المتساوية. وبدت جوسلين وكأنها ترفرف فوقهما مصدرة أصواتًا تطمئنهم معبرة لهم عن رضاها ومباركتها.

في صباح اليوم التالي اضطرت روز للمغادرة قبل أن تستيقظ جوسلين وكليفورد، واضطرت للذهاب إلى وسط المدينة بواسطة المترو، واكتشفت أنها كانت تنظر للرجال بتلك النظرة الشهوانية، تلك الرغبة الباردة والمؤلمة التي تحررت منها لفترة. وبدأت في الشعور بغضب شديد؛ كانت غاضبة من كليفورد وجوسلين؛ فقد شعرت أنهما قد جعلا منها أضحوكة، وخدعاها، وفتحا عينيها على نقص صارخ لديها لم تكن لِتَعِيَهُ لولا ما حدث، وقررت ألا تراهما مرة أخرى مطلقًا، وأن تكتب لهما خطابًا تعقِّب فيه على أنانيتهما، وبلادتهما، وانحطاطهما الأخلاقي. وما لبث نَصُّ الخطاب أن اكتمل بالشكل الذي يرضيها، في ذهنها، حتى كانت قد عادت إلى القرية مرة أخرى وهدأت، وقررت ألا تكتبه. وفي وقت لاحق قررت أن تستمر في صداقتها مع كليفورد وجوسلين؛ لأنها كانت بحاجة لمثل هذين الصديقين من حين لآخر، في مثل هذه المرحلة من حياتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤