الفصل الثالث

التركيب: بناء الجملة

(١) مقدمة

إن الجانب الذي يمثل الصعوبة الكبرى في باب التركيب؛ هو ما يسمى بالبناء أو نظام الجملة، ومن الغريب ألا يتناول أحد من أساتذة اللغويات هذا الجانب من جوانب الترجمة إلى العربية، أو من العربية إلى الإنجليزية إلا في حدود الدراسات اللغوية الصرفة التي نشأت نظرياتها، ولا تزال تتولد كل يوم، من رحم الإنجليزية بصفة أساسية، رغم ما يزعُمه أصحابها من أنها نظريات عامة، وتنطبق على شتى لغات الأرض. وفي ظني أن ذلك يرجع إلى أن علم اللغويات لا يزال علمًا جديدًا، ولا بد أن يستمد، في البداية، مادته من إحدى اللغات الحية التي يجيدها أصحابها إجادةً تامة، وهي الإنجليزية في هذه الحالة، قبل أن ينتقل إلى اللغات الأخرى. وربما استطعنا أن نستثني هنا الأستاذ نايدا Nida الذي رصد «الأبنية الأساسية» (أو الأبنية النووية)؛ أي: kernel structures التي تتميز فيها كلُّ لغة عن سواها، وإن كانت نظريته هذه تعتبر قديمةً الآن، ولم يعُد كتابه «نحو علم الترجمة»   Towards a Science of Translation (١٩٦٤م) يحظى باحترام اللغويين، رغم أنني وجدته مفيدًا؛ فهو يبسِّط النحو التقليدي عندما يقوم بتحليل الكلام إلى أشياءَ ووقائع وعلاقاتٍ ومجردات. ويختلف في هذا، بطبيعة الحال، عن اتجاهات علم اللغويات الجديد الذي أصبح له كَهَنة ترتعد لذكرهم الفرائص، وأصبحت لهم مصطلحاتهم الجديدة التي تشكل فيما بينها لغةً خاصة بهم لا يفهمها سواهم. ولذلك فإذا قرأت كتاب كاتفورد Catford، وعنوانه «نظرية لغوية للترجمة» (١٩٨٠م)، وجدته يعتمد على قواعد النحو التي أرساها هاليداي في رصد التقابل بين التراكيب في اللغة المترجَم منها والمترجَم إليها، ووجدت تسليمًا بأن هاليداي هذا هو شيخ الكهنوت؛ فلم تخرج منه بشيءٍ يفيدك في الترجمة العربية.
والحق أن العربية تمثل مشكلةً قائمةً برأسها؛ بسبب تراثها الضخم الطويل وتعدد مستوياتها، وما جرى العرف على تسميته بالثنائية اللغوية في كل بلدٍ عربي، وهي ثنائية الفصحى والعامية، ولطالما اعترضتُ على تصور وجود هذه الثنائية وتلفتُّ حولي بحثًا عن مؤيد؛ فلم أجد سوى الدكتور شكري عياد، حتى عثرت على كتاب الدكتور السعيد بدوي الذي أشرت إليه في بداية هذا الكتاب، فاطمأن قلبي إلى صحة ما كنت أذهب إليه دائمًا؛ من أن لدينا لغةً عربية واحدة لها مستوياتٌ متعددة. وقد عرضت هذه النظرة في مقالي عن نجيب محفوظ بالإنجليزية، ثم في مقدمة ترجمتي لمسرحية «يوليوس قيصر».

وها أنا ذا أؤكدها من جديدٍ لفائدة المترجم الذي يستخدم الفصحى المعاصرة، وهو مستوًى من العربية يستخدِم جانبًا كبيرًا من لغة التراث وجانبًا كبيرًا من العامية المصرية (بمستوياتها المتعددة التي يحددها بدوي بثلاثة).

وأهم ما تتميز به هذه اللغة هو أنها تحتفظ بالسمات النحوية والصرفية للفصحى التراثية؛ مما يفرض علينا، نحن الذين نكتب بها ونفكر، أن نَعيَ التراكيب الأساسية للفصحى التراثية؛ حتى تخرج نصوصُنا في صورةٍ عربية سليمة؛ أيًّا كانت مظاهر اختلافها الأخرى عن لغة التراث. والتراكيب الأساسية في الفصحى المعرَّبة معروفة، وسوف يدلُّك عليها كتاب النحو، وإن كان على المترجم أن يذكرها دائمًا ويكون على استعداد لاستخدامها؛ بغض النظر عن بناء الجملة الإنجليزية التي يتصدى لترجمتها؛ فالحاجة قد تقتضي استخدام المبتدأ والخبر، وقد تقتضي البناء الأكثر شيوعًا، وهو الجملة الفعلية، فقد يقتضي التعبير الشائع في الإنجليزية There is … استخدام المبتدأ والخبر؛ كقولك: There is a book on the table؛ أي: «على المنضدة كتاب»، والمثل العربي القديم (الوارد في قصة الزَّباء وجُذَيمة) هو «شر في الجوالق» ومعناه حرفيًّا: There is evil/danger in the sack، ويقابله بالإنجليزية a snake in the grass، وقد يقتضي استخدام جملة فعلية عندما يكون المعنى يدل على الفعل:
There was unrest in Karachi, Sind province, when …
أي: «وقعت «بعض» القلاقل/الاضطرابات في كراتشي، بإقليم السند، عندما …»

أو:

There was quiet in the city after the police dispersed the protesters.
«ساد المدينةَ الهدوءُ بعد قيام الشرطة بتفريق المتظاهرين.»

أو:

I looked everywhere for someone to talk to, but there was none.
أي: «بحثت في كل مكان عن شخص أحدِّثه، ولكنني لم أجد أحدًا.»

(٢) المبني للمجهول

وكذلك فإن بناء الجملة العربية في التراث لا يستخدِم المبني للمجهول إلا إذا كان الفاعل مجهولًا. أما في الإنجليزية فيشيع استخدام المبني للمجهول مُرْدفًا بالفاعل؛ ولذلك فعلى المترجم أن يقرأ العبارة الإنجليزية إلى آخرها حتى يرى إن كان المبني للمجهول في حقيقته معلومَ الفاعل؛ حتى يحوِّلها إلى عبارة مبنية للمعلوم. وسوف تصادفه في هذا عقباتٌ شتى سيأتي تفصيلها؛ منها: ولوع الكاتب الإنجليزي بالصفات والأحوال من كل لون وشكل، وميلُه البارز إلى الاحتراز في التعبير حتى لو لم يكن يكتب كتابةً علمية؛ فما أيسر التحويل عندما يكون البناء مباشرًا؛ أي: عندما تكون الجملة «صريحة البناء» غير مثْقلة بالصفات والأحوال أو العبارات التي تحُلُّ محلها؛ مثل:

ضرب الحراس النزلاء

Inmates were beaten by guards.

فهذه عبارة عارية، وقد تَحتمِل إضافة صفة في صورة اسم:

ضرب حراس السجن النزلاء

Inmates were beaten by prison guards.

ولكن التعقيدات تبدأ عندما يلجأ الكاتب إلى التوصيف أو الاستثناء أو الاستطراد:

Inmates, including two boys aged 13 and 14, were allegedly beaten or otherwise abused by prison officials between 1986 and 1989.
فهذه جملة مقتطعة من خبر عن معاملة مسئولي أحد السجون لنُزلائه في الولايات المتحدة الأمريكية؛ فماذا فعل الكاتب؟ لقد أضاف جملة اعتراضية تصف نائب الفاعل، وأضاف حالًا (allegedly) يصف فيه الفعل، ثم جعل اسم المفعول مضاعفًا (beaten or abused) قبل أن يأتي بالفاعل.

وأنت تستطيع أن تتبع وسائل التحويل العادية فتبدأ بالفاعل؛ مع ما في هذا من صعوبات:

  • (١)

    قام المسئولون في السجن بضرب النُّزَلاء أو إيذائهم بصورة أخرى؛ وفقًا للمزاعم «التي ترددت» في الفترة ما بين عامي ١٩٨٦م و١٩٨٩م، وكان من النزلاء صَبيَّان: الأول في الثالثة عشرة، والثاني في الرابعة عشرة.

    فإذا أحسست بأن الجملة طالت، وأن التركيز على صفات النزلاء قد ضعُف بسبب إرجائه إلى آخر العبارة، فعليك أن تستخدم لونًا آخر من التحويل:

  • (٢)

    زُعم أن النزلاء تعرضوا للضرب أو غيره من ألوان الإيذاء، ومن بينهم صبيان في الثالثة عشرة والرابعة عشرة، على أيدي المسئولين في السجن، في الفترة من ١٩٨٦ إلى ١٩٨٩م.

فالحال هنا تحوَّل إلى فعل وبدأت به الجملة، وظل بناء الجملة دون تعديل تقريبًا مع استخدام بديل by التي لا تترجَم بمعناها المألوف (أي: بواسطة، أو بمعرفة، أو من قبل) إلا فيما ندَر، وإن كانت شبه الجملة الأخيرة قد شاعت في ترجمة المؤتمرات والترجمة الصحفية.

وانظر معي إلى العبارة التالية:

A suspected Muslim rebel, Kamlon Mamindiala, and 18 members of his family, including a pregnant woman and six children aged between one and 13, were reportedly killed in August by soldiers of the army’s 38th infantry battalion in Tacurong, Sultan Kudurat province.
إنها تروي خبرًا عن الفلبِّين، يتعلق بانقضاض الجيش على جماعات المسلمين المتمردين، وتتميز بطول نائب الفاعل (أكثر من عشرين كلمة)، وطول الفاعل (سبع كلمات)، وتوصيفِ الفعل بحال غيرِ مألوف في العربية معناه «ورَدنا» أو سمعنا أو «حسبما ورَدنا من أنباء.» ولن يُجدي هنا تعديل بناءُ الجملة في تخفيف أحمالها، ولكن قاعدة التحويل تقتضي البداية بالحال بعد تحويله إلى فعل:
  • (١)
    وَرَدَ «نبأ يقول» إن جنود كتيبة المشاة الثامنة والثلاثين، التابعة للجيش، قتلوا رجلًا يُشتبه في انتمائه إلى جماعات المسلمين المتمردين، واسمه كاملون مامنديالا، وثمانية عشر فردًا من أفراد أسرته، من بينهم حامل وستة أطفال تتراوح أعمارهم بين عام واحد و١٣ عامًا، في شهر أغسطس، في مدينة تاكورونج، في مقاطعة سلطان قدرات.
    فهنا تحوَّل الحال الأول reportedly إلى فعل «وفاعل» والثاني أيضًا suspected إلى فعل وشبه جملة، وبُنيت الجملة للمعلوم؛ إذ بدأت بالفاعل الأصلي وتلاه المفعول، ثم ما يسمى في العروض بالحشو؛ أي: بالمعلومات الأخرى التي لا تؤثر في بناء الجملة الأساسية.

    وهذا مبدأ مهم من مبادئ الترجمة إلى العربية؛ لأن قارئ العربية لا يستطيع الصبر انتظارًا للفعل، أو انتظارًا للخبر، فحتى حين تكون الجملة اسميةً لا بد من إيراد الخبر سريعًا، وإلا انصرف عنك قارئك أو سامعك، ولا تختلف في هذا العربيةُ المعاصرة عن اللغة التراثية أو حتى عن العامية بمستوياتها جميعًا؛ ولذلك فحتى إذا شئتَ الاحتفاظ بالتأكيد الموحى به في تقديم نائب الفاعل (الذي هو في الواقع مفعول به)، فينبغي أن نجد فعلًا على وجه السرعة، وحبذا لو بدأت به الجملة:

  • (٢)
    قُتل رجل يُشتبه في انتمائه إلى جماعات المسلمين المتمردين ومعه … إلخ؛ حسبما جاء في الأنباء … على أيدي جنود كتيبة المشاة.
  • (٣)
    في أغسطس، ورد ما يفيد أن رجلًا يُشتبه في انتمائه إلى جماعات المسلمين المتمردين قد قُتل ومعه … على أيدي جنود كتيبة المشاة.
    أي: إننا في النموذج الثالث قد فصلنا بين نائب الفاعل الإنجليزي — الذي أصبح اسمًا ﻟ «أن» هنا — والفعل بجملة مبنية للمجهول («يشتبه …»)، وكان يمكن تلافي ذلك إذا أردت:
  • (٤)
    ورد في أغسطس نبأ يفيد قتْلَ رجل يُشتبه في انتمائه …

    وأحيانًا يأتي الفعل المبني للمجهول تاليًا لفعل مبني للمعلوم؛ بحيث يكون من العسير تحويله إلى مبني للمعلوم. وقارن بين النوع البسيط والنوع المركب في الجملة التالية (من خبر عن باكستان):

    Members of the Ahmadiyyah community continued to be arrested for the peaceful expression of their faith and at least thirteen were sentenced to terms of imprisonment.

هنا يقوم المترجم بتحويل الفاعل من «أفراد طائفة المحمدية» إلى عمليات القبض نفسها التي استمرت. وما دمنا لا نعرف الفاعل، رغم أنه لا بد أن يكون «الشرطة» (أو «السلطات» بصفة عامة)، فلا مناص من الإبقاء على إغفال الفاعل:

  • (١)

    استمرت عمليات القبض على أفراد طائفة المحمدية بسبب تعبيرهم السلمي عن عقيدتهم، وحكِم على ما لا يقل عن ١٣ منهم بالسجن مُددًا «متفاوتة».

    والواضح أن الجملة الثانية المعطوفة تتضمن فعلًا مبنيًّا للمجهول ظل على حاله بالعربية.

  • (٢)

    ظل أفراد طائفة المحمدية يتعرضون للقبض عليهم بسبب …

  • (٣)

    لم يتوقف إلقاء القبض على أفراد طائفة المحمدية.

    أما إذا شئنا تحويل المبني للمجهول في الجملة الأخيرة إلى المعلوم، فنستطيع أن نقول: «… وصدرت أحكام بالسجن على ١٣ منهم على الأقل.»

    وأحيانًا تتضمن العبارة الإنجليزية في صحافة اليوم مزيجًا من اللونين؛ المبني للمجهول الذي يُذكر فيه الفاعل، والمبني للمجهول الذي لا يُذكر فيه الفاعل:

    Benedicto Mabliangan, a suspected NPA supporter, and his 15-year-old son Orlando were arrested without warrant by soldiers during a town festival in Catbalogan, Samar, and detained for 20 days.
وهذه العبارة مقتطفة من الخبر نفسه من الفلبين، وNPA اختصار ﻟ New People’s Army؛ أي: الجيش الشعبي الجديد. وبهذه المناسبة فقد جرت العادة على ترجمة «شعبي» العربية إلى People’s وليس إلى Popular؛ وخصوصًا في أسماء البلدان، فالاسم الرسمي لليبيا هو S. P. L. A. J.؛ أي:
The Socialist People’s Libyan Arab Jamahiriya (The Great)

الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية (العظمى) (والعظمى هنا تضاف قبل العبارة الإنجليزية). وكذلك اسم اليمن الجنوبي القديم؛ وهو:

P. D. R. Y.؛ أي: People’s Democratic Republic of Yemen ومعظم الدول «الاشتراكية».

أما المشكلة في الجملة المقتطفة فتتمثل في عدم وجود فاعل في الجملة الأخيرة:

  • (١)
    قبض الجنود، دون «إصدار» إذنٍ بالقبض على بندکتو مابلیانجان؛ للاشتباه في تأييده للجيش الشعبي الجديد، وعلى ابنه أورلاندو البالغ من العمر خمس عشرة سنة، أثناء احتفالٍ عام بمدينة كاتبالوجان، في سمر، «واعتقلوهما؟» لمدة عشرين يومًا.

    وقد وُضعت علامة استفهام أمام الفعل بسبب غموض الفاعل؛ ولذلك فقد يكون من المستحسن التحرزُ هنا أيضًا باستعمال المبني للمجهول في صيغة بمثل «واعتُقِلا.» أو في صيغة أخرى مثل «وظلَّا معتقلَين …» أو «وظلا قيد الاعتقال.» أو «حتى ظلا في المعتقل …» عشرين يومًا. كما سيلاحظ القارئ أن المترجم «شرح» سبب القبض على هذا الرجل، وهذا غير وارد في النص؛ ومن ثَم فيمكن تقديم صورة أخرى أقلَّ تحررًا وأكثر تحرزًا:

  • (٢)
    قبض الجنود، دون إذن بالقبض، على بندکتو مابلیانجان؛ الذي يُشتبه في تأييده للجيش الشعبي الجديد، وعلى ابنه أورلاندو، وهو في الخامسة عشرة، أثناء أحد الاحتفالات في كاتبالوجان في سمر، وظل الاثنان معتقلَين عشرين يومًا.
    وأحيانًا يكون نائب الفاعل مركبًا؛ بمعنى أنه لا يتكون من كلمة واحدة (حتى ولو أضيفت إلى أي عدد من الكلمات)، بل من كلمتين مفصولتين ﺑ or؛ مما يجعل الابتداء به مع الفعل عسيرًا. وفيما يلي نموذج قصير:
    Scores of suspected government opponents were killed in apparent extrajudicial executions by government or government-backed forces.

فكيف نبدأ ﺑ «قامت القوات الحكومية أو القوات التي تساندها الحكومة» بفعل كذا؟ الأيسر في رأيي إما أن نحتفظ بالبناء الأصلي كما هو، على ما في ذلك من مشقة، أو نتولى تحويل الجملة بصورة أخرى:

  • (١)
    قُتل عشرات الأشخاص الذين اشتُبه في معارضتهم للحكومة، وكان ذلك فيما يبدو ضربًا من الإعدام خارج نطاق القضاء؛ إما على أيدي القوات الحكومية أو القوات التي تساندها الحكومة.
  • (٢)
    راح العشرات ممن اشتُبه في معارضتهم للحكومة ضحيةً لعمليات إعدام، فيما يبدو خارج نطاق القضاء، نفذتها القوات الحكومية «أحيانًا» والقوات التي تساندها الحكومة أحيانًا أخرى.
    وفيما يلي صورة أخرى للمشكلة نفسها، وأرجو أن يلاحظ القارئ أن اسم المفعول (suspected) في كل حالة من الحالات السابقة قد تُرجم إلى اسم موصول وجملة صلة، كما أن الصفاتِ والأحوالَ مثل reported وalleged وما إليها؛ تتحول إلى فعل وفاعل:
    Human rights lawyers and activists, church workers and members of legal organizations, which the authorities accused of being NPA-CPP fronts, received death threats believed to come from military or government-backed sources.
فبناء هذه العبارة يتضمن جملةَ صلة اعتراضية تفصل بين الفاعل والفعل، وبعد ذلك يأتي المفعول به ووراءه جملة صلة مختزلة reduced relative clause؛ أي: جملة صلة حُذف منها الاسم الموصول والفعل المساعد. والضغط الشديد هنا في التركيب الإنجليزي يتطلب تفكيكًا وتقسيمًا؛ فالفاعل هنا يتضمن المحامين المدافعين عن قضايا حقوق الإنسان، ودعاة حقوق الإنسان (والأمم المتحدة تترجِم activists بالعناصر النشيطة، وغيرها يترجمها بالنشطاء)، والعاملين بالكنيسة، وأعضاء منظمات قانونية (أي: مشروعة). وجملة الصلة تعني أن السلطاتِ اتهمت هؤلاء بأنهم واجهات تخفي نشاط الجيش الشعبي الجديد والحزب الشيوعي الفلبيني. والفعل والفاعل هما أيسر أجزاء الجملة؛ أي: تلقَّى التهديدات بالقتل. وأما معناها فهو أن هذه التهديدات — فيما يُعتقد — صادرة من مصادرَ عسكرية أو من هيئات تساندها الحكومة.

إن الفعل هنا مبني للمعلوم، ولكن طول الفاعل ووجودَ الجملة الاعتراضية؛ يجعلان من العسير البدايةَ بالفعل «تلقَّى»؛ إذ سوف تتلوه سطورٌ طويلة قبل الوصول إلى المفعول:

  • (١)
    تلقى المحامون المشتغلون بقضايا حقوق الإنسان، ودعاة هذه الحقوق، والعاملون بالكنيسة، وأعضاء المنظمات القانونية؛ تهديدات بالقتل، بعد أن اتهمتهم السلطات بأنهم واجهات (تخفي نشاط) الجيش الشعبي الجديد والحزب الشيوعي الفلبيني. ويُعتقد أن هذه التهديداتِ صادرة من جهات عسكريةٍ أو هيئاتٍ تساندها الحكومة.

    هنا تحولت جملة الصلة إلى جملة مستقلة ترتبط بما سبقها بظرف زمان، ولكن طول الفاعل ما زال يمثِّل عقبة؛ ومن ثم فقد نجد بين المترجمين من يحوِّل هذا التركيب المبني للمعلوم إلى تركيب مبني للمجهول:

  • (٢)
    وُجهت تهديدات بالقتل إلى المحامين المشتغلين بقضايا حقوق الإنسان.. الذين اتهمتهم السلطات بأنهم … ومن المعتقد أن هذه التهديدات مصدرها جهاتٌ عسكرية.

هنا تظل جملة الصلة قائمة، على حين يتحول المبني للمجهول (يُعتقد) إلى شبه جملة (من المعتقد)، إلى جانب التحويلات الأخرى، وهي أوضح من أن تحتاج إلى تعليق.

وأحيانًا ما يكون التصرف في المبني للمجهول أيسرَ من بعض الأفعال المبنية للمعلوم، فهذه خادعة. ولنضرب مثلًا أخيرًا من الخبر نفسه عن باكستان:

In Karachi, Sind Province, Abdul Rahman Thabo, a student of engineering accused of illegal possession of arms, required hospital treatment after he was reportedly tortured by Rangers in January.
إن بناء الجملة هنا معقَّد ليس بسبب الصيغة النحوية أو التركيبية، ولكن بسبب تأخير الخبر الرئيسي إلى ما بعد المعلومات الخاصة بالفاعل (أو المبتدأ). ولنقطِّع هذه العبارة ونقسِّمها إلى عبارات مستقلة وَفقًا للمعلومات الواردة فيها:
  • (1)
    Abdul-Rahman Thabo was a student of engineering in Karachi, Sind Province.
  • (2)
    He was accused of illegal possession of arms.
  • (3)
    Reportedly he was tortured by Rangers in January.
  • (4)
    He (was so badly injured that he) required hospital treatment.
هذا التسلسل مفقود في الجملة المقتطفة من الخبر، ولا يزعُمنَّ أحدٌ أن البناء الإنجليزي — كما هو قائم — مقصود لأسباب فنية؛ فقد رأيت أمثاله في مئات السياقات التي لا يقصد أصحابها أيَّ تأثير فني من أي لون؛ وإنما هي عادة الكتابة الصحفية التي تنشد حشد أكبر كمٍّ من المعلومات في أصغر مساحة، مع اللجوء إلى تحميل جملة على جملة subordination؛ بحيث تبدو بعض الجمل أهم من غيرها، وما هي كذلك.
كيف يترجم المترجم المحترف هذه العبارة إذن؟ إنه يستطيع أن يترجمها كما هي فيخرج بمسْخٍ شائه:

«في كراتشي بإقليم السِّند تطلَّب حال عبد الرحمن تابو — وهو طالب يدرس الهندسة، ومتَّهم بحيازة الأسلحة بصورة غير قانونية — دخولَ المستشفى للعلاج بعد أن عذبه أفراد جماعة الرينجرز، حسبما جاء في الأنباء، في يناير.»

ولا تتصور أيها القارئ أنني تعمدت إفساد العبارة العربية لإثبات وجهة نظري، فما جال هذا بخاطري قط، ولقد رأيت في الحقيقة نماذجَ مشابهةً لهذه الترجمة في عشرات المقالات والكتب، ولكن مثل هذه العبارة لا بد لها من تحويلٍ جَذري، يقترب من إعادة الصياغة. ولنعد إلى الأقسام الأربعة التي أوردتها بالإنجليزية، وهذه هي ترجمتها العربية:

  • (١)
    عبد الرحمن تابو طالب يدرس الهندسة في كراتشي في السند.
  • (٢)
    اتُّهم بحيازة أسلحة دون ترخيص.
  • (٣)
    ورد ما يفيد أنه تعرَّض للتعذيب على أيدي أفراد جماعة الرينجرز في يناير.
  • (٤)
    أصيب نتيجةً لذلك بإصابات استدعت علاجه بالمستشفى.
ولنضم هذه الأجزاء إذن بعضها إلى بعض:
  • (١)
    كان عبد الرحمن تابو طالبًا يدرس الهندسة في كراتشي، بإقليم السند. وقد ورد أنه تعرَّض للتعذيب على أيدي جماعة الرينجرز في يناير؛ لاتهامه بحيازة أسلحة دون ترخيص؛ فأصيب إصاباتٍ استدعت علاجه بالمستشفى.

    ولنحاول الآن التقريب بين هذا النص والتركيب الإنجليزي:

  • (٢)
    ورد لنا نبأ يفيد بأن عبد الرحمن تابو — وهو طالب يدرس الهندسة في كراتشي بإقليم السند — قد تعرَّض للتعذيب على أيدي جماعة الرينجرز في يناير؛ لاتهامه بحيازة أسلحة دون ترخيص؛ فأصيب إصاباتٍ استدعت علاجه بالمستشفى.

    أو:

  • (٣)
    أصيب عبد الرحمن تابو — وهو طالب يدرس الهندسة في كراتشي بإقليم السند — إصاباتٍ استدعت علاجه بالمستشفى في يناير نتيجة تعذيبه؛ وَفقًا لما ورد من أنباء، على أيدي جماعة الرينجرز؛ بسبب اتهامه بحيازة أسلحة دون ترخيص.

(٣) التحميل والجمل المركبة

والحق أن اللغة العربية المعاصرة — خصوصًا في الصحافة — أصبحت تقبل هذا الضغط وهذا التحميل، وسائر ملامح الإنجليزية المعاصرة، وأهمها بعد المبني للمجهول استخدامُ الجمل المركبة. وتختلف لغة التراث في هذا، كما سنرى. ولنبدأ بنماذجَ لهذه الجمل المركبة من لغة الصحافة بعبارة وردت في التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية (١٩٩١م) في باب جنوب أفريقيا:

In November, while hearing an action for damage brought against two newspapers by the police, the Johannesburg Supreme Court was told by a former military Intelligence agent that he had attempted to kill ANC members abroad with poisons provided by the police.
تتكون هذه الجملة من عبارة رئيسية principal، وعبارة ثانوية subordinate؛ فالأولى هي أن أحد العملاء السابقين للاستخبارات العسكرية ذكر للمحكمة أنه حاول قتل بعض أعضاء منظمة المؤتمر الوطني الأفريقي African National Congress، المقيمين في الخارج؛ بالسم الذي حصل عليه من الشرطة. وأما العبارة الثانوية فهي أن ذلك كان أثناء نظر تلك المحكمة قضيةً رفعتْها الشرطة على صحيفتين للمطالبة بالتعويض. ولا شك أن محاولة قتل أعضاء المنظمة المعارضة للحكومة بإيعاز من الشرطة (وبسموم قدَّمتْها الشرطة للعميل) تمثِّل الخبر الأساسي الذي تتضمنه الجملة. ولكن هذا الخبر يأتي في النهاية؛ إذ يقدِّم الكاتب عليه العبارة الثانوية. ولا بد أن نتصور، بسبب البناء اللغوي، زيادةَ أهمية الخبر الأساسي على الخبر الثانوي؛ ومن ثم فالمترجم يترجمها هكذا:
  • (١)
    في نوفمبر، أثناء نظر المحكمة العليا في جوهانسبرغ لقضية تعويض رفعتها الشرطة على صحيفتين، ذكر أحد العملاء السابقين للاستخبارات العسكرية للمحكمة أنه حاول قتْلَ بعض أعضاء المؤتمر الوطني الأفريقي المقيمين في الخارج؛ بسموم قدمتها له الشرطة.
    والملاحَظ هنا أن المترجم قد حول كل تركيب مبني للمجهول إلى تركيب مبني للمعلوم؛ ففي السطر الثاني من العبارة الإنجليزية by the police وفي الثالث by a former … agent وفي السطر الأخير by the police؛ كأنما لا يستطيع الكاتب أن يستخدم المبني للمعلوم إطلاقًا. ولكن المترجم يستطيع هنا ألا يلتزم بالبناء النحوي الداخلي للجملة، فيحول العبارة الأولى إلى عبارة تتضمن فعلًا، ومن ثم تتمتع بمكانة أكبرَ بعضَ الشيء من مكانتها الحالية؛ هكذا:
  • (٢)
    كانت المحكمة العليا في جوهانسبرغ تنظر قضية تعويض رفعتها الشرطة على صحيفتين في نوفمبر، حين ذكر لها أحد العملاء …

    بل يستطيع المترجم أن يبدأ بالعبارة الأساسية ويؤخر العبارة الثانوية:

  • (٣)
    ذكر أحد العملاء السابقين … للمحكمة العليا … أنه حاول … أثناء نظرها قضية تعويض …

    أو أن يبدأ بالعبارة الأساسية، ثم يُدرِج فيها العبارة الثانوية؛ هكذا:

  • (٤)
    ذكر أحد العملاء السابقين … للمحكمة العليا … أثناء نظرها قضية تعویض رفعتها الشرطة على صحيفتين؛ أنه حاول قتل …
ففي كل حالة من هذه الحالات تظل للعبارة الرئيسية مكانتُها، لا بسبب موقعها في البناء، ولكن بسبب معناها؛ فتأخيرها في النص الإنجليزي بنائيًّا structurally لم يؤثر على وضعها الأساسي في الجملة من ناحية المعنى، ولكننا كثيرًا ما نرى جملًا تكاد تتساوى فيها أهمية المعلومات الواردة في العبارات المتتالية، وانظر معي الجملة التالية من التقرير نفسه عن الفلبين:
Tens of thousands of people were forced to leave their homes and there was widespread destruction and loss of life in parts of Mindanao, Northern Luzon, Negros, Samar, and Mindoro as a result of the bombing by government forces of villages suspected of harbouring NPA or MNLF forces.
إن أدوات الوصل هنا هي حروف عطف (and) أو عبارات استكمال؛ مثل as a result of، ولكن استخدام المبني للمجهول يختلف بعضَ الشيء؛ إذ لا يوجد فاعل في الجزء الأول، على حين يُذكر الفاعل في الجزء الثاني. ومثل هذه الجمل التي ترتبط بحروف العطف أيسرُ في التقسيم بالعربية؛ فالمترجم قد يجنح إلى اعتبار القسم الأول من الجملة — أي: الذي ينتهي بعبارة as a result of — قائمًا برأسه نحويًّا، ثم يستأنف البناء العادي للنص، فنحن نعرف مِن السياق أن قصف القوات الحكومية للقرى التي يُشتبه في إيوائها مناصري حزب الشعب الجديد New People’s Army وجبهة مورو للتحرر الوطني Moro National Liberation Front؛ هو الذي أجبر عشرات الآلاف على هجر منازلهم، وأحدث الدمارَ الواسع النطاق بالمناطق المذكورة، والخسائر الكبيرة في الأرواح، ولكننا لسنا مضطرين إلى إعادة صياغة العبارة؛ خصوصًا لأن الفاعل هنا طويل، وربطه بالمفعول به ربطًا مباشرًا عسيرٌ إلى أبعد الحدود؛ ولذلك فالمترجم يلجأ إلى حل صعوبات المبني للمجهول وحدها قبل الانتقال إلى الفاعل:
  • (١)
    اضطر عشرات الآلاف إلى ترك منازلهم، كما انتشر الدمار على نطاق واسع، وقُتل الكثيرون في بعض مناطق منداناو وشمال لوزون ونيجروس وسمر ومِندورو؛ نتيجة قيام القوات الحكومية بقصف القرى التي اشتبهت في إيوائها مؤيدي حزب الشعب الجديد، أو قوات جبهة مورو للتحرر الوطني.

    وقد يفضَّل تجنُّب المبني للمجهول كما يلي:

  • (٢)
    قامت القوات الحكومية بقصف القرى التي اشتبهت في إيوائها مناصري حزب الشعب الجديد أو قوات جبهة مورو للتحرر الوطني؛ مما أجبر عشرات الآلاف على ترك منازلهم، وأحدث الدمار على نطاق واسع، وأدَّى إلى الخسائر الكبيرة في الأرواح في بعض مناطق …
ولكن هذا يغيِّر من التركيز الذي يريده الكاتب على خبر بعينه يبدأ به، ولو أن هذا — عادة — ذو أهمية ثانوية في صياغة النصوص العامة؛ فالهدف هو إيصال المعنى كاملًا غير منقوص، حتى لو تأثرت «النغمة» التي يريدها الكاتب، بل إننا كثيرًا ما نتساءل في مثل هذه الجمل الطويلة عن حقيقة الخبر الذي يريد الكاتب التركيز عليه، وتبرُز هذه القضية بصفة خاصة عند ترجمة الفصحى التراثية التي تفتقر إلى التحميل الذي هو سر الجمل المركبة. ولنضرب نماذج من الأبنية التقليدية للعبارات العربية؛ فهي أقدر من النظريات على إيضاح ما نعني: هذه فقرة من معجم البلدان (١٨: ٥٦)
«وجاءه رجل آخر يسأله في العَروض. قال أبو جعفر: «ولم أكن نشِطت له من قبل، فقلت له: عليَّ قولٌ ألا أتكلم اليوم في شيء من العروض، فإذا كان في غد فَصِرْ إلي.» وطلبت من صديق لي كتاب العروض للخليل بن أحمد، فنظرت إليه في ليلتي، فأمسيت غير عَروضي وأصبحت عروضيًّا.»
والملاحَظ هنا أن الجمل قصيرة، وهي فعلية، أو تتضمن أفعالًا مبنية للمعلوم، وتعتمد على الحديث المباشر direct speech، وهي متوازيةٌ (إلى جانب خلوِّ النص من أية صفات)، وقد يترجمها المترجم هكذا:
(1) Another man came and asked him a question in prosody. “I had not studied prosody before,” said Abu Ja’far, “So I said to him, ‘I am not to speak today about prosody at all; but come to me tomorrow’. I asked a friend of mine to lend me Al-Khalil Ibn Ahmad’s book on prosody and studied it overnight. I knew nothing about prosody in the evening, and knew all about prosody in the morning.”
وهذا اللون من الترجمة التي يصفها نيومارك Newmark بأنها semantic، أي: «دلالية»؛ تحتفظ بخصائص النص الأصلي من ناحية البناء، وإن كانت أيضًا (وإلى حد ما) communicative «توصيلية»؛ لأنها لا تُغفِل أي جانب من جوانب المعنى وتوصله كاملًا إلى القارئ. فالمذهبان اللذان يتحدث عنهما هذا الباحث يشتركان أحيانًا في الكثير، ولا مانع — كما تقول الدكتورة جانيت عطية١ — من اجتماعهما في مناطقَ مشتركة، ولكن التزام المترجم هنا بالبناء الأصلي للعربية، وما فيه من السمات الأخرى التي ذكرتها؛ يجعل مذهبه أقرب إلى المذهب الدلالي.

ولنر ما يمكن أن يحدث إذا تغير البناء بعضَ الشيء بتعديل أطوال الجمل، وإقامة علاقات الربط الشائعة في الإنجليزية بينها:

(2) Asked by another man about a point in prosody, a subject which he had not studied before, Abu Ja’far said he would not deal with prosody that day but asked the man to call the following day. “Having borrowed Al-Khalil Ibn Ahmad’s book on prosody,” he said, “I spent the night reading it so that while I knew little about prosody in the evening, I was well-versed in it in the morning.”
والواضح هنا أن بعض التعديلات التي أُدخلت تقترب بالنص من بناء الإنجليزية المعاصرة، بل والصحفية؛ بحيث تغيِّر من الصورة الأصلية للتفكير العربي، وذلك رغم عدم تغيير أيٍّ من الأفكار الواردة في النص، وليس هذا مجال المفاضلة بين المذهبين اللذين شرحهما نيومارك؛ فنحن نعرِض لدقائقِ عملية الترجمة نفسها لا لقيمتها أو لملاءمتها للسياقات أو النصوص المختلفة، ففيمَ يختلف النص الثاني عن الأول؟ إنه أولًا يدمج الجملتين الأوليين اللتين تتضمنان حديثًا مباشرًا داخل حديث مباشر؛ أي: قولًا داخل قول، في جملة واحدة من الحديث المروي indirect speech، وبحيث يوجِد جملة رئيسية principal clause تسبقها جملتان فرعيتان subsidiary؛ الأولى دون فعل phrase (وهي الافتتاحية) ومبنية للمجهول، والثانية تقوم على فعل عامل ومبنية للمعلوم؛ بحيث تخرج جملة (مع نهاية that day)؛ مما يسمى في النحو التقليدي بالجملة المركبة complex sentence.، ولكن هذه الكلمة ترتبط بجملة أخرى (محولة من عبارة الحديث المباشر) بحرف العطف، وهو يسمى بحرف تنسيق coordinating conjunction؛ بحيث تصبح الجملة الثانية مع الأولى جملةً ذات رابط، أو مما نسميه في النحو التقليدي جملةً عطفية compound sentence، وبعد ذلك يدمج النص الثاني أيضًا الجملتين الأخيرتين بنفس الطريقة (ولو أنه هنا يوحي بمذاق النص الأصلي لاعتماده على الحديث المباشر)، فيبدأ بجملة دون فعل متبوعة بجملة رئيسية بها فعل؛ وبهذا تنشأ لدينا جملة مركبة، ثم يضيف إليها جملة أخرى عن طريق أداة الربط so that، وهي جملة مركبة هي الأخرى من جملتين كل منهما تتضمن فعلًا (knew) و(was)؛ بحيث تصبح لدينا جملة ذات رابط وطويلة مثل الأولى وبنفس طولها تقريبًا. والملاحَظ أن عدد الأفعال العاملة في النص الثاني أقلُّ منها في النص الأول؛ رغم تساوي عدد كلماتها تقريبًا. وغني عن البيان أن ثمة تعديلاتٍ في اختيار الألفاظ اقتضاها السياقُ الجديد ولا تؤثر في المعنى العام.
الطريف هنا هو أن المترجم الذي يتصدى لترجمة النص الثاني إلى العربية؛ سوف يلتزم بالبناء المتميز له، وربما لن يحاول إخراجه في صورته الأصلية؛ لانقطاع الصلة بيننا وبين هذه اللغة التراثية؛ إذ قد يترجمه هكذا:
وعندما سأله رجل آخرُ عن مسألة في العَروض، وهو موضوع لم يكن قد درسه من قبل، قال أبو جعفر إنه لن يتحدث عن العروض ذلك اليوم، ولكنه طلب من الرجل أن يمر عليه في اليوم التالي. وقال: «وبعد أن استعرت كتاب الخليل بن أحمد في العروض، قضيت الليلة في قراءته حتى إنني بينما كنت لا أدري شيئًا تقريبًا عن العروض في المساء، أصبحت ضليعًا فيه في الصباح.»
والواضح أن مذاق العربية التراثية قد توارى، إن لم يكن قد تلاشى، في هذه الترجمة عن الترجمة. والترجمة الجديدة تعكس إلى حدٍّ كبيرٍ الملامحَ البنائية والتركيبية للنص الإنجليزي، ولكنها ليست أصدق للنص الإنجليزي من النص الأصلي الذي تُرجم عنه، وقد يعتبرها البعض أقرب إلى العربية المعاصرة؛ ومن ثم أكثرَ أمانةً للنص المترجم المكتوب بالإنجليزية المعاصرة، ولكن هذه قضية شائكة؛ إذ ينبغي ألا يتصور القارئ أنني أدعو إلى اتباع أسلوبٍ معين أو بلاغةٍ معينة، فقواعد الأساليب ومبادئ البلاغة أو قواعد علم الجمال تتطور من عصر إلى عصر،٢ ولكنني أحاول وحسب أن أنفُذ إلى بعض الملامح الأساسية في البناء اللغوي التراثي.

(٤) من خصائص العربية

إن هدفي — بإيجاز — هو تبيانُ أن أسلوب البناء الذي وصفته عام وشائع، وما زلنا نطرَب له ونحبه، وأظن أن خَصيصة الأبنية التي ذكرتها في العربية التراثية ترجع إلى اعتماد التراث على الرواية؛ أي: على ذكر ما قاله فلانٌ عن فلان، وما حدث لفلانٍ حين قال له فلانٌ ذلك؛ فالقول هو جوهر اللغة والعاملُ الذي يتحكم في تركيب العبارة، وقد توارث العرب هذه الخصيصة على مر القرون، فهي كامنةٌ في تراثنا الديني والأدبي؛ بمعنى أن اللغة العربية ما زالت تتسم بإيقاع القول؛ أي: إيقاع الكلام الشفاهي المتَّئد الذي يعكس حركة الفكر، والذي يعكس بدوره حركةَ الحياة في بادية العرب، وما استقلال البيت باعتباره أساسًا لعمود الشعر العربي إلا دليلًا على ذلك؛ فالأفكار تأتي على دفعات قصيرة متتابعة، والمَثل الأعلى هو بلاغة البيت الواحد، حتى إذا لجأ شاعرٌ إلى التضمين عُدَّ ذلك عيبًا، والتضمين الذي أعنيه ليس إيراد بيت أو شطرةٍ لشاعر آخر في القصيدة، بل اعتماد البيت نحويًّا على البيت التالي، وقديمًا عاب النقادُ على أبي العلاء قولَه:

قال المنجمُ والطبيبُ كلاهما
لا تُبعَثُ الأمواتُ قلتُ إليكما:
إنْ صح قولُكما فلستُ بخاسرٍ
أو صحَّ قولي فالخَسارُ عليكما

ولم ينتقده إلا القليل لمعنى البيت الذي قد يدل على التشكك في البعث؛ إذ قاله ردًّا على من «لحاه لأدائه التكاليف»؛ أي: قيامه بالفروض الدينية، فقال لهم إنني لن أخسر شيئًا بالصلاة والصوم إذا لم يكن ثَم بَعْث، ولكنكم سوف تخسرون بعدم أدائكم إياها إذا ثبَت «قولي»؛ وهو حدوث البعث، أقول لم ينتقده أحد لهذا (وإن كنت أذكر ما قاله الدكتور عبد الحليم النجار ردًّا على من زعم «رقة إيمان» أبي العلاء؛ أي: ضعفه)، ولكن النقد انصب على اتصال البيت الأول بالثاني معنويًّا ونحويًّا أيضًا. ولاحِظْ معي — أيها القارئ — استخدام كلمة القول لتعني الرأي أو التعبير عن مذهب. ولا تدخل ترجمة هذين البيتين في عداد ترجمة الشعر، فما هما إلا نَظْم لفكرة:

Both astrologer and physician say:
‘The dead won’t rise’, and here is my reply:
I shall lose nothing, if you prove right
But you will lose if I am right!

وربما كان المثل الأعلى حقًّا لهذا الأسلوب هو لغة القرآن العظيم، الذي حفظناه صغارًا وردَّدناه كبارًا؛ فأرسخ في نفوسنا قِيَمًا جماليةً من المحال أن تهتز، وهو مثل أعلى — كما قلت — نحاكيه ونطمح إليه، ولكننا لا نصل إليه أبدًا.

وسوف أورد نموذجًا واحدًا من سورة الكهف، التي يسمعها المصلون كلَّ يومِ جمعة؛ ولذلك فهي مألوفة إلى أبعد حد:

وَأَما الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (۸۲).

فالآية الكريمة تتكون من ثماني عبارات، وتتضمن ثمانية أفعال، بعضها أفعال مساعِدة، وبعضها في صورة المصدر، وبها عبارة واحدة لا تتضمن فعلًا، وهي تقوم على التوازي في تركيب العبارات بحيث لا يوحي البناء بأن جزءًا من المعنى أهم من الجزء الآخر. وهذا ما التزم به «بكتول» في ترجمته لمعناها:

And as for the wall, it belonged to two orphan boys in the city, and there was beneath it a treasure belonging to them, and their father had been righteous, and thy Lord intended that they should come to their full strength and should bring forth their treasure as a mercy from thy Lord: and I did it not upon my own command. Such is the interpretation of that thou couldst not bear.
ويستطيع المترجم بطبيعة الحال أن ينقُل معنى الآية الكريمة كاملًا دون محاكاة البناء اللفظي؛ فمن يتصدى لترجمة معاني القرآن إنما يضع المعنى نُصبَ عينيه لا البناءَ النحوي أو التركيب، وإن كان مترجمو معاني القرآن يُحسون أن تغيير البناء ربما يغير من نمط التأكيدات pattern of emphases في المعنى، وهو النمط الذي لا يخلو منه نص أدبي، وإن كان غير ذي أهمية في النصوص العلمية؛ ومن ثم التزموا بالأبنية النحوية الأصلية قدر طاقتهم، وربما كان ذلك أيضًا بسبب حَدَبهم على إبراز الطابَع الخاص للُّغة القرآنية، والإيحاء باختلافها عن اللغة المعاصرة، وباشتراكها مع لغة التراث في خصائصها، فالله سبحانه وتعالى أنزل للعرب القرآن بلغتهم هم؛ ومن ثم يكون السبب إضفاء البعد الزمني والتاريخي الذي تتسم به الكتب المقدسة جميعًا، وربما كانوا على حق، وربما كان الرأي الآخر أصدق، وهو الذي يقول إن على مترجم القرآن أن يُخرج المعنى كاملًا بغض النظر عن الألفاظ والأبنية التي لا تترجم؛ فالقرآن كتاب لازَمنيٌّ؛ أي: إنه فوق الزمان؛ ومن ثَم فمعانيه تقدَّم في كل عصر في الثوب اللفظي لذلك العصر دون أن يؤثر ذلك فيها.
ومن ثم لجأ بعض مترجمي القرآن إلى الشرح والتفسير بصورةٍ محدودةٍ؛ انطلاقًا من أن المترجم ما هو إلا شارحٌ ومفسر، وهذا موجود في نفس الكلمة المستخدمة للدلالة على المترجم الفوري؛ وهي interpreter أي: مفسِّر، وفيما يلي ترجمة «يوسف علي» لنفس الآية الكريمة.
As for the wall, it belonged to two youths, orphans in the town; there was beneath it, a buried treasure, to which they were entitled; their father had been a righteous man: so thy Lord desired that they should attain their age of full strength and get out their treasure-a mercy (and favour) from thy Lord. I did it not of my own accord. Such is the interpretation of (those things) over which thou wast unable to hold patience.
إن أول اختلاف هنا عن ترجمة «بكتول» هو نزوع يوسف علي إلى تقسيم العبارات إلى جمل مستقلة محاكاةً للعربية، وفي حدود مقتضيات النحو الإنجليزي، مستخدمًا في ذلك علاماتِ الوقف الإنجليزية القديمة جميعًا (بل والحديثة) لإضفاء مسحة من اختلاف النبرة، وهو لذلك يحذف واو العطف التي تبدأ بها كل جملة عربية تقريبًا، فلا يستخدمها إلا مرةً واحدة في عطف فعلين داخل الجملة الواحدة يَبْلُغَا أَشُدهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا على حين يستخدمها بكتول ست مرات في بداية كل جملة تقريبًا، وهو يشرح شبه الجملة «لهما» بعبارة تتضمن الاسم الموصول which وفعلًا مساعدًا مع اسم مفعول (to which they were entitled) بدلًا من الجار والمجرور (for them) عند بكتول، وهو يترجم فاء الوصل فَأَرَادَ رَبكَso بدلًا من and عند بكتول، ويشرح أَشُدهُمَاage of full strength؛ أي: بإضافة age التي توضح المعنى المقصود ولا شك؛ لأن بلوغ المرء أشُدَّه في القرآن يشير إلى عمر معين (انظر المقابلة بين الطفل وبلوغ الأشد في سورتي الحج: الآية ٥، وغافر: الآية ٦٧، بل وتحديد ذلك بأربعين سنة في سورة الأحقاف، الآية ١٥)، كما يضيف بين قوسين تفسيرًا لكلمة «رحمة» (انظر مناقشتي لمعناها في الفصل الأول)؛ وهكذا، فيوسف علي يقوم بالتحويل الذي أشرت إليه، وإن كان ذلك في أضيق الحدود، ولا يقارَن بالترجمة التالية التي تستخدم أساليب الإنجليزية المعاصرة:
The wall which belonged to two orphan boys in the city had a treasure hidden for them underneath it. As their father had been a righteous man, thy Lord wished that, as a recompense for this, they should grow up to maturity and extract their treasure. Nor did I do it upon my own command. This is the explanation of my actions over which you had no patience.
فدرجة التحويل في هذه الترجمة أكبر كثيرًا؛ إذ تقيم علاقات بين العبارات القصيرة عن طريق الروابط اللفظية المألوفة، وحيل بناء الجمل المركبة؛ فالجملة الأولى تتكون من عبارتين تتضمنان فعلين عاملين، ومتصلتين باسم الموصول which، والجملة الثانية تقيم علاقة سببية نحوية بين صلاح الوالد وإرادة الله في مكافأة الغلامين عن طريق استخدام تركيب as…، كما تغير الجملة الرابعة من نغمة النص الإنجليزي بعضَ الشيء باستخدام nor…؛ على حين تلجأ العبارة الأخيرة إلى الشرح فتحوِّل الاسم الموصول (ما) إلى عبارة كاملة وهي my actions؛ أي: أفعالي، وهو أقرب إلى التفسير منه إلى الترجمة.

وإذا كان أسلوب القرآن ذا خَصوصية، وإذا كانت المشكلات تحُفُّ بترجمته، فإن أسلوب القدماء يطمح إلى محاكاته — كما قلت — وهو ما زال حيًّا في لغتنا العربية المعاصرة، ويتميز بالخصائص التي سبق إيرادها، والتي لا بد من وعي المترجم بها. وأنا أكرر أن هدفي هو لفت نظر المترجم المبتدئ إلى الخصائص الأساسية للأسلوب التراثي، لا اتخاذُ موقف محدد منه بالرفض أو بالقبول. واقرأ معي صفحة عادية من تاريخ الطبري (ج١، ص١٢٥، طبعة دار المعارف، ۱۹۸۷م):

«حدثني صالح بن حرب … قال: حدثنا ثمامة … قال: أخبرنا أبو الزبير، قال: قال نافع: سمعت ابن عمر يقول: إن الله تعالى أوحى إلى آدم عليه السلام وهو ببلاد الهند أنْ حُجَّ هذا البيت. فحجَّ آدم من بلاد الهند، فكان كلما وضع قدمه صار قرية، وما بين خطوتيه مفازة، حتى انتهى إلى البيت فطاف به وقضى المناسك كلها، ثم أراد الرجوع إلى بلاد الهند فمضى، حتى إذا كان بمأزِمَي عرفات تلقَّته الملائكة، فقالوا: بَرَّ حجُّك یا آدم! فدخله من ذلك عُجْب، فلما رأت الملائكة ذلك منه قالوا: يا آدم، إنا قد حجَجْنا هذا البيت قبل أن تُخلَق بألفي سنة. قال: فتقاصرت إلى آدمَ نفسُه.»
(1) Salih Ibn Harb … told me that Thumamah … said that Abul-Zubair reported that Nafi said, “I heard Ibn Umar say: Allah, exalted be his name, inspired Adam whilst in India to make a pilgrimage to that House. Adam made the pilgrimage from India. Wherever he set his foot there sprang a village and, in between each two footsteps a desert, until he arrived at the House. He then went round it and performed all the rites. He wanted to go back to India and started off. When he reached the two passes of Arafat the angels met him. ‘May your pilgrimage be accepted’, they said. This astonished him. When the angels perceived this they said, ‘O Adam! We made a pilgrimage to this House two thousand years before you were created’. He (Ibn Umar) said, ‘Adam felt humbled by this’”.
إن امتزاج «القول» بأسلوب السرد يكاد يكون كاملًا؛ ولذلك فهو يجسد طريقةً في القول الشفاهي لا طريقةً في الكتابة، وما الكتابة هنا إلا تسجيل للأقوال؛ ومن ثم فالإيقاع مُتَّئدٌ مثل إيقاع الكلام الشفاهي الذي قلت إنه يعكس حركة الفكر الحي المرتبطة بحركة الحياة في البادية؛ ومن ثم فالعبارات مستقلة ومتوازية، ولا رابط بينها إلا منطق الأحداث وتسلسلها، وهي فعلية مبنية للمعلوم، وتعتمد على الحديث المباشر، كما سبقت الإشارة. ولو أن كاتبًا أراد إضفاء ملامح التركيب الإنجليزي على هذه الفقرة فأعاد صياغتها، لأخرج لنا صورةً تختلف اختلافًا كبيرًا. فلنتصور ذلك، ولنبدأ بطرح سلسلة السند أو ما يسمى بالعنعنات (رغم أنني حذفت جانبًا منها بالفعل)، ولنُخرج ترجمةً مختلفة عما قاله ابن عمر رضي الله عنه:
(2) Inspired by Allah, exalted be His name, to make a pilgrimage from India, where he had lived, to that house of God, Adam set out on his journey. Wherever his feet touched the ground villages came into existence; the spaces between his footprints remained deserts. Having arrived at that House, gone round it (seven times) and performed the rest of the pilgrimage rites, Adam wanted to go back to India at once. However, as he approached the two passes of Mount Arafat, he was welcomed by a host of angels. ‘May your pilgrimage be well received (by God)’, they said, which surprised him. Realizing his surprise, the angels said, ‘O Adam! We made a pilgrimage to this very House two thousand years before you were created!’ Adam was overcome by a feeling of humility.

والملامح الأساسية لهذه الترجمة تتمثل في استخدام العبارات وأشباه الجمل (التي لا تحتوي على أفعال)، واستخدام المبني للمجهول (مع ذكر الفاعل)، وربط الجمل بالأسماء الموصولة، وتقديم بعض العبارات في الأهمية نحويًّا على غيرها؛ مما يهَبُ النص نغماتٍ متفاوتةً يتوقعها القارئ الإنجليزي، ولو لم تكن في النص الأصلي.

ولنضرب المزيد من الأمثلة حتى تتضح الصورة — كما يقولون هذه الأيام — من نفس الكتاب:
حدثني عمران … قال: سمعت سعيد … يقول: ولَدَ نوح ثلاثة، وولد كلُّ واحد ثلاثة؛ سام وحام ويافث، فولد سام العرب والفرس والروم، وفي كل هؤلاء خير، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وليس في واحدٍ من هؤلاء خير، وولد حام القبط والسودان والبربر» (ج ۱، ص۲۱۰)
Imran said to me, ‘I heard Saïd say: ‘Noah had three sons, and each is the father of three. (The three sons are) Shem, Ham and Japheth. Shem is the father of the Arabs, the Persians and the Greeks. There is good in all of them. Japheth is the father of the Turks, the Slavs and Gog and Magog. There is no good in any of them. Ham is the father of the Copts, the Blacks and the Berbers.’
ورغم تحويل «وَلَدَ» إلى is the father of تيسيرًا للترجمة، وكان من الممكن الالتزام بالأسلوب المستخدم في ترجمة الكتاب المقدس begat أو begot، فالواضح أن النص هنا يعتمد على التراكيب الاسمية؛ لأنه لا يروي حدثًا أو واقعة (كما يقول Nida)، ولكنه يذكر أخبارًا، ومع ذلك فهو يتبع نفس البناء السابق للعبارات.
والحق أنني أشك في القراءة التي اختارها المحقق لكلمة «وَلَدَ»؛ لأنه يجعل منها فعلًا مما أوحى لي بكلمة begot، وربما كانت لفظة «ولد» هنا اسمًا، وهذا لا يغير المعنى بطبيعة الحال، ولكنه يتفق مع الأسلوب الخبري والبناء الاسمي للجملة التي تعتمد على المبتدأ والخبر. وعمومًا فالأسلوب يوحي بأسلوب ترجمة الكتاب المقدس الذي ذكره سير إرنست جاورز Sir Ernest Gowers في الكتاب الكامل للكلمات الواضحة The Complete Plain “Words” في صورته الأولى المنشورة عام ١٩٧٣م في سلسلة Pelican؛ وذلك قبل أن يمتد إليه التعديل في طبعة ١٩٧٧م (على يد سير بروس فريزر).

وقد تعرض كثير من النقاد لهذا الموضوع عند حديثهم عن الأسلوب، وأنصح القارئ الذي يريد الاستفادة في هذا الباب بأن يطَّلع على كتابَي الدكتور شكري عياد عن الأسلوب، وانظرهما في قائمة المراجع.

والأمثلة التي أوردتها حتى الآن (من معجم البلدان، ومن القرآن الكريم، ومن تاريخ الطبري) تختلف في موضوعاتها وتتفق في أبنيتها، رغم تفاوت «نوع» الجملة، وهذا هو بيت القصيد؛ أي: إن أسلوب الرواة أثَّر في التركيب العام للأسلوب العربي التراثي؛ سواء كانت الجمل فيه فعلية؛ كالتي تستخدم في رواية الأحداث، أو اسميةً؛ كالتي تستخدم في الأسلوب الخبري؛ وهكذا. وكيْلَا يتهمَني أحد بالتركيز على الطبري سأورد فقراتٍ منوعة من كتب عربية تراثية شتى للتدليل على ما أقول: هذه عبارات من كتاب الشهرستاني الأشهر «الملل والنِّحل»:٣
«العبيدية أصحاب عبيد المكتئب، حُكِيَ عنه أنه قال: ما دون الشرك مغفور لا محالة. وإن العبد إذا مات على توحيده لا يضرُّه ما اقترف من آثام واجترح من السيئات. وحكى اليمان عن عبيد المكتئب وأصحابه أنهم قالوا: إن علم الله تعالى لم يزل شيئًا غيره، وإن كلامه لم يزل شيئًا غيره، وكذلك دين الله لم يزل شيئًا غيره. وزعم أن الله — تعالى عن قولهم — على صورة إنسان، وحمل عليه قوله : «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن.»
The Ubaidis are the companions of Ubaid Al-Mukta’ib. He reportedly said that apart from polytheism “everything will definitely be forgiven,” and that if a man dies “a monotheist, he cannot be harmed by the sins he commits and the wrongs he does.” Al-Yaman reports that Al-Mukta’ib and his companions said,“the knowledge of Allah, exalted be His name, is still not Him; His words are still not Him; and so is the religion of Allah: it is still not Him. He claims that Allah, far be He from that claim, is in the image of man. In support, he cites the Prophet’s tradition, Allah’s prayers and peace be upon him, that “Allah created Adam in the image of the All-Compassionate.”

ولا أعرف إن كانت صفة «المكتئب» جزءًا من اسمه أو لا، لكن اقترانها بعُبَيد في كل مكان يوحي بأنها أقرب إلى الاسم العَلم. ويلاحظ القارئ أن البناء الأساسي هنا يتفاوت بين المبتدأ والخبر، وهو التركيب الذي يفترض وجود فعل كينونة تقديري لا يظهر في المضارع ويظهر في الماضي (كان)، وبين الجملة الفعلية البسيطة (الشرطية أو التي تستخدم إحدى أخوات كان) أو جملة «القول» (حكى، زعم، حمل قوله). وفي باطن معظم هذه الأبنية مبتدأ وخبر:

«العبيدية أصحاب عبيد المكتئب»، «ما دون الشرك مغفور»، «العبد لا يضره الآثام»، «علم الله غير الله»، «كلام الله غير الله»، «دين الله غير الله»، «الله [ليس] على صورة إنسان»، «الله خلق آدم».

ومعنى ذلك أن الأسلوب يتميز بالإخبار reporting عن أشياءَ واقعة؛ سواءٌ كان ذلك بالصدق أو الكذب. وقد انعكس ذلك في غلبة فعل الكينونة على الترجمة الإنجليزية رغم التصرف في الصياغة. ولكن الظاهرة التي أوَدُّ الإشارة إليها هي سيادة نمط معين من الأبنية القصيرة، حتى مع اختلاف طبيعة النص، وابتعادِه عن الأسلوب السردي الذي تتميز به طريقة «الرواية» ومنهج الرواة. وهنا أيضًا نجد العبارات القصيرة المستقلة المتوازية، وعدم تحميل جزء على جزء عن طريق استخدام الأسماء الموصولة وما إلى ذلك، وهذا يتضح بجلاء أكبر في الأسلوب «العلمي» المباشر الذي نجده في «رسائل إخوان الصفا» مثلًا. اقرأ معي هذه الفقرة الموجزة:٤
اعلم أن النفوس المتجسدة الخيِّرة ملائكة بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت ملائكةً بالفعل، كما بينَّا في رسالة صفات المؤمنين المحققين ورسالة البعث. كذلك النفوس المتجسدة الشريرة هي شياطين بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل.»
(1) Know that the good souls embodied are potential angels. If they leave their bodies they become actual angels, as we have explained in the Epistle on the Qualities of True Believers, and the Epistle on Resurrection. So are the evil souls embodied: they are potential devils. If they leave their bodies they become actual devils.
وقد التزمت هنا بالصيغ النحوية والصرفية على غرابة بعضها؛ إيضاحًا لما أرمي إليه، فترجمة المتجسدة ﺑ embodied غامضة، وربما كان الأفضل أن تترجم إلى in human bodies أو إلى تعبيرٍ ما من هذا القبيل.

وعلى أي حال فالقصد هو تبيان البناء المتئد، وغير ذلك مما سبق ذكره.

وأعتقد أن إيراد ترجمة مختلفة تعيد صياغة العبارات في بناء أقرب إلى أنماط النصوص الإنجليزية؛ سوف توضح ما أعنيه:
(2) Note that for as long as they remain in their bodies the souls of good people are potential angels; but once departed, they become actual angels, as has been explained in our Epistle on the qualities of real believers, and the Epistle on Resurrection. Similarly, evil souls are only potential devils confined to human bodies but, once released, they become actual devils.

وبمزيد من التصرف:

(3) Clad in a physical garb, a good soul is, it should be noted, only a potential angel that does not turn into an actual angel until released, as explained in the Epistles on the Qualities of Real Believers and Resurrection. Likewise until released to become an actual devil, an evil soul remains only a potential devil in the living body.

وباستثناء العبارة الافتتاحية في الترجمة رقم ٣ التي تضيف صورة فنية (أو شعرية) هي «ترتدي ثوب الجسد» ترجمة لمعنى كلمة «متجسدة»؛ لا يخرج النص الإنجليزي إطلاقًا عن معاني النص العربي، وإن كان يصوغه صياغةً أقرب إلى مصطلح الإنجليزية الحديثة.

١  انظر: صفحة ١٨ من مقدمة ترجمتها الإنجليزية لمسرحية مجنون ليلى، لأحمد شوقي، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام ١٩٩٠م، بعنوان Qais and Laila.
٢  انظر: شوقي ضيف: البلاغة؛ تاريخ وتطور، القاهرة، دار المعارف، ١٩٦٥م.
٣  الشهرستاني: الملل والنحل، بيروت، دار الفكر، د.ت. ص١٤٠–١٤١.
٤  رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، عُني بتصحيحها خير الدين الزركلي، القاهرة، المطبعة التجارية، ١٩٢٨م، ج٣، ص٩١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤