التهجية

في المتجر، في الأيام الخوالي، اعتادت فلو أن تقول إنها تستطيع أن تحدد عندما تكون إحدى النساء على وشك الانحراف. كانت العلامات الأولى على ذلك ارتداء قبعات للرأس أو أحذية مميزة، ثم تأتي الأحذية المطاطية المفتوحة في الصيف. كن يختلن بالأحذية المطاطية الطويلة، أو أحذية العمل الطويلة التي يرتديها الرجال. قد يقولون إن ذلك بسبب مسمار القدم، ولكن فلو كانت تعرف الحقيقة. لقد كان هذا متعمدًا، كان هناك مقصد من ورائها. بعد ذلك قد تأتي القبعة القديمة المصنوعة من اللباد، ومعطف المطر الممزق الذي يرتدينه في جميع الأجواء، والبنطال المرفوع حتى الخصر بواسطة خيط مجدول، والأوشحة الباهتة الممزقة، وطبقات من الكنزات المنسولة.

غالبًا ما تكون الأمهات والبنات على نفس الشاكلة. فدائمًا ما كانت تلك الخصال بهن، موجات من الجنون، دائمة التصاعد، لا يمكن مقاومتها كالضحكات العالية، وتنبع من موضع عميق بداخلهن تنال منهن تدريجيًّا.

اعتادت النساء المجيء وسرد قصصهن على فلو، وكانت فلو تجاريهن وتتصنع التصديق، فتجدها تقول: «حقًّا؟ أليس ذلك مخزيًا؟»

«لقد ضاعت مَبشرة الخضراوات خاصتي وأنا أعرف من أخذها.»

«هناك رجل يأتي وينظر إليَّ حين أخلع ملابسي ليلًا. أغلق الستارة فينظر عبر الشق.»

«لقد سُرقت كومتان من البطاطا الجديدة، وبرطمان من ثمار الدراق الكاملة، وبعض بيضات البط اللذيذة.»

اقتيدت إحدى هؤلاء النساء أخيرًا إلى إحدى دور المسنين. كان أول ما فعلوه بها، على حد قول فلو، أن أعطوها حمامًا، بعد ذلك قاموا بقص شعرها، الذي كان قد نما حتى صار أشبه بكومة من القش. كانوا يتوقعون أن يجدوا فيه أي شيء، طائرًا نافقًا أو ربما عشًّا من جماجم الفئران الصغيرة. وبالفعل وجدوا أغلفة ثمار خشنة، ونحلة لا بد أنها قد وقعت في الشرك وظلت تطن حتى الموت. وحين اقتطعوا منه جزءًا كافيًا وجدوا قبعة من القماش، كانت قد تعفنت على رأسها وظل الشعر ينمو حتى اخترقها مثلما تخترق الحشائش الأسلاك الشائكة.

•••

اعتادت فلو أن تُبقي المائدة منصوبة من أجل الوجبة التالية لتوفير العناء. كان المفرش البلاستيكي لزجًا، وكان حد الطبق وصحن الفنجان واضحين عليه كوضوح حدود الصور على جدار يغطيه الشحم. كانت الثلاجة مليئة بفضلات الطعام الصلب، والفتات الداكنة، وبقايا الطعام العفنة. مضت روز تنظف، وتتخلص من القمامة، وتنظف الصحون بالماء الساخن. كانت فلو تأتي بين الحين والآخر بخطى متثاقلة على عكازيها. قد تتجاهل وجود روز كلية، وقد تميل إبريق شراب القيقب نحو فمها وتشربه مثلما تشرب النبيذ. أصبحت الآن تحب الأشياء الحلوة إلى حد الاشتهاء؛ فكانت تزدرد حفنًا من السكر البني بالمعلقة، وشراب القيقب، والبودنج المعلب، والجيلي، وكتلًا من الأشياء ذات المذاق الحلو. وكانت قد أقلعت عن التدخين، ربما خوفًا من الحرائق.

قالت ذات مرة: «ماذا تفعلين هنا خلف النضد؟ اطلبي مني ما تريدين، وسوف أحضره لكِ.» ظنًّا منها أن المطبخ هو المتجر.

قالت روز بصوت عالٍ وبطيء: «أنا روز، نحن في المطبخ. أنا أنظف المطبخ.»

كان الترتيب القديم للمطبخ غامضًا، وذا طابع شخصي وغريب الأطوار؛ فكانت هناك مقلاة كبيرة في الفرن، ومقلاة متوسطة تحت وعاء البطاطا على الرف الجانبي، ومقلاة صغيرة معلقة على المسمار بجوار الحوض، وكان هناك مصفاة أسفل الحوض، إلى جانب مناشف للصحون، وقصاصات جرائد، ومقص، وعلب قصديرية لفطائر المافن معلقة على مسامير متعددة. وكانت هناك أكوام من الفواتير والخطابات على ماكينة الحياكة، وعلى رف الهاتف. ربما تعتقد أن أحدهم قد وضعها هناك منذ يوم أو يومين، ولكنها كانت هناك منذ سنوات. وجدت روز صدفة بعض الخطابات التي كانت قد كتبتها بنفسها بأسلوب متكلف ومتسرع. كانت الخطابات بمثابة رسل زائفين، صلات زائفة، تربطها بفترة ضائعة من حياتها.

قالت فلو: «لقد رحلتْ روز.» كانت قد اكتسبت الآن عادة مط شفتها السفلية إلى الأمام حين تكون تعيسة أو حائرة. «تزوجتْ روز.»

في صباح اليوم التالي استيقظت روز لتجد أن المطبخ قد انقلب رأسًا على عقب، وكأن أحدهم قد استخدم ملعقة لتقليبه؛ فوجدت المقلاة الكبيرة وقد استقرت خلف الثلاجة، ومغرفة البيض وسط المناشف، وسكين الخبز في صندوق تخزين الدقيق، ومقلاة التحميص محشورة بين المواسير أسفل الحوض. أعدت روز العصيدة لإفطار فلو، وسألتها فلو: «أنت السيدة التي أرسلوها لكي تعتني بي؟»

«أجل.»

«ألستِ من هذه البلدة؟»

«كلا.»

«ليس لدي مال لأدفع لكِ. هم من أرسلوك، فليدفعوا لك.»

نثرت فلو السكر البني على عصيدتها حتى أصبحت العصيدة مغطاة تمامًا، ثم راحت تسوي طبقة السكر برفق بملعقتها.

بعد الإفطار راحت فلو تمحص لوح التقطيع الذي كانت روز تستخدمه أثناء تقطيع الخبز لإعداد الخبز المحمص لنفسها. قالت فلو بلهجة استبدادية متغطرسة: «ما الذي يفعله هذا الشيء هنا ويعترض طريقنا هكذا؟» ثم التقطته وسارت — مثلما يمكن لأي شخص يسير على عكازين أن ينزل — لتخبئه في مكان ما، في مقعد البيانو أو أسفل السلالم الخلفية.

•••

منذ سنوات، كان لدى فلو شرفة جانبية مغطاة بالزجاج بُنيت كملحق للمنزل. من هناك كان يمكنها مشاهدة الطريق مثلما اعتادت مشاهدته من خلف نضد المتجر (كانت واجهة المتجر الآن مغطاة بألواح خشبية، وطُليت اللافتات الإعلانية القديمة). لم يعد الطريق هو الطريق الرئيسي الممتد من خارج هانراتي مارًّا عبر هانراتي الغربية ليصل إلى البحيرة؛ فقد كان هناك طريق سريع جانبي. وكان ممهدًا الآن، وبه بالوعات تصريف جديدة وواسعة وأعمدة إنارة جديدة تعمل ببخار الزئبق. اختفى الجسر القديم وحلَّ محله جسر جديد واسع وأقل لفتًا للنظر بكثير من سابقه. كان الاختلاف ما بين هانراتي إلى هانراتي الغربية لا يكاد يكون ملحوظًا. أعادت هانراتي الغربية تزيين نفسها بالطلاء وألواح من الألومنيوم لجدران المباني الخارجية، وكان منزل فلو هو المنظر القميء الوحيد المتبقي.

بمَ احتفظت فلو من أشياء لتنظر إليها في شرفتها الصغيرة، حيث ظلت تجلس لسنوات، وقد تصلبت شرايينها ومفاصلها؟

تقويم يحمل صورة جرو صغير وهريرة، وجهان يتجه أحدهما نحو الآخر بحيث تتلامس الأنفان، والمسافة التي بين الجسدين تتخذ شكل قلب.

صورة فوتوغرافية بالألوان للأميرة آن وهي طفلة.

مزهرية بلو ماونتِن فخارية، كانت قد حصلت عليها كهدية من براين وفيبي، وُضع بها ثلاث زهرات زرقاء بلاستيكية، وقد غطت الأتربة التي خلَّفتها عدة فصول موسمية كلًّا من المزهرية والأزهار.

ست صدفات من ساحل المحيط الهادي أرسلتها روز إلى المنزل ولكنها لم تجمعها بنفسها، كما كانت فلو تعتقد، أو كانت تعتقد يومًا ما، بل كانت قد اشترتها من واشنطن بشكل اندفاعي بعد أن وجدتها في حقيبة بلاستيكية بجوار مكتب الصراف في أحد المطاعم السياحية.

لفافة ورقية مقطوعة كُتب عليها «الرب راعيَّ» منثور عليها اللماع، وكانت هدية مجانية من موزع ألبان.

صور فوتوغرافية من جريدة لسبعة توابيت الواحد تلو الآخر، اثنان كبيران، وخمسة صغيرة. كانت لوالدين وأطفالهما، قتلوا جميعًا على يد الأب في منتصف الليل في منزل بمزرعة في الريف لأسباب لم يعلمها أحد. لم يكن من السهل العثور على ذلك المنزل، ولكن فلو شاهدته. كان الجيران قد اصطحبوها إلى هناك في نزهة بالسيارة في أحد أيام الآحاد، حينما كانت تستخدم عكازًا واحدًا فقط. واضطروا للسؤال عن الاتجاهات في إحدى محطات الوقود عبر الطريق السريع، ومرة أخرى في متجر يقع في مفترق طرق. وقد قيل لهم إنه سبق أن سأل كثيرون نفس هذه الأسئلة، وكانوا على نفس القدر من الإصرار، غير أن فلو قد اضطرت للاعتراف بأنه لم يكن هناك الكثير لمشاهدته؛ إذ كان منزلًا كأي منزل آخر، ذا مدخنة ونوافذ وأسقف مكسوة بالألواح الخشبية وباب. وكان هناك شيء ربما منشفة أطباق أو حفاض لم يرغب أحد في التقاطه، وترك ليتعفن على حبل الغسيل.

لم تعد روز لرؤية فلو لما يقرب من عامين، حيث كانت منشغلة بالسفر مع الشركات الصغيرة، وتحصل على تمويل من خلال المنح، لعرض مسرحيات أو مشاهد من مسرحيات، أو لتقرأ مقتطفات من كتب في مدرجات المدارس الثانوية وقاعات الاحتفالات الاجتماعية، عبر جميع أنحاء البلاد. وكان جزءًا من عملها إجراءُ الحوارات في التليفزيون المحلي عن هذه الأعمال، كمحاولة لجذب الاهتمام نحوها، وسرد حكايات طريفة مسلية عن الأشياء التي وقعت خلال الرحلة. لم يكن هناك أي شيء مخزٍ في كل هذا، إلا أن روز في بعض الأحيان كانت تشعر بخزي وخجل عميقين لا مبرر لهما، لكنها لم تكن تدع ارتباكها يظهر للعيان، فحين كانت تتحدث أمام العامة، كانت تنضح صراحة وسحرًا؛ كان لها طريقة محيرة وخجولة لبدء حكاياتها الطريفة، وكأنها قد تذكرتها الآن فقط ولم تسردها مائة مرة من قبل. وعندما كانت تعود لغرفتها في الفندق، غالبًا ما كانت ترتجف وتئن، وكأن نوبة من الحمى قد ألمَّت بها. كانت تعزو ذلك إلى الإرهاق، أو لقرب بلوغها سن اليأس. لم يكن بإمكانها تذكر أيٍّ من الأشخاص الذين قابلتهم، والأشخاص الساحرين المثيرين الذين كانوا يدعونها للعشاء، والذين كانت تخبرهم بأشياء حميمة عن نفسها وسط أقداح الشراب في عدة مدن.

كان الإهمال في منزل فلو قد وصل إلى مستوى مزعج منذ آخر مرة رأته روز. كانت الغرف تعج ببقايا الخِرَق والأوراق والقاذورات. يكفيك أن تجذب إحدى الستائر للسماح بدخول بعض الضوء حتى تتمزق إلى نصفين في يدك، أو أن تهز ستارة حتى تتحول إلى خرق، مطلقة غبارًا خانقًا، أو أن تضع يدك داخل أحد الأدراج فتغرق في شيء ناعم وداكن وقذر.

«لا نحب كتابة الأنباء السيئة، ولكن يبدو أنها قد تجاوزت المرحلة التي يمكنها فيها الاعتناء بنفسها. نحن نحاول زيارتها بشكل سريع للاطمئنان عليها، ولكننا لم نعد صغارًا، لذا يبدو أن الوقت ربما قد حان.»

كان نص هذا الخطاب يتكرر إلى حد ما ويرسل إلى روز وأخيها غير الشقيق براين الذي كان يعمل مهندسًا ويعيش في تورونتو. كانت روز عائدة للتو من جولتها. كانت تعتقد أن براين وزوجته فيبي — اللذين كانت نادرًا ما تراهما — على اتصال دائم بفلو، فقد كانت فلو في النهاية والدة براين، وزوجة والد روز. واتضح أنهما كانا على اتصال بها، أو هكذا كانوا يظنون. فقد ذهب براين مؤخرًا إلى أمريكا الجنوبية، ولكن فيبي كانت تتصل بفلو هاتفيًّا ليلة كل أحد. لم يكن لدى فلو الكثير لتقوله، ولم تكن تتحدث إلى فيبي على أية حال؛ كانت تقول إنها على ما يرام، كل شيء على ما يرام، وإنها قد ورد إليها بعض المعلومات عن حالة الطقس. كانت روز تلاحظ فلو وهي تتحدث عبر الهاتف، منذ قدومها إلى المنزل، ورأت كيف أن فيبي ربما تكون قد خُدعت. كانت فلو تتحدث بشكل طبيعي، فكانت تقول مرحبًا، أنا بخير، كانت عاصفة عنيفة تلك التي هبت علينا الليلة الماضية، نعم، انقطعت الكهرباء هنا لساعات. لو لم تعش في الحي، ما كنت لتدرك أنه لم يكن هناك أية عواصف.

لم تكن روز قد نسيت فلو كليًّا على مدى العامين الماضيين، فقد كانت تواتيها نوبات قلق إزاءها، كل ما في الأمر أن هذه النوبات قد تزايدت في الفترة الأخيرة. في إحدى المرات واتتها النوبة في منتصف عاصفة في شهر يناير، ما جعلها تقود السيارة لمسافة مائتي ميل وسط العواصف الثلجية، متخطية السيارات التي أُجبرت على التوقف بسبب العواصف، وحين توقفت أخيرًا في الشارع الذي تقطن فيه فلو، وتمكنت أخيرًا من الوطء بقدميها على الممشى الذي لم تتمكن فلو من كسح ما به من ثلوج، ملأها شعور بالارتياح إزاء نفسها وشعور آخر بالقلق إزاء فلو، حالة عامة من اضطراب المشاعر جمعت بين القلق والسعادة في ذات الوقت. فتحت فلو الباب وأطلقت صيحة تحذير.

«لا يمكنك أن تتوقفي بالسيارة هناك!»

«ماذا؟»

«لا يمكنك أن تتوقفي هناك!»

قالت فلو إن هناك قانونًا محليًّا جديدًا؛ يمنع التوقف بالسيارات في الشوارع خلال شهور الشتاء.

«سوف تضطرين لكسح الثلج عن مكان ما لتوقفي فيه السيارة.»

بالطبع انفجرت روز غضبًا.

«إذا تفوهتِ بكلمة أخرى الآن، فسوف أستقل السيارة وأعود من حيث جئت.»

«حسنًا، لا يمكنك التوقف بالسيارة …»

«ولا كلمة أخرى!»

«لمَ تقفين هنا وتجادلين والبرد يعصف بالمنزل؟»

فدخلت روز إلى المنزل.

كانت تلك واحدة من القصص التي روتها عن فلو، وقد تحملت فيها جيدًا؛ إرهاقها وشعورها بالفضيلة؛ صياح فلو وتلويحها بعكازها، ورفضها العنيف لأن تكون هدف إنقاذ لأي شخص.

•••

بعد أن قرأت الخطاب، اتصلت روز بفيبي، التي طلبت منها أن تأتي لتناول العشاء، حتى يمكنهما التحدث معًا. كانت روز عازمة على التصرف بشكل جيد، فقد تولَّدت لديها فكرة أن براين وفيبي لديهما شعور مستمر بالرفض والاستنكار نحوها. كانت تعتقد أنهما يستنكران نجاحها، على الرغم من أنه قد يكون محدودًا، ومقلقلًا، ومحليًّا، وأنهما يرفضانها أكثر حين تفشل. وكانت تعلم أيضًا أن من غير المحتمل أنها كانت سترِد ببالهما كثيرًا، أو أنهما يشعران بأي شيء على نحو مؤكد.

ارتدت روز تنورة بلا أي نقوش وبلوزة قديمة، إلا أنها غيَّرت رأيها في اللحظة الأخيرة وبدَّلت ملابسها لترتدي ثوبًا طويلًا مصنوعًا من القطن الرفيع ذي اللونين الأحمر والذهبي والوارد من الهند، الأمر الذي سيوجد مبررًا لقولهما إن روز دائمًا ما كانت متكلفة.

ومع ذلك فقد حزمت أمرها، كما كانت عادة ما تفعل، على أن تتحدث بصوت خفيض، وأن تلتزم بالحقائق، ولا تدخل في أية مجادلات عقيمة وسخيفة مع براين. وكالمعتاد بدا وكأن معظم ما برأسها من صواب ورشد قد طار بمجرد أن وطئت منزلهما بقدميها، ولمست ما في حياتهما من روتين هادئ، وشعرت بتدفق الرضا، أو بالأحرى الرضا عن الذات، ذلك الرضا الذاتي المبرر بشكل رائع وتام، وكأنه كان يشع من الأواني والمفروشات. كانت متوترة حين سألتها فيبي عن رحلتها، وكانت فيبي متوترة قليلًا أيضًا من جلوس براين صامتًا؛ لم يكن عابسًا بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنه كان يشير إلى أن تفاهة الموضوع أمر لا يسره. فقد قال براين في حضور روز أكثر من مرة إنه لا يجد نفعًا للأشخاص الذين يعملون في مجالها، ولكنه في الواقع لم يكن يجد نفعًا لعدد كبير من الناس، ما بين ممثلين، وفنانين، وصحافيين، وأثرياء (تلك الفئة التي لم يكن ليعترف أبدًا بكونه أحد المنتمين إليها)، وجميع أعضاء هيئة التدريس بكليات الآداب بالجامعات. طبقات وفئات كاملة كانت بلا نفع في نظره. كان هؤلاء متهمين في نظره بالعقلية المرتبكة، والسلوك المبهرج الزائف، والكلام غير الدقيق، والكثير من السفاهات والتجاوزات. لم تكن روز تعرف إن كان يقول الحقيقة، أم أن هذا شيء اضطر لقوله أمامها. كان يلقي طُعم الازدراء خفيض الصوت، لتلتقطه هي، فتنشب بينهما مشاجرات، وتترك منزله والدموع تملأ عينيها. كانت روز تشعر بالرغم من كل هذا أن كليهما يحب الآخر، ولكنهما لم يستطيعا قط التوقف عن المنافسة القديمة بينهما: عمن يكون الأفضل منهما، من الذي اختار العمل الأفضل؟ عمَّ كانا يبحثان؟ ربما يبحثان عن وجهة النظر الجيدة لكليهما عن الآخر، التي ربما كان كلٌّ منهما ينوي منحها كاملة للآخر ولكن لم يفعل بعد. كانت فيبي امرأة تتميز بالهدوء والطاعة النابعة من الإحساس بالواجب، وكان لديها موهبة رائعة في تهدئة الأمور (في تناقض شديد مع موهبة عائلة روز في تضخيم الأمور وإشعالها)، وكانت تقدم الطعام وتصب القهوة وهي تنظر إليهما نظرة حيرة مهذبة؛ ربما كان التنافس بينهما، وحساسيتهما، وشعورهما بالجرح والإساءة، يبدو غريبًا عليها مثل التصرفات الهزلية الغريبة لشخصيات القصص الكرتونية الفكاهية التي تضع أصابعها في مقابس النور.

قالت فيبي: «لطالما تمنيت لو أن فلو استطاعت العودة لزيارتنا مرة أخرى.» كانت فلو قد جاءت مرة واحدة، وطلبت إعادتها إلى منزلها بعد ثلاثة أيام. ولكن بعد ذلك بدت تلك الزيارة سارة بالنسبة لها، كي تجلس وتعدد الأشياء التي يمتلكها براين وفيبي، وملامح منزلهما. كان براين وفيبي يعيشان حياة خالية من البهرجة والصخب إلى حد بعيد في دون ميلز، وكانت الأشياء التي ركزت عليها فلو — مثل أجراس الباب، وأبواب المرأب الأوتوماتيكية، وحمام السباحة — ضمن المقتنيات العادية المعتادة في الضواحي. وقد أخبرتها روز بمجموعة من الأشياء، ما دفع فلو للاعتقاد أن روز تشعر بالغيرة.

«لم تكوني لترفضيها لو عُرضت عليك.»

«نعم لم أكن لأفعل.»

كان ذلك صحيحًا، كانت روز تعتقد أنه صحيح، ولكن كيف كان يمكنها أن تشرح ذلك لفلو أو أي شخص في هانراتي؟ لو أنك مكثت في هانراتي ولم تصبح من الأثرياء، فلا بأس في ذلك؛ لأنك تعيش حياتك كما كان مقدرًا لك، ولكنك إذا رحلت عنها ولم تحقق الثراء، أو لم تظل ثريًّا مثل روز، فما الجدوى إذن؟

بعد العشاء جلست روز وبراين وفيبي في الفناء الخلفي بجوار حمام السباحة، حيث كانت صغرى بنات براين وفيبي الأربع تمتطي عوامة على شكل تنين. كان كل شيء يسير في جو من الود حتى تلك اللحظة. وتقرر أن تذهب روز إلى هانراتي وأن تعد الترتيبات اللازمة لإلحاق فلو بدار واواناش العامة للمسنين. كان براين، أو بالأحرى سكرتيرته، قد استعلم عنها بالفعل، وقال إنه يبدو أنها ليست قليلة التكاليف فحسب، بل وتدار على نحو أفضل، وتحوي المزيد من المرافق ووسائل الراحة مقارنة بأي دار مسنين خاصة.

قالت فيبي: «على الأرجح أنها ستلتقي أصدقاء قدامى هناك.»

كانت دماثة خلق روز، وسلوكها الحسن، قائمين بشكل جزئي على رؤيةٍ كانت تعمل على تكوينها طوال الأمسية، ولم تكن لتبوح بها لبراين وفيبي. فقد تصورت نفسها متجهة إلى هانراتي وتعتني بفلو، وتعيش معها، وترعاها طالما اقتضى الأمر ذلك. وظلت تفكر كيف ستنظف مطبخ فلو وتقوم بطلائه وترقع الألواح الخشبية في الأماكن التي تعاني من التسريب (وكان هذا واحدًا من الأشياء التي ذكرها الخطاب)، وتزرع الأزهار في الأصص، وتصنع حساء مغذيًا. لكنها لم تذهب بخيالها بعيدًا لتتصور فلو تتواءم بيسر داخل هذه الصورة، وتستقر في حياتها شاعرة بالامتنان. ولكن كلما صارت فلو أكثر نزقًا، كانت روز ستصبح أكثر حلمًا وصبرًا، حينها من ذا الذي يمكن أن يتهمها بالنرجسية والتفاهة؟

ولم تصمد تلك الصورة حتى في أول يومين لها في المنزل.

•••

قالت روز: «أترغبين في بعض البودنج؟»

«أوه، لا أهتم.»

كانت تُظهر تلك اللامبالاة المسهبة التي يُظهرها بعض الناس عند تقديم كأس من الشراب لهم.

صنعت روز الترايفل، وكان مكونًا من توت، ودراق، وكسترد، وكعك، وكريمة مخفوقة، وشراب الشيري.

أكلت فلو نصف الصحن. راحت تنهل منه بنهم، دون أن تكلف نفسها عناء نقل جزء منه إلى طبق أصغر.

قالت فلو: «كان ذلك رائعًا.» لم تكن روز قد سمعت مثل هذا الاعتراف بالسعادة المشوبة بالامتنان منها من قبل. «رائعًا»، قالتها فلو ثم جلست تتذكر، وتبدي الاستحسان، وتتجشأ قليلًا. الكسترد اللطيف الناعم، حبات التوت اللاذع، قطع الدراق القاسي، الكعك المغموس في شراب الشيري، الكريمة المخفوقة الغنية.

خطر لروز أنها لم يسبق لها أن فعلت شيئًا في حياتها حقق لفلو ولو قدرًا مقاربًا من المتعة مثلما فعل ذلك الترايفل.

«سوف أصنع لك واحدًا آخر قريبًا.»

فاستفاقت فلو قائلة: «أوه حسنًا. افعلي ما تحبين.»

•••

قادت روز سيارتها صوب دار المسنين العامة، متبعة إرشادات الآخرين للوصول إليها. وحاولت أن تخبر فلو بشأنها حين أتت.

قالت فلو: «دار من؟»

«لا، دار المسنين.»

ذكرت روز بعض الأشخاص الذين قابلتهم هناك. ولم تكن فلو لتعترف بمعرفة أي منهم. راحت روز تتحدث عن المناظر الجميلة هناك والغرف المبهجة. بدا الغضب على فلو؛ فاكفهرَّ وجهها، وزمت شفتيها. ناولتها روز مجسمًا متحركًا كانت قد اشترته مقابل خمسين سنتًا من مركز الصناعات اليدوية بدار المسنين. كان عبارة عن أشكال طيور من ورق باللونين الأزرق والأصفر تتمايل وترقص على تيارات هوائية غير مرئية.

قالت فلو: «فلتحتفظي به لنفسك.»

وضعت روز المجسم في الشرفة وقالت إنها قد رأتهم في الدار يحملون صواني الطعام وعليها وجبة العشاء إلى الغرف.

«إنهم يذهبون إلى غرفة الطعام إذا كانوا قادرين، وإذا لم يتمكنوا من ذلك، فإن لديهم صواني في غرفهم. لقد رأيت ما يتناولونه هناك.

شرائح اللحم البقري المشوي، مطهوًّا جيدًا، وبطاطا مهروسة، وفاصوليا خضراء، من النوع المجمد وليس المعلب. أو أومليت. يمكنكِ تناول أومليت المشروم، أو أومليت الدجاج، أو أومليت سادة إذا شئت.»

«ماذا كان هناك للتحلية؟»

«آيس كريم. يمكنك أن تضعي عليه الصوص.»

«ما نوع الصوص الذي كان موجودًا؟»

«صوص الشوكولاتة، أو الزبد الاسكتلندي، أو الجوز.»

«لا أستطيع تناول الجوز.»

«كان هناك خطمي أيضًا.»

•••

كان النزلاء في الدار مقسمين على الأدوار: في الطابق الأول هناك النزلاء المهندمون والمتألقون، وكانوا يتجولون في أنحاء الدار بمساعدة عكاز في العادة، ويتبادلون الزيارات فيما بينهم، ويلعبون الورق. وكان لديهم أغنيات ذات إيقاع رتيب يرددونها ويمارسون الهوايات. وفي مركز الصناعات اليدوية، كانوا يقومون برسم صور، وحياكة اللوحات والسجاد باستخدام الصوف، وصناعة اللُّحُف. وإذا لم تكن لديهم القدرة على القيام بأشياء كهذه، كان بإمكانهم صنع دمى من بقايا القماش، وكذلك المجسمات المتحركة كالتي اشترتها روز، ويصنعون أيضًا مجسمات كلاب بودل ورجل الثلج من كرات الستيروفوم، وكانوا يستخدمون حبات الترتر اللامعة للعيون؛ يصنعون أيضًا صورًا ظلية بوضع دبابيس رسم على رسوم تخطيطية، وكانت تتنوع ما بين فرسان على ظهر حصان، وسفن حربية، وطائرات، وقلاع.

كانوا ينظمون حفلات موسيقية، ورقصات، وكانت لديهم دورات في لعبة الشطرنج.

«يقول البعض منهم إنهم يعيشون هناك في سعادة لم يمروا بها قط في حياتهم من قبل.»

في الطابق التالي، كان هناك المزيد من مشاهدة التليفزيون والمزيد من الكراسي المتحركة. ويقيم في هذا الطابق ذوو الرءوس المحنية، والألسنة المتدلية، وأصحاب الأطراف التي تهتز لاإراديًّا. ومع ذلك كان هناك قدر كبير من الاختلاط الاجتماعي، والعقلانية، إلا أنهم بين الحين والآخر كانوا يتوارون في غرفهم ولا ترى منهم أحدًا.

أما في الطابق الثالث، فقد تقابلك بعض المفاجآت.

فالبعض منهم هناك توقف عن الكلام.

والبعض توقف عن الحركة، فيما عدا بعض الاختلاجات الغريبة واهتزازات الرأس، وتطويح الأذرع، التي بدت جميعًا دون هدف أو تحكم.

أما عن القلق بشأن البلل والجفاف، فقد تركه الجميع تقريبًا.

كان نزلاء الدار يحصلون على الطعام والنظافة الشخصية لأجسادهم، وبعضهم يتم توثيقه في الكراسي، ثم يحل وثاقهم ويوضعون في الأسرَّة للنوم. كان استنشاق الأكسجين وزفر ثاني أكسيد الكربون هو وسيلتهم للاستمرار في المشاركة في الحياة.

كانت هناك امرأة عجوز منحنية في سريرها، ترتدي حفاضًا، بشرتها داكنة مثل ثمرة الجوز، تتدلى من شعرها ثلاث خصلات تشبه خيوط الهندباء، تصدر ضوضاء صاخبة مرتجفة.

قالت الممرضة: «مرحبًا يا خالتي. أنت تتهجين الكلمات اليوم. الطقس جميل بالخارج.» ومالت نحو أذن السيدة العجوز قائلة: «هل تستطيعين تهجية كلمة طقس؟»

كانت هذه الممرضة تكشف عن لثتيها حين كانت تبتسم، وهو ما كانت تفعله طوال الوقت؛ كان بها لمحة من المرح المشوب بالخبل.

قالت السيدة العجوز: «طقس.» كانت تدفع نفسها للأمام بصعوبة، وتصدر أصواتًا كالنخر لتتوصل لهجاء الكلمة، ما دفع روز للاعتقاد أنها ربما تكون على وشك التبرز.

«ط – ق – س.»

وذكرتها تلك الكلمة بكلمة أخرى.

«طقوس. ط – ق – و – س.»

كانت الأمور تسير على خير ما يرام حتى الآن.

قالت الممرضة لروز: «الآن قولي لها شيئًا.»

كانت الكلمات التي خطرت ببال روز في تلك اللحظة إما كلمات بذيئة أو محبِطة.

ولكن دون تلقين خطرت لها كلمة أخرى.

«غابة. غ – ا – ب – ة.»

ثم قالت روز فجأة: «احتفال.»

«ا – ح – ت – ف – ا – ل.»

كان عليك أن تنصت بقوة كي تتمكن من فهم ما كانت السيدة العجوز تقوله؛ لأنها كانت قد فقدت جزءًا كبيرًا من قدرتها على تكوين الأصوات؛ فكان ما يصدر عنها من كلمات لا يبدو قادمًا من فمها أو حنجرتها، بل من مكان عميق في رئتيها وبطنها.

قالت الممرضة: «أليست هذه السيدة معجزة. إنها عاجزة عن الإبصار وتلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا أن نجزم بها بأنها تستطيع السمع. مثلًا إذا قلت: «ها هو عشاؤك»؛ لن تولي أي انتباه له، ولكنها قد تبدأ في تهجية كلمة «عشاء».

فقالت على سبيل الإيضاح: «عشاء»، فما كان من السيدة سوى أن التقطتها وأخذت تتهجى: «ع – ش …» أحيانًا كانت تتخلل الحروف فترة انتظار طويلة. كان يبدو أنها لم تكن تملك سوى خيط رفيع للغاية لتتبعه، تتخبط عبر ذلك الخواء أو التشوش الذي لا يملك أحد على هذا الجانب إزاءه أكثر من التخمين، ولكنها لم تكن تفقده، بل تتبعه حتى النهاية، مهما كانت الكلمة صعبة أو ثقيلة، إلى أن تنتهي منها، ثم تجلس منتظرة وسط يومها الخالي من المشاهد والأحداث إلى أن تقفز كلمة أخرى فجأة من مكان ما، فتحتويها وتسخِّر كل طاقتها من أجل إتقانها. تساءلت روز عن الشكل الذي تكون عليه الكلمات حين تحتفظ بها في عقلها. هل كانت تحمل معناها المألوف؟ هل تحمل أي معنى على الإطلاق؟ هل كانت مثل الكلمات التي تظهر في الأحلام أو في عقول الأطفال الصغار، لكل منها روعتها وتميُّزها وتنبض بالحياة كحيوان صغير؟ هذه رخوة وشفافة، مثل قنديل البحر، وتلك صلبة، ودنيئة، ومتحفظة، مثل حلزون مقرن. قد تكون قاسية ومضحكة مثل القبعات العالية السوداء، أو ملساء وزاهية ومزينة مثل الأشرطة. لعلها أشبه بموكب من الزوار الخصوصيين لم ينتهِ بعد.

•••

ثمة شيء أيقظ روز مبكرًا في صباح اليوم التالي. كانت نائمة في الشرفة الصغيرة، المكان الوحيد الذي كانت الرائحة فيه محتملة. كانت السماء لبنية ولامعة، وكانت الأشجار المطلة على النهر — التي كان مزمعًا قطعها قريبًا لإفساح مكان لإنشاء مرأب للمقطورات — منحنية في اتجاه السماء وقت الفجر وكأنها حيوانات داكنة شعثاء، مثل الجاموس. كانت روز تحلم، وكان حلمها يتعلق بالطبع بجولتها التي قامت بها في الدار في اليوم السابق.

كان هناك شخص ما يقودها عبر مبنى ضخم حيث وُجد أشخاص داخل أقفاص. كان كل شيء باهتًا ومغطى بنسيج العنكبوت في البداية، وكانت روز تحتج على ما بدا من سوء تنظيم. ولكن كلما تابعت روز المسير، كانت الأقفاص تزداد حجمًا وتنميقًا، كانت أشبه بأقفاص طيور ضخمة من الخيزران، تلك الأقفاص ذات الطراز الفيكتوري بأشكاله المزينة وزخارفه الكثيرة. كان الطعام يقدَّم للأشخاص القابعين داخل الأقفاص، وقد تفحصته روز، ورأت أنه فاخر؛ موس الشوكولاتة، ترايفل، كعك البلاك فوريست. رأت روز بعد ذلك فلو في أحد هذه الأقفاص، وقد جلست في تأنق وكبرياء على كرسي أشبه بكرسي العرش، تلفظ الكلمات بصوت واضح وآمر (لم تستطع روز تذكر الكلمات التي نطقت بها عند استيقاظها)، وتبدو سعيدة بنفسها، لإظهارها قدرات كانت تتكتمها حتى الآن.

أنصتت روز لتستمع إلى صوت أنفاس فلو تتحرك كالعاصفة في غرفتها المبطنة بالحصى، ولكنها لم تسمع شيئًا. ماذا لو ماتت فلو؟ لنفترض أنها قد ماتت في نفس اللحظة التي ظهرت فيها بذلك المظهر المتألق المفعم بالرضا في حلم روز؟ هرعت روز من فراشها، وهرولت حافية نحو غرفة نوم فلو لتجد فراشها خاويًا، فدخلت إلى المطبخ لتجد فلو جالسة إلى المائدة وقد ارتدت ملابسها استعدادًا للخروج، حيث ارتدت معطفها الصيفي ذا اللون الأزرق السماوي وقبعة تربان تتماشى معه، كانت قد ارتدتها في زفاف براين وفيبي. كان المعطف جَعِدا وبحاجة إلى التنظيف، والقبعة معوجة.

قالت فلو: «أنا جاهزة الآن للذهاب.»

«الذهاب إلى أين؟»

قالت فلو وهي تهز رأسها: «إلى هناك. إلى بيت الفقراء.»

قالت روز: «تقصدين الدار؟ ولكنكِ لست مضطرة للذهاب اليوم.»

قالت فلو: «لقد استأجروك لتأخذيني، عليك الآن أن تتحركي وتأخذيني إلى هناك.»

«أنا لست مستأجرة. أنا روز. سوف أعدُّ لك كوبًا من الشاي.»

«يمكنك أن تعديه. لن أشربه.»

جعلت فلو خيال روز يجنح إلى امرأة بدأت المخاض، من فرط تركيزها، وإصرارها، وإلحاحها. ظنت روز أن فلو تشعر بأن الموت يقترب منها شيئًا فشيئًا كطفل، يتأهب لتمزيقها، ومن ثم تراجعت عن الجدال معها، وارتدت ملابسها، وأعدَّت حقيبة لفلو في عجالة، واصطحبتها نحو السيارة وأوصلتها إلى الدار، ولكنها كانت مخطئة فيما يتعلق بمسألة الموت الذي سيريح فلو سريعًا.

•••

قبل ذلك بفترة ظهرت روز في إحدى المسرحيات على التليفزيون الوطني، بعنوان «نساء طروادة». لم يكن لها نص، وفي الحقيقة ظهرت في المسرحية لمجرد إسداء صنيع لصديقة حصلت على دور أفضل في مكان آخر. فكر المخرج في إضفاء الحياة على كل البكاء والنحيب في المسرحية بجعل نساء طروادة يسرن عاريات الصدر. كن يظهرن ثديًا واحدًا لكل فتاة؛ الأيمن في حالة الشخصيات الملكية مثل هيكوبا وهيلين، والأيسر في حالة العذارى أو الزوجات من العوام، مثل روز. لم تكن روز تفكر في أن هذا التعري سيحسن من وضعها — فقد كان ثدياها يميلان للتثاقل والترهل — ولكنها اعتادت الفكرة. لم تعتمد على الإثارة التي سيسببها هذا المنظر، فلم تكن تعتقد أن الكثير من الناس سيشاهدونها. كانت قد نسيت تلك المناطق من الريف حيث لا يستطيع الناس ممارسة تفضيلهم لبرامج المسابقات، ومطاردات سيارات الشرطة، ومسلسلات كوميديا الموقف الأمريكية، ويكونوا مجبرين على تحمل الحوارات والأحاديث حول الشئون العامة وجولات المعارض الفنية والإصدارات الدرامية الطموحة. لم تعتقد أيضًا أنهم سيذهلون للدرجة، بعد أن أصبحت الآن أرفف المجلات في كل بلدة تعرض اللحم العاري. كيف كان يمكن لمثل هذه الإهانة أن تعلق بمجموعة نساء طروادة ذوات الأعين الحزينة، اللاتي غضن البرد جلودهن، ثم يجرين وقطرات العرق تتساقط منهن تحت الأضواء، وقد وُضعت لهن مساحيق التجميل بشكل سيئ وباهت، ويبدون جميعًا حمقى دون رفقائهن، بل ومثيرات للشفقة ومتكلفات، مثل الأورام؟

أخذت فلو ورقة وقلمًا وأجبرت أصابعها التي كانت لا تزال متورمة وخارج نطاق الاستخدام تقريبًا بسبب التهاب المفاصل على كتابة كلمة «عار». وكتبت لها خطابًا تقول فيه إنه لو لم يكن والد روز قد توفي منذ زمن طويل، لتمنى الآن لو كان ميتًا. وكان هذا صحيحًا بالفعل. قرأت روز الخطاب، أو بالأحرى جزءًا منه، بصوت عالٍ لبعض أصدقائها الذين استضافتهم على العشاء. قرأته لكي تحدث تأثيرًا كوميديًّا، وتأثيرًا دراميًّا، كي تظهر الهوة القابعة وراءها، على الرغم من إدراكها — إن فكرت بشأنها — أن مثل هذه الهوة لم تكن شيئًا ذا أهمية؛ فقد كان بإمكان معظم أصدقائها — ممن كانوا يبدون لها أشخاصًا كادحين على نحو عادي ومهمومين ومفعمين بالأمل — الادعاء بأنهم مروا بمرحلة من حياتهم شعروا بأن الآخرين قد تبرءوا منهم أو دعوا لهم حينما عاشوا في منزل يسيطر عليه الإحباط وخيبة الأمل.

وفي منتصف الخطاب اضطرت روز للتوقف؛ لم يكن ذلك لأنها فكرت في مدى خسة أن تعرِّض بفلو وتسخر منها بهذا الشكل، فقد فعلت ذلك كثيرًا من قبل ولم يكن في الأمر مفاجأة لها، ولكن ما دفعها للتوقف، في الواقع، هو الهوة، التي تولد لديها إدراكًا جديدًا وجارفًا لها، ولم يكن بالشيء الذي يثير السخرية والضحك. لقد كانت توبيخات فلو بالنسبة إلى روز كمن يحتج على رفع المظلات أو يحذر غيره من تناول الزبيب. ولكنها كانت مقصودة بشكل مؤلم وحقيقي؛ لقد كانت الشيء الوحيد في جعبة حياتها الشاقة. كانت بمنزلة لعنات وخزي على ما أبدته من صدر عارٍ.

في موقف آخر، حصلت روز على جائزة، إلى جانب العديد من الأشخاص الآخرين، وأقيم حفل استقبال لهم في فندق بتورونتو، فأرسلت بطاقة دعوة إلى فلو، مع أن روز لم تكن تعتقد أبدًا أنها ستأتي. كانت تفكر أنه يجب عليها أن تعطي منظمي الحفل اسم شخص ما حين سألوها عن أسماء أقارب لدعوتهم، وبالكاد استطاعت أن تسمي براين وفيبي. من الممكن بالطبع أن تكون بالفعل قد أرادت، سرًّا، أن تأتي فلو. أرادت أن تريها، أن تخيفها، أن تنزع نفسها نهائيًّا من عباءة فلو. وكانت رغبتها تلك ستصبح أمرًا طبيعيًّا.

هبطت فلو من القطار دون سابق إنذار، متجهة نحو الفندق. كان التهاب المفاصل قد نال منها آنذاك، ولكنها كانت لا تزال تسير دون عكاز. كانت ملابسها دائمًا محتشمة ووقورة ورخيصة، ولكن بدا الآن أنها قد أنفقت الكثير من المال واستشارت آخرين. كانت ترتدي بذلة ذات مربعات باللونين الموف والأرجواني، ومطرزة بخرز يشبه خيوطًا من الفشار الأبيض والأصفر. كان تضع باروكة كثيفة باللون الرمادي الضارب إلى الأزرق، تدلت على جبهتها وكأنها قبعة صوفية. ومن فتحة السترة المثلثة وكميها شديدي القصر برز عنقها ورسغاها بلون بني تكسوها الثآليل وكأن لحاء شجر يغطيها. تسمرت في مكانها بلا حراك حين رأت روز. كان يبدو أنها منتظرة؛ لم تكن فقط تنتظر إقبال روز نحوها، ولكنها أيضًا كانت في انتظار تبلور مشاعرها تجاه المشهد الماثل أمام عينيها.

وسرعان ما أقبلت كلتاهما نحو الأخرى.

قالت فلو في صوت خفيض قبل أن تقترب منها روز: «انظري إلى ذلك الرجل الأسود!» كانت نبرتها نبرة دهشة بسيطة مُرضية، وكأنها كانت تحملق في الأخدود العظيم أو ترى البرتقال ينمو على إحدى الأشجار.

كانت تقصد جورج الذي كان يتسلم إحدى الجوائز هو الآخر. استدار ليرى ما إذا كان أحدهم يلقنه عبارة كوميدية. وقد كانت فلو بالفعل تبدو كشخصية كوميدية، فيما عدا أن دهشتها وصراحتها كانتا مزعجتين. تُرى هل لاحظت الضجة التي أثارتها؟ محتمل. فبعد تلك النوبة من الغضب، صمتت تمامًا، ولم تتكلم ثانية إلا بأقصر الكلمات التي تشع غلًّا وكراهية، ولم تأكل أي طعام أو تحتسي أي شراب يقدَّم لها، ولم تجلس، ولكنها ظلت واقفة في دهشة ورباطة جأش في وسط هذا الحشد من الملتحين ومثليي الجنس والوقحاء الذين لا ينتمون للأنجلوساكسون، إلى أن حان الوقت لاصطحابها لقطارها وإرسالها إلى المنزل.

•••

وجدت روز الباروكة أسفل السرير خلال حملة التنظيف الرهيبة التي أعقبت ترحيل فلو، فأخذتها إلى دار المسنين، إلى جانب بعض الملابس التي غسلتها أو أرسلتها للمغسلة، وبعض الجوارب النسائية، وبودرة تلك، وكولونيا، كانت قد اشترتها. أحيانًا ما كان يبدو أن فلو تظن روز هي الطبيبة، فكانت تقول: «لا أريد طبيبة امرأة، يمكنك أن تنصرفي.» ولكن عندما رأت روز تحمل الباروكة، قالت: «روز! ما هذا الذي بيديك. أهو سنجاب رمادي ميت؟»

قالت روز: «كلا، إنها باروكة.»

«ماذا؟»

قالت روز: «باروكة.» وبدأت فلو في الضحك، وشاركتها روز. كانت الباروكة بالفعل تبدو كقط أو سنجاب ميت، على الرغم من أنها كانت قد غسلتها ومشطتها؛ لقد كانت شيئًا بشع الشكل.

«يا إلهي يا روز، كنت أفكر ما الذي تفعلينه ولِمَ تأتين لي بسنجاب نافق! لو أنني ارتديتها، من المؤكد أن أحدهم كان ليصوب بندقيته نحوي ليصيدني لا محالة.»

واستكمالًا للكوميديا، راحت روز تثبتها على رأسها، وظلت فلو تضحك حتى تأرجحت إلى الأمام والخلف في سريرها.

وعندما التقطت فلو أنفاسها قالت: «ما الذي أفعله بهذه الجوانب اللعينة على فراشي؟ هل تحسنين السلوك أنت وبراين؟ لا تتشاجرا، فهذا يثير أعصاب والدكما. هل تعرفين كم حصوة مرارية استخرجوها مني؟ خمس عشرة! الواحدة منها بحجم بيضة الدجاجة الصغيرة. لقد وضعتها في مكان ما. سوف آخذها إلى المنزل.» وراحت تجذب الملاءات بحثًا عنها. «كانت في زجاجة.»

قالت روز: «لقد حصلت عليها بالفعل، وأخذتها إلى المنزل.»

«حقًّا؟ وهل أطلعت والدك عليها؟»

«أجل.»

قالت فلو: «أوه، حسنًا، إذن فهي هناك.» ثم استلقت على الفراش وأغلقت عينيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤